رسائل آل طوق القطيفي - ج ٢

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

فصل : في مواقيت العمرة

وهي :

ذو الحُلَيفة : لأهل المدينة. والأشهر الأظهر أنه الوادي المسمّى بذي الحليفة كلّه ، لا المسجد الكائن فيه على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو صحن المسجد الموجود الآن ، دون سقائفه بخصوصه كما قيل ، فإنه ضعيف جدّاً ، ويدلّ على ما هو المشهور من أنه جميع ذلك الوادي الأخبار المتكثّرة بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة (١).

وما ورد بتفسير ذي الحليفة بمسجد الشجرة فمن باب بيان الشي‌ء باسم أشرف أجزائه أو أشهرها ، أو من باب بيانه بأشهر أسمائه عند المخاطب وأوضحها عنده ، فقد ورد إطلاق ذي الحليفة (٢) والشجرة (٣) ومسجد الشجرة (٤) على ذلك الوادي ، ولم يرد حديث بأن الوقت خصوص المسجد دون باقي ذلك الوادي حتّى يعارض به تلك الإطلاقات المستفيضة فتقيّد به.

إن ما ورد في بعض الأخبار تفسير ذي الحليفة بمسجد الشجرة (٥) من باب الإيضاح ، إلّا إن المحرّم خصوص المسجد. وهذا هو مقصود من عبّر عنه بذي

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣١٩ / ٣٠٢ ، وسائل الشيعة ١١ : ٣٠٧ ، أبواب المواقيت ، ب ١ ، ح ١ ـ ٣.

(٢) الكافي ٤ : ٣١٩ / ٣ ، وسائل الشيعة ١١ : ٣٠٧ ، أبواب المواقيت ، ب ١ ، ح ١.

(٣) قرب الإسناد : ١٤٦ / ٥٩٩ ، وسائل الشيعة ١١ : ٣٠٩ ، أبواب المواقيت ، ب ١ ، ح ٧.

(٤) الكافي ٤ : ٣١٩ / ٢ ، وسائل الشيعة ١١ : ٣٠٨ ، أبواب المواقيت ، ب ٨ ، ح ٣.

(٥) الكافي ٤ : ٣١٩ / ٢ ، وسائل الشيعة ١١ : ٣٠٨ ، أبواب المواقيت ، ب ١ ، ح ٣.

٢٠١

الحليفة وقال : وهو : مسجد الشجرة ، تفسيراً من الفقهاء تبعاً للفظ الخبر.

ولذا ترى بعضهم كالمفيد في ( المقنعة ) (١) والشيخ في ( المصباح ) (٢) ، يقول : مسجد الشجرة وهو : ذو الحليفة.

ولعلّه إشارة إلى أن ما وقع في بعض الأخبار من تفسير ذي الحليفة بمسجد الشجرة أنه من باب البيان والتفسير.

وقد صرّح بذلك في ( التنقيح ) حيث قال : ( يقال : [ لمسجد (٣) ] الشجرة : ذو الحليفة ؛ لأنه اجتمع فيه ناس وتحالفوا ) (٤).

وأيضاً فالأخبار (٥) متكثّرة بجواز عقد الإحرام بالتلبية خارج المسجد ، والنصوص المستفيضة (٦) بأن عقد إحرام القارن إذا عقد بالإشعار أو التقليد إنما يكون خارج المسجد. والإجماع والنصّ على أنه لا يجوز عقد الإحرام إلّا في الحرم ، وعليه العمل في كلّ زمان. فلو جاز تأخير عقد الإحرام عن الحرم بشبر أو أقلّ لجاز تأخيره إلى أن يدخل مكّة ، فيسلم من مشقّة الإحرام من ذي الحليفة وخطر تكاليفه وكفّاراته.

وناهيك بحجّة الوداع فإنها من أوضح الأدلّة على جواز الإحرام من جميع ذلك الوادي ، فتأمّلها. ونقل الأخبار في ذلك ممّا يطول مع ظهورها.

ولنا في بيان المسألة رسالة مفردة بحمد الله ، فقد اشتملت على جملة من الأخبار وصحيح الاعتبار ، فراجعها.

والجُحفة (٧) : لأهل المغرب والشام.

__________________

(١) المقنعة ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) ١٤ : ٣٩٤.

(٢) مصباح المتهجّد : ٦١٧.

(٣) من المصدر ، وفي المخطوط : ( مسجد ).

(٤) التنقيح الرائع ١ : ٤٤٧.

(٥) وسائل الشيعة ١٢ : ٣٩٦ ـ ٣٩٨ ، أبواب الإحرام ، ب ٤٦.

(٦) وسائل الشيعة ١١ : ٢٧٥ ، أبواب أقسام الحج ، ب ١٢.

(٧) الجُحفة بالضم ـ : ميقات أهل الشام ، وكانت قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلاً من مكّة ، وكانت تسمّى مهيعة .. فجاءها سيل الجحاف فاجتحفهم ، فسمّيت الجحفة. القاموس المحيط ٣ : ١٧٩ الجحفة.

٢٠٢

والعقيق (١) : لأهل العراق.

وقرن المنازل (٢) : لأهل الطائف.

ويلملم (٣) : لأهل اليمن.

ومن كان منزله أقرب من هذه المواقيت إلى مكّة فمحرمه منزله.

أمّا الخمسة الأُول ، فإجماع أهل البيت وأتباعهم في كلّ عصر فتوًى وعملاً ، والنصوص به مستفيضة بالغة نهاية الاشتهار ، متكثّرة متكرّرة في الأُصول المعتمدة.

وأمّا السادس فالنصّ والإجماع على أن دويرة الأهل بشرط الأقربيّة في الجملة محرم. ولكن هل المعتبر أقربيّتها إلى مكّة ، أو إلى عرفة؟ قولان ، أصحّهما الأوّل وهو المشهور ، ويدلّ عليه الأخبار المستفيضة ، ففي صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال من تمام الحجّ والعمرة أن تحرم من المواقيت التي وقّتها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا تجاوزها إلّا وأنت محرم ؛ فإنه وقّت لأهل العراق بطن العقيق ، ووقّت لأهل اليمن يلملم ، ووقّت لأهل الطائف قرن المنازل ، ووقّت لأهل المغرب الجحفة وهي : مهيعة ووقّت لأهل المدينة ذا الحليفة. ومن كان منزله خلف هذه المواقيت ممّا يلي مكّة فوقته منزله (٤).

