عارفا بحقّكم

السيد علي الشهرستاني

عارفا بحقّكم

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة المؤمل الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٥

أو القول : مَن دافع عن العترة بقلبه ولسانه ويده وجبت له الجنّة! وأمثال هذه الاقوال ، فهي کلها واقعية وهي موجودة في روايات أهل البيت عليهم‌السلام.

لأنّ الكون وما فيه ، وجنّة الفردوس ونعيمها تُعادل في المفهوم القرآنيّ مودّة القربى ، فلا يستبعد أن تُعطى الجنّة لدمعةٍ خالصةٍ سُكبت على الحسين ، أو لدفاعٍ مُستميتٍ عن كرامة الأئمّة والزهراء عليهم‌السلام ، أو لنشر فضائل الأئمّة في بلدٍ تُخفى فيه فضائلهم ، أو لا يعرفونها ، لأنّها تساوي إبلاغ الرسالة كلّها ، لأنّ تلك الدمعة ، وذلك الدفاع ، ونقل تلك الفضيلة ، قد تُزحزح الإنسان عن النار وتدخله الجنّة (فَمَن زُحْزِحَ عِنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) (١) و : (مَن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) (٢) ، لأنّ التزحزح وحده لا يكفي ، بل يجب أن يستتبعه الدخول في الجنّة.

أي أنّ ذلك الشخص بدمعة عينه ، أو دفاعه ، أو نقله للفضائل في بلد لا يذکرونه أو يميتونه قد استحقّ ما يدخل به الجنّة ونعيمها وهو المصرّح به في روايات أهل البيت.

منها ما جاء عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، قال : كان علي بن الحسين عليها‌السلام يقول : أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين عليه‌السلام دمعةً حتّى تسيل على خَدِّه بوَّأَهُ الله بها في الجنّة غرفا يسكنها أحقابا.

وأَيّما مؤمن دمعت عيناه حتّى تسيل على خدّه فينا لأذىً مسّنا من عدوِّنا في الدُنيا بوّأَه الله في الجنّةِ مبوَّأَ صدقٍ.

وأَيّما مؤمن مسّه أَذىً فينا فدمعت عيناه حتّى تسيل على خدّه من مَضاضَةِ ما أُوذِي فينا صرَفَ الله عن وجهه الأذى ، وآمنه يوم القيامة من سخطه

________________

١ ـ آل عمران : ١٨٥.

٢ ـ الأنعام : ١٦٠.

٦١

والنارِ (١).

وعن أبي هارون المكفوف ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل له : ومن ذُكر الحسين عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على الله عزّ وجلّ ولم يَرْضَ له بدون الجنّة (٢).

وعن فضيل بن يسار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : من ذُكرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح بعوضة غُفر له ذنوبه ولو كانت مثل زَبَد البحر (٣).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله لمسمع بن عبد الملك كردين : ... وما بكى أحدٌ رحمةً لنا ولِما لقينا إلاّ رحمه‌الله قبل أن تخرج الدمعةُ من عينه ، فإذا سالت دموعُهُ على خدّه ؛ فلو أنّ قطرةً من دموعه سقطَتْ في جهنَّم لأَطْفَأت حرّها حتّى لا يوجد لها حر ، وإنّ الموجع قلبه لنا ليفرح يوم يرانا عند موته فرحةً لا تزال تلكَ الفرحةُ في قلبه حتّى يَرِدَ علينا الحوضَ ، وإنّ الكوثرَ ليفرح بمحبّنا إذا ورد عليه حتّى إنّه لَيُذيقه من ضروب الطعام ما لا يشتهي أن يصدر عنه. (٤)

وفي معتبر فضيل بن فضالة ، المرويّ فيه عن الصادق عليه‌السلام قوله : من ذُكِرْنا عنده ففاضت عيناه حرّم الله وجهَهُ على النّار (٥).

إذن القول بأنّ الکون وما فيه وجنة الفردوس ونعيمها يعادل في المفهوم

________________

١ ـ كامل الزيارات : ٢٠١ / الباب ٣٢ ـ الحديث ١ ، وعنه في عنه الأنوار ٤٤ : ٢٨١ / ١٤ وانظر ثواب الأعمال : ٨٣ / ثواب من بكى لقتل الحسين عليه‌السلام ـ الحديث ١.

٢ ـ كامل الزيارات : ٢٠٨ / ٢٩٧ باب ٣٢ / ٣.

٣ ـ المحاسن : ٦٣ / ١١٠.

٤ ـ كامل الزيارات : ٢٠٤ / ٢٩١ الباب ٣٢ ـ الحديث ١٠ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٤ : ٢٩٠ / ٣١.

٥ ـ كامل الزيارات : ٢٠٧ / ٢٩٦ الباب ٣٢ ـ الحديث ١٢ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٤ : ٢٨٥ / ٢٢.

٦٢

القرآن مودة القرب فهو ليس بكلام غير واقعي ومستهجن ، وقد جاء ما يشير إل ذلك في حديث للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لعليّ عليه‌السلام :

ومن زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجّة بعد حجّة الإسلام ، وخرج من ذنوبه حتّى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته اُمّه ، فأبشر وبشّر أولياءك ومحبّيك من النعيم وقرّة العين بما لا عين رأت ولا اُذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ولكنّ حثالة (١) من النّاس يعيّرون زوّار قبوركم ، كما تُعيَّر الزانية بزنائها ، اُولئك أشرار اُمّتي ، لا أنالهم الله شفاعتي ، ولا يَرِدون حوضي (٢).

وعن معلّى بن خنيس ، قال : سمعتُ أبا عبد الله عليه‌السلام يقول :

إذا انصرف الرجل من إخوانكم من زيارتنا أو زيارة قبورنا ، فاستقبلوه وسلِّموا عليه ، وهنّئوه بما وهب الله له ، فإنَّ لكم مثل ثوابه ، ويغشاكم ثواب مثل ثوابه من رحمة الله ، وإنّه ما من رجل يزورنا أو يزور قبورنا إلاّ غشيته الرحمة ، وغُفرت له ذنوبه (٣).

