عارفا بحقّكم

السيد علي الشهرستاني

عارفا بحقّكم

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة المؤمل الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٥

كما أنّه طهرهم في آية التطهير ، وعبّر عنهم بـ (أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ) في آية المباهلة.

فلو لم يكن الثمن من وزن المثمّن لكان البيع غرريّا ، وفيه بخسٌ للعامل والأجير ، وهذا ما لا يفعله الله الجواد الكريم القادر المتعال.

وقد جاء في «عيون أخبار الرضا» عن الإمام الرضا أنّه فسّر الاصطفاء في القرآن ـ في مجلس المأمون بمرو ـ في اثني عشر موطنا وموضعا وكان ممّـا قاله عليه‌السلام :

والآية السادسة [آية المودة] ... فقال عزّ وجلّ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُل) : يا محمّد (لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ولم يفرض الله تعالى مودتهم إلاّ وقد علم أنهم لا يرتدون عن الدين ابدا ، ولا يرجعون إلى ضلال ابدا.

واخرى : أن يكون الرجل وادا للرجل فيكون بعض اهل بيته عدوا ، فلا يسلم له قلب الرجل ، فاحبّ الله عزّ وجلّ أن لا يكون في قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على المؤمنين شيء ففرض عليهم الله مودة ذوي القربى.

فمن أخذ بها وأحبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأحبّ أهل بيته لم يستطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبغضه ، ومن تركها ولم يأخذ بها وابغض اهل بيته عليهم‌السلام فعلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبغضه ، لانه قد ترك فريضة من فرائض الله عزّ وجلّ.

فاي فضيلة ، وأي شرف يتقدم هذا أو يدانيه؟ فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أصحابه فحمد الله واثنى عليه وقال : يا أيّها الناس إنّ الله عزّ وجلّ قد فرض لي عليكم فرضا فهل انتم مؤدوه؟ فلم يجبه احد.

فقال : يا أيّها الناس انه ليس بذهب ولا فضة ولا مأكول ولا مشروب ، فقالوا : هات إذا ، فتلا عليهم هذه الآية فقالوا : أما هذه فنعم ، فما وفى بها أكثرهم.

وما بعث الله عزّ وجلّ نبيا إلاّ اوحى اليه أن لا يسأل قومه اجرا ، لأن الله

٨١

عزّ وجلّ هو الذي يوفي أجر الانبياء.

ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فرض الله عزّ وجلّ مودة طاعته ومودة قرابته على امته ، وامره أن يجعل اجره فيهم ليؤدوه في قرابته بمعرفة فضائلهم التي أوجب الله عزّ وجلّ لهم.

فان المودة إنما تكون على قدر معرفة الفضل ، فلما اوجب الله تعالى ثقل ذلك لثقل وجوب الطاعة فتمسك بها قوم قد اخذ الله ميثاقهم على الوفا ، وعاند اهل الشقاق والنفاق والحدوا في ذلك فصرفوه عن حدّه الّذي حدّه الله عزّ وجلّ ، فقالوا : القرابة هم العرب كلهم وأهل دعوته (١).

فعلى أي الحالتين كان فقد علمنا أن المودة هي القرابة ، فاقربهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أولاهم بالمودة.

وكلما قربت القرابة كانت المودة على قدرها ، وما انصفوا نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حيطته ورأفته ، وما منّ الله به على امته مما تعجز الالسن عن وصف الشكر عليه أن لا يؤذوه في ذريته وأهل بيته وأن يجعلوهم فيهم بمنزلة العين من الرأس حفظا لرسول الله فيهم والذين فرض الله تعالى مودتهم ووعد الجزاء عليها ، فما وفى احد بها ، فهذه المودة لا يأتي به أحد مؤمنا مخلصا إلاّ استوجب الجنة ... (٢)

إذن وبعد أن عرفنا شيئا من مقام الرسول وأنّه (دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (٣) ، فمقام الإمام عليّ عليه‌السلام تلوه ، لأنّه نفس رسول الله ، وأنّه کان يسمع ما يسمعه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويرى ما يراه إلاّ أنّه ليس بنبيّ.

________________

١ ـ كان الإمام عليه‌السلام قد أجاب قبل ذلك عمن ادعى أنّ رسول الله قال : أمتي آلى ، فقال عليه‌السلام : اخبرونى فهل تحرم الصدقة على الآل؟ فقالوا : نعم ، قال : فتحرم على الأمة؟ قالوا : لا قال : هذا فرق بين الآل والامة.

٢ ـ عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١١ و ٢١٢.

٣ ـ النجم : ٨ ، ٩.

٨٢

وهكذا هو مقام أولاده المعصومين «فهم محالُّ معرفة الله ، ومساكن بركة الله ، ومعادن حكمة الله ، وحفظة سرّ الله ، وحملة كتاب الله ، وأوصياء نبيّ الله ، وذريّة رسول الله ، والدعاة إلى الله ، والأدلاّء على مرضاة الله ، والمستقرّين في أمر الله ، والتامّين في محبّة الله ، والمخلصين في توحيد الله ، والمظهرين لأمر الله ونهيه» (١).

فبعد أن عرفنا کل هذا لابد من توضيح بعض إفضال رب العالمين الاخر عل عبده ورسوله محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومن إفضاله سبحانه أن ساو بينه وبين أهل بيته في عدة أشياء ، واعتبر مودتهم واجبة عل المسلمين في کتابه ، وأبق ذکره بجعل الخير الکثير في ولده المعصومين والزم المودة لهم.

