عارفا بحقّكم

السيد علي الشهرستاني

عارفا بحقّكم

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة المؤمل الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٥

ذكرنا في المقدّمة بعض الشيء عن زيارة العارفين ، وإليك الآن تفصيلها في نقاط :

(١)

الأصل الأول :

ما من عمل إلاّ وله أجر

من الثابت المعلوم بل من المرتكزات العقلائية : بأنّ الأعمال لا تكون إلاّ بأجر وثمن.

فالمهندس له أجره ، والبنّاء له أجره ، والعامل له أجره ، والمقاول له أجره ، والطبيب له أجره ، والمحامي له أجره ، وهكذا ...

والأجرة والثمن لا يختصّان بالأُمور المادّيّة الدنيويّة فحسب ، بل تشمل الأُمور المعنويّة الأُخرويّة أيضاً ، فترى الله سبحانه يستخدم في قرآنه مصطلحاتٍ معروفةً ورائجة بين الناس لتقريب الفكرة للإنسان ؛ مثل «البيع» و «الشراء» و «التجارة» و «الأُجرة».

فقال الله سبحانه وتعالى : (إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (١) ، و : (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَة) (٢) ، و : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله) (١) ، و :

________________

١ ـ هود : ١١١.

٢ ـ النساء : ٧٤.

٤١

(أولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) (٢) و : (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (٣) و : (إنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّه وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَن تَبُورَ) ، و : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (٤) ، و : (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٥) ، و : (إِنَّمَا يُوَفَّي الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) (٦) هذه بعض الآيات الّتي تشير إلى مصطلحات رائجة في الحياة اليومية کالبيع ، والشراء ، والتجارة ، والأجر ، وهناك آيات كثيرة اُخرى نتركها خوفا من الإطالة.

إذن الشرائع السماويّة لم تبتعد عن نظام الأجر والبدل ، وإنّ تعاليمها مبتنية على الثواب والعقاب ، فما من عملٍ حسنٍ مأمورٍ به إلاّ وله ثوابٌ عندهم ، وما من عملٍ سيّىء منهيّ عنه إلاّ وعليه عقاب.

وإنّ جملة : «ثاب إلى الأمر» في اللّغة ، معناه : رجع إليه ، لأنّ المكلّف وعند رجوعه من عالم الدنيا إلى الآخرة سيرى جزاء عمله ، إنْ كان خيرا فخيرٌ ، وإنْ شرّا فشرٌّ. ولأجل هذا يعبّر عن جزاء الأعمال الصالحة بالثواب.

________________

١ ـ البقرة : ٢٠٧.

٢ ـ البقرة : ١٦.

٣ ـ البقرة : ٢٠٢.

٤ ـ الصف : ١٠.

٥ ـ التوبة : ١١١.

٦ ـ الزمر : ١٠.

٤٢

(٢) و (٣)

الأصل الثاني والثالث :

الأجر على قدر المشقّة

وعمل الرسل من أصعب الأعمال

هناك أصلٌ ثانٍ مقبول عند العقلاء أيضاً ، وهو كون الأجر على قدر المشقّة ، وأنّ أفضل الأعمال أحمزها (١).

والأعمال إما دنيوية أو أخروية والمشقّة قد تكون جسميّةً ، وقد تكون فكريّةً وروحيّةً ، وبما أنّ اعمال الرسل من أصعب الأعمال ، فتكون مثوبتها عند الله من أعظم المثوبات ، لأنّ الإنسان لا يمكنه أن يعطي أجر ما قدّمه الأنبياء لهم ـ لا جميعها ولا بعضها ـ لأنّ رسالة الأنبياء وخصوصا رسالة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله رسالة ثقيلة (٢) ، وأن الالتزام بها يعني إبعاد النّاس عن النار وإيصالهم إلى الجنّة وصيرورتهم اُناساً موحدّين بمعنى الكلمة ، وأنّ إخراج الناس من الضلالة والشرك وإدخالهم في الجنّة لا يمكن أن يُثمّن بثمنٍ ، لأنّ في الجنّة ما لا عين رأت ولا اُذن سمعت ولا خطر ببال أحد ، وهذا ما ستراه موجوداً في أجر زيارة الإمام الحسين عليه‌السلام والأئمة من آل محمّد عليهم‌السلام.

________________

١ ـ غريب الحديث لابن سلاّم ٤ : ٢٣٣ ، بحار الأنوار ٦٧ : ١٩١.

٢ ـ قال سبحانه في سورة المزّمّل (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً).

٤٣

فصرف السوء والزحزحة عن النار ودخول الجنة فوز عظيم (فَمَن زُحْزِحَ عِنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) ، وقال سبحانه (مَن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ).