فجملة «فأبشر وبشّر أولياءك ومحبّيك من النعيم وقرّة العين بما لا عين رأت ولا اُذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» تعني دخوله الجنة ومشاهدة ما لا عين رأت وأذن سمع ولا خطر عل قلب بشر ، لأن من زار الحسين کمن زار الله في عرشه.

الامام الصادق عليه‌السلام يعتبر زوار الحسين اخوانه

روى ابن قولويه ، عن معاوية بن وهب ، قال : دخلتُ على أبي عبد الله

________________

١ ـ الردي من كلّ شيء.

٢ ـ بحار الأنوار ٩٧ : ١٢١ / ٢٢ عن فرحة الغري : ٧٧.

٣ ـ بحار الأنوار ٩٩ : ٣٠٢ / ١ آخر كتاب المزار.

٦٣

عليه‌السلام وهو في مصلاّه ، فجلستُ حتّى قضى صلاته ، فسمعته يناجي ربَّه وهو يقول :

«اللهمَّ يا مَنْ خَصَّنا بالكرامَةِ ؛ وَوَعَدَنا بالشَّفاعَةِ ؛ وخَصَّنا بالوَصيَّةِ ؛ وأعْطانا عِلْمَ ما مَضى وعِلْمَ ما بَقيَ ؛ وَجَعَلَ أفْئدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْنا ، اغْفِر لي ولإخْواني وَزُوّارِ قَبر أبي عبد الله الحسينِ ، الَّذين أنْفَقُوا أمْوالَهُمْ وَأشْخَصُوا أبْدانَهم رَغبَةً في بِرِّنا ، وَرَجاءً لِما عِنْدَكَ في صِلَتِنا ، وسُرورا أدْخَلُوهُ عَلى نَبِيِّكَ ، وَإجابَةً منهم لأمْرِنا ، وَغَيْظا أدْخَلُوهُ عَلى عَدُوِّنا ، أرادُوا بذِلكَ رِضوانك ، فَكافِئْهُمْ عَنّا بالرِّضْوانِ ، واكْلأْهُم باللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، واخْلُفْ عَلى أهالِيهم وأولادِهِمُ الَّذين خُلِّفُوا بأحْسَنِ الخَلَفِ ، واصْحبهم وَاكفِهِمْ شَرَّ كلِّ جَبّارٍ عَنيدٍ ؛ وَكُلّ ضَعيفٍ مِنْ خَلْقِكَ وَشَديدٍ ، وَشَرَّ شَياطينِ الإنْسِ وَالجِنِّ ، وَأعْطِهِم أفْضَلَ ما أمَّلُوا مِنْكَ في غُرْبَتِهم عَنْ أوْطانِهِم ، وَما آثَرُونا بِهِ عَلى أبْنائهم وأهالِيهم وقَراباتِهم.

اللهمَّ إنَّ أعداءَنا عابُوا عَلَيهم بخرُوجهم ، فَلم يَنْهَهُم ذلِكَ عَنِ الشُّخوصِ إلينا ؛ خلافا مِنْهم عَلى مَنْ خالَفَنا.

فارحم تلك الوجوه الّتي غيرّتها الشمس ، وارحم تلك الخُدود الّتي تتقلَّبُ على حفرة أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام.

وَارْحَم تِلْكَ الأعْيُنَ الَّتي جَرَتْ دُمُوعُها رَحمةً لَنا.

وارْحَم تِلْكَ القُلُوبَ الَّتي جَزِعَتْ واحْتَرقَتْ لَنا.

وارْحَم تِلْكَ الصَّرْخَةَ الَّتي كانَتْ لَنا ، اللهمَّ إنّي أسْتَودِعُكَ تِلْكَ الأبْدانَ وَتِلْكَ الأنْفُسَ حتَّى تَرْويهمْ عَلى الحَوضِ يَومَ العَطَشِ الأكبر».

فما زال يدعو عليه‌السلام وهو ساجدٌ بهذا الدُّعاء ، فلمّـا انصرف قلت : جُعِلتُ فِداك ، لو أنَّ هذا الَّذي سَمعتُ منك كان لِمن لا يَعرفُ الله عزَّ وجَلَّ لَظننتُ أنَّ النَّارَ لا تَطْعَمُ منه شَيئا أبدا!! والله لقد تمنَّيتُ أنّي كنتُ زُرْتُه ولم أحُجَّ.

٦٤

فقال لي : ما أقربك منه ؛ فما الَّذي يمنعك مِن زِيارته؟ ثمَّ قال : يا معاويةُ لِمَ تدع ذلك؟

قلت : جُعلتُ فِداك ، لَم أدرِ أنَّ الأمر يبلغ هذا كلّه؟

فقال : يا معاوية مَن يدعو لزُوّاره في السَّماء أكثر ممّن يدعو لهم في الأرض».

وعن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : لو يعلم النّاس ما في زيارة الحسين عليه‌السلام من الفضل ، لماتوا شوقا وتقطّعت أنفُسهم عليه حسراتٍ.

قلت : وما فيه؟

قال : من أتاه تشوّقا ، كتب الله له ألف حجّةٍ متقبّلة ، وألف عمرةٍ مبرورة ، وأجر ألف شهيدٍ من شهداء بدر ، وأجر ألف صائمٍ ...

* * *

فجملة الإمام : «اغفر لي ولإخواني وزوار قبر أبي عبد الله الحسين» إما عطف تفسيري أو عطف مغايري ، فإن كان عطفاً تفسيريا ، فالإمام الصادق عليه‌السلام بدعائه ساجدا أعطى منزلةً لزوّار قبر أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام لا يبلغها أحد ٌ ، حيث قرنهم بإخوانه أمثال بريد بن معاوية العجليّ وأبي بصير المراديّ ، ومحمّد بن مسلم ، وزرارة بن أعين ؛ النجباء الأربعة.

