رسائل آل طوق القطيفي - ج ٢

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

هاشم : مثلاً في غابر الأزمان ، فقد دلّ الدليل على إرادته الشمول ، فيتبع القصد ؛ إذ لا يمكن أن يريد من أوصى أو وقف في زماننا ، أو نذر لبني هاشم : مثلاً إرادة ولد الصلب. فلو كان ذلك في زمن وجود ولده اتّبع القصد إن ظهر ، وإلّا منع ولد ولده.

والجواب عن باقي الأدلّة أن شمول حكم الأولاد لولدهم فنازلاً ثبت بدليل من نصّ (١) وإجماع ، أو نصّ أو إجماع. ولو خُلّينا وظاهر الآيات لم نُعدّ حكم الأولاد لأولادهم. وإنما ثبتت تلك الأحكام لولد الولد بالوراثة بعد أن قام الدليل من خارج على أنهم ورثوا تلك الأحكام والصفات من آبائهم ، فإنما هي أحكام آبائهم وصفاتهم ورثها منهم أبناؤهم بدليل.

ولعلّ السرّ في ذلك وشبهه ممّا قام الولد فيه مقام أبيه من أحكام الشريعة وهي أكثر ممّا ذكر بكثير أن الولد يرث من أبيه أكثر أحواله وأحكامه وصفاته وخواصّه ، جنساً ونوعاً ، وصنفاً وصفةً ، وطبيعةً ولوناً ، وخَلقاً وخُلقاً. حتّى إنه يتلوّن نفسه وجسده وطبيعته بأفكار أبيه وأُمّه وتصوّراتهما حال الوقاع ، حتّى إن صورته الجسدانيّة تنفعل بذلك ، كما يظهر لمن له ملاحظة في الإلهيّ والطبيعيّ. سبحان الأحد الصمد الذي لم يلد فيكون موروثاً.

ووراثة ابن الولد لجدّه حكماً أو صفةً أو سببيّة أو مسببيّة لا تدلّ على أنه ولد لجدّه حقيقة لغويّة ، وإنما تدلّ على أنه ولد لأبيه حقيقة ، وكلّ ما ورثه من جدّة فإنما هو تلقّاه ووصل إليه بواسطة أبيه. تفكّر في قولهم عليهم‌السلام ورثناه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وفيما ورد في كيفيّة نزول الأوامر الإلهيّة على إمام كلّ زمان فإنه يتلقّاها من أبيه. وهكذا فإنها إنما تَرِد أوّلاً على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ، ثمّ منه إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام : ، وهكذا حتّى تَرِد على إمام الزمان من الذي قبله. فإنها تشعرك أن وراثة الولد من جدّه مجاز أي بواسطة أبيه وإن كانت وراثة أهل البيت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّهم حقيقة ، لكنّها

__________________

(١) انظر وسائل الشيعة ٢٦ : ١١٠ ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب ٧.

(٢) الكافي ١ : ٢٢٥ / ٣ ـ ٤ ، وفيهما : « وإنّا ورثنا محمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ».

٤٠١

بمقام أعلى من ذلك هو مقام أنهم نور واحد فاض من الواحد.

هذا كلّه ، مضافاً إلى أنه لم يثبت القول بأن إطلاق الولد يشمل ولد الولد حقيقة للسيّد : ولا للمصريّ : ولا للحسن : ، وإنما ثبت القول به لابن إدريس (١) : خاصّة.

أمّا السيّد ، فإنما نقل القول به عنه في بعض المسائل كما في ( كشف اللثام ) (٢) ، وأمّا كتبه المشهورة فلم يصرّح فيها بذلك. وأمّا الحسن : ، فنقل عنه القولان (٣) ، ولعلّه عدل عن هذا ولا أقلّ من الاحتمال. وأمّا معين الدين : ففي ( كشف اللثام ) (٤) أنه حكي عنه القول بذلك ، وهو يدلّ على أنه لم يثبت عنه القول بذلك.

فعلى هذا تكون المسألة إجماعيّة ، وخلاف ابن إدريس : غير مضرّ به.

خلاصة القول

ثمّ نرجع إلى الكلام في أصل المسألة المبحوث عنها ، فنقول : ظاهر الأخبار (٥) وفتاوى العصابة (٦) اختصاص الحبوة بولد الصلب ؛ لأن المشهور كما عرفت على أن إطلاق الولد لا يتناول ولد الولد. ولم ينقلوا في المسألة خلافاً فيما علمنا.