فمن المستحيل أن يستطيع الإنسان دفع أجر ما عمله الأنبياء وما تحمّلوه في إبلاغ الرسالة جميعا ، لأنّ الثمن المقدّم من قبل الإنسان للرسل يجب أن يتجانس مع المثمّن الّذي قدّمه الأنبياء لهم وهو الجنة أو الابتعاد عن النار ، ولا تجانس بين ما قدّمه الأنبياء وما يقدّمه الإنسان لهم.

ولذلك لم يأخذ الرسل أيّ نوعٍ من أنواع الأجر من الناس على عملهم ، محيلين أجرهم على الله ، فجاء على لسان نوح ، ولوط ، وشعيب ، وصالح ، وهود ، وحتّى على لسان نبينا صلوات الله عليه وآله وعليهم أجمعين قولهم (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٣) لأنّ الأنبياء سعوا وبكلّ جدٍّ لتغيير الواقع الفاسد عند الاُمّة ، وإرجاعها إلى جادّة الصواب بأمرٍ من الله تعالى ، وأنَّ عملهم هذا قد رافقته مصاعب كثيرة ، لأنّ تغيير الإنسان عمّـا كان قد اعتاد عليه ثمّ صناعته من جديد ليس بالأمر السهل ، وقد ذكر الإمام الحسن العسكريّ عليه‌السلام عمليّة التغيير مؤكّداً صعوبتها بقوله : «رياضة الجاهل وردّ المعتاد عن عادته كالمعجز» (٤).

هذا عن عمل الأنبياء في الأمم السابقة ، وأمّا عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في

________________

١ ـ آل عمران : ١٨٥.

٢ ـ الأنعام : ١٦.

٣ ـ الشعراء : ١٠٩ و ١٢٧ و ١٤٥ و ١٦٤ و ١٨٠.

٤ ـ تحف العقول : ٤٨٩ ، وعنه في بحار الأنوار ٧٥ : ٣٧٤ / ٣٠.

٤٤

امته فهو الأصعب لأنّهم کانوا على شرّ دينٍ وفي جاهلية مطبقة ، وقد خاطبهم الإمام عليّ عليه‌السلام بقوله :

«... وأنتّم معشر العرب على شرّ دين ، وفي شرّ دار ، تُنيخون بين حجارة خشن ، وحيّات صمّ ، تشربون الكدر ، وتأكلون الجشب ، وتسفكون دماءكم ، وتقطعون أرحامكم ، الأصنام فيكم منصوبة ، والآثام فيكم معصوبة» (١).

وفي خطبة أُخرى له عليه‌السلام قال :

«فالأحوال مضطربة ، والأيدي مختلفة ، والكثرة متفرّقة ، في بلاء أَزْل ، وإِطباق جهل ، من بنات مَوءودة ، وأصنام معبودة ، وأرحام مقطوعة ، وغارات مشنونة» (٢).

كما أنّ السيّدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام خاطبتهم بقولها :

«... وكنتم على شفا حفرة من النار ، فأنقذكم منها نبيّه ، تعبدون الأصنام ، وتستقسمون بالأزلام ، مُذقة الشارب ، ونُهْزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الرَّنق (٣) ، وتقتاتون القدّ ، أذلّة خاشعين ، تخافون أن يتخطّفكم النّاس من حولكم ، فأنقذكم بنبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ...» (٤).

أجل ، إنّ التفصيل في هذا الموضوع يحتاج إلى مجال واسع لسنا الآن في صدد بيانه ، ولو أخذتم وضع المرأة في الجاهليّة مثالاً عل ذلك لرأيتم

________________

١ ـ نهج البلاغة ١ : ٦٦ / ٢٦.

٢ ـ نهج البلاغة ٢ : ١٥٣.

٣ ـ الرنق : الماء الكدر.

٤ ـ دلائل الإمامة : ١١٥ وانظر المناقب لابن مردويه : ٢٠٢ / ٢٨٤ ، بلاغات النساء : ١٣ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٦ : ٢٥٠.

٤٥

كيف كانوا يتعاملون معها كسقط المتاع ، تُباع وتشترى ، ويتناوبها الرجال ، وتُتّخذ كالأنعام لإنجاب الأولاد ، تُورَثُ ولا تُوَرَّثُ ، وكان من حقّ الابن الزواج بامرأة أبيه بعد وفاته ، أو أن يعضلها عن النكاح ، وقد كان هناك أنواع من فساد الأنساب والعلاقات الجنسية المقيتة ، وغيرها من عشرات الصفات الرديئة الّتي كان العرب آنذاك قد تطبّعوا بها واعتادوا عليها ، كشرب الخمر ، وأكلهم الربا ، ووأد البنات خوفاً من العار والإملاق وأمثالها ، حتّى جاءهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنقذهم من تلك الضلالة وذلك الشرك ، ودعاهم إلى التوحيد والجنّة.