فالإخوان هم أخصّ الخواصّ ، أمثال المقداد ، وسلمان ، وعمّـار ، وأبي ذرّ ، والأشتر ، وخزيمة ، في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

________________

١ ـ كامل الزيارات : ٢٢٩ / ٣٣٦ باب ٤٠ / ٢ وعنه في بحار الأنوار ٩٨ : ٥٢ / ١ وانظر الكافي ٤ : ٥٨٢ / ١١.

٢ ـ كامل الزيارات : ٢٧٠ / ٤٢٠.

٦٥

فالإمام الصادق عليه‌السلام جعل رتبة زوّار الحسين بمنزلة «المخبتين بالجنّة الّذين لولاهم لانقطعت آثار النبوّة واندرست» (١) ، بل قرنهم بنفسه المقدّسة ، واللافت للنظر أنّنا لم نجد في مجموع أحاديث الإمام الصادق عليه‌السلام ـ وهي بالآلاف ـ أنّه عليه‌السلام ألْحَقَ صنفا من النّاس بإخوانه أو بنفسه إلاّ زوّار الحسين عليه‌السلام.

وإما إن كان عطفاً مغايراً فلم يجعلهم عليه‌السلام بمنزلة نفسه أو بمنزلة إخوانه ، لأنّه دعا لنفسه ـ روحي فداه ـ ، ثمّ دعا لإخوانه (٢) ، ثمّ لزوار قبر الإمام الحسين ، فلو كان المقصود هو المعنى الثاني فهو يخالف التفسير الأول ، لكن مع كلّ ذلك فيه فضيلة لزوار الحسين لا يضاهيها فضيلة ، لكونهم خرجوا رغبة في رضوان الله ولإدخال السرور على قلب رسول الله.

فالإمام دعا لهم وترحم على تلك الوجوه التي غيرتها الشمس ، وتلك الأعين التي جرت فيها الدمع ، وتلك الشفاه العطشى داعياً الله لهم الجنة ورضوان وهذا هو دعاء آبائه وأجداده وهو شرف عظيم لزوار قبر الحسين عليه‌السلام.

سؤال وجواب

وهنا سؤال قد يرد على أذهان بعض النّاس ، وهو : أن أكثر زوّار الإمام الحسين عليه‌السلام من عامّة النّاس وفيهم المخطئون والمذنبون ، فكيف يُلحقهم الإمام بأوتاد التشيّع أمثال سلمان ، وزرارة ، والسمريّ؟! ويدعوا لهم بتلك الدعوات المهمة.

الجواب :

________________

١ ـ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٤٢ / ٣٣٤٢٩ ، عن رجال الكشي ١ : ٣٩٨ / ٢٨٦.

٢ ـ لا نعرف المقصود من إخوانه ، فقد يكونوا الأربعة المخبتين وقد يكونوا غيرهم.

٦٦

أوّلاً : إنّ الدعاء جاء لطلب المغفرة والرحمة لهم ، لأنّ ما تحملوه من متاعب في سبيل الزيارة يستوجب الدعاء لهم ، وخصوصاً هو إمامهم وهم من شيعته وهم مخلوقون من فاضل طينة أهل البيت عليهم‌السلام ، فهم إخوان له في عالم الخلق الأوّل.

وثانيا : إنّ عامّة الشيعة استحقّوا مرتبة الغفران ومجالسة الأئمة لإحيائهم الشعائر واقامتهم لها والدفاع عن الدين ، ولا فرق في ذلك سواء أكان الموالون من صنف عامّة الناس أو من علمائهم ، فإنّ الزيارة هي موضوع الثواب ، وهي من أعظم وأجلى مصاديق إحياء شعائر الله.

وثالثا : إن هذه المنزلة لزوار الحسين وقربهم للأئمة تدور مدار الإخلاص وعدم المانع فهم ليسوا في مستوى واحد ولا في رتبة واحدة فهم متفاضلون بلا شك ولا شبهة ، لذلك وصفهم الإمام بأوصاف مخصوصة «الّذين أنفقوا أموالهم ، وأشخصوا أبدانهم ، رغبةً في برّنا ، ورجاءً لما عندك في صلتنا ...» إلى قوله «أرادوا بذلك رضوانك» وهذه الصفات قد تحصل لعوامّ الناس ولعلمائهم ، فإنّ المدار هو صدق النّيّة.

ورابعا : إنّ الله يوفّق الزائر للتوبة ، لأنّ الزيارة من القربات الموجبة للتوبة والغفران.

ومن الواضح أنّه لا استمرار للدين إلاّ بهذه الشعائر ومن يقيمها ، وهي منُوطة بهذه البقيّة الممتدّة في المجتمع.

وكما أنّ الحسين عليه‌السلام قدّم نفسه الشريفة قربانا لله كي يحمي الدين من الضياع ؛ فعامة الشيعة أيضا ـ عبر التاريخ ـ قدّموا أيديهم وأرجلهم إلى المتوكّل وإلى غيره من الطغاة ليقطعها ثمنا لزيارته الشريفة ، وإدخالاً للسرور

٦٧

على قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، كما أدخلوا الغيظ على قلب العدوّ ، فهم قدّموا أرواحهم وأبدانهم وأموالهم قربانا لكلمة الله ، وفداءً لدين الله!

وممّـا يَلفت النظر أيضا أنّ أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام قال في شأن الزوّار : «أرادوا بذلك رضوانك فكافئهم عنّا بالرضوان» ولم يقل : أرادوا جنّتك ؛ إذ الرضوان مرتبة في الجزاء الأُخرويّ أكبر من الجنّة ، فيما نصّ عليه قوله تعالى : (وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أَكْبَرُ) (٢) ولعلّك تعرف أنّ أهل هذه المرتبة لم يعبدوا الله خوف عقابه ، كما أنّهم لم يطيعوه سبحانه رجاء ثوابه ، بل وجدوه تعالى أهلاً للعبادة فعبدوه. کما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أب طالب صلوات الله عليه.