فلو كان في المسألة خلاف للقائل بأن الولد يشمل ولد الولد حقيقة ، وقائل بأن ولد الولد يحبى من تركة جدّه ، لنقل كما نقل الخلاف في مسألة إرث أولاد الأولاد : هل يقتسمون تركة جدّهم تقاسم أولاد الصلب ؛ أو لكلّ نصيب أبيه؟ وغيرها.

فالظاهر أن المسألة اتّفاقيّة ، ولم نظفر بقائل بتعديتها لولد الولد ، ولا محتمل له احتمالاً إلّا الفاضل : في ( كشف اللثام ) ، حيث قال : ( الظاهر اختصاص ولد الصلب

__________________

(١) السرائر ٣ : ٢٤٠.

(٢) كشف اللثام ٢ : ٢٩٠ ( حجريّ ).

(٣) نقل القول الأوَّل وهو الموافق للسيّد رحمه‌الله في الحدائق الناضرة ١٢ : ٣٩٤ ، ونقل القول الثاني في مختلف الشيعة ٩ : ٢٨ / المسألة : ١.

(٤) كشف اللثام ٢ : ٢٩٠ ( حجريّ ).

(٥) الوسائل ٢٦ : ٩٧ ـ ١٠٠ ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب ٣.

(٦) انظر : إرشاد الأذهان ٢ : ١٢٠ ، مفتاح الكرامة ٨ : ١٣٤.

٤٠٢

بها ، كما هو نصّ ( الإرشاد ) (١) ، اقتصاراً في خلاف الأصل على اليقين المتبادر من النصوص. ويحتمل العموم بناءً على عموم الولد حقيقة ) (٢) ، انتهى.

وهو احتمال ساقط ؛ لاختصاصه به فيما ظهر ، إلّا إنه يؤذن بعدم الخلاف في المسألة.

ولا ريب أن ظاهر الأخبار والأصحاب اختصاص الحبوة بولد الصلب من غير خلاف ؛ إذ يتعيّن حمل عبارة من أطلق القول بأنه يحبى الولد الأكبر من تركة أبيه على ولد الصلب ؛ لأن المعروف من المذهب أنه لا يطلق حقيقة إلّا على ولد الصلب ، كما عرفت.

ولأنه لو أُريد بالأخبار المطلقة كذلك ما يعمّ ولد الولد ولو مجازاً لدلّوا عليه بعبارة أو إشارة أو فحوى ؛ إذ لا تكليف إلّا بعد البيان. وإذا لم يوجد في الأخبار ما يدلّ عليه بوجه مع أن الحكم على خلاف الأصل ، وخلاف ظاهر الكتاب الذي هو الحجّة بين الله وخلقه ، [ و ] قرين الإمام لم يمكن القول به. وحمل إطلاقات الأخبار بحبوة الولد الأكبر على ما يعمّ ولد الولد ، ولما فيه من الاحتياط وتقليل تخصيص الكتاب وإطلاقات أخبار سهام المواريث وفروضها. بل الظاهر أن المسألة إجماعيّة.

إذا عرفت هذا ، فنقول : قول صاحب السؤال زاده الله بصيرة في العلم والعمل ـ : ( لو قال قائل إلى قوله ـ : أو محتسبة ).

أقول : لا فائدة مهمّة في ذكر الاختلاف في كيفيّة الحبوة وشرائطها وأحكامها في معرض البحث عن تعدية الحبوة لولد الولد.

قوله : ( محتجّاً بالإجماع على إرادته إلى قوله ـ : وإن لم يكن له ولد ).

أقول : الإجماع على إرادته من الآيات المذكورة ممنوع ، والسند ما عرفت. وكيف يكون إجماعاً وقد صرّح كثير بل الأكثر أن تلك الأحكام إنما تعدّت لولد الولد

__________________

(١) إرشاد الأذهان ٢ : ١٢٠.

(٢) كشف اللثام ٢ : ٢٩١ ( حجريّ ).