والمودة هي أعل مرتبة من المحبة ، وه تستبطن البرائة من الاعداء مع حفظ المحبة للآل ، وبه کون أعدائهم هم أعداء الله.

(٨)

رفع ذكر رسول الله وأهل بيته في تشهّد الصلاة من الأجر للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

إنّ الله عزّ وجلّ قد رفع ذكر الرسول وأعطاه ما لم يُعْطِ أحدا من العالمين ، ومن خلال ذلك يمكن التعرّف على مكانة أهل بيته الطاهرين أيضا ، وكيف ساواهم سبحانه مع الرسول في عدّة أشياء كرامةً لهم وتعظيما لشأنهم.

قال ابن كثير : (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (٢) ، فليس خطيب ولا شفيع

________________

١ ـ انظر من لا يحضره الفقيه ٢ : ٦٠٨ / ٣٢١٢ ، بحار الأنوار ٩٩ : ٢٠٧ في الزيارة الجامعة لسائر للأئمّة.

٢ ـ الشرح : ٤.

٨٣

ولا صاحب صلاة إلاّ ينادي بها : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، فقرن الله اسمه بإسمه في مشارق الأرض ومغاربها ، وذلك مفتاحا للصلاة المفروضة ، ثمّ أورد حديث ابن لهيعة ، عن درّاج ، عن أبي الهشيم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله في قوله : (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) قال : قال جبرئيل : قال الله : إذا ذُكرتُ ذُكرتَ (١).

وقال الفخر الرازيّ : جعل الله تعالى أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مساوين له في خمسة أشياء :

أحدها : المحبّة ؛ قال الله تعالى : (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله) ، وقال لأهل بيته : (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).

والثانية : تحريم الصدقة ؛ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تحلّ الصدقة لمحمّد ولا لآل محمّد ، إنّما هي أوساخ النّاس.

والثالثة : الطهارة ، قال الله تعالى : (طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (٢) أي يا طاهر ، وقال لأهل بيته : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا) (٣).

والرابعة : في السلام ؛ قال : «السلام عليك أيّها النبيّ» ، وقال لأهل بيته «سَلامٌ عَلَى إِلْ يس».

________________

١ ـ البداية والنهاية ٦ : ٢٨٣ باب القول فيما أُعطي إدريس عليه‌السلام.

٢ ـ طه : ٢.

٣ ـ الأحزاب : ٣٣.

٤ ـ قرأ نافع وابن عامر ويعقوب هذه الآية آل ياسين بفتح الهمزة ومدّها وقطع اللام من الياء كما في آل يعقوب ، «النشر في القراءات العشر ٢ : ٣٦٠ ، وانظر تحبير التيسير : ١٧٠» وللتأكيد انظر مصحف المدينة النبويّة برواية ورش عن نافع المدنيّ والمطبوع في المملكة العربيّة السعوديّة صفحة ٤٠٧ الآية : ١٣٠ من سورة الصافّات.

٨٤

والخامسة : في الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى الآل في التشهّد (١).

وفي التفسير الكبير للفخر الرازيّ في تفسير قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) (٢) أشار إلى أنّ الكوثر :

«أولاده عليهم‌السلام ، قالوا : لأنّ هذه السورة إنّما نزلت ردّا على من عابه عليه‌السلام بعدم الأولاد ، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان.

فانظر كم قُتل من أهل البيت ، ثمّ العالَم ممتلئ منهم ، ولم يبقَ من بني أُميّة في الدنيا أحد يُعبأ به.

ثمّ انظر كم فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام والنفس الزكيّة وأمثالهم» (٣).

بهذه المعرفة يمکننا الوقوف عل وحدة الملاك بين الإمامة والنبوة ، ومكانة أهل البيت عند الله ورسوله ، وسرّ الأمر بمودّتهم لا محبتهم فقط.

لماذا المودّة لا المحبّة؟

هنا نكتة أُخرى يجب فتحها في معطيات آية المودّة ودلالتها ، وهي مجيء كلمة (المودّة) فيها لا المحبّة ، وهذا يعني الشيء الكثير ، لأنّ المودّة غالبا هي لذوي العقول خاصّة ، أمّا المحبّة فهي أعمّ منها وتشمل غيرها أيضا ، فيمكن أن يقول شخص : أُحبّ سيّارتي وابني ، ولا يُمكنه أن يقول : أودّ سيّارتي وبيتي ، لأنّ المودّة لا تكون إلاّ لذوي العقول.

________________

١ ـ نظم درر السمطين : ٢٣٩ ، والصواعق المحرقة : ٢ : ٤٣٦ ، وينابيع المودّة ١ : ١٣٠ ـ ١٣١ ، عن جواهر العقدين ٢ : ١٦٦ ، وفيض القدير ٢ : ١٧٤ باختصار ، وفي جميعها عن الفخر الرازيّ.

٢ ـ الكوثر : ١.

٣ ـ التفسير الكبير ٣٢ : ١١٧.

٨٥

فالمودّة هي اعلى مرتبةً من المحبّة ، وهي المحبّة الراسخة في القلب والجارية على اللسان واليد (١) ، وقيل في سبب تسمية المسمار أو ما ينصب في الأرض بالوتد أو الودّ لرسوخه في عمق الحائط أو الأرض.