وصحيحته أيضاً عنه عليه‌السلام أنه قال من كان منزله دون الوقت إلى مكّة ، فليحرم من منزله (٥).

وفي حديث آخر إذا كان منزله دون الميقات إلى مكّة ، فليحرم من دويرة أهله (٦).

__________________

(١) العقيق : كلّ مسيل شقّه الماء ، وهو ستّة مواضع منها عقيق المدينة ، وهو عقيقان : أكبر وهو : ممّا يلي الحرّة إلى قصر المراجل وأصغر ، وهو : ما سفل عن قصر المراجل. القاموس المحيط ٣ : ٣٨٥ العقيق ، معجم البلدان ٤ : ١٣٨ ـ ١٣٩ العقيق.

(٢) قرن المنازل : جبيل قرب مكّة يحرم منه حاجّ نجد ، معجم البلدان ٥ : ٢٠٢.

(٣) يلملم : ألملم : موضع على ليلتين من مكّة. وهو ميقات أهل اليمن ، وفيه مسجد معاذ بن جبل ، وقيل : هو جبل بالطائف على ليلتين أو ثلاث. وقيل : هو وادٍ هناك. معجم البلدان ٥ : ٤٤١.

(٤) الكافي ٤ : ٣١٨ / ١ ، وسائل الشيعة ١١ : ٣٠٨ ، أبواب المواقيت ، ب ١ ، ح ٢.

(٥) تهذيب الأحكام ٥ : ٥٩ / ١٨٣ ، وسائل الشيعة ١١ : ٣٣٣ ـ ٣٣٤ ، أبواب المواقيت ، ب ١٧ ، ح ١.

(٦) تهذيب الأحكام ٥ : ٥٩ / ١٨٤ ، وسائل الشيعة ١١ : ٣٣٤ ، أبواب المواقيت ، ب ١٧ ، ح ٢.

٢٠٣

وخبر مِسْمَعٍ القويّ عنه عليه‌السلام أنه قال إذا كان منزل الرجل دون ذات عرق إلى مكّة ، فليحرم من منزله (١).

وخبر أبي سعيد القويّ (٢) : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عمن كان منزله دون الجحفة إلى مكّة قال يحرم منه (٣).

وخبر رَبَاح بن أبي نصر : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يروون أن علياً عليه‌السلام قال إنّ من تمام حجِّك إحرامك من دويرة أهلك.

فقال سبحان الله لو كان كما يقولون لم يتمتّع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بثيابه إلى الشجرة ، وإنما معنى دويرة أهله : من كان أهله وراء الميقات إلى مكّة (٤).

وبالجملة ، فالأخبار بهذا مستفيضة ، ولا دليل على اعتبار القرب إلى عرفات. فمقابلتها بمثل أنه لا يجب المرور بمكّة على الحاجّ ، وأن أهل مكّة يخرجون من هذا لوجوب المغايرة بين الأقرب إليها وبينها ، فإن الثابت بالنصّ لا يردّه عدم وجوب مرور الحاجّ بمكّة ؛ إذ لا ملازمة بين كون من كان منزله أقرب إلى مكّة فميقاته منزله ، وبين عدم وجوب المرور بها على الحاجّ بوجه ، فلا يرتّب أحد الحكمين المتباينين من كلّ وجه على الآخر.

وأمّا لزوم خروج أهل مكّة فغير ضائر بالحكم المبحوث عنه ؛ فإنه إذا ثبت ذلك لمن كان منزله أقرب إليها من الميقات ثبت لأهلها بطريق أوْلى. على أن كون ميقات حجّ أهل مكّة ثابت بالنصّ والإجماع ، فلا يضرّ خروجهم عن تلك الأخبار لو سلّم.

والظاهر أنه يكفي صحّة الحكم بجواز الإحرام من دويرة الأهل كونها أقرب إلى

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٥ : ٥٩ / ١٨٥ ، وسائل الشيعة ١١ : ٣٣٤ ، أبواب المواقيت ، ب ١٧ ، ح ٣.

(٢) القويّ : وهو الحديث الذي خرج عن الصحيح والحسن والموثّق ، ولم يدخل في الضعيف. وهو أقسام منها الأعلى والأوسط والأدنى ، ومنها القوي بالمعنى العام ، وبالمعنى الأخصّ ، والقويّ كالحسن ، والقويّ كالموثق ، والقويّ كالصحيح ، والمحتمل الصحة ، والمحتمل الموثّقيّة والمحتمل الحسن. انظر مقباس الهداية ١ : ١٣٧ ـ ١٧٧ ، ٥ : ١٣٥ ـ ١٦١.

(٣) تهذيب الأحكام ٥ : ٥٩ / ١٨٦ ، وسائل الشيعة ١١ : ٣٣٤ ، أبواب المواقيت ، ب ١٧ ، ح ٤.

(٤) تهذيب الأحكام ٥ : ٥٩ / ١٨٧ ، وسائل الشيعة ١١ : ٣٣٤ ، أبواب المواقيت ، ب ١٧ ، ح ٥.

٢٠٤

مكّة من الميقات الذي في جهتها ، لا من جميع المواقيت. فلو كان منزله ممّا يلي الشجرة ، وكان أقرب إلى مكّة منها ، صحّ إحرامه منه وإن كان غير الشجرة أقرب إلى مكّة من منزله ؛ لإطلاقات الأخبار ، ولخصوص مثل قويّة أبي سعيد المتقدّمة ، حيث وقع السؤال فيها عمّن كان منزله أقرب إلى مكّة من الجحفة ، ولا معارض لها.

وقويّة مِسْمَع التي مرّت ، المتضمّنة لصحّة إحرام من كان منزله أقرب من ذات عرق ، لا تنافي ذلك ؛ لعدم الحصر في مثله. والله العالم.

وإن كان منزله ليس في جهة محرم كغربيّ مكّة اعتبر أقربيّته إليها من جميع المحارم ؛ لإطلاق مثل من كان منزله خلف هذه المواقيت ، ومن كان أهله وراء الميقات ، وشبههما ؛ ولأنه المتيقّن وفيه الحائطة.

وهذه المواقيت الستّة تشترك فيها العمرتان والحجّان بالإجماع والنصّ المستفيض (١) ، وقد سمعت بعضه.

