عارفا بحقّكم

السيد علي الشهرستاني

عارفا بحقّكم

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة المؤمل الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٥

أحدكم يوم القيامة بأعمالٍ كأمثال الجبال ولم يجئ بولاية عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام لأكبّه الله عزّ وجلّ في النار (١).

وعن أبي هريرة أنّه قال : مرّ عليّ بن أبي طالب بنفرٍ من قريشٍ في المسجد فتغامزوا عليه ، فدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فشكاهم إليه ، فخرج صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مغضب ، فقال لهم : أيّها النّاس ، مالكم إذا ذُكر إبراهيم وآل إبراهيم أشرقت وجوهكم ، وإذا ذُكر محمّد وآل محمّد قست قلوبكم وعبست وجوهكم؟ والّذي نفسي بيده لو عمل أحدكم عمل سبعين نبيّا لم يدخل الجنّة حتّى يحبّ هذا أخي عليّا وولده.

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ لله حقّا لا يعلمه إلاّ أنا وعليّ ، وإنّ لي حقّا لا يعلمه إلاّ الله وعليّ ، وله حقّ لا يعلمه إلاّ الله وأنا (٢).

وفي الفردوس للديلمي ومناقب الخوارزميّ عن عليّ عليه‌السلام ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال :

يا عليّ ، لو أنّ عبدا عبد الله عزّ وجلّ مثل ما قام نوح في قومه ، وكان له مثل أُحُدٍ ذهبا فأنفقه في سبيل الله ، ومُدّ في عمره حتّى حجّ ألف عامٍ على قدميه ، ثمّ قُتل بين الصفا والمروة مظلوما ، ثمّ لم يُوالِكَ يا عليّ لم يشمّ رائحة الجنّة ولم يدخلها (٣).

وهذا يشبه ما جاء في الحديث القدسي : إنّ موسى بن عمران مرَّ برجل

________________

١ ـ أمالي الطوسيّ : ٣٠٨ / ٦١٩ ، وعنه في بحار الأنوار ٢٧ : ١٧١ / ١٢.

٢ ـ فضائل ابن شاذان : ١٦٩ / ١٤٦ ، وعنه في بحار الأنوار ٢٧ : ١٩٦ / ٥٦ والنص منه ، والعقد النضيد : ١٨ / ٤ باختلافٍ يسيرٍ.

٣ ـ الفردوس ٣ : ٣٦٤ / ٥١٠٣ ، المناقب لابن مردويه : ٧٣ / ٤٩ ، مناقب الخوارزميّ : ٦٧ / ٤٠ ، مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٢.

١٠١

وهو رافع يده يدعو ، فغاب في حاجته سبعة أيام ، ثمّ رجع إليه وهو رافع يده الى السماء يدعو فقال : يا رب هذا عبدك رافع يده إليك يسألك حاجة ويسألك المغفرة منذ سبعة أيام لا تستجيب له؟

فاوحى الله عزّ وجلّ اليه : يا موسى لو دعاني حتّى تسقط يداه أو يتقطع لسانه لم أستجب له حتّى يأتي من الباب الّذي أمرته (١).

بلى «بموالاتكم علمنا الله معالم ديننا ، وأصلح ما كان فسد من دنيانا ، وبموالاتكم تمّت الكلمة ، وعظمت النعمة ، وائتلفت الفُرْقة ، وبموالاتكم تُقبل الطاعة المفترضة ، ولكم المودّة الواجبة ، والدرجات الرفيعة ، والمقام المحمود ، والمكان المعلوم عند الله عزّ وجلّ ، والجاه العظيم ، والشأن الكبير ، والشفاعة المقبولة».

ربّنا آمنّا بما أنزلت واتّبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين.

ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب ، سبحان ربّنا إن كان وعد ربّنا لمفعولاً (٢).

هذه هي فقرات من زيارة الجامعة الّتي علّمنا إيّاها الإمام الهادي عليه‌السلام كي نكون على تواصُلٍ معهم ، مؤدّين بعض اجورهم وحقوقهم علينا.

________________

١ ـ المحاسن ١ : ٢٢٤ / ١٤١ ، الجواهر السنيه : ٧٠.

٢ ـ مزار ابن المشهدي : ٥٣٣.

١٠٢

(١٠)

الأصل السابع :

مودّة أهل البيت أجراً للرسالة

قد عرفنا فيما مضى ارتباط أجر الرسالة بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وأهل بيت رسول الله ، وأنّه الأجير كما جاء في المروي عن رسول الله : ألا وإنّي وأنت أجيرا هذه الأمة ، فمن ظلمنا أجرنا فلعنة الله عليه (١).

وهو المعني بكلام الله ورسوله حينما اكدا على مودّة القربى.

ففي خبر : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث إلى عليّ عليه‌السلام أن اصعد المنبر وادع النّاس إليك ، ثمّ قل :

يا أيّها النّاس ، من انتقص أجيرا أجره فليتبوّأ مقعده من النار ، ومن ادعى إلى غير مواليه فليتبوّأ مقعده من النار (٢) ، ومن انتفى من والديه فليتبوّأ مقعده من النار ، قال : فقام رجل وقال : يا أبا الحسن ما لهنّ من تأويل؟

فقال : الله ورسوله أعلم ، ثمّ أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ويل لقريش من تأويلهنّ» ثلاث مرّات ، ثمّ قال

________________

١ ـ بحار الأنوار ٤٠ : ٤٥.