وهي تعطي أيضا معنى المتابعة والموالاة للآخر ، أي أنّ المودّة هي المحبّة + الاتباع ، بهذا نكون قد عرفنا بأنّ المودّة هي أسمى من المحبّة وأنّها ليست المحبّة ـ كما يقولون ـ ، وأنّ من سمات الّذي يودّ هو عدم محبّة أعداء الله ، لأنّ (مَّا جَعَلَ اللّه لِرَجُلٍ مِن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِه) (٢)ِ بل على الوادِّ الوقوف أمام كلّ من يريد المساس بحرمات الله والتقليل من شأنها ، لأنّ الدين ما هو إلاّ الحب.

(٩)

وهل الدين إلا الحب والبغض

وهذا أصل شرع ومعناه أن الدين ما هو إلاّ الولاء لأولياء الله والبراءة من أعداء الله ، وقد قلنا بأنّ البراءة من الأعداء ملحوظة عند إطلاق كلمة المودّة ، بل إنّها من مصاديق المودّة الحقّة ، قال الشاعر :

تودّ عدوّي ثمّ تزعم أننّي

أُحبّك إنّ الرأي عنك لعازِبُ (٣)

ولو تأمّلت في سورة الممتحنة ، والّتي نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ظاهراً ، تراها تحتوي على التولّي والتبرّي «أي الحبّ والبغض» معاً فقد بدأت السورة

________________

١ ـ انظر : المحاسن ١ : ١٥٣ / ٧٦ ، و ٧٧ ، تأويل الآيات ٢ : ٨٦١ / ٢ ، غاية المرام ٦ : ١٤٣ / ١ و ٢ ، وبحار الأنوار ٢٧ : ٩٣ / ٧. فإنّ فيها مجموعة رواياتٍ جاءت في الإمام عليّ عليه‌السلام تؤكّد ذلك.

٢ ـ الاحزاب : ٤.

٣ ـ الشعر لابي العبّاس محمّد بن يزيد النحوى ، انظر الموشى للوشاء صفة المتحابين في الله عزّ وجلّ.

٨٦

بقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوْا بِمَا جَاءَكُم مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللّه رَبِّكُمْ إِن كُنتُم خَرَجْتُمْ جِهَادا فِي سَبِيلي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (١) وختمت بقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْما غَضِبَ اللّه عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسوا مِنَ الاْخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُور).

فالله سبحانه أراد في هذه السورة بيان حقيقة للمؤمنين ، وهي أنّ إسرار المودّة لأعداء الله ورسوله ، وفي المقابل عدم إظهار المحبّة لله ولرسوله ، هو مداهنة ونفاق.

وقد حذّر سبحانه من الوقوع في هذا المنزلق بقوله : (وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (٢) ، لأنّ المسلم إذا لم يلتزم بمعاداة أعداء الله فسيقع في شراك (المَغْضوبِ عَلَيْهم) ، بقصد أو بدون قصد.

فحصر المودّة في القربى يقتضي أن يكون الله سبحانه أراد نهي المسلم من إلقاء المودّة إلى أعداء القربى.

وبما أنّ أبا بكر وعمر بن الخطّاب كانا يعلمان بأن البراءة والولاء اصلان قرآنيان ووجودهما في سورة الممتحنة وفي غيرها ـ

وهما يعلمان أيضا بمكانة الإمام عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام عند الله ورسوله وأن الخلافة يجب أن تکون في آل البيت ، إذ قال أميرالمؤمنين عليّ

________________

١ ـ الممتحنة : ١.

٢ ـ الممتحنة : ١.

٨٧

عليه‌السلام في خطبته الشقشقيّة : «وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها ـ أي الخلافة ـ محلّ القطب من الرحى ؛ ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليّ الطير» (١).

وجاء عن أبي بكر أنّه قال في مرض موته : «أما إنيّ لا آسى على شيء إلاّ على ثلاثٍ فعلتهنَّ ، ووددتُ أنّي لم أفعلهنّ ... فوددتُ أنّي لم أكن كشفتُ بيت فاطمة وتركته ، وإن أغلق على الحرب ...» (٢).

وفي الإمامة والسياسة لابن قتيبة (ت ٢٧٦ هـ) قال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها ، فانطلقا جميعا فاستأذنا على فاطمة فلم تأذن لهما ، فأتيا عليّا فكلّماه فأدخلهما عليها ، فلمّـا قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط ، فسلّما عليها فلم تردّ عليها‌السلام ... فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول : «رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني ، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني»؟!

قالا : نعم ، سمعناه من رسول الله ، قالت : فإنّي أُشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبيّ لأشكونّكما إليه.

________________

١ ـ نهج البلاغة : ٣١ الخطبة ٣. وقد مرّ عليك ما رواه الحاکم النيسابور والسيوطي عن ابن مردويه عن انس ... «قام إليه ابوبكر فقال يا رسول الله هذه البيت منها ـ وأشار إلى بيت عليّ وفاطمه ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم من أفاضلها». وهذا دليل على علـمه بمكانة أهـل البيـت كما جـاء عنه في صحيح البخاري ٣ : ١٣٦١ / ٣٥٠٩ قوله : ارقبوا محمّدا في أهل بيته ، فلو كان لا يعلم مكانة الزهراء لما أصرّ على الاعتذار منها ولما قال : ليتني لم أكشف عن بيت فاطمة (تاريخ يعقوبي ٢ : ١٣٧ ، شرح النهج : ٤٧ و ٢٠ : ٢٤) ففي البخاري أيضا ٤ : ١٥٤٩ / ٣٩٩٨ ومصنّف عبد الرزّاق ٥ : ٤٧٢ / ٩٧٧٤ : ولم يصلّ عليها أبوبكر ولا يؤذن هو ولا عمر بحضور جنازتها وذلك بوصية منها.