وأدنى الحِلّ ميقات اضطراريّ للمتمتّع بها وللحجّين ، واختياريّ للعمرة المفردة ، فهو لها كأحد المحارم الستّة لكلّ نسك ، وقد صرّح بذلك جمع ، بل لا يظهر لي مفتٍ بردّه ، مع مسيس الحاجة له وعدم التقيّة فيه ، فلا خلاف يظهر فيه.

قال محمّد بن شجاع في ( معالم الدين ) : ( المواقيت ستّة : العقيق لأهل العراق ، ومسجد الشجرة لأهل المدينة اختياراً ، والجحفة اضطراراً ، وهي ميقات أهل الشام اختياراً ، ويلملم لأهل اليمن ، وقرن المنازل لأهل الطائف ، وميقات مَن منزله أقرب من الميقات منزلُه ، ومكّة لحجّ التمتّع وخارج الحرم للعمرة المفردة ، وموضع العذر للمعذور. ومن حجّ على ميقات غيره أحرم منه ، ولو خلا الطريق من ميقات أحرم عند محاذاة أحدهم ، فإن ظهر تقدّمه أعاد وإلّا أجزأ. ولو تعذّرت المحاذاة أحرم من أدنى الحِلّ. وهذه المواقيت للحجّ والعمرة ) ، انتهى. هذا كلامه في بحث أفعال الحجّ.

وقال في بحث حجّ الإفراد والقران : ( هو أن يحجّ ثمّ يعتمر ).

__________________

(١) انظر وسائل الشيعة ١١ : ٣٠٧ ، أبواب المواقيت ، و ١٤ : ٢٩٨ ، أبواب العمرة ، ب ٢.

٢٠٥

إلى أن قال : ( ثمّ يأتي بمناسك الحجّ إلّا الهدي ، ثمّ يعتمر. وتجب في العمر مرّة واحدة على الفور بشرائط الحجّ ، فلو استطاع لأحدهما وجب خاصّة على توقّف. وميقاتها ميقات الحجّ أو أدنى الحِلّ ، وأفضله الجعرانة (١) أو التنعيم (٢) أو الحديبية (٣) ، ولا تصحّ من الحرم إلّا لضرورة ) ، انتهى.

وقال الشيخ حسين آل عصفور في ( شرح المفاتيح ) بعد أن أورد جملة من الأخبار في أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اعتمر من أدنى الحلّ ـ : ( وبالجملة ، فالأخبار في أن الميقات للعمرة المفردة أدنى الحِلّ ، لمن خرج من مكّة إليها ، ولمن أراد أن يدخل مكّة من طريق لا يفضي إلى الميقات ، مستفيضة لكلّ معتمر ) ، انتهى.

وقال الخراساني في ( الكفاية ) : ( المقصد السادس في العمرة المفردة ).

إلى أن قال : ( ويجب فيها النيّة ، وفي كلام بعضهم : يجب الإحرام من الميقات أو من خارج الحرم؟ وخيّر في ( التذكرة ) (٤) و ( الدروس ) (٥) بين الإحرام من أدنى الحِلّ وأحد المواقيت التي وقّتها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي بعض روايات الأصحاب : أنه يحرم من أدنى الحلّ. والمراد بأقرب الحلّ إلى الحرم. فظاهر ( المنتهى ) (٦) أنه لا خلاف في جواز الإحرام من أدنى الحِلّ ) ، انتهى.

وقال الشيخ أحمد بن المتوّج في ( مجمع الفوائد ) : ( وصورة العمرة المفردة : النيّة والإحرام من الميقات ، وهو أدنى الحِلّ ، وأفضله الجعرانة ثمّ التنعيم ثمّ الحديبية ).

__________________

(١) الجعرانة بكسر الجيم ، وإسكان العين أو كسرها ـ : ماء بين الطائف ومكّة ، نزلها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا قسّم غنائم هوازن عند مرجعه من غزاة حنين ، وأحرم منها ، وله فيها مسجد. معجم البلدان ٢ : ١٤٢.

(٢) التَّنْعيم بالفتح ثمّ السكون وكسر العين ـ : موضع بمكّة في الحلّ ، ومنه يحرم المكّيّون بالعمرة. معجم البلدان ٢ : ٤٩.

(٣) الحُدَيبية بضمّ الحاء وفتح الدال ـ : قرية سمّيت ببئر هناك عند مسجد الشجرة التي بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تحتها ، وبينها وبين مكّة مرحلة ، وبين المدينة تسع مراحل. وبعضها الحديبية في الحلّ وبعضها في الحرم. معجم البلدان ٢ : ٢٢٩.

(٤) تذكرة الفقهاء ٧ : ١٩٤ / المسألة : ١٤٨.

(٥) الدروس ١ : ٣٤٢.

(٦) منتهى المطلب ٢ : ٦٦٨ ( حجريّ ).

٢٠٦

إلى أن قال : ( مسألة : ميقات العُمرة المفردة ميقات الحجّ أو خارج الحرم ، وأفضله الجعرانة ؛ لإحرام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بها ، ثمّ التنعيم ؛ لأمره بذلك ، ثمّ الحديبية ؛ لاهتمامه. ولو أحرم بها من الحرم لم يجز إلّا لضرورة ) ، انتهى.

وقال رئيس زمانه السيّد مهديّ في مصابيحه في بحث وجوه الفرق بين أنواع الحجّ ـ : ( السابع : محلّ الإحرام بالعمرة ، فإن المتمتّع يجب عليه أن يحرم بها من الميقات ، أو ما في حكمه مطلقاً ، بخلاف المفردة ، فإنه إنما يجب عليه ذلك لو مرّ عليها ، فلو كان في الحرم أحرم من أدنى الحِلّ ، وإن لم يكن من أهله ، ولم يجب عليه الخروج إلى الميقات إجماعاً ) ، انتهى.

وعبارته توهم أن أدنى الحِلّ ميقات اختياريّ لحجّ الإفراد ، فكونه كذلك للعمرة المفردة بطريق أوْلى ، وإن كان الظاهر أنه إنما أراد عمرة المفرد ؛ بقرينة صدر البحث. وعلى كلّ حال فهو صريح في أن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ للمفردة.