(٤)

الأصل الرابع :

تعاظم أجر الرسول لخاتميّة رسالته

نعم ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد اُوذي كثيراً في ترسيخ دعوته حتّى قال هو عن نفسه : «ما اُوذي نبيّ مثلما اُوذيت» (١) ، ونحن لو أردنا أن نصوّر هذا الإيذاء للرسول ، فلا بدّ من معرفة مكانته عند الله ومد علمه بالاُمور وفي المقابل معرفة المهمة الملقاة على عاتقه ، وكيف به يؤمر بهداية أُناس هم من أجهل خلق الله آنذاك ، إذ لا حضارة ولا مدنية في شبه الجزيرة العربية وفي المقابل عليه إيصال تلك الرسالة الثقيلة إلى الأمم اللاحقة عبرة تلك الأمة الجاهلية.

________________

١ ـ تفسير الرازي ٤ : ١٤٢ ، مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٤٢ ، وانظر سنن الترمذي ٤ : ٦٤٥ / ٥٤٧٢.

٤٦

ونحن لو أردنا أن نقيّم دور الرسول في الدعوة کان علينا التعرّف على أخلاق العرب في الجاهليّة أولاً ، ثم بيان کيفية تغيرهم وتحولهم من حال إلى حال ، لأنّ الأشياء تُعرف بأضدادها.

فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وبفضل الله ومنّه ـ كان عالماً بكلّ شيء حتّى إنّه كان يعلم بما سيؤول إليه أمر العالم في آخر الزمان ، وأن أخبار ظهور المهديّ ، والدجّال ، والسفياني جاءت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وإنّ علمه بالأشياء لا يشوبه جهل أو ظنّ لأنّه من عند الله ، بعكس الأُمّة الجاهليّة ، التي كانت لا تعرف شيئاً عن مستلزمات الحياة ، فهي في جهلٍ مطبقٍ حسبما جاء عن الإمام عليّ والزهراء سلام الله عليهما وکذا ما جاء عن غيرهما من الصحابة ، هذا من جهة.

ومن جهة اُخرى تر الرسول يؤمر بأن يكلّم النّاس على قدر عقولهم ، وعقولهم لا تتحمّل ما أُمر بتبليغه لهم ، لأنّ رسالته هي الرسالة الخاتمة ، وفيها جواب متطلّبات كلّ العصور ولم تختصّ بعصره الشريف فحسب.

فكيف برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبلّغ تلك الأُمور العالية لأُمّةٍ جاهليّةٍ «تأكل الخنافس والجعلان ، والعقارب والحيّات ، ويقتل بعضهم بعضاً ، ويبغي بعضهم على بعض» (٢) ، و «تعبد الأصنام ، وتأكل الميتة ، وتأتي بالفواحش ، وتقطع الأرحام ، وتُسيء الجوار» (٣).

________________

١ ـ الفردوس ١ : ٣٩٨ / ١٦١١ ، تفسير السلمي ١ : ٣٧٧ ، المحاسن ١ : ١٩٥ / ١٧ ، الكافي ١ : ٢٣ / ١٥.

٢ ـ هذا ما قاله المغيرة بن شعبة عند يزدجرد ، البداية والنهاية ٧ : ٤٢ ، تاريخ الطبريّ ٢ : ٣٩١ ، ولابن العاص أيضا كلام يشير إلى بعض ذلك ، راجع مجمع الزوائد ٨ : ٢٣٧.

٣ ـ هذا هو كلام جعفر بن أبي طالب عليها‌السلام وهو يصف الوضع الجاهليّ لمّـا دخل على النجاشيّ وقد سألهم عن حالهم ، انظر : سيرة ابن هشام ٢ : ١٧٩.

٤٧

إذن حياة رجلٍ كالنبي محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مجتمع جاهليّ لا يعرف أبسط الأُمور مليئة بالمتاعب والمصائب لما تكفل به من التكليف الباهض الذي هو أمر شاقّ جدّا جدّا ، خصوصا وأنّ مهمته هداية اولئك الجهلة وعل قدر عقولهم.

فلو نظرت لنفسك وعرفت بأنّك محكوم بالعيش مع اُناسٍ لم يدركوا قدرك ولم يفهموك ، ومع ذلك عليك أن تهديهم وأن تعلمهم ، فهم لا يعرفون أبسط الأشياء وأنت تعلم کل شيء ـ ما مض وما سيحدث بعد آلاف السنين ـ فلو عرفت هذا لعرفت حقيقة ما كان يعانيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في العيش مع هؤلاء ، لأنّ عيش العالم بين الجهّال أمرّ من العلقم ، وأصعب من المشي على الماء ، فقد روى أبو الربيع الشامي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ما يواجهه الأنبياء في علاج الحمق فقال :

إنّ عيسى بن مريم قال : داويت المرضى فشفيتهم بإذن الله ، وأبرأت الأكمه والأبرص بإذن الله ، وعالجت الموتى فأحييتهم بإذن الله ، وعالجت الأحمق فلم أقدر على إصلاحه.