٢ ـ قد صرّحت بعض الروايات بخروجه عن الدين كما في سنن البيهقيّ ٨ : ٢٦ ، مجمع الزوائد

١ : ٩ ، كنز العمّـال ٥ : ٨٧٢ و ١٠ : ٣٢٤ : من تولّى غير مواليه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ، وفي صفحة ٣٢٧ : من تولّى غير مواليه فقد كفر. رواه ابن جرير عن أنس ، وفي ١٦ : ٢٥٥ منه «ومن تولّى غير مواليه فهو كافر بما أنزل الله على رسوله».

٣ ـ وهو عمر بن الخطاب كما في بعض الأخبار.

١٠٣

: «يا عليّ ، انطلق فأخبرهم أنّي أنا الأجير الّذي أثبت الله مودّته من السماء».

ثمّ قال : أنا وأنت مولى المؤمنين ، وأنا وأنت أبوا المؤمنين ، ثمّ خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا معشر قريش والمهاجرين والأنصار ، فلمّـا اجتمعوا قال : يا أيّها النّاس ، إنّ عليّا أوّلكم إيمانا بالله ، وأقومكم بأمر الله ، وأوفاكم بعهد الله ، وأعلمكم بالقضيّة ، وأقسمكم بالسويّة ، وأرحمكم بالرعيّة ، وأفضلكم عند الله مزيّة ... (١)

وقد جاء هذا المعنى صريحا في القرآن ، وأنّه عليه‌السلام باع نفسه لله ، حينما بات على فراش رسول الله حتّى نزلت فيه الآية الكريمة : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله) (٢).

وكذلك هو حال الأئمّة الأطهار ، وخصوصا الإمام الحسين عليه‌السلام. فجاء في تفسير القمي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام :

... وأمّا قوله : (إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) قال : نزلت في الأئمّة ، فالدليل على أنّ ذلك فيهم خاصة حين مدحهم وحلاّهم ووصفهم بصفة لا يجوز في غيرهم ، فقال : (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ) (٣) ، فالآمرون بالمعروف هم الّذين يعرفون المعروف كلّه صغيره وكبيره ، ودقيقه وجليه ، والناهون عن المنكر هم الّذين يعرفون

________________

١ ـ تفسير فرات : ٣٩٢ / ٥٢٥ ، وعنه في بحار الأنوار ٢٣ : ٢٤٢ / ١٤.

٢ ـ تفسير العياشي ١ : ١٠١ / ٢٩٢ والآية في سورة البقرة : ٢٠٧.

٣ ـ التوبة : ١١٢.

١٠٤

حدودالله صغيرها وكبيرها ودقيقها وجليها ، ولا يجوز أن يكون بهذه الصفة غير الأئمّة عليهم‌السلام (١).

وقد قُرِئت «التائبين ، العابدين ، الحامدين ، السائحين ، الراكعين ، الساجدين ، الآمرين ، الناهين» عن أبى بن كعب وابن مسعود والأعمش وعاصم (٢) وفيها دلالة أصرح على نزولها في الأئمّة الطاهرين ، وقد جاءت هذه القراءة في روايات أهل البيت أيضا.

فعن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : تلوتُ : (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ) فقال : لا ، إقرأْ «التائبين العابدين» إلى آخرها ، فسئل عن العلة في ذلك ، فقال : اشترى من المؤمنين التائبين العابدين (٣).

وفي رواية أخرى عن أبي بصير أيضا ، قال : سألت أبا جعفر عن قول الله عزّ وجلّ : (إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) الى آخر الآية ، فقال : ذلك في الميثاق ، ثمّ قرأت (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ) الى آخر الآية ، ثمّ قال : إذا رأيت هؤلاء فعند ذلك هم الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم يعني [في] الرجعة (٤).

وعن محمّد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، عن بكر بن صالح ، عن القاسم بن اليزيد ، عن أبي عمرو الزبيري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : ... ثمّ ذكر

________________

١ ـ تفسير القمي ١ : ٣٠٦.

٢ ـ مجمع البيان ٥ : ١٢٨ وانظر المحرر الوجيز ٣ : ٨٨ وتفسير السمرقندي ٢ : ٩٠ وتفسير القرطبي ٨ : ٢٨١ وفتح القدير ٢ : ٤٠٨.

٣ ـ الكافي ٨ : ٣٧٨ / ٥٦٩.

٤ ـ بحار الأنوار ٥٣ : ٧١ / ٧٠ عن مختصر بصائر الدرجات : ٢١.

١٠٥

من أذن له في الدعاء إليه بعده وبعد رسوله في كتابه فقال : (وَلْتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١) ثمّ أخبر عن هذه الامة وممّن هي وأنّها من ذرية إبراهيم وذرّيّة إسماعيل من سكّان الحرم ممن لم يعبدوا غيرالله قط ، الّذين وجبت لهم الدعوة دعوة ، إبراهيم وإسماعيل من أهل المسجد الّذين أخبر عنهم في كتابه أنّه أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا الذين وصفناهم قبل هذا في صفة امة إبراهيم الّذين عناهم الله تعالى في قوله : (أَدْعُوا إِلَى اللّه عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (٢) يعني أوّل من اتبعه على الايمان به والتصديق له بما جاء به من عند الله عزّ وجلّ من الأمة التي بعث فيها ومنها واليها قبل الخلق ، ممن لم يشرك بالله قط ، ولم يلبس إيمانه بظلم وهو الشرك ... إلى أن يقول :

ثمّ أخبر أنّه اشترى من هؤلاء المؤمنين ومن كان على مثل صفتهم (أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدا عَلَيْهِ حَقّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) (٣) ، ثمّ ذكر وفاءهم له بعهده ومبايعته (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٤) ، فلمّـا نزلت هذه الآية : (إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (٥) قام رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا نبيّ الله أرايتك الرجل يأخذ سيفه فيقاتل حتّى

________________

١ ـ آل عمران : ١٠٤.

