رسائل آل طوق القطيفي - ج ٢

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

اختصاص عليّ عليه‌السلام بلقب أمير المؤمنين؟

ثمّ قال حرس الله حقيقته العلويّة ـ : ( الثانية : ما النكتة والسرُّ في اختصاص مولانا عليِّ بن أبي طالب عليه‌السلام : بلفظ أمير المؤمنين : دون ما سواه من المعصومين ، من محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الحجَّة عليه‌السلام ما سواه؟ ).

أقول وبالله المستعان ـ : لفظ أمير المؤمنين : له اعتباران : اسم علم لقبيّ ، ونعت وصفيّ ، وكلاهما متحقّقان لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

فالاعتبار الأوَّل : هو اسم سمّى الله به عليّ بن أبي طالب (١) : عليه سلام الله ـ وحده ، ولا يجوز أن يسمّى به على جهة العلَميّة الاسميّة غيره ، بل هو مختصّ به.

وبالاعتبار الثاني : أعني : الوصف الناعت ، يجوز أن يوصف به غيره من محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : إلى صاحب الأمر ، عليه سلام الله.

أمّا اختصاصه عليه‌السلام بالتسمية بأمير المؤمنين : ، فيدلّ عليه الإجماع من أهل البيت عليهم‌السلام : وأتباعهم ، والنصوص المستفيضة.

ففي بعض التفاسير لبعض المتأخّرين (٢) ، بسنده إلى تفسير محمّد بن عيّاش السلميّ : ، بسنده عن محمّد بن إسماعيل الرازيّ : عن رجل سمّاه عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال : دخل رجل على أبي عبد الله عليه‌السلام : ، فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقام عليه‌السلام على قدميه ، فقال مه ، هذا الاسم لا يصلح إلّا لأمير المؤمنين عليه‌السلام : ، سمّاه الله به ، ولم

__________________

(١) الكافي ١ : ٤١١ / ٢.

(٢) البرهان في تفسير القرآن ٢ : ١٧٤ / ٢٧٤٦ ، وقريب منه في كنز الدقائق ٢ : ٦٢٥.

٥٠١

يُسمَّ به أحدٌ غيره فرضي به إلّا كان منكوحاً ، وإن لم يكن ابتلي به ، وهو قول الله في كتابه ( إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلّا شَيْطاناً مَرِيداً ) (١).

قال : قلت : فماذا يدعى به قائمكم؟. فقال : يقال له : السلام عليك يا بقيّة الله : ، السلام عليك يا بن رسول الله (٢).

ومنه (٣) بسنده إلى غياث بن إبراهيم : في تفسيره عن فرات بن إبراهيم الكوفي (٤) عن جعفر بن محمّد الفزاريّ : ، معنعناً عن عمر بن زاهر : قال : قال رجل لجعفر بن محمَّد عليهما‌السلام : نسلّم على القائم : بإمرة المؤمنين؟. قال لا ، ذلك [ سمّى (٥) ] الله به أمير المؤمنين لا يسمّى به أحد قبله ولا بعده إلّا كافر. قال : كيف نسلّم عليه؟. قال تقولون : السلام عليك يا بقيَّة الله. ثمّ قرأ جعفر عليه‌السلام : ( بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (٦).

فهذه الأخبار وغيرها دلّت على أنه اسم اختصّ به فلا يسمّى به أحد غيره أي لا يدعى على جهة الاسميّة الدالّة على ذات المسمّى غيره فإن الاسم ما دلّ وأنبأ عن المسمّى ، أي دلّ على ذات المسمّى الجامعة لصفاته. ولعلّ النكتة في ذلك أنه لمّا كان باعتبار الاسميّة والعلميّة بمعنى : باب مدينة العلم (٧) : أي علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فالمدينة محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ، وهو عليه‌السلام بابها الذي لا يؤتى إلّا منه ؛ لأنه بمعنى ممير العلم ـ علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : جميعَ المؤمنين من الأوّلين والآخرين من جميع العوالم حتّى أولاده ، ولا أحد يميره منهم. فهو دون ما سواه باب مدينة العلم ، والباب والمدينة كالشي‌ء المختلف باعتبار اختلاف الكلّ وأجزائه.

فأمير المؤمنين عليه‌السلام : اختصّ من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : بهذه النسبة الجزئيّة. فأمير المؤمنين عليه‌السلام : كالجزء من الكلّ ، ولا يطلق على الكلّ من حيث هو كلّ ، الجزء من

__________________

(١) النساء : ١١٧.

(٢) تفسير العيّاشيّ ١ : ٣٠٢ / ٢٧٣.

(٣) كنز الدقائق ٤ : ٥٣٦.

(٤) تفسير فرات الكوفي : ١٩٣ / ٢٤٩.

(٥) من المصدر ، وفي المخطوط : « سماه ».

(٦) هود : ٨٦.

(٧) مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام ( ابن المغازلي ) : ٨٤ / ١٢٥.

٥٠٢

حيث هو جزء ، فلا يقال : إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو باب مدينة علمه ، فيصحّ جزء نفسه ؛ لأنه هو عين المدينة ذات الباب. فكما لا يقال لغير عليّ عليه‌السلام : حتّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : باب مدينة علم الرسول : ، لا يقال لغيره مطلقاً : أمير المؤمنين : ، على وجه الاسميّة اللقبيّة ؛ لأن أمير المؤمنين بهذا الاعتبار وباب مدينة العلم بمعنًى واحد كالمترادف.