ومحبّوا الحسين عليه‌السلام على هذا المنوال ؛ فإنّهم في الأصل قد أحبّوا الحسين لأنّه أهلٌ للحبّ إلهيّا وفطريّا بغضّ النظر عن الجنّة والنّار ، وفي هذا المعنى قال الشاعر :

تبكيك عيني لا لأجل مثوبة

لكنَّما عيني لأجلك باكية

بل إنّ في قوله عليه‌السلام : «اللهمّ إنّ أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم ، فلم ينههُم ذلك عن الشخوص إلينا ؛ خلافا منهم على من خالفنا» ظهورا واضحا

________________

١ ـ عن صفوان الجمّـال ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : ولو يعلم زائر الحسين عليه‌السلام ما يدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وما يصل إليه من الفرح وإلى أمير المؤمنين وإلى فاطمة والأئمّة عليهم‌السلام والشّهداء منّا أهل البيت ، وما ينقلب به من دعائهم له ، وما في ذلك من الثّواب في العاجل والآجل والمذخور له عند الله ـ لأحبَّ أن يكون ما ثمّ داره ما بقي ـ الحديث. انظر كامل الزيارات : ٤٩٥ ـ ٤٩٦ ، بحار الأنوار ١٠١ : ١٤ ـ ١٥ ، مستدرك الوسائل ١٠ : ٣٤٣ ، جامع أحاديث الشيعة ١٢ : ٤٤٤.

٢ ـ توبة : ٧٢.

٣ ـ من قصيدة للشيخ عبدالحسين الاعسم (ت ١٢٤٧ هـ) يقول في مطلعها :

قد أوهنت جلدي الديار الخالية

من أهلها ما للديار وما ليه

٦٨

في أنّ منهاج الأئمّة عليهم‌السلام في عمليّة الصراع مع الخصوم ، يدور في الأكثر مدار زوّار الحسين عليه‌السلام ، وأنّ شيئا ليس قليلاً من أهداف الرسالة لا يتحقّق إلاّ بالزيارة والزّوّار.

كما أنّ غايته عند إخوان الإمام هو الدفاع عن سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الاندراس والانقطاع ، وذلك بتحطيم عروش التحريف وصروح الكذب ؛ إذ أنّ غاية ما يريده المعصوم عليه‌السلام في عصر الغيبة هو هذان الأمران لا غير.

(٧)

الأصل السادس :

الإمام علي عليه‌السلام هو الأجير

بعد كلّ هذا نعود إلى آية المودّة مرّةً اُخرى كي نقف على سر قوله إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وعدم قوله (إلاّ مودّة القربى) أو (المودّة للقربى).

فما تعني هذه الألف واللام في «المودّة» ، هل هي للاستغراق أم للجنس؟ أم لهما معا؟

فهي على كلا الأمرين تعني أمرا مهمّا وإن كنّا نعتقد بأنّها بيانٌ لاستغراق جميع أنواع المودّة ، بمختلف مصاديقها وألوانها ، أي أنّه لا يجوز حصر المودّة في زمانٍ ومكانٍ خاصّين ، بل هو حكمٌ عامٌّ وشاملٌ لكلّ الأزمنة والأمكنة وبكُلّ الوجوه ، فلا يجوز أن يخلو قلبُ المسلم من مودّتهم لحظةً واحدةً ، لأنّها فريضةٌ إلهيّةٌ فرضت عليهم ، أو قل أنها ضريبة أُلزِم المسلمون بأدائها ؛ لقوله تعالى (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ، وأنّ من لا يؤدّي أجر الرسالة وأتعاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو خائن للرسالة وللرسول ولربّ العالمين ، بل هو ملعون بنصّ القرآن والسنّة والعقل والوجدان والبرهان.

٦٩

فعن الاصبغ بن نباتة أنّه طلب من أمير المؤمنين أن يسمعه حديثا لمّـا ضرب عليه‌السلام ، فقال له الإمام : اقعد فما أراك تسمع منّي حديثا بعد يومك هذا.

اعلم يا أصبغ أنّي أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عائدا كما جئت السّاعة ، فقال : يا أبا الحسن اخرج فناد في الناس الصّلاة جامعة واصعد المنبر وقم دون مقامي بمرقاة ، وقل للنّاس : ألا من عقَّ والديه فلعنه الله عليه.

يا أصبغ ، ففعلت ما أمرني به حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقام من أقصى المسجد رجل فقال : يا أبا الحسن تكلّمت بثلاث كلمات وأوجزتهنَّ ، فاشرحهنَّ لنا.

فلم أردّ جوابا حتّى أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت : ما كان من الرّجل ؛ قال الأصبغ : ثمّ أخذ عليه‌السلام بيدي وقال : يا أصبغ ابسط يدك ، فبسطت يدي ، فتناول إصبعا من أصابع يدي وقال : يا أصبغ كذا تناول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إصبعا من أصابع يدي كما تناولت إصبعا من أصابع يدك ثمّ قال : يا أبا الحسن ألا وإنّي وأنت أبوا هذه الأمّة فمن عقّنا فلعنة الله عليه ، ألا وإنّي وأنت موليا هذه الأمّة فعلى من أبق عنّا لعنهالله ، ألا وإنّي وأنت أجيرا هذه الأمّة فمن ظلمنا اجرتنا فلعنهالله عليه ؛ ثمّ قال آمين فقلت : آمين (١).

________________

١ ـ بحار الأنوار ٤٠ : ٤٥ عن الفضائل والروضة وقريب منه في أمالي المفيد : ٣٥٢ / ٣ ، أمالي الطوسيّ : ١٢٣ / ١٩١) ، وفي البخاريّ ٢ : ٧٧٦ / ٢١١٤ ، من باب اثم من باع حر عن رسول الله : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ... ورجل أستاجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعط أجره. وسيأتى بعد قليل الإشارة إلى هذه الخبر تحت عنوان «مودّة الإمام على هو اجر الرسالة» «فبقرينة «من انتمى إلى غير أبيه أو ادعى إلى غير مواليه» نعرف معنى «أو ظلم أجيرا أجره» لأنّ رسول الله وعليّا هما أبوا هذه الأمّة حسب النص السابق وغيره ، وقد ظُلِم الإمام عليّ حسبما عرفناه من التاريخ فتأمّل.