٢ ـ يوسف : ١٠٨.

٣ ـ التوبة : ١١١.

٤ ـ التوبة : ١١١.

٥ ـ التوبة : ١١١.

١٠٦

يقتل إلاّ أنّه يقترف من هذه المحارم أشهيد هو؟

فأنزل الله عزّ وجلّ على رسوله : (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١).

ففسّر النبيّ (المُجاهِدون) من المؤمنين الّذين هذه صفتهم وحليتهم بالشهادة والجنّة ، وقال (التَّائِبُونَ) من الذنوب (الْعَابِدُونَ) الّذين لا يعبدون إلاّ الله ولا يشركون به شيئا (الْحَامِدُونَ) الّذين يحمدون الله على كل حال في الشدة والرخاء (السَّائِحُونَ) وهم الصائمون (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) الّذين يواظبون على الصلوات الخمس الحافظون لها والمحافظون عليها بركوعها وسجودها وفي الخشوع فيها وفي أوقاتها (الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) بعد ذلك والعاملون به (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) والمنتهون عنه ، قال : فبشر من قتل وهو قائم بهذه الشروط بالشهادة والجنة.

ثمّ أخبر تبارك وتعالى أنّه لم يأمر بالقتال إلاّ أصحاب هذه الشروط ، فقال عزّ وجلّ : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللّه عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللّه) (٢) وذلك أنّ جميع ما بين السماء والأرض لله عزّ وجلّ ولرسوله ولأتباعه من المؤمنين من أهل هذه الصفة ، فما كان من الدنيا في أيدي المشركين والكفار والظلمة والفجار من أهل الخلاف لرسول الله والمؤمنين والمولّي عن طاعتهما مما كان في أيديهم ، ظَلَمُوا فيه المؤمنين من أهل هذه الصفات وغلبوهم عليه ، مما أفاء الله على

________________

١ ـ التوبة : ١١٢.

٢ ـ الحجّ : ٣٩ ـ ٤٠.

١٠٧

رسوله فهو حقّهم أفاءهُ الله عليهم وردّه إليهم (١).

ومعنى هذه النصوص أنّ المعنيّ بالمؤمنين في الآية الكريمة هم الأئمّة ، وحيث لم نر بين هؤلاء من قاتل وقتل إلاّ الإمام الحسين بن علي صلوات الله تعالى عليهما وآلهما ، فيكون الإمام هو الفرد الأكمل لهذه الآية ، وخصوصا حينما نرى الجملة (اشترى) جاءت بلفظ الماضي.

فمعناه أنّ الإمام الحسين باع نفسه لله ورضي أن يكون مصداقا لـ (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (٢) ، لأنّ الكبش الّذي أُتي به من الجنّة لا يمكن عدّه ذبحا عظيما ، لأنّ الذبح مهما عظم لا يوازي نفس نبي من الأنبياء ، لكنّ الذبح العظيم هو ابن رسول الله الحسين لأنّه ذبح عطشانا ، ورفع رأسه على القنا ، وجعل في الطست بين يدي أبغض خلق الله ، وقد باع الحسين عليه‌السلام نفسه لله عزّ وجلّ كى يكون شفيعا لمذنبي أمّة جدّه محمّد حسب الاخبار ، وقد شهد بذلك التوراة والإنجيل والقرآن حسب منطوق الآية السابقة.

وقد جاء في خبر تفسير فرات الكوفي ، بأنّ الزهراء رضيت بمصابها بالحسين على أن يكون لها ولأبيها وبعلها وبنيها الشفاعة.

فعن أبيعبد الله عليه‌السلام ، قال : كان الحسين مع أمّه تحمله فأخذه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : لعن الله قاتلك ، ولعن الله سالبك ، وأهلك الله المتوازرين عليك ، وحكم الله بيني وبين من أعان عليك.

قالت فاطمة الزهراء : يا أبت أيّ شيء تقول؟

قال : يا بنتاه ذكرت ما يصيبه بعدي وبعدك من الأذى والظلم والغدر

________________

١ ـ الكافي ٥ : ١٣ / ١.

٢ ـ الصافّات : ١٠٧.

١٠٨

والبغي ، وهو يومئذ في عصبة كأنّهم نجوم السماء ، يتهادون إلى القتل ، وكأنّي أنظر إلى معسكرهم ، وإلى موضع رحالهم وتربتهم.

ثمّ ذكر لها ما يقع في كربلاء وبكاء الملائكة والوحوش والسماوات والأرض عليه.

فقالت فاطمة الزهراء عليها‌السلام : يا أبت إنا لله ، وبكت.

فقال لها : يا بنتاه! إنّ أفضل أهل الجنان هم الشهداء في الدّنيا ، بذلوا أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقّا ، فما عند الله خير من الدنيا وما فيها ، قتلة أهون من ميتة ، ومن كتب عليه القتل خرج إلى مضجعه ، ومن لم يقتل فسوف يموت.