ولعلّ السرّ في ذلك أن عليّاً عليه‌السلام : هو الظاهر لولاية الله العظمى ، وهي ولاية محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : التي هي ولاية الله حقيقة. ولا بدّ لمحمّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله : من ظاهر بها وحامل للوائها ، وهو لواء الحمد الجامع لجميع محامد الجمال والجلال ، بحيث لا يشذّ منه شي‌ء ، فكلّ ما في الخلق طرّاً من ذلك قطرة من بحار جماله وجلاله.

ولا يقال : محمّد : هو الظاهر بولاية نفسه ، ولا حامل لواء نفسه ، فإنه عين ولايته التي هي ولاية الله حقّا. ولا بدّ من المغايرة بين الظاهر والمظهر ، فلولا أن عليّاً كان مظهر ولاية محمّد : التي هي باطن نبوّته التي هي باطن رسالته لما ظهرت رسالته ، بل ولا نبوّته.

فهو منه كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله أنت منّي بمنزلة الروح من الجسد (١) ، وأنت نفسي (٢).

وهما باعتبار شي‌ء واحد ونور واحد ، فعليّ : هو الظاهر بخلافة الله العظمى التي هي خلافة محمّد : ، فكما لا يقال : الله عزّ اسمه من أسمائه أمير المؤمنين ، لا يقال : إن من أسماء محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمير المؤمنين ؛ لأن الإمارة تقتضي مؤمّر بكسر الميم ومؤمّر بفتحها ومؤمّر عليه ، فالمؤمّر محمّد : والمؤمّر عليّ : والمؤمّر عليه ما سواه من الخلق. والمؤمّر بكسر الميم من حيث هو مؤمّر لا يكون هو الأمير.

وستظهر إمارة عليّ عليه‌السلام : وسلطنته على جميع المؤمنين ، بل الخلائق أجمعين في مقامين

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٦٩ ، وفيه : « يا عليُّ ، أنت منّي بمنزلة السمع والبصر والرأس من الجسد ، والروح من البدن ».

(٢) الاختصاص ( ضمن سلسلة مؤلَّفات الشيخ المفيد ) ١٢ : ٢٢٣.

٥٠٣

أحدهما (١) : في الرجعة ، حين يدفع له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لواءه.

والثاني : في القيامة الكبرى ، حيث يدفع له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لواءه لواء الحمد الذي آدم : ومن دونه تحته ، ففي ( زهر الرياض ) نقلاً من ( تفسير العيّاشيّ ) عن سلام بن المستنير : عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال لقد تسمّوا باسم ما سمّى الله به أحداً إلّا علي بن أبي طالب : عليه سلام الله وما جاء تأويله.

قلت : جعلت فداك ، متى يجي‌ء تأويله؟ قال إذا جاء جمع الله النبيِّين والمرسلين (٢).

وورد في قوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ ) (٣) : فيومئذٍ يدفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رأيته إلى عليِّ بن أبي طالب عليه‌السلام : ، فيكون أمير الخلائق كلّهم أجمعين ؛ لكون (٤) الخلائق كلّهم تحت لوائه ، ويكون هو أميرهم ، فهذا تأويله (٥) إلى آخر الحديث.

فظهر أن جميع الخلائق تحت لوائه وسلطنته ، فهو يميّزهم بالعلم وجميع الكمالات ، وليس هو تحت لواء أحد أصلاً ؛ لأنه حامل لواء محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ، فليس أحد يستحقّ هذا الاسم سواه ، ولا يقال : إن محمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو حامل لواء نفسه.

وبالجملة ، فعليّ بن أبي طالب : حمّله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : ولايته المطلقة التي هي ولاية الله ، فظهر بها وقام بها وحملها ، ولا يطيق أحد ولا شي‌ء سواه حملها. وإلّا لم يكن الواحد من كلّ وجه واحد ، فهو سلام الله عليه أمير المؤمنين : وباب مدينة علم محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ، وحامل لوائه لواء الحمد بمعنًى. فهذه الأسماء كالمترادفة ، فالدليل عليّ : والمدلول ولاية محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله الظاهر ، والمظهر عليّ عليه‌السلام : ، فهو منه كالنفس من الجسد ، وهو منه كنور الشمس من الشمس. والدليل والمدلول يتّحدان ضرباً من

__________________

(١) في المخطوط : ( إحداهما ).

(٢) في المصدر : « المؤمنين » بدل : « المرسلين ».

(٣) آل عمران : ٨١.

(٤) في المصدر : « يكون ».

(٥) تفسير العيّاشيّ ١ : ٢٠٥ / ٧٧.

٥٠٤

الاتّحاد في النهاية.

أمّا في مقام الدلالة فهما شيئان : دليل ومدلول ، واسم ومسمّى ، وإمارة عليّ عليه‌السلام : وسلطنته من مقام ولاية محمّد : ، فهو نفسه.

ولا يقال : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمير نفسه ، وسلطان نفسه ، وعليّ عليه‌السلام : نفسه ، فعليّ عليه‌السلام : أمير كلّ مؤمن ومؤمنة ، وليس هو بداخل تحت أمره أحد من خلفائه ، فظهر اختصاصه بهذا الاسم الأعظم إذا أخذ بعنوان الإطلاق. فالإمارة والولاية المطلقة لم يظهر بها أحد سواه ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : ، إنما ظهر بالرسالة ، وقد أُخذ العهد على جميع الخلق حين أرسل لهم بـ ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) (١) بالإيمان بولايته المطلقة ، وهي إمارة أمير المؤمنين.