وقال الشهيد في مسالكه في بحث أفعال حجّ القرآن والإفراد في شرح قول المحقّق : ( يأتي بها من أدنى الحِلّ ) (١) يعني : عمرة الحجّ ـ : ( المراد بأدنى الحِلّ أقربه إلى الحرم وألصقه به ، والمعتبر منه ما قارب الحرم عرفاً. وفي كثير من كتب الفتاوى ميقاتها خارج الحرم ، وهو يشمل البعيد من الحِلّ والقريب. وفي ( التذكرة ) (٢) خيّر بين الإحرام من أدنى الحِلّ وبين الإحرام من أحد المواقيت ، ومثله في ( الدروس ) (٣) ، وكذا القول في كلّ عمرة مفردة. وفي إجزاء ما خرج من الحِلّ عن حدّ القرب عرفاً وعن أحد المواقيت نظر ) (٤) ، انتهى.

وهذا لا ينافيه قوله في كتاب العمرة من الكتاب في شرح قول المصنّف : ( وصورتها أن تحرم من الميقات الذي يسوغ الإحرام منه ) (٥). قال الشارح : ( هو أحد

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٢) تذكرة الفقهاء ٧ : ١٩٤ / المسألة : ١٤٨.

(٣) الدروس ١ : ٣٤٢.

(٤) مسالك الأفهام ٢ : ٢٠٢.

(٥) شرائع الإسلام ١ : ٢٧٤.

٢٠٧

المواقيت الخمسة إن مرّ بها ، أو منزله إن كان أقرب ، أو أدنى الحِلّ للمفردة إن كان في مكّة أو ما في حكمها ) (١) ، لأنه في معرض بيان أحوال العمرتين الواجبتين بأصل الشرع. فمراد الشارح بالمفردة : المفردة الواجبة بأصل الشرع ، وهي فرض أهل مكّة ومن في حكمها ، ولذا قال : ( و [ ما (٢) ] في حكمها ). فلا منافاة بين كلاميه. هكذا ينبغي أن يفهم كلامه فيصان عن التناقض.

وقال السيّد عليّ المعاصر وهو المرجع في زمانه في شرح ( النافع ) الصغير في شرح قول المحقّق في بيان المواقيت في كتاب الحجّ ، بعد أن ذكر المواقيت الستّة : ( لا يجوز من أراد النسك من الميقات إلّا محرماً ، ويرجع إليه لو لم يحرم منه ، فإن لم يتمكّن فلا حجّ له إن كان عامداً ) (٣) ـ : ( على الأشهر الأقوى ، وقيل : يحرم من موضعه إذا كان الحجّ عليه مضيّقاً. وإطلاق النصّ والمتن وجماعة يعمّ الإحرام للعمرة المفردة ، فلا يباح دخول مكّة حتّى يحرم من الميقات ، وبه صرّح بعض. ويضعف بأن أدنى الحِلّ ميقات اختياريّ لها ، غاية الأمر إثمه بتركه الإحرام من الميقات ) (٤) ، انتهى.

وكلامه هذا لا يكون إلّا فرع القول بأن من كان في طريقه محرمان ؛ كالشجرة والجُحفة ، وتعمّد ترك الإحرام من الأوّل وأحرم من الثاني أجزأ وأثم ، كما صرّح به جمع. والمطلوب من نقل كلامه تصريحه بأن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ للعمرة المفردة كأحد الستّة. وسيأتي إن شاء الله تحقيق مسألة التأخير من الأوّل إلى الثاني.

وقال الشيخ علي بن عبد العالي في منسك الحجّ ، بعد أن عدّد المواقيت الستّة : ( وميقات العمرة المفردة خارج الحرم ) ، انتهى.

وقال ابن سعيد في جامعه : ( وميقات المتعة العقيق لأهل العراق .. ، والجحفة

__________________

(١) مسالك الأفهام ٢ : ٤٩٣.

(٢) في المخطوط : ( من ).

(٣) المختصر النافع : ١٥٠ ، وفيه : ( لا يجاوز الميقات .. ).

(٤) الشرح الصغير ١ : ٣٤٢.

٢٠٨

لأهل الشام ، ولأهل المدينة مسجد الشجرة ، وعند الضرورة الجحفة ، وميقات أهل اليمن يلملم ، وأهل الطائف قرن المنازل ، ومن منزله دون هذه فميقاته منزله ، وميقات العمرة المفردة خارج الحرم ) (١) ، انتهى.

وقال الشهيد في ( الدروس ) في درس أفرده للعمرة ـ : ( تجب العمرة كالحجّ بشرائطه ).

إلى أن قال : ( ووقت المفردة الواجبة بأصل الشرع عند الفراغ من الحجّ وانقضاء أيّام التشريق ).

إلى أن قال : ( ووقت المندوبة جميع السنة ).

إلى أن قال بعد ذكر أفضلها وفضلها ، وقدر ما بين العمرتين ـ : ( وميقاتها ميقات الحجّ أو خارج الحرم ، وأفضله الجعرانة ؛ لإحرام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله منها ، ثمّ التنعيم ؛ لأمره بذلك ، ثمّ الحديبية ؛ لاهتمامه به. ولو أحرم بها من الحرم لم يجز إلّا لضرورة ) (٢) ، انتهى.

وقال ابن البرّاج في مهذّبه في باب ضروب العمرة : ( العمرة المتمتّع بها لا تصحّ إلّا في أشهر الحجّ ، والتي لا يتمتّع بها يجوز فعلها في شهور الحجّ وغيرها. وأفضل العمرة ما كان في رجب ، وقد ورد في شهر رمضان (٣). وصفتها أن يحرم المعتمر من خارج الحرم ويعقد إحرامه بالتلبية ، فإذا دخل الحرم قطعها ، فإن كان قد خرج من مكّة ليعتمر قطعها إذا شاهد الكعبة ) (٤) ، انتهى.

وقال العلّامة في ( التحرير ) في بحث العمرة : ( ميقات العمرة ميقات الحجّ لمن كان خارجاً من المواقيت إذا قصد مكّة ، أمّا أهل مكّة أو من فرغ من الحجّ وأراد الاعتمار فإنه يخرج إلى أدنى الحِلّ ، وينبغي أن يكون أحد المواقيت التي وقتها

__________________

(١) الجامع للشرائع : ١٧٧ ـ ١٧٩ ، باختلاف يسير.

(٢) الدروس ١ : ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

(٣) وسائل الشيعة ١٤ : ٣٠٤ ، أبواب العمرة ، ب ٤ ، ح ٢.

(٤) المهذّب ١ : ٢١١.

٢٠٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للعمرة المبتولة ) (١) ، انتهى.