٢ ـ المعجم الكبير ١ : ٦٢ / ٤٣ ، وفي الإمامة والسياسة ١ : ٢٤ «مرض أبي بكر واستخلافه عمر» : فليتني تركت بيت عليّ وإن كان أعلن عليّ الحرب ، تاريخ دمشق ٣٠ : ٤١٨ ، ٤٢١ ، ٤٢٢ ، تاريخ الإسلام ٣ : ١١٨.

٨٨

فقال أبوبكر : أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة.

ثمّ انتحب أبوبكر يبكي حتّى كادت نفسه أن تزهق ، وهي تقول : والله لأدعونّ عليك في كلّ صلاةًٍ أُصليّها ... فلم يُبايع عليّ كرّم الله وجهه حتّى ماتت فاطمة ، ولم تمكث بعد أبيها إلاّ خمسا وسبعين ليلة (١).

وفي صحيح البخاريّ : ماتت فاطمة وهي غاضبة على أبي بكر (٢).

إذن هما کانا عارفان بمقام السيدة فاطمة الزهراء خائفان من عذاب الله وذلك لسخطهما إياها ، فکيف بنا أن لا نعرف مقامها ومقام ولدها المعصومون.

فأسالك بالله هل يُعقل لاحد أن يقول لمن يعرف مقام فاطمة ومقام أبيها وبعلها وبنيها وما قدّموه من الغالي والنفيس في سبيل الله لا يجوز لك السلام عليها وعل أبيها وبعلها وبنيها؟!

وهل نكون من المشركين والمبدعين والخارجين عن الدين لو سلّمنا عليهم أو زرناهم وتعاهدنا قبورهم وأضرحتهم الشريفة الطاهرة؟!

إنّ السيّدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام أرادت أن تعرّف الناس بمواقف بعلها ـ أخ رسول الله ـ وکيف بالاخرين يقدّمون من هو مؤخّر ويؤخّرون من جاهد في سبيل الله وهم في رفاهية من العيش وادعون فاکهون آمنون بقولها :

كلما أوقدوا للحرب ناراً ... قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتّى يطأَ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدودا في ذات الله ، مجتهدا في أمر الله ، قريبا من رسول الله ، سيّدا في أولياء الله ،

________________

١ ـ الإمامة والسياسة ١ : ١٩ ـ ٢٠.

٢ ـ صحيح البخاري ٣ : ١١٢٦ / ٢٩٢٦ و ٤ : ١٥٤ / ٢٩٩٨ في شرح نهج البلاغة ٦ : ٥٠ قال ابن أبي الحديد : الصحيح عندى أنّها ماتت وهي واجدة على أبي بكر وعمر وأنّها أوصت ألا يصليا عليها.

٨٩

مشمّرا ناصحا ، مجدّا كادحا ، وأنتم في رفاهيةٍ من العيش ، وادعون فاكهون آمنون ، تتربصون بنا الدوائر ، وتتوكّفون الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرّون عند القتال ... (١)

وعليه فمن لم يحبّ الرسول وأهل بيته لم يدرك محبّة الله ولا يُحبّه الله ، ومن لا يحبّه الله لا يدخل الجنّة ، والله سبحانه أشار إلى البراءة بعد أن ذكر الولاية في قوله تعال في سورة الأحزاب : (إِنَّ اللّه وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلَّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيما * إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابا مُّهِينا) (٢).

إذن الولاية لا تفيد دون البراءة من الاعداء.

وقد قيل للصادق عليه‌السلام : «إنّ فلانا يواليكم إلاّ أنّه يضعف عن البراءة من عدوّكم؟ فقال : هيهات كذب من ادّعى محبّتنا ولم يتبرّأ من عدوّنا» (٣).

وفي تاريخ دمشق عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو يحكي عن المعاند والناصب العداوة لأهل البيت عليهم‌السلام ـ قال : فلو أنّ عابدا عبد الله بين الركن والمقام ألف عامٍ حتى يكون كالشّن البالي ، ولقى الله مبغضا لآل محمّد أكبّه الله على منخره في النار.

وفي صحيح البخاريّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : «إنّ الله قد قال : من عادى لي

________________

١ ـ انظر : الاحتجاج ١ : ١٣٦ ، وشرح النهج لابن أبي الحديد ١٦ : ٢٥٠ ، وجواهر المطالب ١ : ١٥٦.

٢ ـ الأحزاب : ٥٧ و ٥٨.

٣ ـ مستطرفات السرائر : ٦٤٠ ، وعنه في بحار الأنوار ٢٧ : ٥٨ / ١٨.

٤ ـ تاريخ دمشق ٤٢ : ٣٢٨ ، تاريخ بغداد ١٣ : ١٢٢ / ٧١٠٢ ، وانظر : المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٤٩ ، المعجم الكبير ١١ : ١٤٢.

٩٠

وليّا فقد آذنته بالحرب» (١).

فعلي بن أبي طالب هو ول الله بل سيد أولياءه ، إلا يکب الله معاوية (٢) ومروان بن الحكم (٣) وعبد الملك بن مروان (٤) وسليمان بن عبد الملك (٥) وغيرهم من الأمويين عل مناخرهم في النار لسبهم ولعنهم عليا؟

وفي مسند أحمد ، عن أبي هريرة ، قال : نظر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى علي والحسن والحسين وفاطمة فقال : «أنا حربٌ لمن حاربكم ، وسلمٌ لمن سالمكم» (٦).