فقيل يا روح الله وما الأحمق؟

قال : المعجب برأيه ونفسه ، الّذي يرى الفضل كلّه له لا عليه ، ويوجب الحقّ كلّه لنفسه ولا يوجب عليها حقّا ، فذلك الأحمق الّذي لا حيلة في مداواته (١).

وفي الحديث : ثلاثة يشكون إلى الله عزّ وجلّ أحدهم [عيش] عالم بين جهال (٢).

ففي كلّ هذه النصوص دلالة على عظم المصيبة الّتي كان يلاقيها الأنبياء والمرسلون في أممهم وخصوصاً نبينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

________________

١ ـ بحار الأنوار ١٤ : ٣٢٣ عن الاختصاص.

٢ ـ الكافي ٢ : ٦١٣ / ٣.

٤٨

فكيف برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو النبي المرسل الأكمل ـ العيش في مجتمعٍ جاهليّ لا يعرف أبسط الأشياء ، وهو مأمورٌ بتعليمهم وهدايتهم؟! هذا من جهة.

ومن جهةٍ اُخرى ؛ نلحظ أنّ رسالة النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله تسمو على الرسالات الاُخرى لاحتوائها جواب کل التساولات اللاحقة ، فکيف برسول الله أن يبين کل تلك الاُمور لأولئك الأعراب ، فهم لا يفهمون البديهيات فکيف يخبرهم بالمغيبات وهم من أجهل الاُمم ، ولو ألقيت نظرةً إجماليّة إلى الحضارات المجاورة آنذاك للجزيرة العربيّة لعرفت ما نقوله وانحطاط الفكر في الجزيرة وارتقائه في مصر ، واليمن ، واليونان ، وفارس.

فكيف برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الجمع بين مهمتين :

الأول ثقل العلم والرسالة الملقاة على عاتقه (سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً).

والثانية إيصالها إل العصور اللاحقة حينما تشق طريقها من بين أجهل الاُمم؟ کلّ ذلك وهو مکلّف بأن يكلّم النّاس على قدر عقولهم؟! إنّها رسالة شاقّة حقّا وعليه تنفيذها.

ما اُوذي نبيّ مثل ما اُوذيت

ولتوضيح الفكرة أكثر نقول : إنّ الإنسان مهما بلغ من العلم ، فمجهولاته أكثر من معلوماته ، فلو اعتبرنا ابن سينا والفارابيّ والخليل وسيبويه وأنشتاين ونيوتن وغيرهم من العلماء المشهورين ـ مادّييّن كانوا أو إلهيّين ـ لرأينا أنّهم رجالٌ لا يُضاهيهم أحدٌ في العلم ، ومع ذلك فمجهولاتهم أكثر من معلوماتهم على نحو القطع واليقين.

لأنّ العالم بالطبّ والفلسفة والكيمياء قد لا يعرف بقوانين الفيزياء والجاذبيّة ، وطبقات الأرض والفضاء ، وهكذا الحال بالنسبة للّذي يعرف

٤٩

العلوم الطبيعيّة قد تخفى عليه العلوم الإنسانيّة والإلهيّة.

فما يعرفه ابن سينا والفارابيّ والخوئيّ والجوينيّ لا يعرفه أنشتاين وفرويد ونيوتن ، وما يعرفه ماركس وكارت وديكارت لا يعرفه المتنبي وأبو تمام والبحتري.

وهكذا الحال بالنسبة إلى العلوم الأُخرى ، فمعرفة العلوم الطبيعيّة تختلف عن العلوم الإنسانيّة ، وإنّ مجهولات كلّ عالمٍ من هؤلاء العلماء أكثر من معلوماته على وجه القطع واليقين ، فإنّ الله لم يُعلّمهم إلاّ القليل ، لقوله سبحانه : (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (١).

وذلك لأنّ العلوم في العالم متشعّبة وكثيرة ، فقد يعلم الإنسان شيئاً وتخفى عليه أشياء اُخرى هي أكثر ممّـا يعلم.

بعكس الله «علاّم الغيوب» ، فهو العالم بكلّ شيء ، وكذا الحال بالنسبة إلى كلّ من يتّصل به من الأنبياء والرسل والأوصياء المعصومين صلوات الله تعالى عليهم ، فهؤلاء يمكنهم العلم بكلّ الأشياء فضلاً وكرامةً من عند الله لهم ، لأنّ علمهم هو من ذي علم ، وذلك كقوله سبحانه في الخضر عليه‌السلام (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْما) (٢) ، وقوله في موسى عليه‌السلام (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْما وَعِلْما) (٣) ، وفي سورة يوسف عليه‌السلام : (وَكَذلِكَ يَجْتَبيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) (٤) ، وقال تعالى :

________________

١ ـ الاسراء : ٨٥.

٢ ـ الكهف : ٦٥.

٣ ـ يوسف : ٢٢.