وهو يعني بالمواقيت المؤقّت لها : الجعرانة والتنعيم والحديبيّة ، وهو صريح في أنها للعمرة المفردة اختياراً.

وقال العلّامة في ( الإرشاد ) في المطلب الذي عقده في أحكام العمرة المفردة ، بعد بيان أفرادها الواجبة بأصل الشرع وبالسبب : ( ويجب فيه النيّة والإحرام من الميقات أو من خارج الحرم ، وأفضله الجعرانة ثمّ التنعيم ثمّ الحديبية ) (٢).

وقال الخراساني في ( شرح الإرشاد ) بعد قول المصنّف : ( أو من خارج الحرم ) بلا فصل ـ : ( وخيّر في ( التذكرة ) (٣) و ( الدروس ) (٤) بين الإحرام من أدنى الحِلّ ، أو أحد المواقيت التي وقّتها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وظاهر ( المنتهى ) (٥) أنه لا خلاف في صحّة الإحرام بها من أدنى الحِلّ. ويدلّ عليه ما رواه ابن بابويه عن عمر بن يزيد في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام من أراد أن يخرج من مكّة ليعتمر ، أحرم من الجعرانة أو الحديبية وما أشبههما (٦) ) (٧) ، انتهى.

فانظر إلى فهمه من العبارة وغيرها ومن الصحيحة أن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ لجميع أفراد المفردة ، سواء كان خارجاً لها من الحرم أو قادماً من خارجه. ولو كان مراد القوم عنده خصوص من خرج من الحرم لها ، وكذا من الصحيحة ، لما حسن نقله عباراتهم ، ولا الاستدلال بالخبر عليها في هذا البحث في شرح هذه العبارة ، فإنها صريحة لا تقبل التأويل في أن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ للمفردة مطلقاً ، كما يهديك إليه المقام. وقد جمد عليه الشارح من غير مناقشة ولا نقل خلاف.

__________________

(١) تحرير الأحكام ١ : ١٢٩ ( حجريّ ).

(٢) إرشاد الأذهان ١ : ٣٣٧.

(٣) تذكرة الفقهاء ٧ : ١٩٤ / المسألة : ١٤٨.

(٤) الدروس ١ : ٣٤٢.

(٥) منتهى المطلب ٢ : ٦٦٨ ( حجريّ ).

(٦) الفقيه ٢ : ٢٧٦ / ١٣٥٠ ، وسائل الشيعة ١١ : ٣٤١ ، أبواب المواقيت ، ب ٢٢ ، ح ١.

(٧) ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد : ٦٩٧ ( حجريّ ).

٢١٠

وكلامه هذا ملخّص كلام ( المدارك ) (١) ، بل في ( المدارك ) احتمل كون أدنى الحِلّ محرماً اختياريّاً للمتمتّع بها ، إذا كان الناسك مجاوراً مكّة ولما ينتقل فرضه إلى القرآن والإفراد ، وله ظواهر جملة من النصوص. وجعل المصير إلى ما عليه الأصحاب من المنع منه أحوط.

فهذه عبارات الأصحاب تنادي بلسان إطلاقها أن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ لمطلق المعتمرين عمرة مفردة من غير فرق بين الخارج لها من الحرم وغيره ، بلا نقل خلافٍ ولا توقّف ولا استشكال. ولم نظفر بعبارة مصرّحة بأن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ لمن أراد الاعتمار بمفردة إذا خرج لها من الحرم دون من أرادها من خارجه.

وهذا لا ينافيه الحكم بأن من أراد دخول الحرم بعمرة مفردة ومرّ على ميقات لزمه الإحرام منه ، فإن ذلك متحقّق في كلّ من أراد النُّسك بحجّ أو عمرة ، فلو كان هذا ينافي كون أدنى الحِلّ محرماً اختياريّاً لها ، للزم من أن كلّ من مرّ على محرم من الخمسة وهو يريد النُّسك أنه محرمه الاختياري دون ما سواه منها ؛ لعدم جواز تجاوزه بغير إحرام ، ووجوب الرجوع إليه أو تجاوزه محلّاً دون ما سواه في قول.

وممّا يزيدك بياناً ما أطبقت عليه الفرقة بل الأُمّة فتوًى وعملاً في جميع الأعصار بلا نكير ، واستفاضت به نصوص أهل العموم والخصوص من غير تدافع ولا تنافر ، ونقل الإجماع به مستفيض. فإذن هو ملحق بالضروريات من أن من خرج من الحرم ليعتمر عُمرة مفردة ، جاز له أن يحرم بها من أدنى الحِلّ اختياراً. ولم نجد من صرّح بأن هذا من خصائصه دون النائي ، ولم نجد به خبراً. فإن هذا من أوضح الأدلّة على أن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ للعمرة المفردة مطلقاً.

فإن ادّعى أحد تخصيصه به طالبناه بالدليل على الفرق والتخصيص. ولو كان مختصّاً بمن خرج لها من الحرم لوقع بيانه في عموم ، أو خصوص ، أو إجمال ، أو

__________________

(١) مدارك الأحكام ٧ : ٢٠٧.

٢١١

عبارة ، أو إشارة ، أو فتوى ، فلمّا وجدنا النصّ والفتوى متطابقين على أن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ لمن أراد الاعتمار بها ممّن كان في الحرم ، ولم يبيّن الشارع لنا تخصيصه به كما بيّن تخصيصه مكّة لحجّ المتمتّع ولأهلها ، علمنا أن هذا عامّ لكلّ معتمر بمفردة ، وإلّا لوجب بيانه في الحكمة الإلهيّة ؛ لعموم البلوى وحذراً من الإغراء بما ليس مشروعاً. فتأمّل المقام والمقال ، واعرف الرجال بالحقّ ولا تعرف الحقّ بالرجال.

وأمّا الأخبار الدالّة على هذا غير ما أشرنا إليه فمنها صحيح معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال اعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاث عمر متفرّقات : عمرة في ذي القعدة ، أهلّ من عسفان ، وهي عمرة الحديبية. وعمرة أهلّ من الجحفة ، وهي عمرة القضاء. وعمرة أهلّ من الجعرانة ، بعد ما رجع من الطائف من غزوة حنين (١).

وخبر أبان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال اعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عمرة الحديبية وقضى الحديبية من قابل ، ومن الجعرانة حين أقبل من الطائف ، ثلاث عمر كلّها في ذي القعدة (٢).