ألا يكون أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام والصدّيقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام والحسن والحسين وأولادُ الحسين المعصومون عليهم‌السلام من أولياء الله؟!

وهل يحقّ لنا بعد هذا أن نجمع بين محبّة الآل ومحبّة كُلّ الصحابة ، وأنّ نقول بما قاله الآخرون جمعا بين النهجين : اختلفت الصدّيقة مع الصدّيق ، أو خرجت سيّدتنا عائشة على سيّدنا عليّ ، أو حارب سيّدنا معاوية سيّدنا عليّاً ، أو قتل سيّدنا يزيد سيّدنا الحسين عليه‌السلام!!!

فهل يقبل عاقل بهذا المنطق والاستدلال الواهي.

________________

١ ـ صحيح البخاريّ ٥ : ٢٣٨٤ / ٦١٣٧.

٢ ـ تاريخ الطيري ٦ : ٣٧ ، البداية والنهاية ٧ : ٢٨٤ و ٨ : ١٤ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٢٧٢ ، سير أعلام النبلاء ٣ : ١٦٣ و ٢٦٩ ، المعجم الكبير ١٤ : ٨٩ ، الأوائل للعسكري : ٧١ ، بغية الطلب في تاريخ حلب ٣ : ٢١٤ ، سنن ابن ماجة رقم ١٢١ ، السلسلة الصحيحة للألباني ٤ : ٢٣٥ ، ابن أبي شيبة رقم ٣٢٠٧٨.

٣ ـ صحيح مسلم ٤ : ١٨٧٤ رقم ٢٤٠٩ ، صحيح البخاري ٣ : ١٣٥٨ ، المعجم الكبير ٦ : ٥٨٧٩ ، طبقات ابن سعد ٦ : ٢١٣ ، سير أعلام النبلاء ٣ : ٤٧٧.

٤ ـ تاريخ دمشق ١٣ : ٦٨ ، كتاب الدعاء للطبراني : ٢٣٨ رقم ٧٥٠.

٥ ـ حلية الأولياء ٥ : ١٥.

٦ ـ مسند أحمد ٢ : ٤٤٢ / ٩٦٩٦ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٦١ / ٤٧١٤ عن زيد بن أرقم ، وكذا في سنن الترمذي ٥ : ٦٩٩ / ٣٨٧٠ بإختلاف يسير. المعجم الكبير ٣ : ٤٠ / ٢٦١٩ ، ٢٦٢٠ ، ٢٦٢١ ، البداية والنهاية ٨ : ٢٠٥.

٩١

فلو كان هناك اختلافٌ بين شخصين فلابدّ أن يكون أحدهما صادقا والآخر كاذبا ، وعلينا أن نعرفهما ، کي نتعرّف عل الصّدّيق والكذاب منهما ، إذ لا يعقل وجود الاختلاف ـ الواصل حدّ القتل ـ ثمّ القول بالوئام والاعتزاز بالقاتل والمقتول! إنّها مفارقات حقا ، موجودة في التاريخ والشريعة.

إذن القرآن يوجب على المؤمن أن يكون محبّا لله ولرسوله أكثر من حُبّه لآبائه وأبنائه وإخوانه وعشيرته ، وفي الوقت نفسه يجب عليه أن يتبرّأ من أعداء الله ولو كانوا آباءه أو أبناءه أو إخوانه أو عشيرته ؛ لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبَّا لِلَّهِ) (١) ، و (لاَ تَجِدُ قَوْما يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّه وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ) (٢) ، وهذا ما نعتقده ونقوم به ونشهدالله عليه في زياراتنا لأئمّتنا فنخاطب أئمّتنا في الزيارة الجامعة الكبيرة ونقول :

«... سعد من والاكم ، وهلك من عاداكم ، وخاب من جحدكم ، وضلّ من فارقكم ، وفاز من تمسّك بكم ، وأمن من لجأ إليكم ، وسلم من صدّقكم ، وهُدِيَ من اعتصم بكم ، من اتّبعكم فالجنّة مأواه ، ومن خالفكم فالنار مثواه ، ومن جحدكم كافر ، ومن حاربكم مشرك ، ومن ردّ عليكم في أسفل درك من الجحيم إلى أن نقول : ... أُشهد الله وأُشهدكم أنّي مؤمن بكم وبما آمنتم به ، كافر بعدوّكم وبما كفرتم به ، مستبصر بشأنكم وبضلالة من خالفكم ، موالٍ لكم ولأوليائكم ، مبغضٌ لأعدائكم ومعادٍ لهم ، سلمٌ لمن سالمكم ،

________________

١ ـ البقرة : ١٦٥.

٢ ـ المجادلة : ٢٢.

٩٢

وحرب لمن حاربكم ... فمعكم معكم لا مع غيركم ، آمنت بكم ، وتولّيت آخركم بما تولّيت به أوّلكم ، برئتُ إلى الله من أعدائكم ... من أحبّكم فقد أحبّ الله ، ومن أبغضكم فقد أبغض الله» (١).

نحن بهذه الجمل نعلن البراءة من الناصبين ، ثم نعلن الولاء لأئمّتنا المعصومين تبعا لما أمرنا الله بمودتهم ، والبراءة من أعدائهم بآية المودّة والتطهير والمباهلة. وهذه هي عقيدتنا الصحيحة في الرسول والأئمّة ، لأنا نعتقد بأنّهم أحياء ، يسمعون كلامنا ، ويردّون سلامنا ، ويرونَ مقامنا.