وأمّا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : والأئمّة الأحد عشر فلا شكّ في أنهم موصوفون منعوتون بأمارة المؤمنين والسلطنة والاستيلاء على الخلائق أجمعين. وإن نعتهم ووصفهم بها لا على جهة التسمية اللقبيّة العلَميّة جائز ، أمّا محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : فبالأصالة ؛ لأنه ينبوع تلك الولاية العامّة المطلقة والسلطنة الشاملة وحقيقتها الحقّيّة وإن لم يمكن أن يكون هو مظهرها في مقام الرسالة ؛ لما بينهما من التمانع ، ولما يلزم من أنه لا يكون له خليفة ، بل يكون خليفة نفسه ويتّحد الظاهر والمُظهِر ، وهو محال.

وأيضاً لا يمكن اجتماع الظهور بالرسالة والولاية المطلقة في شخص ؛ لما بين المقامين من الاختلاف في التكاليف واللوازم. فمقام الولاية لا يطيق مقام النبوّة أن يحمل تكليفه ، وكذا مقام الرسالة بأن نقيسه إلى مقام النبوّة. ومن أجل ذلك تأخّر التكليف بالتأويل حتّى يظهر صاحب الأمر : عجل الله فرجه والله رؤوف بالعباد.

وأمّا الأئمّة الأحد عشر فهم ورثوا تلك الإمارة والولاية والسلطنة من أمير المؤمنين. وممّا يدلّ على صحّة وصفهم بها وراثة من أمير المؤمنين : ما رواه بعض المتأخّرين في تفسيره عن أبي علي أحمد بن الحسين بن أحمد بن عمران : في كتاب

__________________

(١) الأعراف : ١٧٢.

٥٠٥

( الاختصاص ) عن عليّ بن الحسن : عن محمّد بن الحسن : عن محمّد بن الحسن الصفّار : عن عليّ بن السنديّ : عن محمّد بن عمرو : عن أبي الصباح : مولى [ آل سام ] (١) قال : كنّا عند أبي عبد الله عليه‌السلام : أنا وأبو المغراء : ؛ إذ دخل علينا رجل من أهل السواد ، فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.

ثمّ اجتذبه وأجلسه إلى جنبه ، فقلت إلى أبي المغراء : أو قال لي أبو المغراء : ـ : إن هذا الاسم ما كنت أرى [ أحداً (٢) ] يسلّم به إلّا على أمير المؤمنين : ، صلوات الله عليه. فقال لي

يا [ أبا الصباح (٣) ] ، إنه لا يجد عبد حقيقة الإيمان حتّى يعلم أن ما لآخرنا ما لأوَّلنا (٤).

ثمّ قال جامع التفسير : ( رأيت كثيراً في الروايات أن الناس سلّموا عليهم ، ودعوهم ، وخاطبوهم بهذا الاسم ، ولم يمنعوهم ) ، انتهى.

فهذا دليل على صحّة وصفهم ونعتهم بأمارة المؤمنين ، وإثبات إمارة كلّ واحد منهم العلم لمن دونه من الخلق وولايته وسلطنته العامّة عليهم ، ولكن بجهة الوراثة من أبيهم أمير المؤمنين عليه‌السلام : الذي ثبت له هذا الاسم بالأصالة من محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : على سبيل الإطلاق والعموم لجميع المؤمنين ؛ فكلّهم داخل تحتها ، كلّ بحسب قربه من المبدأ عزّ اسمه وتعالى. وليس أمير المؤمنين عليه‌السلام : بمقتضى التسمية داخلاً تحت إمارة أحد ؛ لأن ولايته ولاية محمّد : [ التي (٥) ] هي ولاية الله الحقّيّة الحقيقيّة ، ولا يمكن أن يتسمّى بها ويحملها ويظهر بها أي يكون مظهرها في الخلق إلّا واحد ( لا تُكَلَّفُ إِلّا نَفْسَكَ ) (٦) ، وعليّ عليه‌السلام : نفسه ، فإثباتها لغيره على هذا الوجه شرك بالله ؛ لأنها تؤول إلى اتّخاذ إلهين اثنين ، وقد قال تعالى : ( لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ

__________________

(١) من المصدر.

(٢) من المصدر ، وفي المخطوط : ( أن ).

(٣) من المصدر ، وفي المخطوط : ( صباح ).

(٤) الاختصاص ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) ١٢ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

(٥) في المخطوط : ( الذي ).

(٦) النساء : ٨٤.

٥٠٦

إِلهٌ واحِدٌ ) (١). وإمارة كلّ إمام بعده بالوراثة منه ؛ لأنه يثبت لآخرهم ما يثبت لأوّلهم بالوراثة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولا ينافيه أن مرتبة أمير المؤمنين : في كلّ جمال وجلال لا يساويه فيها أحد ؛ إذ لا يعرف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : بتلك المعرفة إلّا هو من جميع الخلق. فإذن ظهر أن معنى أمير المؤمنين : بالنسبة لعليّ عليه‌السلام : ، ومعنى باب مدينة العلم (٢) ، ومعنى حامل لواء الحمد (٣) ، ومعنى ممير جميع المؤمنين من علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) : ، ومعنى : نفس الرسول (٥) يؤول إلى معنًى واحدٍ وحقيقة واحدة ، وبه يظهر اختصاصه عليه‌السلام بهذا الاسم ، والله الهادي إلى سواء السبيل. وقد كرّرت العبارة وأكثرت الإشارة طلباً للتنبيه ، والله الغفور الرحيم.

__________________

(١) النحل : ٥١.

(٢) مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام ( ابن المغازلي ) : ٨٤ / ١٢٥.

(٣) : كشف اليقين : ٣٠٣.

(٤) علل الشرائع ١ : ١٩١ / ١.