وصحيح عبد الله بن الحجّاج : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إني أُريد الجوار ، فكيف أصنع؟ قال إذا رأيت الهلال هلال ذي الحجّة فاخرج إلى الجعرانة فأحرم بالحجّ.

إلى أن قال إن سفيان فقيهكم أتاني فقال : ما يحملك على أن تأمر أصحابك يأتون الجعرانة فيحرمون منها؟ فقلت له : هو وقت من مواقيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال : فأي وقت من مواقيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو؟ فقلت له : أحرم منها حين قسّم غنائم حنين ومرجعه من الطائف. فقال : إنما هذا شي‌ء أخذته من عبد الله بن عمر ، كان إذا رأى الهلال صاح بالحجّ ، فقلت : أليس قد كان عندكم مرضياً؟. قال : بلى ، ولكن [ أما علمت (٣) ] أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما أحرموا من المسجد؟. فقلت : إنّ أُولئك كانوا متمتّعين في أعناقهم الدماء ، وإنّ هؤلاء قطنوا مكّة فصاروا

__________________

(١) الكافي ٤ : ٢٥١ / ١٠ ، وسائل الشيعة ١٤ : ٢٩٩ ، أبواب العمرة ، ب ٢ ، ح ٢.

(٢) الكافي ٤ : ٢٥٢ / ١٣ ، وسائل الشيعة ١٤ : ٢٩٩ ، أبواب العمرة ، ب ٢ ، ح ٣.

(٣) من المصدر ، وفي المخطوط : ( أعلمت ).

٢١٢

كأنهم من أهل مكّة ، وأهل مكّة لا متعة لهم ، فأحببت أن يخرجوا من مكّة إلى بعض المواقيت ، وأن يستغبّوا بها أيّاماً. فقال لي وأنا أُخبره أنها وقت من مواقيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أبا عبد الله ، فإني أرى لك ألّا تفعل. فضحكت وقلت : ولكنّي أرى لهم أن يفعلوا (١) الخبر.

وصحيح الحنّاط : قال : كنت مجاوراً بمكّة ، فسألت أبا عبد الله عليه‌السلام : من أين أُحرم بالحجّ؟ فقال من حيث أحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الجعرانة (٢).

وفي ( الفقيه ) اعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاث عمر متفرّقات كلّها في ذي القعدة : عمرة أهلّ فيها من عسفان وهي : عمرة الحديبية وعمرة القضاء ، [ أحرم (٣) ] فيها من الجحفة ، وعمرة أهلّ فيها من الجعرانة ؛ وهي بعد أن رجع من الطائف من غزاة حنين (٤).

وبالجملة ، فإنا لا نعلم خلافاً بين الأُمّة في أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحرم بعد منصرفه من الطائف بالعمرة المفردة من الجعرانة ، وليس بخارج من الحرم لها بالضرورة ؛ لأن ذلك بعد واقعة هوازن ، ومضيّه بعدها إلى الطائف فحاصرها ، ثمّ رجع إلى الجعرانة ، وقسّم غنائم هوازن فيها ، ثمّ أحرم بالعمرة منها ودخل مكّة.

وفي تعليل الفقهاء أفضليّة الإحرام لمن أراد العُمرة ممّن هو في الحرم من الجعرانة ، بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحرم منها ، يعنون به تلك الواقعة ، دليلٌ على أنهم لا يشكّون في أن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ للمفردة ، سواء في ذلك الخارج لها من الحرم والداخل بها من خارجه ، ولم ينقلوا خلافاً ، ولا توقّفاً لأحد فيه ، ولا استشكال ؛ لأنهم كلّهم يعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اعتمر من الجعرانة وهو قادم من خارج الحرم ، ولعلّ تركه الإحرام فيها من قرن المنازل ؛ لأنه لم يكن حين مرّ به قاصداً دخول مكّة ، وإنما قصد الاعتمار بعد أن قسّم غنائم هوازن ، وفيه بيان أن

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٠٠ / ٥ ، وسائل الشيعة ١١ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨ ، أبواب أقسام الحجّ ، ب ٩ ، ح ٥.

(٢) الكافي ٤ : ٣٠٢ / ٩ ، وسائل الشيعة ١١ : ٢٦٨ ، أبواب أقسام الحجّ ، ب ٩ ، ح ٦.

(٣) من المصدر ، وفي المخطوط : « أهل ».

(٤) الفقيه ٢ : ٢٧٥ / ١٣٤١ ، وسائل الشيعة ١١ : ٣٤١ ، أبواب المواقيت ، ب ٢٢ ، ح ٢.

٢١٣

أدنى الحِلّ محرم اختياريّ للمفردة لا منه ، أو أنه أخذ طريقاً لا يمرّ به.

وبعد ما أشرنا له من الأخبار ، وما ذكرناه منها ومن عبائر أكابر العصابة بلا توقّف ولا نقل خلاف ولا استشكال ، لا ينبغي الريب في أن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ للمفردة كأحد الستّة بالنسبة للمتمتّع وللحجّ. بل ظاهر صحيح ابن الحجّاج (١) وصحيح الحنّاط (٢) أن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ للمتمتّع بها. ولكن لم يظهر لي عامل به إلّا ما يظهر من ( المدارك ) (٣) ومنسك الشيخ حسن ابن الشهيد من الميل إلى العمل بظاهرهما.

وعلى كلّ حال ، فهما وأمثالهما يرجّحان القول بأن الحاجّ والمتمتّع إذا لم يمرّا بمحرمٍ من الخمسة ولم يحاذيا أحدها ، فمحرمها أدنى الحِلّ ، فتأمّله.

تنبيه

قال الشيخ فخر الدين في ( مجمع البحرين ) : ( في الحديث أنه نزل الجعرانة ، هي بتسكين العين والتخفيف ، وقد تكسر وتشدّد الراء موضع بين مكّة والطائف على سبعة أميال من مكّة ، وهي إحدى حدود الحرم وميقات للإحرام ) (٤) ، انتهى.

وفي ( المصباح ) حدّدها بسبعة أميال أيضاً (٥).

وفي ( القاموس ) أنها موضع بين مكّة والطائف (٦).

وعُسْفان قال في ( القاموس ) : ( عسفان كعثمان ـ : موضع على مرحلتين من مكّة ) (٧).