يا فاطمة بنت محمّد ، أما تحبّين أنّكِ تَأْمُرِين غدا بأمر فتطاعين في هذا الخلق عند الحساب؟

أما ترضين أن يكون ابنك من حملة العرش؟

أما ترضين أن يكون أبوك يأتونه يسألونه الشفاعة؟

أما ترضين أن يكون بعلك يذود الخلق يوم العطش عن الحوض فيسقي منه أولياءه ويذود عنه أعداءه؟

أما ترضين أن يكون بعلك قسيم النار : يأمر النار فتطيعه ، يُخْرِج منها من يشاء ويترك من يشاء.

أما ترضين أنّكِ تنظرين إلى الملائكة على أرجاء السماء ينظرون إليك وإلى ما تأمرين به ، وينظرون إلى بعلك قد حضر الخلائق وهو يخاصمهم عند الله ، فماترين الله صانع بقاتل ولدك وقاتليك وقاتل بعلك إذا أفلحت حجّته على الخلائق ، وأُمرت النار أن تطيعه؟

أما ترضين أن يكون الملائكة تبكي لابنك ، ويأسف عليه كلّ شيء؟

أما ترضين أن يكون من أتاه زائرا في ضمان الله ويكون من أتاه بمنزلة من

١٠٩

حجّ إلى بيت الله واعتمر ، ولم يَخْلُ من الرحمة طرفة عين ، وإذا مات مات شهيدا ، وإن بقي لم تزل الحفظة تدعو له مابقي ، ولم يزل في حفظ الله وأمنه حتّى يفارق الدّنيا؟

قالت : يا أبت سلّمت ، ورضيت وتوكّلت على الله ، فمسح على قلبها ومسح عينيها ، وقال : إنّي وبعلك وأنت وابنيك في مكان تقرّ عيناك ، ويفرح قلبك. (١)

وفي المجالس للمفيد ، قال الصادق عليه‌السلام : «إذا كان يوم القيامة جمع الله الأوّلين والآخرين في صعيد واحد ثم أمر مناديا فنادى : غضوا أبصاركم ونكّسوا رؤوسكم حتى تجوز فاطمة ابنة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الصراط ؛ فتغض الخلائق أبصارهم ، فتأتي فاطمة عليها‌السلام على نجيب من نجب الجنة ، يشيّعها سبعون ألف ملك ، فتقف موقفا شريفا من مواقف القيامة ، ثم تنزل عن نجيبها فتأخذ قميص الحسين بن علي عليها‌السلام بيدها مضمخا بدمه ، وتقول : يا ربّ هذا قميص ولدي وقد علمت ما صنع به ..

..فيأتيها النداء من قبل الله عزّ وجلّ : يا فاطمة لك عندي الرضا ، فتقول : يا ربّ انتصر لي من قاتله ، فيأمر الله تعالى عنقا من النّار ، فتخرج من جهنم ، فتلتقط قتلة الحسين بن علي عليها‌السلام ، كما يلتقط الطير الحبّ ، ثمّ يعود العنق بهم إلى النّار ، فيعذبون فيها بأنواع العذاب ، ثمّ تركب فاطمة عليها‌السلام نجيبها حتّى تدخل الجنّة ، ومعها الملائكة المشيعون لها ، وذريتها بين يديها ، وأولياؤهم من الناس عن يمينها وشمالها». (٢)

وعن علي بن الحسين عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«تحشر ابنتي فاطمة يوم القيامة ومعها ثياب مصبوغة بالدم فتعلق

________________

١ ـ تفسير فرات : ١٧١ / ٢١٩.

٢ ـ المجالس للمفيد : ١٣٠.

١١٠

بقائمة من قوائم العرش فتقول : يا عدل احكم بيني وبين قاتل ولدي ، فيحكم الله تعالى لابنتي وربّ الكعبة ؛ وأنّ الله عزّ وجلّ يغضب لفاطمة ويرضى لرضاها» (١).

إذن علي بن أبي طالب هو الأجير ـ مع رسول الله والزهراء ـ طبق النصوص السابقة.

كما أنّ أولاده الأئمّة المعصومين هم المؤمنون الّذين اشترى الله منهم أنفسهم ، وقد عرفت بأنّ الإمام الحسين عليه‌السلام هو الفرد الأكمل للآية الكريمة ، وإن كنا لا ننكر استعمال الماضي في المستقبل والحال في البلاغة ، لكنَّ الأمر هنا وبقرينة ما بعده من الآيات ينطبق على الأئمّة وخصوصاً الإمام الحسين منهم ، ولو وقفت على الروايات الدالة على أنّ رسول الله (٢) ،

________________

١ ـ عيون أخبار الرضا ١ : ٢٨.

٢ ـ فقد روى خبر استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام : أنس بن مالك ، انظر مسند أحمد ٣ : ٢٤٢ / ١٣٥٦٣ ، ٢٦٥ / ١٣٨٢٠ ، مسند أبي يعلى ٦ : ١٢٩ / ٣٤٠٢ ، ومجمع الزوائد ٩ : ١٨٧.

وأبوالطفيل ، انظر مجمع الزوائد ٩ : ١٩٠.

وابن عباس ، انظر مجمع الزوائد ٩ : ١٩٣ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٩٧ / ٤٨٢٦ ، مسند احمد ١ : ٢٤٢ / ٢١٦٥.

وأبو أمامة ، انظر المعجم الكبير ٨ : ٢٨٥ / ٨٠٩٦ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٨٩.

وأنس بن الحارث ، انظر تاريخ البخارى الكبير ٢ : ٣٠ ، الاصابة ١ : ١٢١ / ٢٦٦ عنه.