٧٠

المودّة في القربى ، أو المودّة للقربى؟

ويتأكّد هذا المعنى أكثر لو عرفنا سرّ قوله سبحانه : (إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ولم يقل (إلاّ المودّة للقربى) ، مع أنّ المتداول في لغة العرب هو مجيئها باللام فتقول : مودّتي لفلان ، ولم تقل : مودّتي في فلان ، أو تقول : مودّتي لأخيك واضحة ، ولا تقول : مودّتي في أخيك واضحة ، أو : مودّتي لعشيرتي ولبلدي ، ولا تقول : مودّتي في عشيرتي وفي بلدي.

فلماذا نرى النصّ القُرآني يُغاير هذا السِّياق الأدبيّ في آية المودّة ، وما السرّ في هذا الاختلاف؟ وهل فيه من علّة؟

السّرّ في الآية هو الإشارة إلى لزوم الأخذ عن أهل البيت ، وأنّ المودّة ـ الّتي هي أجر الرسالة ـ يجب أن تكون في هؤلاء فقط لا في غيرهم ، أي أنّ هذه الآية تكون معنىً آخر لآية التطهير ، وآية المباهلة ، وحديث الثقلين ، وآية البلاغ ، لأنّ آية القربى معناها واضحٌ وأنها جاءت مفسرة لآيتي التطهير والمباهلة.

ومن المعلوم أيضاً بأنّ الله حينما أوجب مودّة قربى النبيّ لم يكن لتعظيم الجانب القبليّ عند العرب ؛ إذ تراه ذمّ عمّ النبيّ وزوجته بقوله : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) ... إلى آخر السورة ، وهذا يعني بأنّ الجانب القبليّ غير مقصودٍ في أمر الله.

كما أنّه تعالى أخرج ابن نوح من أهله (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) (١) وهذا يؤكّد بأنّ المقصود من (المودّة في القربى) لم يكن محبّة

________________

١ ـ هود : ٤٥.

٧١

عشيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقربائه حسبما يفسّره نهج الخلافة والرأي للآية.

لأنّ المودّة غير المحبّة ، وأنّ الله ورسوله لم يأمرا بالتودّد إلى من ليس بأهلٍ للمودّة ، ولم يُوجبانها لمن كان ضالاًّ عن الإسلام حتّى ولو كان من قرابته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فرسول الله عدّ سلمانَ الفارسيَّ من أهل بيته (١) مع أنّه لم يكن عربيّا فضلاً عن أن يكون من عشيرته أو من أهل بيته ، كما أنّه أخرج نساءه من آية التطهير بقوله لأُمّ سلمة : «إنّك على خير» (٢).

إذاً المقصود من جملة (في القربى) وجود نخبة صالحة في قربى النبيّ هم الّذين لحظهم الله أن يكونوا وزانا لإبلاغ الرسالة ، وهؤلاء هم الّذين اعتبرهم مستودعا للعلم وظرفا للرسالة وهم : عليّ ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ؛ أصحاب الكساء الّذين عناهم الله في آية التطهير ، ثمّ التسعة من ولد الحسين عليه‌السلام.

ولأنّ عليّا صلوات الله عليه هو مع القرآن والقرآن مع عليّ (٣) ، والمعيّة كما يقال : نسبة تقوم بطرفين ويستحيل أن تقوم بطرف واحد ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله الآنف «أراد أن يُفهمنا أنّ مسألة معيّتهما [هي] معيّة من نوعٍ خاصٍّ ، ومشيرا إلى أبعادها العميقة ، ذلك أنّ المعيّة بين شيئين أو أكثر ، عندما تطلق ، فيقال : زيد مع عمرو ، فهي أعمّ من أن يكون هذا الطرف في الإضافة متقدّما رتبة على ذاك أو متأخّرا عنه ، بل تدلّ على أنّهما معا بغضّ النظر عن رتبة كلٍّ منهما.

وربّما كان فيها إشارة إلى أنّ المَقرون أقلّ رتبةً من المقرون به ، لهذا أعاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صياغة هذه المعيّة ، ليقول للسامعين : لا ينبغي أن تفهموا من قولي

________________

١ ـ المستدرك على الصحيحين ٣ : ٦٩١ / ٦٥٣٩ ، ٦٥٤١ ، المعجم الكبير ٥ : ٢٢٠ / ٥١٤٦.

٢ ـ المعجم الكبير ٣ : ٥٣ / ٢٦٦٤ ، و ٢٣ : ٣٣٦ / ٧٧٩ ، مسند احمد ٦ : ٣٢٣ / ٢٦٧٨٩.

٣ ـ المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٣٤ / ٤٦٢٨ ، قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ورواه الطبراني من طريق آخر. انظر المعجم الاوسط ٥ : ١٣٥ / ٤٨٨٠.

٧٢

: «عليّ مع القرآن» أنّ عليّا أقلّ رتبة من القرآن ، بل القرآن مع عليّ أيضاً ، فهما وجودان متعادلان» (١).

وكذا الحال بالنسبة إلى فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله عنها : «إنّ الله يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها» (٢) ، ومعنى كلامه : أنّها معصومة عن الخطأ والهوى ؛ إذ لا يعقل أن يتعلّق رضا الله تعالى وغضبه برضا وغضب شخص غير معصوم لأنّه يعود إلى نقض الغرض وهدم الدين.