٤٠٣

بدليل من خارج ، وإنّا لو خُلّينا وظاهر تلك الآيات لقصرنا الحكم على ولد الصلب؟

ولو سلّمنا إرادته منها لم يدلّ على المدّعى ؛ لجواز إرادة ما هو أعمّ من الحقيقة والمجاز ، وهو القدر المشترك بينهما وهو مجاز. ولا منع من استعمال اللفظ فيما هو أعمّ من حقيقته ومجازه مجازاً ، وهذا هو المسمّى بعموم المجاز. وما ورد في تفسيرها بما يعمّ ولد الولد دليل إرادة ما هو أعمّ من حقيقتها ومجازها ؛ فهو مجاز ، والقرينة عليه تلك الأخبار.

وبالجملة ، فإرادته من تلك الآيات لا يدلّ على أنه حقيقة فيهما بوجه.

وأمّا ما ذكره من الأخبار التي فيها إنا لولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، فقد عرفت الجواب عنها. فليس فيما ذكره حرسه الله دلالة على أن الولد حقيقة فيهما معاً ، مقول بالتشكيك عليهما كما قال حرسه الله بل لا دلالة على مطلق الاشتراك فيها بوجه ، فضلاً عن خصوص المقوليّة بالتشكيك.

على أنا لو سلّمنا أنه مقول عليهما بالتشكيك لوجب صرف الإطلاقات من الآيات والروايات وعبارات العلماء إلى أكمل الفردين ، وهو الولد للصلب ؛ لأنه المتيقّن ، خصوصاً في مقام الشكّ ومخالفة الأصل ، كما في مسألة الحبوة.

فظهر إرادة ولد الصلب خاصّة من الولد في روايات الحبوة دون ولد الولد ، ولم نحتج إلى طلب المخصّص ؛ لعدم العموم. وطلب المخصّص إنما يلزم بعد تسليم العموم ، ولا دليل على العموم بل هو قائم على عدمه ، والاستعمال أعمّ من الحقيقة.

وقوله سلّمه الله تعالى ـ : ( ولو قال قائل : المخصّص هو العرف العام .. إلى قوله ـ : فوجب القبول ).

فيه :

أوّلاً : أن التخصيص بالعرف أو غيره فرع ثبوت العموم ، ولا عموم كما عرفت. مع أنه لا ريب أن العرف العام يبيّن الإجمال ، ويقيّد الإطلاق ويخصّص العموم. كلّ ذلك

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ : ٣٢١ ، بحار الأنوار ١٠١ : ٣٦٣ / ١٣ ، وفيهما : « ولأنا ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ».

٤٠٤

عند الاشتباه وفقدان الدليل على إرادة غير ما يقتضيه ؛ لأنهم عليهم‌السلام إنما يخاطبون الناس بما يعقلون ويفهمون ؛ إذ لا تكليف إلّا بعد البيان ، ولا يمكن حصر ما أحالوا بيانه على العرف العام من الأحكام.

وفيه أيضاً أن دفع الإحالة على العرف العام بما بيّنوه في الأخبار المذكورة لا يظهر وجه ابتنائه على أن الخطابات الشرعيّة من قبيل الخطاب الشفاهيّ.

وقد بان بهذا جواب قوله حرسه الله ـ : ( على أنا نقول ) إلى آخره.

قد ظهر جوابه ممّا قرّرناه ، مع أن فيه : أن قول القائل بوجوب صرفها إلى الظاهر والاستعمال الشائع لا يبتني على أن أحاديثنا المرويّة في كتبنا ليست من الخطاب الشفاهيّ. على أنه إذا سلّم أن الظاهر والاستعمال الشائع في لفظ الولد خصوص ولد الصلب كان دليلاً على أنه الحقيقة ، وعلى أنه المراد من إطلاقات الأخبار ؛ لأنهم عليهم‌السلام لا يخاطبون الناس إلّا بما يعقلون.

ولأنا لو سلّمنا أنه حقيقة فيهما ، وكان الظاهر والاستعمال الشائع اختصاصه بولد الصلب ، لزم منه أن استعماله في ولد الولد مهجور غير متعارف ، وإن كان حقيقة فيه فلا يحمل عليه إلّا بدليل ، فإن ثبت الدليل وجب قبوله ، وإلّا لم يجز صرف إطلاقات الأخبار إليه ؛ لهجرانه بين المخاطبين ، فلا يخاطبون بما لا يعقلون.