٤ ـ يوسف : ٦.

٥٠

(ذلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) (١) ، وقال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) (٢) ، وقال في داوود عليه‌السلام : (وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ الله الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) (٣) ، وفي سورة النمل : (وَوَرِثَ سُلَيْمَـانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوِتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (٤) ، وقال عن علم النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (٥).

أجل إنّ حياة هؤلاء الأنبياء ـ وهم بشر ـ مع أمم مشرکة او کافرة ، وحياة رسول الله محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع امة جاهلية هم أقلّ النّاس علما وفضلاً ـ بل أجهلهم على وجه البسيطة ـ هو من أصعب الأمور ، وباعتقادي إنّ هذا هو أكبر امتحانٍ إلهيّ وقع للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو أشدّ ممّـا قالوه في إيذاء قريش له ، وضرب جبهته الشريفة بالحجر ، ورمي كرش الشاة عليه ، وما شابه ذلك من أنواع الأذى الّذي لاقاه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قومه.

بل أر أصعب من كلّ ذلك هو ما واجهه من لزوم تعريف أمته بالشيء الثقيل ، كالروح ، والساعة ، والبرزخ ، والقيامة ، والشيطان ، والملائكة والجنّة والنار وأمثالها ، فإنّ إفهامهم وإقناعهم بهذه الحقائق لم يكن سهلاً يسيراً ، لذلك رمته قريش بالجنون تارةً ، وبالسحر اُخرى ، لعدم دركهم تلك

________________

١ ـ يوسف : ٣٧.

٢ ـ يوسف : ٦٨.

٣ ـ البقرة : ٢٥١.

٤ ـ النمل : ١٦.

٥ ـ النجم : ٥.

٥١

المفاهيم.

إنّ رجالات قريش قاوموا دعوة الرسول وجَدُّوا في محاربته ، ومطاردة أتباعه وتعذيبهم وتهجيرهم وإيذائهم وسخريتهم (١) ، لكنّ الله حفظه رغم مكر وإيذاء قريش له ـ رجالاً ونساءً ـ فكم من مرّة نشرت أم جميل ـ زوجة أب لهب ـ الشوك في طريقه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو القت الرماد والتراب والکرش عل رأسه الشريف وثيابه الطاهرة.

وقد روي عن أبي لهب لعنه الله أنّه كان يستهزئ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول : يعدني محمّد أشياء لا أراها ، يزعم أنّها كائنة بعد الموت ، فماذا وضع في يدى بعد ذلك ثمّ ينفخ في يديه ويقول : تبّاً لكما لا أرى فيكما شيئاً ممّـا يقول محمّد. فأنزل الله تعالى : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (٢).

بهذا المنطق وهذا الاستهجان والتسخيف ، والشدّة والغلظة تعاملوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكنّ الله طمأنه وقال له : (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (٣).

فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم نفسه لكل البلايا من القتل والغدر والإيذاء ونسبة السفه والجنون إليه.

كما أنه رأى نزو القردة على منبره الشريف (٤) ، وأخبره جبرئيل ـ وفي آخر : ملك المطر ـ بأن أمّتة ستقتل فلذة كبده الإمام الحسين بن علي عليها‌السلام ثمّ إنّه

________________

١ ـ بحار الأنوار ١٨ : ٢٤١ / ٨٩ ، وسيرة ابن إسحاق : ٤ : ٢٠٠ ـ ٢٠١ ، ٢٣٠ ، وسيرة ابن هشام ٢ : ١٩٩.

٢ ـ سيرة ابن هشام ٢ : ١٩٦ ، البداية والنهاية ٣ : ٨٧ ، سيرة ابن كثير ٢ : ٤٩.

٣ ـ الحجر : ٩٥.

٤ ـ انظر تفسير روح المعاني ١٥ : ١٠٧ ـ ١٠٨ وتفسير الكبير للرازي ٢٠ : ٢٣٦ في تفسير قوله تعالى : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ).

٥٢

أتاه بطينة حمراء منها (١).

فإن أفهام الأمة الجاهلة بهذه الحقائق صعب جداً ، فقد کان صلوات الله عليه وآله في المحل الأرفع وأمته في أسفل السافلين.

وعليه فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان عارفا بما سيؤول إليه أمر أمّته من الاختلاف والإنكار للجميل ، لکنّه مع ذلك کان موفّقا في دعوته رغم قصر المدّة الّتي عاش فيها بين قومه.

فهو کان موفقا رغم المصاعب الّتي لاقاها منهم ؛ إذ هدى الله به أكثر ممّـا هدى نبيّ الله نوحٌ قومه ـ رغم طول مكث الأخير فيهم ـ

فجاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : لقد أقام نوح في قومه ودعاهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ثمّ وصفهم الله فقلّلهم فقال : (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ) (٢) ولقد تبعني في سِنِيَّ القليلة ما لم يتبع نوحاً في طول عمره وكبر سنّه.