وهناك روايات في كتب أهل السّنة تؤيّد مدّعانا ، وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرد سلام من يسلّم عليه لقوله : ما من أحد يسلّم عليّ إلاّ ردّالله عليّ روحى حتّى اردّ عليه‌السلام (٢).

وفي آخر : من زار قبري بعد موتي كان كمن هاجر اليّ في حياتي ، فإن لم تستطيعوا فابعثوا اليّ بالسلام فإنه يبلغني (٣).

وقد أمر الله رسوله بالسلام على الّذين يأتونه في قوله : (وَإذا جاءَكَ اَلّذينَ يُؤمِنون بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيكم) (٤).

فكيف به صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يجيب سلام المسلِّم عليه؟! ألا يخالف هذا خلقه العظيم وما أُمرنا به من الأخلاق الفاضلة في قوله تعالى : (إذا حَيَيْتُم بِتَحِيَةٍ فَحَيّوا بِأحَسَن مِنها أَو رُدوها) (٥).

فالرسول الأعظم والأئمّة الأطهار يجيبون سلامنا ، لكننا لا نسمع جوابهم

________________

١ ـ المزار الكبير : ٥٢٨ ـ ٥٣٤.

٢ ـ سنن أبي داوود ٢ : ٢١٨ / ٢٠٤١ ، فتح الباري ٦ : ٤٨٨.

٣ ـ تهذيب الاحكام ٦ : ٣ / ١ واُنظر دعائم الاسلام ١ : ٢٩٦.

٤ ـ الانعام : ٥٤.

٥ ـ النساء : ٨٦.

٩٣

للموانع الموجودة في نفوسنا ، وهي الذنوب الكثيرة ، فلو كنّا مهذبين وطاهرين لسمعنا جوابهم.

وإذا لم يكن الرسول حيّا ويسمع كلامنا ، فلماذا نسلِّم عليه كلّ يومٍ ، في كُلّ تشهّد من صلواتنا؟!

فالقول بأنّ أهل البيت أحياء يسمعون كلامنا ويردّون سلامنا ليس بالأمر العظيم ، والعسير فهمه لأن مقاماتهم عالية وقد وقفت على بعضها ، فإذا كان فلان وفلان من أهل الجنة فعلي هو قسيم الجنة والنار ، وإذا كانت فلانة زوجة رسول الله فالصديقة الزهراء هي بنت رسول الله وأم أبيها ، وإذا كانت فلانة من أهل الجنة فالصديقة الزهراء هي سيدة نساء أهل الجنة وإذا كان فلان من أهل الجنة فالحسن والحسين هما سيدا شباب أهل الجنة ، فهم المثل الأعلى والكلمة الحسنى وأهل الذكر وأُولو الأمر ، وبقيّة الله وخيرته ، وحزبه وعيبة علمه ، وحجّته وصراطه ، ونوره وبرهانه ... وخلفاؤه في أرضه ، وحججهُ على بريّته ، وأنصاره لدينه ، وحفظة لسرّه ، وخزنة لعلمه ، ومستودعٌ لحكمته ، وتراجمة لوحيه ، وأركانً لتوحيده ، وشهداء على خلقه ، وأعلامٌ لعباده ، ومنارٌ في بلاده.

الإمام الرضا عليه‌السلام يوضح معني الإمامة

ففي الكافي عن عبدالعزيز بن مسلم ، قال : كنّا مع الرضا عليه‌السلام بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا ، فأداروا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف النّاس فيها ، فدخلتُ على سيّدي عليه‌السلام فأعلمته خوض النّاس فيه.

فتبسّم عليه‌السلام ثمّ قال : يا عبد العزيز جهل القوم وخُدعوا عن آرائهم ، إنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يقبض نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى أكمل له الدين ، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان

٩٤

كلِّ شيء ، بيّن فيه الحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، وجميع ما يحتاج إليه النّاس كملاً ، فقال عزَّ وجلَّ : (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ) (١) وأنزل في حجّة الوداع وهي آخر عمره صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا) (٢).

وأمرُ الإمامةِ من تمام الدين ، ولم يمض صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى بيّن لاُمّته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد سبيل الحقّ ، وأقام لهم عليّا عليه‌السلام عَلما وإماما ، وما ترك لهم شيئا تحتاج إليه الأُمّة إلاّ بيّنه ، فمن زعم أنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يكمِّل دينه فقد ردَّ كتاب الله ، ومن ردَّ كتاب الله فهو كافرٌ به.

هل يعرفون قدر الإمامة ومحلّها من الأُمّة فيجوز فيها اختيارهم؟!

إنَّ الإمامة أجلُّ قدرا ، وأعظم شأنا ، وأعلا مكانا ، وأمنع جانبا ، وأبعد غورا من أن يبلغها النّاس بعقولهم ، أو ينالوها بآرائهم ، أو يقيموا إماما باختيارهم.

إنَّ الإمامة خصَّ الله عزَّ وجلَّ بها إبراهيم الخليل عليه‌السلام بعد النبوَّة والخلّة ، مرتبة ثالثة ، وفضيلة شرّفه بها وأشاد بها ذكره ، فقال : (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاما) (٣) فقال الخليل عليه‌السلام سرورا بها : (وَمِنْ ذُرِّيَتِي) قال الله تبارك وتعالى : (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

فأبطلتْ هذه الآيةُ إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة ، ثمّ أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذرّيّته أهل الصفوة والطهارة فقال : (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ

________________

١ ـ الأنعام : ٣٨.