وأمّا أن العرف العام لا يعتمد عليه في مقام العلم بإرادة الشمول فحقّ. لكن لا علم بإرادة الشمول في مسألة الحبوة ؛ لا على وجه الحقيقة ولا على وجه المجاز ، بل العلم حاصل بتخصيصه بولد الصلب ؛ لأنه الموضوع الحقيقيّ له لغةً وعرفاً وشرعاً وعقلاً فيما علمنا.

فقوله حرسه الله تعالى ـ : ( وقد عرفت ممّا نبّهناك عليه ) ذلك دعوى بلا برهان ، لا نعرف ممّا ذكره ذلك ، حتّى إنه لم يحصل ممّا ذكره حرسه الله قرينة توجب العدول ، أو التوقّف عن صرف اللّفظ عن موضوعه ، أو توهّم الشمول في مسألة الحبوة ، فضلاً عن أن يكون ما ذكره دليلاً على ذلك.

٤٠٥

هذا ما خطر بالبال ، والملتمس من الناظر التأمّل بعين الرضا ، ومنكم التسديد وبكم القدوة ، وعلى الله سبحانه التكلان ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم ، وصلّى الله على محمّد : وآله الطاهرين ، والحمد لله ربّ العالمين.

ختمت باليوم السابع عشر من شهر ربيع المولد سنة (١٢٤١).

تمّت بتوفيق الله على يد المذنب المخطئ الجاني

زرع بن محمّد علي بن حسين بن زرع :

عفا الله عنهم بمحمّد وآله المعصومين.

٤٠٦

الرسالة الخامسة عشرة

ضميمة طلب الثواب أو الهروب من العقاب في نيّة العبادة

٤٠٧
٤٠٨

بسم الله الرحمن الرحيم

ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليِّ العظيم ، وصلّى الله على محمَّد وآله الطيِّبين ، والحمد لله ربِّ العالمين.

مسألة (١) : اختلف الأصحاب في صحّة العبادات بقصد نيل الثواب أو الخلاص من العقاب ، بمعنى : أنها يسقط بها القضاء ، وينال بها الثواب والجزاء ، ويصدق الامتثال بها فيسقط العقاب ، أم لا؟

الأشهر وهو قول الأكثر في ظاهر الحال على الصحّة.

أقوال العلماء في المسألة

قال الشهيد : في ( القواعد ) : ( وأمّا غاية الثواب والعقاب فقد قطع الأصحاب بكون العبادة فاسدة بقصدها ، وكذا ينبغي أن يكون غاية الحياء والشكر وباقي الغايات. والظاهر أن قصدها مجزٍ ؛ لأن الغرض بها الله تعالى (٢) في الجملة ، ولا يقدح كون تلك الغايات باعثاً على العبادة أعني : الطمع ، والرجاء ، والشكر ، والحياء لأن

__________________

(١) في « م » بياض مقداره كلمة ، وقد ملئ بقلم مغاير لقلم المخطوط بكلمة : ( وبعد ) ، ثم وضع عليها علامة سقط أُشير إليه بالعبارة التالية : ( فيقول الأحقر أحمد بن صالح بن سالم بن طوق ).

(٢) قوله : ( الله تعالى ) ليس في المصدر.

٤٠٩

الكتاب والسنّة مشتملتان (١) على المرهّبات من الحدود والتعزيرات والذمّ والإيعاد بالعقوبات ، وعلى المرغّبات من المدح والثناء في العاجل والجنّة ونعيمها في الآجل. وأمّا الحياء فغرض مقصود ).

ثمّ ذكر الحديث النبويّ أعبد الله كأنك تراه (٢) ، وقال : ( إن تخيّل الرؤية يبعث على الحياء ) (٣). وهو يؤذن بالإجماع على ذلك ، لكن ربّما يوجد في بعض نسخ الكتاب لفظ : ( بعض الأصحاب ).

ونقل العبارة في ( المدارك ) (٤) بلفظ : ( قطع الأصحاب ) في أكثر نسخ ( المدارك ) ، وربّما وجد في بعض نسخ ( المدارك ) بلفظ : ( بعض ). ومقتضى ما نقله الشيخ البهائيّ : في ( الأربعين ) عنه في هذا الكتاب أنه : ( قطع الأصحاب ) بدون لفظ : ( بعض ).