فالرسول الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقل : إن فاطمة تغضب لغضب الله وترضى لرضاه ، بل قال : إنّ الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها. وفي هذا معنى عظيم لا يخفى فهمه على أصحاب المعرفة ؛ إذ نجد الإنسان يسعى في مسيرة حياته لكسب رضا الله ، لكنّ الأمر يختلف هنا ؛ حيث نرى رضا الله سبحانه وغضبه يدوران مدار رضا وغضب الصدّيقة الزهراء فاطمة سلام الله عليها.

ومثله ما جاء في الحسن والحسين عليها‌السلام؛ إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من أحبّهما فقد أحبّني ، ومن أبغضها فقد أبغضني» (٣) وقال أيضاً عن الحسين : «حسين منّي وأنا من حسين» (٤) إلى غيرها من عشرات النصوص في أهل بيته.

________________

١ ـ الحقّ المبين : ١٠٥ للمرجع الدينيّ الشيخ الوحيد الخراسانيّ بتصرّفٍ.

٢ ـ المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٦٧ / ٤٧٣٠ ، قال : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، الاحاد والمثاني ٥ : ٣٦٣ / ٢٩٥٩ ، المعجم الكبير ١ : ١٠٨ / ١٨٢ ، معجم الزوائد ٩ : ٢٠٣ ، قال : رواه الطبراني واسناده حسن ، أمالى الصدوق : ٤٦٧ / ٦٢٢.

٣ ـ المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٨١ / ٤٧٧٦ ، ١٨٢ / ٤٧٧٧ ، ١٨٧ / ٤٧٩٩ ، قال : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، مسند احمد ٢ : ٢٨٨ / ٧٨٦٣ ، ٤٤٠ / ٩٦٧١ ، ٥٣١ / ١٠٨٨٤ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٧٩.

٤ ـ المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٩٤ / ٤٨٢٠ ، قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. سنن ابن ماجة ١ : ٥١ / ١٤٤ ، سنن ابن الترمذي ٥ : ٦٥٨ / ٣٧٧٥.

٧٣

إذن ؛ مودّة هؤلاء يعود نفعها إلى الإنسان ، ولا يعود إلى الرسول نفسه كشخص ، بل إنّ مودّتهم توصل النّاس إلى الخير والصلاح ، لأنّ التودّدـ الّذي تكون القربى ظرفاً له ـ سيربطهم بالرسالة وصاحبها ارتباطاً وثيقاً تنسحب خيراته إلى النّاس أنفسهم ، وهو لطف من الله للبشر ؛ إذ جعل مودّة أهل بيت رسوله سببا لنجاتهم من الهلكة ، وهو المراد والملحوظ في قوله تعالى (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّه).

وبمعنى آخر : إنّ أجر إبلاغ الرسالة يوازن اتّباعهم والأخذ عنهم ، وهو يعود نفعه أخيرا إلى محبّيهم عليهم‌السلام ومتّبعيهم لا لنفس الرسول والأئمّة ، لأنّ الناس بهذه المودّة سينجون من عذاب الله ، وهو ما جاء في الكافي ضمن حديث طويل عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام :

«... وهو قول الله عزّ وجلّ : (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) يقول أجر المودّة الّذي لم أسالكم غيره فهو لكم تهتدون به وتنجون من عذاب يوم القيامة» (٢).

وعليه فإنّ «في» ظرفيّة ، و «اللام» للاختصاص ، ومعناه : أنّ الله لا يريد تعميم هذا الحكم على جميع بني هاشم ، بل أراد أن يخصّ اُناسا معيّنين من القربى ـ هم الأئمّة الأحد عشر من ولد فاطمة ، مع أبيهم أمير المؤمنين ـ من دائرة لُغَويَّة واسعة تسمّى «القربى» ، ومعناه : أنّ الله سبحانه يريد مودّة هؤلاء بعينهم لا مودّة غيرهم.

وأن المودّة لا تأتي إلاّ بعد المعرفة ، والمعرفة تحصل من ذكر فضائل آل رسول الله ، وأنّ ذكر فضائل الإمام علي والزهراء والحسن والحسين عليهم‌السلام من قبل

________________

١ ـ سبا : ٤٧.

٢ ـ الكافي ٨ : ٣٧٩ / ٥٧٣.

٧٤

رسول الله هي مقدمة للأخذ عنهم في الأحكام ومتابعتهم في كلّ شيء.

إذاً آية المودّة ليست كآية الخمس ، إذ أنّ آية المودّة خاصّة بالمعصومين من عترة الرسول ، وآية الخمس عامة لكلّ بني هاشم ، بمعنى أنّ آية المودة تشير إلى الإمامة الإلهية وأجر الرسالة وأنّها في المعصومين من آل الرسول ، ولاجله قال سبحانه : (فِي القُربى) ولم يقل للقربى ، أما آية الخمس فهي لعموم بني هاشم ولأجل قال سبحانه : (انّما غَنِمْتُم مِنْ شَيْءٍ فَإنّ للّه خُمسَهُ وَلِلرسولِ وِلِذِي القُربى).

فلو أراد سبحانه من آية المودّة المحبّة فقط لقال : «إلاّ المودّة للقربى» ، لكنّه عزّ وجلّ جعل القربى ظرفاً خاصّا للمودّة ، وجعل تلك المودّة ـ والتي تعني الإتباع ـ لمجموعةٍ معيّنةٍ ، عرّفهم في آية التطهير وآية المباهلة ، وأكّد عليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث الثقلين وحديث الخلفاء الإثني عشر ؛ آخرهم المهديّ من آل محمّد.

وبذلك تكون نساءُ النبيّ خارجاتٍ عن دائرة أهل البيت والقربى ، بدليل آية التطهير الّتي تعني اُناسا معيّنين على وجه الخصوص ، وهم العترة من أهل بيته لا نساؤه (١) ، وهم المعنيّون هنا في آية القربى (٢) أيضا.

________________

١ ـ صحيح مسلم ٤ : ١٨٣٣ / ٢٤٢٤.