ومعاذ بن جبل ، انظر المعجم الكبير ٣ : ١٢٠ / ٢٨٦١ و ٢٠ : ٢٨ / ٥٦ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٨٩ ـ ١٩٠.

والحسين بن على نفسه ، انظر تاريخ دمشق ٢٣ : ١٩٠.

وأمّ سلمة ، انظر المعجم الكبير ٣ : ١٠٨ / ٢٨١٩ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٨٨ و ١٨٩ ، تاريخ بغداد ١ : ١٥٢.

وعائشة ، انظر مسند أحمد ٦ : ٢٩٤ / ٢٦٥٦٧ ، مسند عبد بن حميد : ٤٤٢ / ١٥٣٣ والسلسلة الصحيح للألباني ٣ : ١٥٩ ، المعجم الكبير ٣ : ١٠٧ / ٢٨١٥ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٨٧.

وزينب بنت جحش ، انظر مجمع الزوائد ٩ : ١٨٨.

وأم الفضل ، انظر مستدرك الحاكم ٣ : ١٩٤ / ٤٨١٨ ، كلهم عن النبي.

١١١

والإمام عليّا (١) وفاطمة الزهراء (٢) كانوا يعلمون بهذه الشهادة ، لثبت عندك بأنّ أمر الإمام الحسين كان أمرا سماويا ، وتعاهُدا إلهيا بين الله عزّ وجلّ والإمام الحسين.

وفي الخبر عن الإمام الصادق إشارة الى أنّ الله ـ كرامة لرسول الله والإمام علي والإمام الحسن والإمام الحسين ـ كان يُنْزِل سبعين ألف ملك كلّ مساء ونهار ليسلموا عليهم وهم في قبورهم ومن هنا جاء التأكيد على زيارة الإمام الحسين بن علي في الأخبار ، ففي ثواب الأعمال وكامل الزيارات ، عن داوود الرقّي ، قال :

سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ما خلق الله خلقا أكثر من الملائكة ، وإنّه ينزل من السّماء كلّ مساء سبعون ألف ملك يطوفون بالبيت الحرام ليلتهم ، حتّى إذا طلع الفجر انصرفوا إلى قبر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فسلّموا عليه ، ثمّ يأتون قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام فيسلّمون عليه ، ثمّ يأتون قبر الحسن عليه‌السلام فيسلّمون عليه ، ثمّ يأتون قبر الحسين عليه‌السلام

________________

١ ـ رواه : عبد الله بن نجي الحضرمي ، انظر مسند أحمد ١ : ٨٥ / ٦٤٨ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٨٧.

وهاني بن هاني ، انظر مصنف ابن أبي شيبة ٦ : ٢٠٤ / ٣٠٦٩٠ ، ٧ : ٤٧٧ / ٣٧٣٦٥ ، المعجم الكبير ٣ : ١١٠ / ٢٨٢٤ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٩٠.

وأبي هرثمة ، انظر المعجم الكبير ٣ : ١١١ / ٢٨٢٥ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٩١.

وشيبان بن مخرم ، انظر تاريخ دمشق ١٤ : ٢٢٢ ، المعجم الكبير ٣ : ١١١ / ٢٨٢٦ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٩١.

وابن سيرين ، انظر تهذيب الكمال للمزي ٢١ : ٣٥٩.

وأبي حبرة ، انظر المعجم الكبير ٣ : ١١٠ / ٢٨٢٣ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٩١.

ورواه الإمام الصادق عن أبيه ، انظر كامل الزيارات ٤٥٣ / ٦٨٥ ، بحار الأنوار ٤٤ : ٢٥٨ / ٨ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٧٢ / ١٣٨ ، وسائل الشيعة ١٤ : ٥١٦ / ١٧٢٤.

٢ ـ كما مرّ عليك قبل قليل في خبر فرات وغيره.

١١٢

فيسلّمون عليه ، ثمّ يعرجون إلى السّماء قبل أن تطلع الشّمس.

ثمّ تنزل ملائكة النهار سبعون ألف ملك ، فيطوفون بالبيت الحرام نهارهم ، حتّى دنت الشمس للغروب انصرفوا إلى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيسلّمون عليه ، ثمّ يأتون قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام فيسلّمون عليه ، ثمّ يأتون قبر الحسن عليه‌السلام فيسلّمون عليه ، ثمّ يأتون قبر الحسين عليه‌السلام فيسلّمون عليه ، ثمّ يعودون إلى السّماء قبل أن تغرب الشّمس (١).

وهناك رواية طويلة عن الإمام السجاد تؤكّد على أن الله اطّلع على ما في نفس الرسول من المحبة والسرور لعلي بن أبيطالب وفاطمة الزهراء والحسن والحسين ابنَي علي ، فجعل الثمن شفاعتهم في أمّته ، وإليك الخبر بأكملة ، لأنّ فيه حقائق كثيرة مفيدة أخرى.

الإمام السجاد عليه‌السلام يحكي قصة كربلاء

فعن نوح بن درّاج ، قال : حدّثني قدامة بن زائدة ، عن أبيه ، قال : قال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : بلغني يا زائدة أنّك تزور قبر أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام أحيانا؟

فقلت : إنّ ذلك لكما بلغك.