٢ ـ المائدة : ٣.

٣ ـ البقرة : ١٢٤.

٩٥

بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (١).

فلم تزل في ذرّيّته يرثها بعضٌ عن بعض قرنا فقرنا حتّى ورّثها الله تعالى النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال جلّ وعلا : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) ، فكانت له خاصّة ، فقلّدها صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا عليه‌السلام بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله ، فصارت في ذرّيّته الأصفياء الّذين آتاهم الله العلم والإيمان ، بقوله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالاْءِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللّه إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ) (٣) ، فهي في ولد عليّ عليه‌السلام خاصّة إلى يوم القيامة ؛ إذ لا نبيَّ بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن أين يختار هؤلاء الجهّال!

إنَّ الإمامة هي منزلة الأنبياء ، وإرث الأوصياء ، إنّ الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومقام أمير المؤمنين عليه‌السلام وميراث الحسن والحسين عليها‌السلام.

إنّ الإمامة زمام الدين ، ونظام المسلمين ، وصلاح الدُّنيا وعزُّ المؤمنين ، إنّ الإمامة اُسُّ الإسلام النامي ، وفرعه السامي ، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحجّ والجهاد ، وتوفير الفَيْء والصدقات ، وإمضاء الحدود والأحكام ، ومنع الثغور والأطراف.

الإمام يحلُّ حلال الله ، ويحرّم حرام الله ، ويقيم حدود الله ، ويذبُّ عن دين الله ، ويدعو إلى سبيل الله ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجّة البالغة ،

________________

١ ـ الأنبياء : ٧٣.

٢ ـ آل عمران : ٦٨.

٣ ـ الروم : ٥٦.

٩٦

الإمام كالشمس الطالعة المجلِّلة بنورها للعالم وهي في الاُفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار.

الإمام البدر المنير ، والسراج الزاهر ، والنور الساطع ، والنجم الهادي في غياهب الدجى وأجواز البلدان والقفار ، ولجج البحار ، الإمام الماء العذب على الظمأ ، والدالُّ على الهدى ، والمنجي من الرّدى ، الإمام السحاب الماطر ، والغيث الهاطل ، والشمس المضيئة ، والسماء الظليلة ، والأرض البسيطة ، والعين الغزيرة ، والغدير والروضة.

الإمام الأنيس الرفيق ، والوالد الشفيق ، والأخ الشقيق ، والاُمُّ البرّة بالولد الصغير ، ومفزع العباد في الداهية النآد ، الإمام أمين الله في خلقه ، وحجّته على عباده ، وخليفته في بلاده ، والداعي إلى الله ، والذابُّ عن حرم الله.

الإمام المطهّر من الذنوب ، والمبرَّأ عن العيوب ، المخصوص بالعلم ، الموسوم بالحلم ، نظام الدين ، وعزّ المسلمين ، وغيظ المنافقين ، وبوار الكافرين.

الإمام واحد دهره ، لا يدانيه أحدٌ ، ولا يعادله عالم ، ولا يوجد منه بدلٌ ، ولا له مثلٌ ولا نظير ، مخصوص بالفضل كلّه من غير طلب منه له ولا اكتساب ، بل اختصاص من المفضل الوهّاب (١).

* * *

بعد كلّ هذا لابدّ من الرجوع إلى حقيقة الترابط بين الآيات ، وكيف أنّ موضوع الزيارة يرتبط بآية البلاغ (٢) وآية المودّة ، وأنّ هاتين الآيتين والآيات

________________

١ ـ الكافي ١ : ٢٠٠ ـ ٢٠١ / ١ من رواية طويلة اقتصرنا عليها بهذا القدر.

٢ ـ وهي قوله سبحانه : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) المائدة : ٦٧.

٩٧

الأخرى وما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل بيته ولزوم الأخذ عنهم كلّها مقدمات ترشدنا إل معرفتهم وتعاهد زياراتهم والأخذ بسيرتهم ، لأنّه من الحقّ الّذي فرضه الله علينا في آية المودّة وغيرها ، وهو من الوفاء للإمام أن نزوره ونعبد الله عنده ، لأنّه عليه‌السلام عند مماته كما هو في حياته يسمعنا ويرانا ويسمع كلامنا ويردّ سلامنا ، وإلى ذلك أشار قوله تعالى : (وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَ تَشْعُرُونَ) (١) وقوله تعالى : (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (٢). فهم بالمقياس الإلهي أحياء يرزقون ، بخلاف ما يعتقده القشريون من انتهاء دور المعصوم بموته وأن ليس له أثر بعد موته.

ولنواصل حديثنا عن المودّة ، وأنها تعنى الإتباع والموالاة ، موکدين بأن ابرز مصاديق الموالاة ، هو زيارتهم وتعاهد قبورهم بعد مماتهم واليك توضيح ذلك.

نقل الفضائل مقدّمة للأخذ عنهم عليهم‌السلام

عرفنا في بحوثنا السابقة بأنّ الله ـ ورحمةً بعباده ـ أرسل إليهم الرسل كي يخرجوهم من الضلالة إلى الهدى ، وكانت تلك الأُمم منها من كانت تريد أن تبقى على ضلالها القديم ، واُخرى تريد الهداية ، والأنبياء كان عليهم التبليغ (إِنّا هَدَيناهُ السَبيلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفوراَ).