وقال البهائيّ : في ( الأربعين ) : ( ذهب كثير من علماء الخاصّة والعامّة إلى بطلان العبادة إذا قصد بفعلها تحصيل الثواب أو الخلاص من العقاب ، وقالوا : إن هذا القصد منافٍ للإخلاص الذي هو إرادة وجه الله وحده ، وإن من قصد ذلك فإنما قصد جرّ النفع إلى نفسه ودفع الضرر عنها لا وجه الله تعالى. كما أن من عظّم شخصاً أو أثنى عليه طمعاً في ماله أو خوفاً من إهانته لا يعدّ مخلصاً في ذلك التعظيم والثناء.

وممّن بالغ في ذلك السيّد الجليل صاحب المقامات والكرامات رضيّ الدين عليّ ابن طاوس. ويستفاد من كلام شيخنا الشهيد : في قواعده أنه مذهب أكثر أصحابنا ).

وكأنه استبعد نسبته لجميع الأصحاب ففهم منه نسبته للأكثر ، وهو يؤيّد ما في أكثر نسخ ( القواعد ) من عدم وجود لفظ : ( بعض ).

ثمّ قال رحمه‌الله : ( ومن قال بأن ذلك القصد غير مفسد للعبادة ، منع خروج هذه عن

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : ( مشتملة ).

(٢) عوالي اللآلي ١ : ٤٠٥ / ٦٥.

(٣) القواعد والفوائد ١ : ٧٧ / القاعدة الأُولى ، الفائدة الثانية ، وفيه : ( فإنه إذا تخيّل الرؤية انبعث على الحياء ).

(٤) في نسخة المدارك : ( ونقل الشهيد رحمه‌الله في قواعده عن الأصحاب بطلان العبادة بهذهِ الغاية ، وبه قطع السيّد رضي الدين بن طاوس رحمه‌الله ، وهو ضعيف ) ، مدارك الأحكام ١ : ١٨٧ ، وانظر ص : ٤١٤ من هذا الكتاب.

٤١٠

درجة الإخلاص ).

وقال : ( إن إرادة الفوز بثواب الله ، والسلامة من سخطه ، ليست أمراً مخالفاً لإرادة وجه الله سبحانه ؛ فقد قال تعالى في مقام مدح أصفيائه ( كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً ) (١) ، أي للرغبة في الثواب والرهبة من العقاب ، وقال سبحانه ( وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً ) (٢) ، وقال تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (٣) ، أي حال كونكم راجين للفلاح ، أو لكي تفلحوا. والفلاح : هو الفوز بالثواب. نصّ عليه الشيخ أبو علي الطبرسيّ (٤). هذا ما وصل إلينا من كلام هؤلاء ، وللمناقشة فيه مجال.

أما قولهم : إن تلك الإرادة ليست مخالفة لإرادة وجه الله سبحانه ، فكلام ظاهريّ قشريّ ؛ إذ البون البعيد بين إطاعة المحبوب والانقياد إليه لمحض حبّه وتحصيل رضاه ، وبين إطاعته لأغراض أُخر أظهر من الشمس في رابعة النهار.

والثانية ساقطة بالكلّيّة عن درجة الاعتبار عند أُولي الأبصار.

وأمّا الاعتضاد بالآيتين الأُوليين ففيه أن كثيراً من المفسّرين (٥) ذكروا أن المعنى : راغبين في الإجابة ، راهبين من الردّ والخيبة.

وأمّا الآية [ الثالثة (٦) ] ، فقد ذكر الشيخ أبو علي الطبرسيّ : في ( مجمع البيان ) : إن معنى ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) : لكي تسعدوا (٧). ولا ريب أن تحصيل رضاه سبحانه هو الغاية العظمى.

وفسّر رحمه‌الله الفلاح في قوله تعالى : ( وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (٨) بالنجاح والفوز (٩).

وقال الشيخ الجليل شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ : في تفسيره

__________________

(١) الأنبياء : ٩٠. (٢) الأعراف : ٥٦.

(٣) الحجّ : ٧٧.

(٤) مجمع البيان ٤ : ٤٩٦.

(٥) مجمع البيان ٤ : ٥٣٣.

(٦) من المصدر ، وفي النسختين : ( الثانية ).