إذن ، فإنّ جهاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصبره کان لابدّ له من جزاءٍ وأجرٍ ، وکان على الله أن يثيبه ، وقد فعل ، من خلال أمره رسوله أن يخبر أمته في لزوم أن يعطوه أجر الرسالة وذلك باتباع أهل بيته.

كما أنّ الله رفع ذكره في الأذان وتشهّد الصلاة في قوله تعال : (وَرَفَعْنا

________________

١ ـ مسند احمد ٣ : ٢٤٢ / ١٣٥٦٣ ، مسند أبى يعلى ٦ : ١٢٩ / ٣٤٠٢ وانظر مجمع الزوائد ٩ : ١٨٧ / ٦٤٨ ومسند احمد ١ : ٨٥ وفيه : ... بل قام من عندي جبرئيل فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات ، فقال : هل لك أن أشمك من تربته؟ قلت : نعم ، فمد يده فقبض قبضة من تراب فاعطانيها فلم أملك عينيَّ أن فاضتا.

٢ ـ هود : ٤٠.

٣ ـ بحار الأنوار ١٦ : ٣٢٩ ، عن الإحتجاج ١ : ٥٧.

٥٣

لَكَ ذِكْرَك) والصلاة عليه في قوله تعال : (إِنَ اللّهَ وَمَلائِكَتُهُ يُصَلَّونَ عَلَى النَبيِ) والشفاعة في قوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى).

(٥)

علّة اختصاص النبيّ محمّد بأخذ الأجر من اُمّته دون الرسل

علمنا سابقاً أنّ عمل المرسلين والأنبياء والمصلحين لم يكن سهلاً ، بل كان عملاً شاقّا حقّا ، وأنّ الله لا يُضيع أجر عاملٍ من ذكرٍ أو أُنثى ، فكيف بعمل أنبيائه ورُسُله الّذين قدّموا كلّ ما كان في وسعهم للدعوة إلى الله.

كما علمنا أنّ النّاس لا يقدرون على تسديد أُجور المرسلين إليهم لعظم عملهم ، وأنّ الرسل لم يُطالبوا النّاس بها ، لأنّ الله كان قد كفاهم أُجورهم کما أنه سبحانه کان قد كفاهم المستهزئين الّذين كانوا يقولون بأنّ في النبيّ : سفاهةً ، أو ضلالةً ، أو أنّه مجنون (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِن رَبِّ الْعَالَمِينَ) (١) و (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِن رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٢) و (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَـجْنُونٌ) (٣) و (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) (٤) و (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا

________________

١ ـ الاعراف : ٦٧.

٢ ـ الاعراف : ٦١.

٣ ـ الشعراء : ٢٧.

٤ ـ غافر : ٥.

٥٤

رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) (١).

فأجر (إبلاغ الرسالة) وإن كان هو على الله ، لكن كان على النّاس أن يُقدّروا جهود المرسلين إليهم ، لهدايتهم الناس وإخراجهم من الضلالة إلى الهدى ، وذلك من باب «من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق» ، فكان عليهم أن يقدّروا عمل الرسل باتّباع تعاليمهم ، فهو وإن كان تقديراً لله وللرسل ، لكنّ الفائدة تعود للناس قبل أن تعود للرسل ، وهو يشبه ما فعله الله بعترة النب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ جعل مودتهم أجراً للرسالة ، فلم يقل سبحانه : إلا المودة للقرب بل قال : (إِلاّ المَوَدَةَ فِي الْقُرْبَى) وبکلامه عن أن مودة القرب تعود بالنفع عل الناس قبل أن تعود للقرب.

وإنّك ستعرف في أواخر الكتاب بأنّ نبوة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت امتداداً لدعوة أبيه إبراهيم عليه‌السلام ؛ إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا دعوة أبي إبراهيم ، وأن هناك شبه بين اسماعيل والإمام الحسين.

فسؤالنا : لماذا لم يأمر الله أنبيائه بأخذ الأجر من أُممهم ، ولم يكلفهم بـ «قل» إلاّ للنبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الّذي قال له : (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (٢).

فما يعني هذا الأمر؟ وما السر في هذا الاختصاص للنب محمد؟

فآية المودّة تصدرت بـ (قل) ولا نراها قد تصدرت في کلمات الرسل الآخرين في سورة الشعراء ، فما يعن قولهم : (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ

________________

١ ـ المؤمنون : ٦٩.

٢ ـ الشورى : ٢٣.

٥٥

إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (١). وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).

بل ماذا يعني مجيء «من» البيانية أو التبعيضية في كلام الأنبياء : نوح وشعيب ولوط وصالح وهود ، وعدم مجيئها فيما أمر الله به رسوله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله.