٢ ـ ففي صحيح مسلم ٤ : ١٨٧١ / ٢٤٠٣ عن سعد بن أبي وقّاص قال : لمّـا نزلت آية المباهلة دعا رسول الله عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال : اللّهم هؤلاء أهلي. وروي الترمذي في سننه ٥ : ٦٩٩ / ٣٨٧١ عن أُمّ سلمة أنّها قالت : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جلّل على عليّ والحسن والحسين وفاطمة كساءً ، ثمّ قال : اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي ، اللهمّ أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، فقالت أُمّ سلمة : وأنا معهم يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك إلى خير. قال الترمذي : هذا حديث حسن كما نفى زيد بن أرقم أن تكون نساء النبيّ من أهل بيته. اُنظر صحيح مسلم ٤ : ١٨٧٣ / ٢٤٠٨ ، ومسند احمد ٤ : ٣٦٦ / ١٩٢٨٥.

٧٥

وجمعا بين ما قلناه وما جاء في سورة الأنعام : (قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (١) وما جاء في سورة الفرقان : (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٢) ، نقول : بأنّ الرسالة الخاتمة لا يمكن بقاؤها إلاّ بـ (ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) و (مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) وهما القرآن والعترة ، وذلك لوجود نصوص كثيرة تشير إلى أنّ أهل البيت عليهم‌السلام هم «الذكر» و «السبيل» إلى الله ، وهو ما اصطُلح عليه في كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالثقلين ، فيصير معنى الآية وكلام النبيّ لزوم اتّخاذ السبيل إلى الله وهم القربى ، وأنّ اتّخاذ هذا السبيل سيعود نفعه على النّاس.

أمّا أجر رسول الله فهو على الله لقوله سبحانه في سورة سبأ : (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّه وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٣) ، ومعنى الآية : أنّي قمت بواجبي ، وأدّيت ما عَليَّ ، ولا أسألكم عليه من أجر بعد تأكيدي على المودّة ، إن أجري إلاّ على الله ، لكن لو أردتم الانتفاع من هذه الرسالة والنجاة فاتّصلوا بالسبب الممدود بين الأرض والسماء ؛ وهما القرآن والعترة.

وأنّه لا يمكنكم أداء أجر الرسالة والحفاظ عليها إلاّ بعد التعرّف على مكانة هؤلاء النخبة في المنظومة الإلهيّة والأخذ عنهم ، وأنّ ما قلته فيهم جاء لتعريفكم بمقاماتهم السامية «من أراد الله بدأ بكم ، ومن وحّده قبل عنكم ، ومن قصده توجّه إليكم ... بكم يسلك إلى الرضوان ، وعلى من جحد

________________

١ ـ الأنعام : ٩٠. وفي يوسف : ١٠٤ : (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين).

٧٦

ولايتكم غضب الرحمن ، إلى الله تدعون ، وعليه تَدُلُّون ، وبه تؤمنون ، وله تُسلّمون ، وبأمره تعملون ، وإلى سبيله ترشدون ، وبقوله تحكمون» (١).

أي أنّ المؤمن من خلال معرفته بمكانتهم عند الله ورسوله سيودّهم ويحبّهم ، وأنّ لازم مودّتهم هو اتّباعهم والأخذ عنهم ، أي : إنّكم لو أردتم أن تُعظّموا أجري في رسالتي وأن لا تضيع جهودي فعليكم مودّة قرباي وأخذ دينكم عنهم ، لأنّ في ذلك نجاتكم من عذاب يوم القيامة.

إذن أمر الولاية والإمامة يمرُّ بعدّة مراحل :

الأوّلى : المعرفة بمقامات الأئمّة.

الثانية : المودّة لهم والتعاهد إليهم أحياءً كانوا أو أمواتا.

الثالثة : التسليم لأقوالهم والأخذ عنهم.

الرابعة : التبعيّة لهم والعمل بالأحكام الصادرة عنهم.

فالله ورسوله بهذه الآيات والأحاديث قالا بالملزوم وأرادا اللازم منه.

بهذا فلا تنافٍ بين قوله : (لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) وبين قوله : (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّه) ، لأنّ هؤلاء هم أهل بيت النبوّة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومهبط الوحي ، ومعدن الرحمة ، وخزّان العلم ، ومنتهى الحلم ... وأئمّة الهدى ، ومصابيح الدجى ، وأعلام التقى ، وذووا النهى ، وأولو الحجى ، وكهف الورى ، وورثة الأنبياء ، والمثل الأعلى ، والدعوة الحسنى ، وحجج الله على أهل الدنيا والآخرة والاُولى (٢).

________________

١ ـ من لا يحضره الفقيه ٢ : ٦١٣ / ٣٢١٣ من زيارة جامعة لجميع الأئمّة عليهم‌السلام عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام بتقديم وتأخير.

٢ ـ مقاطع من زيارة الجامعة الكبيرة.

٧٧

معرفة الله ثم معرفة وليه

ولتأكيد الفكرة أكثر نقدّم بعض الشيء عن معرفة الله ثمّ نطبّقه على ما نحن فيه ، فعن أبي كهمس ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلتُ له : أيّ الأعمال هو أفضل بعد المعرفة؟ قال : ما من شيءٍ بعد المعرفة يعدل هذه الصلاة ، ولا بعد المعرفة والصلاة شيء يعدل الزكاة ، ولا بعد ذلك شيء يعدل الصوم ، ولا بعد ذلك شيء يعدل الحجّ ، وفاتحة ذلك كلّه معرفتنا وخاتمته معرفتنا ... (١)

وفي المناقب لابن شهر آشوب عن أبي حازم : أنّ رجلاً سئل الإمام زين العابدين عن أفعال الصلاة وتروكها وفرائضها ونوافلها حتّى بلغ قوله : ما افتتاحها؟ قال : التكبير ، قال : ما برهانها؟ قال : القراءة ، قال : ما خشوعها؟ قال : النظر إلى موضع السجود ، قال : ما تحريمها؟ قال : التكبير قال : ما تحليلها؟ قال : التسليم ، قال : ما جوهرها؟ قال : التسبيح ، قال : ما شعارها؟ قال : التعقيب ،

قال : ما تمامها؟ قال : الصلاة على محمّد وآل محمّد ،

قال : ما سبب قبولها؟ قال : ولايتنا والبراءة من أعدائنا فقال : ما تركت لأحد حجّة ، ثمّ نهض يقول : «الله أعلم حيث يجعل رسالته» وتواري (٢).