فقال لي : فلماذا تفعل ذلك ، ولك مكان عند سلطانك؟ الّذي لايحتمل أحدا على محبّتنا ، وتفضيلنا ، وذكر فضائلنا ، والواجب على هذه الأمّة من

________________

١ ـ ثواب الأعمال : ٩٦ ، كامل الزيارات : ٢٢٤ / ٣٣٠ ، بحار الأنوار ٩٧ : ١١٧ / ٨ ، وقريب منه عن محمّد بن مسلم انظر أمالى الطوسي : ٢١٤ / ٣٧٢ ، بحار الأنوار ٩٧ : ١٢٢ / ٢٧ وفيه «فسلّموا عليه ، ثمّ أتوا قبر الحسين عليه‌السلام فسلّموا عليه ، ثمّ عرجوا ، وينزل مثلهم أبدا إلى يوم القيامة».

١١٣

حقّنا؟

فقلت : والله ما أريد بذلك إلاّ الله ورسوله ، ولا أحفل بسخط من سخط ، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه.

فقال : والله إنّ ذلك كذلك؟

فقلت : والله إنّ ذلك لكذلك ، يقولها ثلاثا وأقولها ثلاثا ، فقال : أبشر ثمّ أبشر ثمّ أبشر ، فلأخبرنّك بخبر كان عندي في النَخب المخزون (١).

إنّه لمّـا أصابنا ، بالطف ما أصابنا ، وقتل أبي عليه‌السلام وقتل من كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله ، وحملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يراد بنا الكوفة ، فجعلت أنظر إليهم صرعى ، ولم يواروا ، فعظم ذلك في صدري واشتدّ لما أرى منهم قلقي ، فكادت نفسي تخرج ، وتبيَّنَتْ ذلك منّيّ عمّتي زينبُ الكبرى بنت عليّ عليه‌السلام ، فقالت : ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟

فقلت : وكيف لا أجزع وأهلع ، وقد أرى سيّدي وإخوتي وعمومتي وولد عمّي وأهلي مضرَّجين بدمائهم مرمّلين ، بالعُري مسلّبين ، لا يكفّنون ولا يوارون ، ولا يعرّج عليهم أحد ولايقربهم بشرٌ كأنّهم أهل بيت من الدَّيلم والخزر.

فقالت : لا يجزعنّك ما ترى ، فوالله إنّ ذلك لعهد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جدّك وأبيك وعمّك ، ولقد أخذ الله ميثاق ؛ أناسٍ من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمة [الأرض ـ خ ل] ، وهم معروفون في أهل السماوات أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة فيوارونها ، وهذه الجسوم المضرجّة ، وينصبون

________________

١ ـ قد يكون فيه إشارة إلى مصحف فاطمة عليها‌السلام الموجود عندهم والّذي فيه أخبار الملوك والسلاطين وما يجرى عليهم عليهم‌السلام.

١١٤

لهذا الطفّ علما لقبر أبيك سيّد الشهداء لا يدرس أثره ، ولايعفو رسمه على كرور اللّيالي والأيّام ، وليجتهدنّ أئمّة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلاّ ظهورا ، وأمره إلاّ علوّا.

فقلت : وما هذا العهد؟ وما هذا الخبر؟

فقالت : نعم ، حدّثتني أمّ أيمن أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زار منزل فاطمة عليها‌السلام في يوم من الأيّام فعملت له حريرة ، وأتاه عليّ عليه‌السلام بطبق فيه تمر ، ثمّ قالت أمّ أيمن : فأتيتهم بعُسّ (١) فيه لبن وزبد ، فأكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام من تلك الحريرة ، وشرب رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وشربوا من ذلك اللبن ، ثمّ أكل وأكلوا من ذلك التمر والزبد ، ثمّ غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يده وعليّ عليه‌السلام يصبّ عليه الماء.

فلمّـا فرغ من غسل يده ، مَسَح وجهه ، ثمّ نظر صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليه‌السلام نظرا عرفنا به السرور في وجهه ، ثمّ رمق بطرفه نحو السّماء مليّا ، ثمّ وجّه وجهه نحو القبلة وبَسط يديه يدعو ، ثمّ خرّ ساجدا وهو ينشج (٢) ، فأطال النشوج ، وعلا نحيبه ، وجرت دموعه ، ثمّ رفع رأسه وأطرق إلى الأرض ودموعُهُ تقطر كأنّها صوب المطر ، فحزنت فاطمة وعليّ والحسن والحسين عليهم‌السلام وحزنتُ معهم لما رأينا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهِبْنَاه أن نسأله.

حتّى إذا طال ذلك ، قال له عليّ عليه‌السلام وقالت له فاطمة عليها‌السلام : ما يبكيك يا رسول الله لا أبكى الله عينيك؟ فقد أقرح قلوبنا ما نرى من حالك؟

فقال : يا أخي سُرِرت بكم ـ وقال مزاحم بن عبد الوارث في حديثه هاهنا : فقال : يا حبيبي إنّي سررت بكم سرورا ما سررت مثله قطّ ـ وإنّي

________________

١ ـ العُسُّ ، بالضم والسين المهملة المشدّدة : القدح العظيم.

٢ ـ نشج الباكي يَنْشِجُ ـ بالكسر ـ نشيجا : غصّ بالبكاء في حلقه من غير انتحاب.