(٥) البرهان في تفسير القرآن ١ : ٦٣١ ، تفسير القرآن العظيم ١ : ٣٥٠.

٥٠٧

معنى قول السجّاد عليه‌السلام : « قَوْلُكَ حُكْمٌ ، .. » ثمّ قال فطم الله نفسه الفاطميّة من الأغيار ـ : ( الثالثة : ما معنى ما في دعاء السجّاد عليه‌السلام في يوم عرفة قال قَوْلُكَ حُكْمٌ ، وَقَضَاؤُكَ حَتْمٌ ، وَإرَادَتُكَ عَزْمٌ (١)؟ ). أقول ومن الله الهداية ـ : قوله عليه‌السلام قَوْلُكَ حُكْمٌ أي قوله للشي‌ء ( كُنْ فَيَكُونُ ). فالمراد من قوله : هو الكاف والنون ، فهي حكم لا يتخلّف عنه مخاطب به.

وقيل : معناه : أن قوله حكمة كما في قوله تعالى : ( وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) (٢) ، أي الحكمة. وله وجه لا يخلو من صواب.

وقوله عليه‌السلام وَقَضَاؤُكَ حَتْمٌ يمكن أن يراد به : قضاء الموت ، كما في قوله تعالى : ( لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ) (٣) عنى : مجي‌ء الأجل المقضيّ.

أو يراد به القضاء النازل في ليلة القدر على صاحب الأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله : ، من القضاء الذي لا يردّ ولا يبدّل ، وهو الممضيّ في ليلة ثلاثٍ وعشرين من شهر رمضان ، وهي ليلة الإمضاء ، فيراد القضاء الممضى دون ما لله فيه البداء ؛ فإنه لا يتحقّق له في الخارج.

أو يريد القضاء الذي برز به الأجل والكتاب وأدمجهما فيه ، فيعمّ جميع المقضيّات ، لكن باعتبار الرتب الستّ (٤) التي لا يكون شي‌ء في السماء ولا في

__________________

(١) الصحيفة السجّادية الكاملة : ٢١٠.

(٢) مريم : ١٢.

(٣) فاطر : ٣٦.

(٤) إشارة إلى ما رواه كلٌّ من الكلينيّ والصدوق عن العالم عليه‌السلام أنه سئل : كيف علم الله؟ قال عليه‌السلام : « علم ، وشاء ، وأراد ، وقدَّر ، وقضى ، وأمضى ». فهذه الستُّ هي مراتبُ الإيجاد. انظر الكافي ١ : ١٤٨ / ١٦ ، التوحيد : ٣٣٤ / ٩.

٥٠٨

الأرض إلّا بها. أو القضاء الذاتيّ الذي هو أحد رتب الوجود العامّ. فقد ورد (١) أن لله قضاءً حتماً وهو الوجوديّ بالأصالة ، وقضاءً غير حتم وهو العرضيّ. فكما له تعالى إرادتان : إرادة حتم وإرادة عزم ، كذلك له قضاءان.

وقوله عليه‌السلام وَإرَادَتُكَ عَزْمٌ لعلّه أراد أن إرادته لا تكون إلّا على كمال الاختيار لأنها صادرة عن الواحد المختار ، فليس في ملك الله جبر ، بل الخلق بجميع أنحائه جارٍ على كمال الاختيار ذاتاً وصفة وفعلاً ، حتّى في خلقه و ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (٢) ، حتّى في وجودها وصفات وجودها ولوازمه وكمالاته.

فحقيقة البشر لمّا طلبت من بارئها بلسان قابليّتها بكمال اختيارها أن تكون بشراً أعطاها الصورة البشريّة. وكذا الفرس والبقر والشجر والحشيش والمعدن ، وجميع ما ذرأ وبرأ من المجرّد والمادّيّ والعلويّ والسفليّ. بل كلّ ذي حرفة وصنعة طلب من جود بارئه أن يكون على تلك الحرفة والصنعة بكمال اختياره. وكذا كلّ ذي لون وهيئة وشكل من بياض وسواد ، وطول وقصر ، وغير ذلك ، كلّ طلب ما هو عليه من أرحم الراحمين بكمال اختياره أن يكون كما هو عليه. فلو أن البليد طلبت إنّيته بكمال الاختيار أن يكون ذا فطنة لَمَا كان بليداً ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (٣).

وقد نصبت لك مرآةً إن [ أبصرت بها (٤) ] نفسك بصفاء سرّك انطمست عنك كلّ شبهة توهم الخبر في نحو من أنحاء الوجود ، حتّى في الذرّ والطين. فحاصل معنى قوله عليه‌السلام إرَادَتُكَ عَزْمٌ أي إنما تجري على كمال الاختيار من المراد ، لا جبر في فعله عزّ اسمه ومشيئته بوجه ( وَما تَشاؤُنَ إِلّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) (٥). وإن أردت غير هذا فغير خفيّ أن لله إرادتين : إرادة حتم بالأصالة ، وإرادة عزم هي العرضيّة وهي التجلية. فلعلّه عليه‌السلام أراد الثانية ؛ إظهاراً لثبوتها ، والله العالم.

__________________

(١) الكافي ١ : ١٤٧ / ٤.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

(٣) الكهف : ٤٩.

(٤) في المخطوط : ( أبصرتها ).

(٥) الإنسان : ٣٠ ، التكوير : ٢٩.