وفي ( المصباح ) : ( عسفان : موضع بين مكّة والمدينة ، يذكّر ويؤنث ، ويسمّى في

__________________

(١) انظر : ص ٢٠٨ هامش ٤.

(٢) الكافي ٤ : ٣٠٢ / ٩ ، وسائل الشيعة ١١ : ٢٦٨ ، أبواب أقسام الحجّ ، ب ٩ ، ح ٦.

(٣) مدارك الأحكام ٧ : ٢٠٧.

(٤) مجمع البحرين ٣ : ٢٤٧ جعر.

(٥) المصباح المنير : ١٠٢ جعر.

(٦) القاموس المحيط ١ : ٧٢٧ الجعرانة.

(٧) القاموس المحيط : ٣ : ٢٥٤ عسفان.

٢١٤

زماننا مدرج عثمان. بينه وبين مكّة ثلاث مراحل ) (١).

وفي ( مجمع البحرين ) (٢) أن بينه وبين مكّة مرحلتين.

وفي ( المصباح ) : ( المرحلة : المسافة التي يقطعها المسافر في نحو يوم ) (٣).

وفي الصحيح عن زرارة : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل ـ ( ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) (٤). قال يعني : أهل مكّة ليس عليهم متعة ، كلّ من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلاً ذات عرق وعسفان كما يدور حول مكّة ، فهو ممّن دخل في هذه الآية ، وكلّ من كان أهله وراء ذلك فعليه المتعة (٥).

وظاهر هذا الخبر أن عُسْفان على ثمانية وأربعين ميلاً من مكّة كذات عرق.

هذا وأنت خبير بأن من بدا له أن يدخل مكّة ممّن كان في جدّة وتجدّد له العزم على دخولها ، فإنه يحرم من أدنى الحِلّ إذا أراد دخولها بالمفردة في سائر الأعصار ، من غير نكير من أحد من المسلمين من الخاصّة والعامّة.

__________________

(١) المصباح المنير : ٤٠٩ عسف.

(٢) مجمع البحرين : ٥ : ١٠٠ عسف.

(٣) المصباح المنير : ٢٢٣ رحل.

(٤) البقرة : ١٩٦.

(٥) تهذيب الأحكام ٥ : ٣٣ / ٩٨ ، وسائل الشيعة ١١ : ٢٥٩ ، أبواب أقسام الحجّ ، ب ٦ ، ح ٣.

٢١٥
٢١٦

فصل

عدم جواز تقديم الإحرام على المواقيت

إذا عرفت هذا فاعلم أن من قصد مكّة لإحدى العمرتين ، أو حجّ الإفراد أو القرآن ، فإن مرّ على أحد المواقيت الخمسة الأُول وهي : ذو الحُلَيفة ، والجحفة ، والعقيق بدرجاته الثلاث ، وقرن المنازل ، ويلملم وجب عليه الإحرام منه وإن لم يكن وقت أهله ، كالمدني يمرّ بيلملم وشبهه ، لا يجوز له أن يتجاوزه إلّا محرماً عاقداً إحرامه بما ينعقد به من التلبياتِ الأربعِ ، والإشعار والتقليدِ بالإجماع والنصوص (١) المتعدّدة المتنوّعة.

وكذا من كان محرمه دويرة أهله إذا مرّ بمنزله ، فلو لم يمرّ بمحرم فإن كان يريد النسك بعمرة التمتّع أو أحد نوعي الحجّ أحرم من مكان يحاذي أوّل محرم يحاذيه ؛ لظاهر صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال من أقام بالمدينة وهو يريد الحجّ شهراً ، ثمَّ بدا له أن يخرج في غير طريق المدينة ، فإذا كان حذاء الشجرة مسيرة ستّة أميال فليحرم منها (٢).

ولا فرق بين المواقيت في ذلك ولا خصوصيّة تظهر للشجرة في ذلك ، ولا قائل بتخصيصه بذلك فيما علمنا.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١ : ٣٣١ ـ ٣٣٢ ، أبواب المواقيت ، ب ١٥.

(٢) الكافي ٤ : ٣٢١ / ٩ ، وسائل الشيعة ١١ : ٣١٧ ـ ٣١٨ ، أبواب المواقيت ، ب ٧ ، ح ١ ، وفيهما : « من أقام بالمدينة شهراً ، وهو يريد الحجّ ، ثمّ بدا له أن يخرج في غير طريق أهل المدينة الذي يأخذونه ، فليكن إحرامه من مسيرة ستّة أميال ، فيكون حذاء الشجرة من البيداء ».

٢١٧

وظاهره أنه يَحرمُ عند محاذاة أقرب ميقات إلى طريقه ، وأيضاً ما زاد عن ذلك فهو مسافة لا يجوز له قطعها لو أتى المحرم إلّا محرماً على المشهور ، وما حاذاه حال تعذّر المرور عليه قائم مقامه ، فهو محرم بمنزلته وإن خصّ بتلك الحال. وليس للأصحاب دليل على صحّة الإحرام بالمحاذاة إذا لم يمرّ بنفس الوقت إلّا هذا الخبر ، فالقول بأنه حينئذٍ يحرم عند محاذاة أقرب المواقيت إلى مكّة ضعيف (١) ؛ لعدم الدليل عليه من نصّ أو إجماع.

وما ربّما يقال من أن الأصل براءة الذمّة من التكليف بأكثر من تلك المسافة ، فمعارض بأن الدليل المرخّص للإحرام إنما دلّ على ذلك. فإذن يقين البراءة لا يحصل بدونه ، وقياس غيره عليه غير مقبول إلّا بدليل ، ولا دليل على التأخّر إلى محاذاة غيره. وأيضاً ثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقّت مواقيت للحجّ والعُمرة مخصوصة معلومة ؛ فانقلب الأصل بهذا إلى عدم صحّة الإحرام إلّا منها إلّا أن يدلّ عليه دليل ، ولا دليل على صحّة الإحرام بعد محاذاة المحرم وتأخيره إلى محاذاة ما هو أقرب منه.

قال السيّد في ( المدارك ) بعد أن أورد صحيحة ابن سنان المتقدّمة : ( ومقتضى العبارة يعني عبارة الشرائع أن المراد بالميقات الذي يجب الإحرام عند محاذاته أقرب المواقيت إلى مكّة ، واعتبر العلّامة في ( المنتهى ) (٢) الميقات الذي هو أقرب إلى طريقه ، وحكم بأنه إذا كان بين ميقاتين متساويين في القرب إليه تخيّر في الإحرام من أيّهما شاء ، اقتصاراً فيما خالف الأصل على موضع الوفاق ) (٣) ، انتهى.