بل ماذا يعني وجود كلمة أجراً في آية القرب دون کلام الانبياء في سورة الشعراء؟

إن هذا ما سنوضحه في النقطة التالية ، وهو وإن كان سيطول البحث حوله بعض الشيء لکنّه مهم ، وفهمه ضرور للمطالع لأنّه من النقاط الاساسية في البحث ، بل هو أصل البحث ، ومن خلاله سنعطي رؤيتنا في عرفان الزيارة والزيارة العارفة إن شاء الله تعالى.

(٦)

الأصل الخامس :

أجر الرسالة (كل الرسالة) المودّة في القربى

إنّ آية المودّة تحمل في طيّاتها معاني كثيرةً وأسراراً عالية ، فقد يكون سبحانه أراد بقوله : (قُل) ؛ أن يُعْلِمنا بأنّ اُمّة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ستشكّك في

________________

١ ـ الشعراء : ١٠٩.

٥٦

كون إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين والأئمّة من بعدهم عليهم‌السلام خلافةً الهيّةً ، ظانّين أن الإمامة قرارٌ شخصيّ اتّخذه النبيّ للرفع بضبع ابن عمّه عليّ وأهل بيته الكرام على النّاس ، وهذا هو الباطل بعينه.

فالله عزّ وجلّ أراد بقوله (قُل) أن يؤكّد بأنّ هذا الأمر وما سيتبعه من الفضائل الخاصة بأهل بيت الرسول هو أمر صادر من عنده سبحانه ، وليس قراراً شخصيّاً ، أو أمراً عائليّاً ، وأن رسول الله حينما دعا ال مودتهم وإمامتهم لا لکونهم أقرباءه بل لحب الله إياهم.

لكنّ الأمّة كانت لا تقبل ذلك ، ساعية لاتّهام النبيّ بالمحاباة لآل بيته ، فجاء ضمن حديثٍ طويلٍ عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، قوله :

«... فقالوا : ما أنزل الله هذا ، وما هو إلاّ شيء يتقوّله ، يريد أن يرفع أهل بيته على رقابنا ، ولئن قُتل محمّد أو مات لننزعنّها عن أهل بيته ثمّ لا نُعيدها فيهم أبدا» (١).

هذا أمر مهم وعلينا استنطاق النصوص فيه ، وهو يدعونا للوقوف على خلفيّات نزول آية المودّة وحال اُمّة النبيّ محمّد في بدء الدعوة ، وأن معرفة هذه الأمور تساعدنا للوقوف عل القرار الإله في أمر الإمامة والولاية.

قصة نزول الآية

فعن مسعدة بن صدقة ، قال : حدّثنا جعفر بن محمّد ، عن آبائه عليهم‌السلام : أنّه لمّـا نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (٢) قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : «أيّها النّاس ، إنّ الله تبارك

________________

١ ـ الكافي ٨ : ٣٧٩ / ٥٧٤.

٢ ـ الشورى : ٢٣.

٥٧

وتعالى قد فرض لي عليكم فرضاً ، فهل أنتم مُؤدّوه؟» قال : فلم يُجِبْهُ أحدٌ منهم ، فانصرف.

فلمّـا كان من الغد قام فيهم فقال مثل ذلك ، ثمّ قام فيهم فقال مثل ذلك في اليوم الثالث ، فلم يتكلّم أحدٌ ، فقال : «يأيّها النّاس ، إنّه ليس من ذهبٍ ولا فضّةٍ ولا مطعمٍ ولا مشربٍ» قالوا : فألْقِهِ إذن.

قال : «إنّ الله تبارك وتعالى أنزل عليّ : (قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فقالوا : أمّا هذه فنعم ...(١).

وفي الكافي بإسناده عن عبد الحميد بن ابي الديلم ـ في حديث طويل ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : فلمّـا رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من حجّة الوداع نزل عليه جبرئيل عليه‌السلام فقال : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (٢).

فنادى النّاس فاجتمعوا ، وأمر بسَمُرات فقمّ شوكهنّ ، ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أيّها النّاس ، من وليّكم وأولى بكم من أنفسكم؟».

قالوا : الله ورسوله.

فقال : «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه» ـ ثلاث مرات ـ فوقعت حسيكة النفاق في قلوبهم وقالوا : ما أنزل الله جلّ ذكره هذا على محمّدٍ قطّ ، وما يريد إلاّ أن يرفع بضبع ابن عمّه!

________________

١ ـ قرب الإسناد : ٧٨ / ٢٥٤ ، ونحوه في أمالى الصدوق : ٢٦٠ ، وعنهما في بحار الأنوار ٢٢ : ٣٢٢ / ١١ ، ٢٥ : ٢٢٦ ، غاية المرام ٣ : ٢٤٠ ، تفسير نور الثقلين ٤ : ٥٧٠ ، وقريب منه في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١٢ وفيه : ما وفى بها أكثرهم ... ، ورواه القندوزيّ في ينابيع المودّة ١ : ١٣٩.