٥٠٩

حكم البهيمة المذكّاة إذا وطئت

ثمّ قال أنار الله سرّه الأحمديّ ـ : ( الرابعة : البهيمة لو وُطئت فإن كانت مأكولة اللحم أُحرقت ، وإن لم تكن أُخرجت وبيعت في غير بلدها ، على ما فصَّلوه (١). فهذا مختصٌّ بالحيِّ ، أم يشمل ما لو ذكِّيت دابَّة كبقرة أو شاة ثمّ بعد الذبح وطئها إنسان ، فهل يلحقها حكم الحيِّ من تحريم لحمها وذبحها ، وعدم ذبحها لو كانت غير مأكولة؟ وهل عليه التعزير أم لا؟ ويقدر التعزير في الموطوءة الحيّة أم لا؟ ).

أقول وبالله المستعان ـ : أمّا حكم الموطوءة الحيّة من النصّ (٢) والفتوى (٣) فمعلوم قد بان ، وأمّا الميتة لو وطئها إنسان فإن كانت غير مذكّاة فهي حرام بالموت. وإحراقها لو كانت [ غير ] مأكولة اللحم عادة لم يقم على التكليف به دليل ، والأصل يقتضي البراءة منه. وأمّا لو كانت مأكولة اللحم عادة كبقرة أو شاة فذكّيت ثمّ بعد تحقّق التذكية وطئها رجل ، فالأظهر أنه لا يلحقها حكم التحريم للأصل ، واستصحاباً بحلّها قبل الوطء ، وهو يقين لا يرفعه إلّا يقين مثله ، ولدخولها في عموم الأدلّة الدالّة على حلّ ما ذكّي ممّا يؤكل لحمه كالأنعام مثلاً ، بلا معارض لشي‌ء من ذلك.

وأخبار الباب إنما دلّت على تحريم الحيّة الموطوءة للرجل ؛ للأمر فيها كلّها بذبحها ولا يذبح إلّا الحيّ ، فدلّ ذلك أن دلالة الأخبار إنما هي ظاهرة في الحيّ ،

__________________

(١) شرائع الإسلام ٤ : ١٧٤ ، الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة ٩ : ٣٠٧ ـ ٣٠٩.

(٢) وسائل الشيعة ٢٤ : ١٦٩ ـ ١٧٠ ، أبواب الأطعمة والأشربة ، ب ٣٠.

(٣) انظر : هامش ١ من نفس الصفحة.

٥١٠

وكذا تحريم لبنها ونسلها ظاهر في تعلّق الحكم بالحيّ. ولا يظهر فرق بين نكاحها حينئذٍ ونكاح قطعة مبانة ، فإنه لا يثمر تحريمها ولو كانت هي الفرج.

هذا مضاف إلى أن المذبوحة الميتة ليست حيواناً ولا بهيمة بالفعل ، والحقّ اشتراط بقاء مأخذ الاشتقاق في صحّة إطلاقه حقيقة. فهذه حينئذٍ جماد ، فلا معارض لما دلّ على حلّها. ويحتمل التحريم التفاتاً إلى دخولها في إطلاق تحريم موطوءة الرجل أو الإنسان.

وذكر لو أن الحياة في النصّ والفتوى إبانة لحكم الفرد الغالب الأكثريّ ، أي تذبح إذا كانت قابلة للذبح بأن كانت حيّة ، ويحرم لبنها إن كانت ميتةً ، ويكون الذكر كالأُنثى ؛ فإن الذكر يجري عليه حكم التحريم ، والذبح ، والحرق ، والتغريب كالأُنثى وهو ضعيف.

فإنا إذا صرفنا النصّ والفتوى إلى الفرد الغالب الذي هو مناط الأحكام ، خرجت المذكّاة من جميع أحكام الحيّة. على أنا نمنع دخولها حينئذٍ في لفظ البهيمة ؛ لخروجها حينئذٍ عن هذا المسمّى بالموت ، فلا تسمّى حينئذٍ دابّة ، ولا بهيمة ، ولا حيواناً حقيقة.

وأمّا ما ذكر من حكم الذبح ، وهل تذبح الموطوءة المذكّاة أم لا؟ فلا معنى له يظهر ؛ لاستحالة تحصيل الحاصل.

وأمّا قوله حرسه الله ـ : ( وعدم ذبحها لو كانت غير مأكولة ) فلا يظهر لي معناه ، فإن حاصل السؤال هل حكم المذكّاة لو وطئت حكم الحيّة الموطوءة أم لا؟ وهذا غير جارٍ في غير المأكولة عادةً ؛ لعدم تذكيتها [ عادة (١) ]. فإن أراد أن غير المأكول عادة لو كان حلالاً كالدوابّ الثلاث لو ذكّيت ثمّ وُطئت ، هل تحرم ويجب تغريبها ، أم لا؟

فالجواب : أن الآية والاستصحاب والعمومات نصّاً وفتوى تقتضي بقاءه على

__________________

(١) في المخطوط : ( عادته ).

٥١١

حلّه ، ولم يظهر دليل على تحريمه ، وإنما دلّ على وجوب بيعه في غير بلد الفاعل ، لئلّا يعيّر. وهو يدلّ على سقوط حكم التغريب لو وطئ بعد الموت ؛ ذكّي أم لا؟ ولا يجري احتمال التحريم هنا ، ولا معنى لتغريب الميّت فيه.

وأمّا حكم التعزير فثابت على من وطئ دابّة ميّتة إذا بلغ سنّ وجوب التعزير ؛ لأنه عصيان ، وفعله محرّم ، بل أفحش من وطء الحيّة ، ولكنّه موكول قدره إلى نظر الحاكم هنا ولو قلنا بتعيين قدر في وطء الحيّة لعدم الدليل على تقديره هنا ، والله العالم.