١١٥

لأنظر إليكم وأحمد الله على نعمته عَلَيَّ فيكم ، إذ هبط عليّ جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا محمّد إنّ الله تبارك وتعالى اطّلع على ما في نفسك ، وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك ، فأكمل لك النعمة وهنّأك العطيّة بأنْ جعلهم وذرّيّاتهم ومحبيّهم وشيعتهم معك في الجنّة لا يفرّق بينك وبينهم ؛ يُحْبَوْنَ كما تُحْبَى (١) ، ويعطون كما تعطى حتّى ترضى وفوق الرّضا ، على بلوى كثيرة تنالهم في الدنيا ، ومكاره تصيبهم بأيدي أناس ينتحلون ملّتك ويزعمون أنّهم من أمّتك ، براءٌ من الله ومنك ، خبطا خبطا (٢) وقتلاً قتلاً ، شتّى مصارعهم ، نائية قبورهم ، خيرة من الله لهم ولك فيهم ، فاحمد الله عزّ وجلّ على خيرته وارضَ بقضائه ، فحمدتُ الله ورضيتُ بقضائه بما اختاره لكم.

ثمّ قال لي جبرئيل : يا محمّد إنّ أخاك مضطهدٌ بعدك مغلوب على أمّتك ، متعوب من أعدائك ، ثمّ مقتول بعدك ؛ يقتله أشرّ الخلق والخليقة وأشقى البريّة ، يكون نظير عاقر الناقة ، ببلدٍ تكون إليه هجرته ، وهو مَغْرِسُ شيعته وشيعة ولده ، وفيه على كلّ حال يكثر بلواهم ويعظم مصابهم.

وإنّ سبطك هذا ـ وأومأ بيده إلى الحسين عليه‌السلام ـ مقتول في عصابة من ذريّتك وأهل بيتك وأخيار من أمّتك بضفّة الفرات (٣) بأرض يقال لها : كربلا ، من أجلها يكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذرّيتك في اليوم الّذي لا ينقضي كرْبُهُ ولاتفنى حسرته ، وهي أطيب بقاع الأرض وأعظمها حرمةً ، وإنّها من بطحاء الجنّة ، فإذا كان ذلك اليوم الّذي يقتل فيه سبطك وأهله ، وأحاطت به كتائب أهل الكفر واللعنة ، تزعزعت الأرض من أقطارها ،

________________

١ ـ من الحباء وهو العطاء بلا منّ ولا جزاء. وفي نسخة بدل : يُحَيَّون كما تُحَيَّى.

٢ ـ خبط خبطا : ضرب ضربا شديدا. لسان العرب ٧ : ٢٨٠.

٣ ـ الضّفة من النهر : جانبه ، ومن البحر : ساحله. لسان العرب ٩ : ٢٠٧.

١١٦

ومادت الجبال وكثر اضطرابها ، واصطفقت (١) البحار بأمواجها ، وماجت السماوات بأهلها ؛ غضبا لك يا محمّد ولذريّتك ، واستعظاما لما ينتهك من حرمتك ، ولشرّ ما تُكَافَأُ في ذريّتك وعترتك ، ولا يبقى شيءٌ من ذلك إلاّ استأذن الله عزّ وجلّ في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين الّذين هم حجّه الله على خلقه بعدك.

فيوحي الله إلى السّماوات والأرض والجبال والبحار ومن فيهنّ : إنّي أنا الله الملك القادر ، الّذي لا يفوته هارب ، ولا يعجزه ممتنع ، وأنا أَقْدَرُ على الانتصار والانتقام ، وعِزّتي وجلالي لأُعذّبنّ مَن وتَرَ رسولي وصفيِّي ، وانتهك حرمته ، وقتل عترته ، ونبَذ عهَدهُ ، وظلم أهل بيته [أهله ـ خ ل] عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين ، فعند ذلك يضجّ كلّ شيء في السّماوات والأرضين بلعن من ظلم عترتك ، واستحلّ حرمتك.

فإذا برزت تلك العصابة إلى مضاجعها تولّى الله عزّ وجلّ قبض أرواحها بيده ، وهبط إلى الأرض ملائكة من السّماء السّابعة ، معهم آنية من الياقوت والزمرّد مملوءة من ماء الحياة وحلل من حلل الجنّة ، وطيب من طيب الجنّة ، فغسّلوا جثثهم بذلك الماء ، وألبسوها الحلل ، وحنّطوها بذلك الطيب ، وصلّت الملائكة صفّا صفّا عليهم.

ثمّ يبعث الله قوما من أمّتك لا يعرفهم الكفّار ، لم يشركوا في تلك الدّماء بقول ولا فعل ولا نيّة ، فيوارون أجسامهم ، ويقيمون رسما لقبر سيّد الشهداء بتلك البطحاء ، يكون علما لأهل الحقّ ، وسببا للمؤمنين إلى الفوز ، وتحفّه ملائكة من كلّ سماء مائة ألف ملك في كلّ يوم وليلة ، ويصلّون عليه ،

________________

١ ـ اصطفقت الأشجار : اضطربت واهتزّت بالريح ، والعود : تحرّكت أوتاره. تاج العروس ٢٦ : ٣٤.

١١٧

ويسبّحون الله عنده ، ويستغفرون الله لزواره ، ويكتبون أسماء من يأتيه زائرا من أمّتك ـ متقرّبا إلى الله تعالى وإليك بذلك ـ

وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم ، ويوسمون في وجوههم بمِيسَمِ نور عرش الله : «هذا زائر قبر خيرالشهداء وابن خير الأنبياء» ، فإذا كان يوم القيامة سطع في وجوههم من أثر ذلك الميسم نور تغشى منه الأبصار يدلّ عليهم ويعرفون به.