٢ ـ المائدة : ٦٧.

٥٨

فلمّـا قدم المدينة أتته الأنصار ، فقالوا : يا رسول الله ، إنّ الله ـ جلّ ذكره ـ قد أحسن إلينا وشرّفنا بك وبنزولك بين ظهرانينا ، فقد فرّح الله صديقنا وكبت عدوّنا ، وقد يأتيك وفود فلا تجد ما تُعطيهم فيشمت بك العدوّ ، فنحبّ أن تأخذ ثلث أموالنا حتّى إذا قدم عليك وفد مكّة تجد ما تُعطيهم.

فلم يردّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم شيئا ، وكان ينتظر ما يأتيه من ربّه ، فنزل جبرئيل عليه‌السلام : (قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ولم يقبل أموالهم.

فقال المنافقون : ما أنزل الله هذا على محمّد ، وما يريد إلاّ أن يرفع بضبع ابن عمّه ويحمل علينا أهل بيته ، يقول أمس : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، واليوم (قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).

ثمّ نزلت عليه آية الخمس ، فقالوا : يريد أن يُعطيهم أموالنا وفيئنا ، ثمّ أتاه جبرئيل فقال : يا محمّد ، إنّك قد قضيت نبوّتك واستكملت أيّامك فاجعل الاسم الأكبر وميراث العلم وآثار النبوّة عند عليّ ، فإنّي لم أترك الأرض إلاّ ولي فيها عالم تُعرف به طاعتي ، وتُعرف به ولايتي ، ويكون حجّة لمن يولد بين قبض النبيّ إلى خروج النبيّ الآخر.

قال : فأوصى إليه بالاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوّة ، وأوصى إليه بألف كلمةٍ وألف بابٍ يَفتحُ كلّ كلمةٍ وكلّ بابٍ ألف كلمةٍ وألف بابٍ (١).

اُنظر إلى الترابط بين آية البلاغ وآية المودّة وما كان يريده الله ورسوله من بيانهما ، وهو الإيمان بالولاية ولزوم اتباع الوصي وأنّ ذلك يساو عند الله أجر کل الرسالة ، وأن بيان ذلك عل لسان رسوله کان يخيف المنافقين

________________

١ ـ الكافي ١ : ٢٩٥ / ٣ ، وعنه في غاية المرام ٢ : ٣٣٦ ، وانظر تفسير نور الثقلين ١ : ٥٦٣ / ٢٩٢ مختصرا و ٤ : ٥٧٣.

٥٩

وأعداء الدين.

فالله سبحانه بخطابه للنبيّ بـ (قُل) أراد التأكيد على أنّ هذا الأمر صادرٌ عنه لا عن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله باعتبار القرابة النسبية الشخصية مع عل بن أب طالب صلوات الله عليه ، وهذا ما يجب على الرسول أن يبلّغه لامته ، مُعْلِما إياهم بأن الله هو القائل بأن مودة قرب الرسول توازن عنده إبلاغ كلّ الرسالة لا بعضها ، لا رسوله.

فكما أنّ عزرائيل هو واسطة بين الله وبين خلقه في أمر قبض الأرواح ، ومثله ميكائيل في تقسيم الأرزاق ، وإسرافيل في النفخ في الصور ، فرسول الله وأهل بيته هم الواسطة بين الله وبين خلقه في إيصال التشريع وبيان الأحكام للناس ، بل هو واسطة في كلّ أمرٍ يرتبط بأُمّته ، فلا يمكنهم الوصول إلى الله وتعاليمه إلاّ عن طريقه صلى‌الله‌عليه‌وآله وطريقهم عليهم‌السلام.

ومن هنا نعرف سرّ مجيء «من» البيانيّة أو التبعيضيّة في كلام الأنبياء ، وعدم مجيئها في آية المودّة ، بل مجيء (أجراً) فيها ـ أي كلّ الأجر فيها ـ وهو يعني وجود تجانس بين الثمن والمثمّن ، ومعناه : أنّ مودّتهم تقابل كلّ ما قدّمه النبيّ للناس من معارف ربّانيّة ـ في التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد ـ فلا يستهجن بعد هذا القول بأنّ البكاء على الحسين ـ ولو بقطرة واحدة ـ يُخمد نيران جهنّم ، أو يُوجب الجنّة ، أو القول : بأنّ من مات على حبّ آل محمّدٍ مات شهيدا (٢).

________________

١ ـ في مثل قوله تعالى : (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ).

٢ ـ جاء في الكشّاف ٤ : ٢٢٥ / ٩٩٢ ، وتفسير الرازيّ ٢٧ : ١٤٢ ، وتخريج الاحاديث والآثار ٣ : ٢٣٨ / ١١٤٧ وغيرها عن رسول الله قوله : «من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّدٍ مات تائبا ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمنا مستكمل الإيمان ...».

٦٠