٥١٢

في وجوب صلاة الآيات على من لم تقع الآية في بلده

ثمّ قال زاده الله علماً ـ : ( الخامسة : لو وقعت زلزلة في البحرين مثلاً ، والزلزلة وقتها العمر ، فهل يجب على من هو ساكنٌ غيرَ البحرين كالقطيف مثلاً صلاة الزلزلة ، أم لا؟ ومن صرَّح بهذا التفريع؟ ).

أقول وبالله المستعان ـ : لا ريب أن صلاة الآيات لا تجب إلّا على من أظهرها الله له ، وأوقعها به ليدفع الله بها عمّن وقعت به الآية ما يحدث بها من البلاء والفساد الواقع بسببها في نفوس من وقعت بهم وأرضهم وهوائهم ومائهم ، فإذا صرفها الله برحمته عن قوم ، أو لأنهم لم يفعلوا ما يوجب عقابهم بإنزال تلك الآية بهم لم يجب عليهم تلك الصلاة. فلو وقعت زلزلة في البحرين مثلاً ولم تقع في القطيف مثلاً ، لم يجب على أهل القطيف صلاتها ، وإنما تجب على من وقعت بهم.

ووقتها العمر لمن كلّف بها. وكون وقتها العمر لمن كلّف بها لا يستلزم وجوبها على من لم تقع به ، بل لو وقعت الزلزلة أو غيرها من الآيات بقرية من قرى القطيف أو البحرين مثلاً ، لم تجب صلاة الآيات على أهل قرية منها اخرى لم تقع بها تلك الآية ؛ لأن الله تعالى لم ينزل بهم سببها ولم يخوّفهم به. وعلى ذلك عمل المسلمين في سائر الأوقات والأصقاع.

وأيضاً إيجاب صلاة الآيات على أهل القطيف مثلاً لو وقعت زلزلة في عمان مثلاً تكليف يحتاج إلى دليل ، ولا دليل. فأصل البراءة لا معارض له ولا ناقل عنه.

وأيضاً لو كان الوجوب يعمّ من لم تقع بهم الآية الواقعة في بلد اخرى لدلّ عليه الشارع بوجه من ضروب الدلالات ، ولَوُجِدَ في الأرض في كلّ زمان قائلٌ به ؛ لأنه

٥١٣

ممّا يعم به البلوى. وحيث لم يدلّ عليه صاحب الشريعة : ولو على لسان أحد نوّابه ، عُلم أنه لم يقع التكليف به ؛ إذ لا تكليف إلّا بعد البيان.

وممّا يؤنسك بهذا القول أن مَن لم يعلم بالخسوف حتّى خرج وقت الأداء ، لم يجب عليه القضاء مع وقوع الآية به وفي أرضه. فلو كان يجب على من لم تقع به الصلاة لوقوعها في غير أرضه بغيره ، لكان هذا أوْلى بالوجوب.

وأيضاً لو قلنا بالوجوب على من لم تقع به ، لكنّا نوجب ذلك عليه في غير الزلزلة لتساويها مع غيرها في سببيّة الصلاة. ولو قلنا بذلك لزم أنا نوجب على من لم تقع به غير الزلزلة القضاء دون الأداء ، بل بوجوبها أداء على غيره يجب عليه القضاء. وهذا واضح البطلان.

على أن الشهيد : في ( المسالك ) (١) قائل بمساواة غير الزلزلة لها في كون وقت أدائها العمر إذا وقعت ولم يسع وقت وقوعها الصلاة. ونقله عن ( الدروس ) (٢).

وأنت إذا تأمّلت الأخبار (٣) وجدت ما يرشدك إلى أنه لا يكلّف بصلاة الآيات أداء أو قضاء إلّا من أوقعها الله به دون باقي أهل الأرض. وليس معي آلة تراجع ، فلا اعلم من ذكر هذا الفرع ، والله العالم.

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ : ٢٥٧.

(٢) الدروس ١ : ١٩٥.

(٣) المقنعة ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) ١٤ : ٢٠٨ ـ ٢٠٩ ، وسائل الشيعة ٧ : ٤٨٤ ، أبواب صلاة الكسوف والآيات ، ب ١ ، ح ٥.

٥١٤

حول رؤية المعصوم عليه‌السلام في المنام

ثمّ قال زاده الله صلاحاً ـ : ( السادسة : أنه ورد عن مولانا الصادق جعفر بن محمَّد عليهما‌السلام : إنا لا نُشبه أحداً (١) ما مَعناه؟ وكيف يتحقَّق رؤية المعصوم في المنام؟ كيف يراه الرائي وهو لا يشبه أحداً؟ وكيف لي بمعرفته أنه هو ، وأنا لو رأيته في صورة أحد وأخبرني هو بـ : إني المعصوم؟ فكيف يتأتّى لي بأن هذه الصورة لا تشبه صورة البشر مع أني غير محيط بمعرفة صور البشر كلِّها ، حتّى أقول : إنّ هذه الصورة لا تشبه صورة البشر؟ ).

أقول وبالله المستعان ـ : إذا قال جعفر بن محمَّد عليهما‌السلام : إنا لا نشبه أحداً ، فمعناه أن ذواتنا وحقائقنا ليست من نوع شي‌ء من حقائق الخلق ، بل نحن فوق جميع الحقائق ، حقيقتنا ووجودنا فوق جميع الموجودات ، أطرافهم فوق جميع الخلق ودون الخالق ، فلهم حقيقة ووجود ، وقد اختصّوا بها لا تشبه شيئاً من حقائق الخلق. وكيف تشبه حقيقة العلّة حقيقة المعلول ، وهم علّة الخلق طرّاً؟ وقد بان وجود العلّة من المعلول لا بمزايلة. فهم عليهم صلوات الله وسلامه أنوار لاهوتيّة البسوا قوالب بشريّة لتطيق الناس رؤيتهم ( وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) (٢).