وإنّ مَثل الاُمم الّتي تريد البقاء على ضلالها مَثل الطفل المريض الّذي لا يعرف مصلحته فلا يقبل شرب الدواء ، لكنّ والديه يسقيانه ذلك قسرا حتّى

________________

١ ـ البقرة : ١٥٤.

٢ ـ آل عمران : ١٦٩.

٩٨

يشفى ، وعندما يكبر يعرف عظيم ما قدّماه له فيسعى لأداء بعض الواجب الملقى على عاتقه تجاههم.

فالله تعالى رحمةً بعباده أمرهم ببعض الاُمور ونهاهم عن اُخرى شفقةً منه عليهم كي لا يدخلوا جهنّم.

وهكذا الحال بالنسبة إلى مهمّة الرسالات والرسل ، فقد تعهدوا المهمة إمتثالاً لامرالله ورأفة بالناس ، فعلى المسلم أن يدفع أجر الرسالة كما أمره الله ـ بمحبّة أولياء الله والسير على هداهم ومعاداة أعدائه والابتعاد عن نهجهم.

وهذا الأمر الالهي «مودة القرب» لا يختلف في لزوم الإتيان به ، فهو لا يختلف عن إتيان المكلف بصلاته وصيامه وزكاته ، ومن لا يؤدّي المودّة فلا تُقبل صلاته ولا صيامه ، لأنّ مودّة ذوي القربى من الأوامر الإلهية التي يجب التعبد بها كالصلاة والصيام ، ومن لم يؤدها فقد ترك ما يبتني عليها من قبول الأعمال ، فلا يجوز الاخذ ببعض الاحكام وترك الأخرى منها.

مع التنبيه بأن العبادة الخالصة لا يطيقها ولا يؤديها حق أدائها إلاّ هذه النخبة الإلهية الصالحة المؤمنة بالله ، فهم هدف الخلقة ، والمقصود من المحكى عن الباري قوله : «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق لكي أعرف» لانّنا وبعباداتنا الناقصة لا يمكننا أن نكون معرفين لله تعالى وعبادا صالحين له بمعنى الكلمة ، إلاّ أن نقول بأن المقصود من هذا الخبر هو أنّ الله خلق هذه الصفوة الطاهرة من عبادة كى يكونوا عباده والادلاء عليه.

وعليه فإنّ الله عزّ وجلّ حينما أمر بمودّة ذوي القربى إنّما أراد الإرشاد إلى لزوم الأخذ عن هولاء في الأحكام والعقائد وفي غيرها كي ينجو المرءُ من عذاب الله.

فمن لم يطع الله ولم يمتثل أوامر رسوله في أوصيائه يُعتبر رادّا على الله ورسوله ، وإنّ المتخلّف عن أهل البيت يكون كمن ضيّع الطريق ، وقد شبّه

٩٩

أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام الأخذ عن غيرهم بالّذي يدخل بيوت النّاس من حيطانها لا من أبوابها ، ناظرا بذلك إلى قول الله عزّ وجلّ : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن أَبْوَابِهِا) (١) ، فقال :

نحن الشعار والأصحاب ، والخزنة والأبواب ، ولا تُؤتى البيوت إلاّ من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سُمّي سارقا (٢).

وجاء عن الصادق عليه‌السلام : أنه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى ، وصَلَ الله طاعةَ وليّ أمره بطاعة رسوله ، وطاعة رسوله بطاعتة ، فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع الله ولارسوله ... (٣)

وفي حديث آخر : إنّ رجالاً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا : إنّا نحبّ الله ورسوله ، ولم يذكروا أهل بيته ، فغضب صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال : أيّها النّاس ، أحبّوا الله عزّ وجلّ لما يغذوكم به من نعمه ، وأحبّوني بحبّ ربّي ، وأحبّوا أهل بيتي بحبّي ، فوالّذي نفسي بيده لو أنّ رجلاً صَفَنَ بين الركن والمقام صائما وراكعا وساجدا ثمّ لقي الله عزّ وجلّ غير محبٍّ لأهل بيتي لم ينفعه ذلك. (٤)

وعن أنس بن مالك ، أنّه قال : رجعنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قافلين من تبوك ، فقال لي في بعض الطريق : ألقوا لي الأحلاس والأقتاب ، ففعلوا ، فصعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فخطب فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثمّ قال : معاشر النّاس ، مالي إذا ذكر آل إبراهيم عليه‌السلام تهلّلت وجوهكم ، وإذا ذكر آل محمّدٍ كأنّما يفقأ في وجوهكم حبّ الرّمان؟! فوالّذي بعثني بالحقّ نبيّا لو جاء

________________

١ ـ البقرة : ١٨٩.

٢ ـ نهج البلاغة ٢ : ٤٥ / ١٥٤ ، شرح النهج لابن أبي الحديد ٩ : ١٦٤ ، بحار الأنوار ٢٦ : ٢٦٦ / ٥٣.

٣ ـ الكافي ٢ : ٤٧ / ٣ وعنه في بحار الأنوار ٦٦ : ١٠ / ١٢.

٤ ـ أمالي الطوسيّ : ٦٣٣ / ١٣٠٣ وعنه في بحار الأنوار ٢٧ : ١٠٥ / ٧٥ ، كشف الغمّة ٢ : ٤١.

١٠٠