فقد دلّت عبارة ( المنتهى ) على أن الأصل يقتضي تكليفه بالإحرام عند محاذاة أقربها إلى طريقه. ولعلّ وجهه ما قرّرناه.

ولكن بقي في العبارة شي‌ء هو أن قوله : ( إن العلّامة في ( المنتهى ) حكم بأنه إذا

__________________

(١) قواعد الأحكام ١ : ٧٩ ( حجريّ ) ، مسالك الأفهام ٢ : ٢١٦.

(٢) منتهى المطلب ٢ : ٦٧١.

(٣) مدارك الأحكام ٧ : ٢٢٣.

٢١٨

كان بين ميقاتين ) إلى آخرها ، إن كان السيّد فهم منها التخيير حينئذٍ في الإحرام بالمحاذاة مع فرض التساوي ، فمعناه غير واضح ، إنما يتمّ فرض التساوي حال المحاذاة إذا كان بينهما. وحينئذٍ فلا معنى للتخيير ؛ لأن محاذاة أحدهما تستلزم محاذاة الآخر. وإن كان معناها في الإحرام من نفس الوقت فلا يناسب ذكرها في هذا المقام ، فتأمّل.

هذا ، والأحوط الأوْلى ألّا يحرم بالمحاذاة إلّا مع تعسّر الإحرام من نفس أحد المواقيت ؛ لأن جمعاً من العلماء لم يتعرّضوا للإحرام بالمحاذاة ، وأعرضوا عن الرواية ، خصوصاً محاذاة غير الشجرة ؛ لعدم ورود دليل يعمّ غيرها أو يخصّه.

هذا ، والظاهر أنه لو قصد محرماً منها عينه لم يتحتّم عليه الإحرام بمحاذاة من سبقت محاذاته ؛ لأخبار جواز تأخير الإحرام من الشجرة إلى الجحفة للمعذور (١) ، مع لزوم محاذاته الشجرة ، بل لا يبعد عدم صحّة إحرامه حينئذٍ ؛ للأصل ، وهذه الأخبار الآمرة بتأخير إحرام المعذور إلى الجحفة. والصحّة لا دليل عليها ، فيتعيّن التأخير إلى الوقت الثاني. وإن لم يمرّ بأحد المواقيت المذكورة ولم يحاذِ أحدها أحرم من أدنى الحِلّ إذا شقّ عليه الرجوع لأحدها ، أو محاذاته عند مشقّة الوصول إلى عينه ؛ لأنه محرم اضطراريّ له بالنصّ (٢) والإجماع ، ولأنه محرم اختياريّ للمفردة ، ولأن ما مرّ من الأخبار دلّ بعضها على أنه وقت من مواقيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الجملة.

وقيل (٣) : يُحرم من بعد أقرب المواقيت إلى مكّة ، واحتجّ له بأنها مسافة لا يجوز له قطعها. واعترضه في ( المدارك ) بأن قولهم : ( إن هذه المسافة لا يجوز لأحد قطعها إلّا محرماً ) في موضع المنع ؛ لأن ذلك إنما يثبت مع المرور على الميقات لا مطلقاً (٤) ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١ : ٣١٦ ، أبواب المواقيت ، ب ٦.

(٢) وسائل الشيعة ١١ : ٣٢٨ ـ ٣٣١ ، أبواب المواقيت ، ب ١٤.

(٣) انظر مسالك الأفهام ٢ : ٢١٦.

(٤) مدارك الأحكام ٧ : ٢٢٤.

٢١٩

انتهى ، وهو حسن.

هذا كلّه في المعتمر عمرة التمتّع والحاجّ قراناً أو إفراداً ، أمّا من يريد العُمرة المفردة فإن مرّ على محرم من الستّة وجب عليه الإحرام منه ، وإلّا أخّر إحرامه إلى أدنى الحِلّ ؛ لأنه وقت اختياريّ لها ، ولا يجوز الإحرام من غير الوقت مع المرور به اختياراً ، فلو قصد رجل قادم من اليمن المدينة مثلاً ومرّ على يلملم وهو غير قاصد مكّة ، لم يجب عليه الإحرام ، بل لا يجوز له ولو وطئ الحرم برجله إجماعاً قولاً وفعلاً حتّى من المعصوم ؛ فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ عام بدر على ذي الحُلَيفة ولم يحرم ، وكذا عام هوازن مرّ على قرن المنازل ، بحسب الظاهر حين منصرفه من حصار الطائف ؛ لأنه كان قاصداً للجعرانة لا مكّة.

ثمّ لو بدا له بعد أن وصل جدّة مثلاً دخول مكّة بمفردة ، فإنه يجوز له حينئذٍ الإحرام من أدنى الحِلّ ، ولا يجب عليه الرجوع إلى يلملم ولا غيره من الخمسة ، بل من الستّة لو كان محرمه دويرة أهله ، وإن رجع إلى أحدها فلا بأس ، بل هو أفضل إن استلزم زيادة المشقّة في التكليف.

ولو مرّ من يريد دخول مكّة على أحدها ونسي أن يحرم منه ، أو نسي الحكم أو نسي المحرم أو تركه جهلاً بالحكم أو بالمحرم ، فإن كان غرضه المتمتّع بها أو الحجّ وجب عليه الرجوع لأحدها ، لا خصوص ما فارقه محلّاً ؛ لأن كلّا من الخمسة محرم لكلّ من مرّ به بالإجماع والنصوص المتنوّعة الأسناد.

ولا دليل على وجوب الرجوع لما فارقه بعينه وعدم إجزاء الإحرام من غيره ، بل ظاهر الأخبار الآمرة لمن نسي الإحرام حتّى دخل الحرم بالرجوع إلى مَهَلّ أهل بلده ، وغيرها صريح في عدم وجوب الرجوع لخصوص ما فارقه وفي صحّة الإحرام من غيرها منها ، فينبغي الجزم بذلك. وإن كان غرضه المفردة جاز الرجوع إلى أحد الخمسة والتأخير إلى أدنى الحِلّ ؛ الجعرانة أو غيرها ؛ لأنه محرم اختياريّ لها كأحد الخمسة.

٢٢٠