وليس معنى إنا لا نشبه أحداً أنهم ليسوا على الصورة البشريّة ، ولا أنهم ليسوا على صورة من صور الخلق ، فإن هذا تدفعه المعاينة والوجدان حسّا وعقلاً. بل

__________________

(١) بحار الأنوار ٣ : ١٩٦ ، وفيه : « وعصمنا من أن نشبّهه بشي‌ء من خلقه ».

(٢) الأنعام : ٩.

٥١٥

قالوا : إنا نتقلّب في الصور حيث شئنا (١). وليس معناه أيضاً : أن هذه الصورة البشريّة المحسوسة منّا لا تشبه صورة أحد من البشر المحسوسة ؛ لأن هذا ليس فيه قدح يذكر في مقام الافتخار.

ولم يقم دليل على أن أحداً من ولد آدم عليه‌السلام : على صورة إنسانيّة متفرّد بها دون سائر ذرّيّة آدم عليه‌السلام. على أن هذا الفرض كالمحال ؛ لاشتراك بني آدم : في نوعيّة الهيئة من العينين والأُذنين ومحالّهما ، وجميع الكيفيّة والكمّيّة ، وقد أشبهوا غيرهم في ذلك. فكيف ومقتضى نفي النكرة العموم؟ فلو لم يكونوا على شي‌ء من هيئات الصور البشريّة وكمّيّاتها ، بل ولا كيفيّاتها لم يكن لهم جسميّة أصلاً. والكلّ باطل بالضرورة حسّا وعقلاً ، فتبيّن أن ذلك غير مراد.

نعم ، لهم أعين لا تشبه أعين الناس ، وأسماع لا تشبه إسماع الناس ، أي بوجوداتها وعينها ، لا بهيئات أجسامها وكمّيّاتها. وبما تبيّن تندفع الشبهة ، وهذا معناه.

وتتحقّق رؤية المعصوم في المنام كما تتحقّق رؤيته في اليقظة ، إلّا إنه في اليقظة يبصره الناظر بعين جسميّة ، وفي المنام بعين مثاليّة. فإن أمكن رؤيته ومعرفته في اليقظة أمكن رؤيته ومعرفته في المنام ، وإن لا يمكن ذلك في المنام لا يمكن في اليقظة. وقد أمكن في اليقظة ، فهو في المنام ممكن ؛ لاتّحاد العلّة ، وسبب هذا إيجاباً وسلباً بلا فارق.

وهو عليه سلام الله يعرّفك نفسه إذا أراد في اليقظة والمنام على حدّ سواء. ولقد أراك نفسه في الميثاق فعرفته يقيناً ، وستراه عند الاحتضار ، وفي القبر ، وفي الرجعة ، وفي القيامة ، وتعرفه في كلّ ذلك يقيناً. بل معرفته في المنام ، وفي كلّ تلك المراتب أشدّ وأقوى من معرفته في اليقظة ؛ لأنك تعرفه في كلّ مقام بما يناسبه من المعرفة.

وهو في كلّ ذلك لا يشبه أحداً ولا يتوقّف معرفتك له إذا ظهر لك في مقام على

__________________

(١) مشارق أنوار اليقين : ١٧١ ، من خطبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام وفيها : « أنا الذي أتقلّب في الصور كيف شاء الله ».

٥١٦

حالتك بجميع صور البشر ، وإلّا لم تكن حجّة على بشر ؛ إذ لا فرق في ذلك بين اليقظة والمنام ، بل جميع ما خلق الله دونه يعرفه من الثرى إلى العرش ، ولكن كلّ أحد من مقامه من الوجود. فليس يعرفه بالصورة البشريّة ، وليس البشر يعرفه بالصورة الملكيّة ولا الجبروتيّة ؛ لأنه لا تكمل حجّة الله إلّا إذا ظهر لكلّ أحد بما يمكن قبوله منه ، وما يأنس به من الصور. فلو ظهر البشر بصورة الملك لم يقبلوا منه بكمال الاختيار ، والله العالم.

٥١٧

معنى ( ما ) التعجبيّة الواردة في أدعيتهم عليهم‌السلام

ثم قال وفّقه الله للعلم بما يعلم ونوّر فكره به ـ : ( وسنح لي مسألة أيضاً هو أنه قد ورد عنهم عليهم‌السلام في أدعيتهم سبحانه من قدير ما أقدره ، وسبحانه من عليم ما أعلمه ، ومن كريم ما أكرمه (١).

وقد ذكر النحاة (٢) في ( ما ) التعجبيّة أنها بمعنى شي‌ء ، كما قالوا في : ( ما أحسن زيداً! ) أي شي‌ء عظيم حسَّن زيداً ، فيلزم على هذا شي‌ء عظيم أقدره تعالى ، وشي‌ء عظيم أعلمه ، وشي‌ء عظيم أكرمه. فما معنى هذا؟ وكيف انطباقه على كلام النحاة؟ ).

وأقول وبمحمّدٍ وآله صلّى الله عليه وعليهم أجمعين ، أرجو من الله بلوغ المأمول ـ : ليس مدلول : ( ما أحسن زيداً! ) في حال التعجّب : ( شي‌ء عظيم حسّن زيداً ) ، باتّفاق النحاة وأهل البلاغة ، وكلّ من عرف أساليب كلام العرب وإن بعد عهدي بمراجعة كتب العربيّة. بل مدلول : ( ما أحسن زيداً! ) في التعجّب أن حُسنَ زيد شي‌ء عظيم يستحقّ أن يكون عجباً للأذهان ؛ لتجاوزه درجة المعتاد من حسن البشر.