(٧) مجمع البيان ٧ : ١٣٠.

(٨) آل عمران : ١٠٤.

(٩) مجمع البيان ٢ : ٦١٤.

٤١١

( التبيان ) : ( المفلحون : هم المنجحون الذين أدركوا ما طلبوا من عند الله بأعمالهم وإيمانهم ) (١).

وفي ( تفسير البيضاويّ ) : ( المفلح : الفائز بالمطلوب ) (٢).

ومثله في ( الكشّاف ) (٣).

نعم فسّر الطبرسيّ (٤) الفلاح في قوله تعالى : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) (٥) بالفوز بالثواب ، لكن مجيئه في هذه الآية بهذا المعنى لا يوجب حمله في غيرها عليه أيضاً. وعلى تقدير حمله على ذلك المعنى إنما يتمّ التقريب لو جُعلت جملة الترجّي حاليّة ، أمّا لو جُعلت تعليليّة كما جعلها الطبرسيّ فلا دلالة فيها على ذلك المدّعى أصلاً ، كما لا يخفى.

هذا والأوْلى أن يُستدلّ على ذلك المطلب بما رواه الشيخ الجليل محمّد بن يعقوب : في ( الكافي ) بطريق حسن عن هارون بن خارجة : عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام : قال العبّاد ثلاثة : قوم عبدوا الله عزوجل خوفاً فتلك عبادة العبيد. وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى (٦) طلباً للثواب فتلك عبادة الأُجراء. وقوم عبدوا الله عزوجل حبّا له فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة (٧).

فإن قوله عليه‌السلام وهي أفضل العبادة يعطي أن العبادة على الوجهين السابقين لا تخلو من فضل أيضاً ، فتكون صحيحة ، وهو المطلوب ).

ثمّ قال رحمه‌الله : ( المانعون في نيّة العبادة من قصد تحصيل الثواب جعلوا هذا القصد مفسداً لها وإن انضمّ إليه قصد وجه الله سبحانه وتعالى ) (٨) ، انتهى.

ولا يخفى ما فيه من ضعف التعبير والتحرير.

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن ١ : ٥٩.

(٢) تفسير البيضاوي ١ : ٢١.

(٣) الكشّاف ١ : ٤٦ ، وفيه : ( الفائز بالبغية ).

(٤) مجمع البيان ٧ : ١٣٢.

(٥) المؤمنون : ١.

(٦) ليست في « م ».

(٧) الكافي ٢ : ٨٤ / ٥.

(٨) الأربعون حديثاً ( البهائي ) : ٤٤١ ـ ٤٤٥.

٤١٢

وقال الشهيد : في ( الذكرى ) بعد أن بحث عن معنى الإخلاص والقربة والفلاح وابتغاء وجه الله ، وتفسيره بما يعمّهما وما لا يعمّهما ـ : ( وقد توهّم قوم أن قصد الثواب يخرج عنه ؛ لأنه جعله واسطة بينه وبين الله تعالى. وليس بذلك ؛ [ بدلالة ] (١) الآي والأخبار ، وترغيبات القرآنِ والسنّةُ [ مشعرة (٢) ] به. ولا نسلّم أن قصد الثواب يخرج عن ابتغاء وجه الله تعالى بالعمل ؛ لأن الثواب لمّا كان من عند الله فمبتغيه مبتغٍ لوجه الله تعالى.

نعم ، قصد الطاعة التي هي موافقة الإرادة أوْلى ؛ لأنه وصول بغير واسطة ، ولو قصد المكلّف بالقربة الطاعة لله ، أو ابتغاء وجه الله كان كافياً ) (٣) ، انتهى.

وهو ممّا يستأنس به لما في بعض نسخ قواعده (٤) من إضافة لفظ : ( بعض ) إلى : ( الأصحاب ) كما مرّ.

وقال العلّامة : في أجوبة السيّد مهنّا : ( اتّفق العدليّة على أن من فعل فعلاً لطلب الثواب أو لخوف العقاب فإنه لا يستحقّ بذلك الفعل ثواباً. والأصل هو أن من فعل فعلاً ليجلب به نفعاً ، أو يدفع به ضرراً ، فإنه لا يستحقّ به المدح على ذلك ، ولا يسمّى من أفاد غيره شيئاً [ ليستعيض (٥) ] عن فعله جواداً ، فكذا فعل الطاعة لأجل الثواب ولدفع العقاب.