وفي خبر آخر : إنّ أفضل الفرائض وأوجبها على الإنسان معرفة الربّ والإقرار له بالعبوديّة ، وحدّ المعرفة [أنْ يعرف] أنّه لا إله غيره ، ولا شبيه له ولا نظير له ، وأن يعرف أنّه قديم مثبت موجود غير فقيد ...

وبعده معرفة الرسول والشهادة له بالنبوّة ، وأدنى معرفة الرسول الإقرار

________________

١ ـ أمالي الطوسي ٢ : ٦٩٤ / ١٠٤٧٨.

٢ ـ مناقب آل أبي طالب ٤ : ١٣٠.

٧٨

بنبوّته ...

وبعده معرفة الإمام الّذي به تأتمّ بنعته وصفته واسمه في حال العسر واليسر ، وأدنى معرفة الإمام أنّه عِدْل النبيّ ـ إلاّ درجة النبوّة ـ ووارثه ، وأنّ طاعته طاعة الله وطاعة رسول الله ، والتسليم له في كلِّ أمر ، والردّ إليه والأخذ بقوله.

وأن تعلم أنّ الإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وبعده الحسن ، ثمَّ الحسين ، ثمَّ عليّ بن الحسين ، ثمّ محمّد بن عليّ ، ثمَّ أنا ، ثمّ بعدي موسى ابني ، وبعده ولده عليّ ، وبعد عليّ محمّد ابنه ، وبعد محمّد عليّ ابنه ، وبعد عليّ الحسن ابنه ، والحجّة من ولد الحسن (١).

وفي علل الشرائع وكنز الكراجكيّ ـ والنصّ عن الأخير ـ عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : خرج الحسين بن عليّ عليه‌السلام ذات يوم على أصحابه فقال بعد الحمد لله جلَّ وعزَّ والصلاة على محمّد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أيّها النّاس ، إنَّ الله ـ والله ـ ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنَوا بعبادته عن عبادة من سواه. فقال له رجل : بأبي أنت واُمّي يابن رسول الله ، ما معرفة الله؟ قال : معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الّذي يجب عليهم طاعته (٢).

________________

١ ـ كفاية الأثر : ٢٦٢ ، وعنه في بحار الأنوار ٤ : ٥٥ / ٣٤ ، و ٣٦ : ٤٠٧ / ١٦.

٢ ـ علل الشرائع : ٩ / ١ ، وكنز الكراجكيّ : ١٥١ ، وفي الأخير : اعلم أنّه لمّـا كانت معرفة الله وطاعته لا ينفعان من لا يعرف الإمام ، ومعرفة الإمام وطاعته لا ينفعان إلاّ بعد معرفة الله ، صحَّ أن يقال : إنّ معرفة الله هي معرفة الإمام وطاعته ، ولمّـا كانت أيضا المعارف الدينيّة العقليّة والسمعيّة تحصل من جهة الإمام ، وكان الإمام آمرا بذلك وداعيا إليه ، صحّ القول بأنَّ معرفة الإمام وطاعته هي معرفة الله سبحانه ، كما نقول في المعرفة بالرسول وطاعته : إنّها معرفة بالله سبحانه ... إلى أن قال : وجاء في الحديث من طريق العامّة ، عن عبد الله بن عمر بن الخطّاب ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من مات وليس في عنقه بيعة الإمام ـ أو ليس في عنقه عهدُ الإمام ـ مات ميتة جاهليّة.

٧٩

وسيتلى عليك ما رواه زرارة وأبو حمزة الثمالي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في سر التأكيد على زيارة النبيّ والأئمّة فقال عليه‌السلام :

إنّما أُمر النّاس أن يأتوا هذه الأحجار فيطّوّفوا بها ثمّ يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرهم (١).

إذن ، المعنيّون من أهل البيت في آية التطهير هم : عليّ ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، لا غيرهم ، وهؤلاء هم المعنيّون أيضا في آية : (إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ، وهم أنفسهم أيضا المعنيّون في آية المباهلة في قوله : فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ) (٢) ، فلا يجوز مودّة غيرهم واعتباره أجرا للرسالة إلاّ من نصّ عليه هؤلاء كخلفٍ لهم.

وعليه يمكن الاستفادة من آية المودّة للدلالة على عصمة أئمّة أهل البيت أيضا كما استفيد ذلك من آية التطهير ، لأنّ الله تعالى اعتبر أجر إبلاغ الرسالة ـ أعني القرآن المجيد ذلك الكتاب الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ بالمودة في القربى ، ومعناه : أنّ القربى من سنخ القرآن والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ووزنهما ؛ إذ لا يصحّ أن يجعل الله الثمن أقلّ من المثمّن.

وبما أنّ الثقل الأوّل من الرسالة معصوم وهو (القرآن) باعتراف الجميع ، فلابد أن يكون أجرها من وزنها (العترة) : أي أن تكون معصومة أيضا ، لأنّ الله قادر على أن يخلق اُناسا بمنزلة القرآن في العصمة ليكونوا الثمن للرسالة : وقد خلقهم بالفعل وعصمهم من الزلل ، وهم : عليّ بن أبي طالب وأولاده المعصومين عليهم‌السلام.

________________

١ ـ الكافي ٤ : ٥٤٩ / ١ ، الفقيه ٢ : ٥٥٩ / ٣١٣٩ ، وسائل الشيعة ١٤ : ٣٢٠ / ١٩٣١٠.

٢ ـ آل عمران : ٦١.

٨٠