والدليل على هذا اتّفاق أهل اللسان على أنه إنشاء لا إخبار وإن كان أصل موضوع الجملة خبراً كما هو شأن كلّ إنشاء. واتّفاقهم أيضاً على اتّحاد مدلول : ( ما أحسن زيداً! ) و ( أحسن بزيد! ) ولا شكّ ولا خلاف أن ( زيد ) في ( أحسن بزيد ) فاعل في المعنى ، فيكون في : ( ما أحسن زيداً! ) كذلك.

ويدلّ على ما قلناه أيضاً اتّفاقهم على أنه لا يُبنى إلّا من ثلاثيّ لازم ، ولا يكون

__________________

(١) مهج الدعوات : ١٠٩ ، بحار الأنوار ٩٢ : ٣٦٧.

(٢) مغني اللبيب : ٣٩٢ ، شرح ابن عقيل ٣ : ١٥٠.

٥١٨

بحسب الأغلب أو كلّيّاً إلّا في الصفات الذاتيّة ، فلا يكون زيد في : ( ما أحسن زيداً! ) مفعولاً في المعنى البتّة ، فلا يكون المعنى : ( شي‌ء أحسن زيداً ) أي جعله حسناً ، بل يحتالون فيما إذا أرادوا التعجّب من الصفة التي ليست لازمة ذاتيّة في ردّها إلى الصفة اللازمة الذاتيّة بلفظ ( أشدّ ) ، فيقولون : ( ما أشدّ مضروبيّة زيد! ) فإن المضروبيّة صفة لزيد لا تتجاوزه ، وإن كانت من لوازم ضاربيّة الضارب. ولذا أيضاً يقولون : ( ما أشدّ ضاربيّة زيد! ) ، فافهم.

ولكن أوهمك اختلافهم في تركيب : ( ما أحسن زيداً! ) ، فالمشهور أن ( ما ) نكرة بمعنى شي‌ء ، و ( أحسن ) فعل ماضٍ وزيداً مفعول.

وهذا إنما هو تركيب الجملة باعتبار أصلها من الخبريّة قبل نقلها إلى المعنى الإنشائيّ ، وهو التعجب ، وبعد النقل يبقى التركيب الخبريّ على ما كان ؛ لأنها جرت مجرى الأخبار فلا تغيّر كما هو شأن كلّ جملة قُصد بها الإنشاء تركّب باعتبار صيغة لفظها الخبريّ المنقولة منه. ولذا لا يتصرّف فعل التعجب فلا يأتي منه مضارع ولا أمر في : ( ما أحسن زيداً! ) ولا ماضٍ ولا مضارع في : ( أحسن بزيدٍ ) ، ولا يأتي منهما مصدر ولا اسم فاعل ولا مفعول.

وليس مدلول ( أحسن ) في : ( ما أحسن زيداً! ) الماضي ولا : ( أحسن بزيد ) الأمر ؛ لنقلهما عن مدلولهما اللفظيّ الخبريّ. وكذا كلّ جملة إنشائيّة تركّب باعتبار لفظها الخبريّ ، فتقول في تركيب ( بعتك الثوب ) منشِئاً : ( باع ) فعل ماضٍ ، وليس مدلوله الماضي البتّة ، وعلى هذا فقس.

وإن أبيت إلّا تركن إلّا إلى كلام متقدّم ، فليس عندي ما أُراجعه إلّا كلام الاسفرائيني : في شرح ( اللباب ) استعرته لأنقل لك عبارته.

قال : ( ثمّ شرع يعني : الماتن في إعراب الصيغتين ، فقال : ( ما أفعله! ) أصله شي‌ء أفعله يعني : أن ( ما ) نكرة بمعنى : شي‌ء ، و ( أفعل ) فيه ضمير هو فاعله يرجع إلى ( شي‌ء ) ، وهو معنى قوله : والفعل مسند إلى ضمير ( ما ).

٥١٩

وقيل : إن ( ما ) موصولة ، و ( أفعله ) صلته. والموصول مع صلته مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي الذي أفعله حاصل.

وقيل : أصله : ( ما ) الاستفهاميّة ، أي ( أيّ شي‌ء أحسن زيداً ) أي جعله حسناً.

وهذه الوجوه باعتبار الأصل ، يعني : أن أصلها في الإعراب هذا ، لا أن هذا المعنى مراد ؛ لأن معناه التعجّب ، وما قدّر إنشاءً في الأصل جملةٌ خبريّة محتمِلة للصدق والكذب ، فلا يكون بمعنى الإنشاء.

وقال : ( تقديراً ) أي تقدير هذا الأصل لتصحيح هذا الإعراب ، ثمّ نقل إلى معنى التعجّب. وهذا الحكم مطّرد وهو أن الشي‌ء إذا نقل من حال إلى حال كان إعرابه بحسب المنقول عنه ، ومعناه بحسب المنقول إليه ) ، انتهى.

وبعد هذا فلا شبهة تبقى ، وهو قانون ينفعك في موارد كثيرة ، والله العالم. وصلّى الله على محمّدٍ : وآله الطيّبين وسلم عليهم أجمعين ، كما هم أهله. والحمد لله ربّ العالمين.

حرّر بقلم الأحقر الأقلِّ أحمد بن سالم بن طوق : ، انتهى عصر ثالث المحرّم سنة (١٢٤١).

نقلتها من نسخة الأصل ، وأنا الجاني الأثيم زرع بن محمّد علي بن حسين بن زرع.

٥٢٠