وكأنّي بك يا محمّد بيني وبين ميكائيل ، وعليٌّ أَمامنا ، ومعنا من ملائكة الله ما لايحصى عددهم ، ونحن نلتقط مَنْ ذلك الميسمُ في وجهه من بين الخلائق حتّى ينجيهم الله من هول ذلك اليوم وشدائده ، وذلك حكم الله وعطاؤه لمن زار قبرك يا محمّد أو قبر أخيك أو قبر سبطيك لا يريد به غير الله عزّ وجلّ ، وسيجتهد [وسيجدّ ـ خ ل] أناس ممّن حقّت عليهم اللعنة من الله والسّخط أن يُعْفُوا رسم ذلك القبر ويَمْحُوا أثره ، فلا يجعل الله تبارك وتعالى لهم إلى ذلك سبيلا.

ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فهذا أبكاني وأحزنني.

قالت زينب عليها‌السلام : فلمّـا ضرب ابن ملجم لعنه الله أبي عليه‌السلام ورأيت عليه أثر الموت منه ، قلت له : يا أبه حدثتني أم أيمن بكذا وكذا وقد أحببت أن أسمعه منك.

فقال : يا بنيّة الحديث كما حدّثتك أمّ أيمن ، وكأنّي بك وبنساء أهلك سبايا بهذا البلد ، أذلاّء خاشعين ، تخافون أن يتخطّفكم النّاس ، فصبرا صبرا.

فو الّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة ما لله على ظهر الأرض يومئذ وليّ غيركم وغير محبّيكم وشيعتكم ، ولقد قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين أخبرنا بهذا الخبر : إن أبليس لعنه الله في ذلك اليوم يطير فرحا ، فيجول الأرض كلّها بشياطينه وعفاريته ، فيقول : يا معاشِرَ الشياطين قد أدركنا من ذرّيّة آدم الطَّلِبَة ، وبلغنا

١١٨

في هلاكهم الغاية ، وأورثناهم النّار إلاّ من اعتصم بهذه العصابة ، فاجعلوا شغلكم بتشكيك النّاس فيهم ، وحملهم على عداوتهم ، وإغرائهم بهم وأوليائهم حتّى تستحكم ضلالة الخلق وكفرهم ولا ينجو منهم ناجٍ ، ولقد صدق عليهم إبليس ـ وهو كَذُوبٌ ـ أنّه لا ينفع مع عداوتكم عمل صالح ولا يضرّ مع محبّتكم وموالاتكم ذنب غير الكبائر.

قال زائدة : ثمّ قال عليّ بن الحسين عليه‌السلام بعد أن حدّثني بهذا الحديث : خذه إليك أما لو ضربت في طلبه آباط الإبل حَوْلاً لكان قليلاً (١).

نعم هذا هو حال أئمتنا فحري بهم أن يکون لهم هذا المقام المحمود ، وقراءتنا لامثال هکذا نصوص تجعلنا ممن يعرف حقوقهم وما بذلوه في سبيل الدين ، فيسع المومن لاداء بعض الواجب عليه ، واليك مقاما آخر للإمام عل عليه‌السلام.

الإمام علي قسيم الجنّة والنار وصاحب الاعراف

ومن أمرنا بمودّته

إنّ الإمام عليّ بن أبيطالب هو الذي باع نفسه ابتغاء مرضاة الله (٢) وهو مصداق : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله).

وإنّ ائمّة أهل البيت ـ وخصوصا الإمام الحسين ـ هم مصداق قوله تعالى : (إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) ، وقد أوضح أحمد بن حنبل معنى كون عليّ عليه‌السلام هو قسيم الجنّة والنّار ، ففي طبقات الحنابلة قال :

________________

١ ـ كامل الزيارات : ٤٤٤ ـ ٤٤٨ ، بحار الأنوار ٤٥ : ١٧٩ ـ ١٨٣.

٢ ـ مع رسول الله والزهراء والحسن والحسين.

١١٩

سمعت محمّد بن منصور يقول : كنّا عند أحمد بن حنبل فقال له رجل : يا أبا عبد الله ، ما تقول في هذا الحديث الّذي يُرْوَى أنّ عليّا قال : أنا قسيم الجنّة والنار؟

فقال : وما تُنكرون من ذا؟! أليس روينا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ عليه‌السلام : «لا يُحبّك إلاّ مؤمن ولا يُبغضك إلاّ منافق»؟!

قلنا : بلى.

قال : فأين المؤمن؟

قلنا : في الجنّة.

قال : فأين المنافق؟

قلنا : في النار ، قال : فعليٌّ قسيم الجنّة والنار (١).

وعن أبي الصلت الهرويّ ، قال : قال المأمون يوما للرضا عليه‌السلام : يا أبا الحسن ، أخبرني عن جدّك أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بأيّ وجهٍ هو قسيم الجنّة والنار ، وبأيّ معنى؟ فقد كثر فكري في ذلك.

فقال له الرضا عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين! ألم تَرْوِ عن أبيك ، عن آبائه ، عن عبد الله ابن عبّاس أنّه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : حبّ عليّ إيمان وبغضه كفر؟ فقال : بلى.

فقال الرضا عليه‌السلام : فقسمة الجنّة والنار إذا كانت على حبّه وبغضه فهو قسيم الجنّة والنار.

فقال المأمون : لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن ، أشهد أنّك وارث علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال أبو الصلت الهرويّ : فلمّـا انصرف الرضا عليه‌السلام إلى منزله أتيته ، فقلت له : يابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أحسن ما أجبتَ به أمير المؤمنين! فقال الرضا

________________

١ ـ طبقات الحنابلة ١ : ٣٢٠ ، وانظر تاريخ مدينة دمشق ٤٢ : ٣٠١.

١٢٠