والآيتان لا تنافيان ما قلنا ، لأن قوله تعالى : ( لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ) (٦) لا يقتضي أن يكون غرضهم بفعلهم مثل هذا ، وكذا قوله تعالى : ( فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ) (٧) ؛ لعدم دلالتهما عليه ) (٨) ، انتهى.

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : ( لدلالة ).

(٢) من المصدر ، وفي النسختين : ( مشعر ).

(٣) الذكرى : ٧٩ ـ ٨٠ ( حجريّ ).

(٤) لم يرد في نسخة ( القواعد ) التي بين أيدينا لفظ ( بعض ). انظر القواعد والفوائد ١ : ٧٧ / القاعدة الأُولى ، الفائدة الثانية.

(٥) من المصدر ، وفي « م » : ( ليستعفيه ) ، وفي « ن » : ( ليستعفه ).

(٦) الصافّات : ٦١.

(٧) المطفّفين : ٢٦.

(٨) أجوبة المسائل المهنّائيَّة : ٩٠ / المسألة : ١٤٠.

٤١٣

وقال في ( المدارك ) : ( اشتراط القربة ، وهو موضع وفاق ) (١). واستدلّ عليه بقوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (٢).

ثمّ قال : ( ولا ريب أنه لا يتحقّق الإخلاص بالعبادة إلّا مع ملاحظة التقرّب بها. والمراد بالتقرّب ؛ إمّا موافقة إرادة الله تعالى ، أو القرب منه المتحقّق بحصول الرفعة عنده ونيل الثواب لديه. وكلاهما محصّل للامتثال ، مُخرِج عن العهدة.

ويدلّ على الثانية ظواهر الآيات والأخبار ، كقوله تعالى : ( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ) (٣) ، و ( وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً ) (٤). وممّا روي عنهم عليهم‌السلام في الصحيح أن مَنْ بلغه ثوابٌ من الله على عمل فعمله التماس ذلك الثواب ، أُوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه (٥).

ونقل الشهيد : في قواعده (٦) عن الأصحاب بطلان العبادة بهذه الغاية ، وبه قطع السيّد رضيّ الدين بن طاوس : ، وهو ضعيف ) (٧) ، انتهى.

هكذا في أكثر نسخ ( المدارك ) فيما نقله عن ( القواعد ) ، وفي بعض نسخ ( المدارك ) إضافة لفظ : ( بعض ) إلى ( الأصحاب ) ، كما كان مثل ذلك في نسخ ( القواعد ).

وقال رضي الدين السيّد عليّ بن طاوس : في كتاب ( الإقبال ) في نيّة الصوم : ( ويكون القصد بنيّة الصوم أنك تعبد الله جلّ جلاله بصومك واجباً ؛ لأنه أهل للعبادة ، وتعتقد أنه من أعظم المنّة عليك ، حيث جعلك الله أهلاً لهذه السعادة ).

إلى أن قال : ( واعلم أن الداخلين في الصيام على عدّة أصناف وأقسام :

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٨٦.

(٢) البيِّنة : ٥.

(٣) السجدة : ١٦.

(٤) الأنبياء : ٩٠.

(٥) الكافي ٢ : ٨٧ / ٢.

(٦) القواعد والفوائد ١ : ٧٧ / القاعدة الأُولى ، الفائدة الثانية.

(٧) مدارك الأحكام ١ : ١٨٧.

٤١٤

فصنف دخلوا في الصوم بمجرّد ترك الأكل والشرب بالنهار ، وما يقتضي الإفطار في ظاهر الأخبار ، وما صامت جارحة من جوارحهم عن سوء آدابهم وفضائحهم ، فهؤلاء يكون صومهم على قدر هذه الحال صوم أهل الإهمال.

وصنف دخلوا في الصوم وحفظوا بعض جوارحهم من سوء الآداب على مالك يوم الحساب ، فكانوا في ذلك النهار متردّدين بين الصوم بما حفظوه والإفطار بما ضيّعوه.

وصنف دخلوا في الصوم بزيادة النوافل والدعوات التي يعملونها بمقتضى العادات ، وهي سقيمة ؛ لسقم النيّات ، فحال أعمالهم على قدر إهمالهم.

وصنف دخلوا دار ضيافة الله جلّ جلاله في شهر الصيام ، والقلوب غافلة ، والهمم متكاسلة ، والجوارح متثاقلة ، فحالهم كحال من حمل هدايا إلى ملك ليعرضها عليه ، وهو كاره لحملها إليه وعرضها عليه ، وفيها عيوب تمنع من قبولها والإقبال عليه.

وصنف دخلوا في الصوم وأصلحوا ما يتعلّق بالجوارح ، ولكن لم يحفظوا القلب من الخطرات الشاغلة عن العمل الصالح ، فهم كعامل دخل على سلطانه ، وقد أصلح رعيّته بلسانه ، وأهمل ما يتعلّق بإصلاح شانه ، فهو مسؤول عن تقديم إصلاح الرعيّة على إصلاح نفسه ، وكيف أخّر مقدّماً وقدّم مؤخّراً ، وخاطر مع المطّلع على إرادته.

وصنف دخلوا في الصيام بطهارة العقول والقلوب على المراقبة لعلّام الغيوب ، حافظين لما (١) استحفظهم إيّاه ، فحالهم حال عبد تشرّف برضا مولاه.

وصنف ما قنعوا لله جلّ جلاله بحفظ العقول والقلوب والجوارح عن الذنوب والعيوب والقبائح ، حتّى شغلوها بما وفّقهم له من عمل راجح صالح. فهؤلاء أصحاب التجارة المربحة والمطالب المنجحة.

أقول : وقد يدخل في نيّات أهل الصيام إخطار ، بعضها يفسد حال الصيام ، وبعضها

__________________

(١) في المصدر : ( ما ).

٤١٥

ينقصه عن التمام ، وبعضها يدنيه من باب القبول ، وبعضها يكمل له الشرف المأمول ، وهم أصناف :

صنف منهم الذين يقصدون بالصوم طلب الثواب ولولاه ما صاموا ولا عاملوا به ربّ الأرباب. فهؤلاء معدودون من عبيد السوء الذين (١) أعرضوا عمّا سبق لمولاهم من الإنعام عليهم وعمّا حضر من إحسانه إليهم ، وكأنهم إنما يعبدون الثواب المطلوب ، وليسوا في الحقيقة عابدين لعلّام الغيوب. وقد كان العقل قاضياً أن يبذلوا ما يقدرون عليه من وسائل الشيعة حتّى يصلحوا للخدمة لمالك النعم الجلائل.

وصنف قصدوا بالصوم السلامة من العقاب ، ولو لا التهديد والوعيد (٢) بالنار وأهوال يوم الحساب ما صاموا ، فهؤلاء من لئام العبيد ؛ حيث لم ينقادوا بالكرامة ، ولا رأوا مولاهم أهلاً للخدمة فيسلكوا معه سبيل الاستقامة. ولو لم يعرفوا أهوال عذابه ما وقفوا على مقدّس بابه ، فكأنهم في الحقيقة عابدون لذواتهم ليخلّصوها من خطر عقوباتهم.

وصنف صاموا خوفاً من الكفّارات وما يقتضيه الإفطار من الغرامات ، ولو لا ذلك ما رأوا مولاهم أهلاً للطّاعة ومحلّاً للعبادات. فهؤلاء متعرّضون لردّ صومهم عليهم ، ومفارقون في ذلك مراد الله ومراد المرسل إليهم.

وصنف صاموا عادة لا عبادة ، وهم كالمسافرين في صومهم عمّا يراد الصوم لأجله ، وخارجون عن مراد مولاهم ومقدّس ظلّه ، فحالهم كحال الساهي واللاهي والمعرض عن القبول والتناهي.

وصنف صاموا خوفاً من أهل الإسلام ، وجزعاً من المعاد بترك الصيام ؛ إمّا للشكّ ، أو الجحود ، أو طلب الراحة في خدمة المعبود ، فهؤلاء أموات المعنى ، أحياء الصورة ، وكالصُمّ الذين لا يسمعون داعي صاحب النعم الكثيرة ، وكالعميان الذين لا يرون أن نفوسهم بيد مولاهم ذليلة مأسورة ، وقد قاربوا أن يكونوا كالدوابّ ، بل

__________________

(١) من « ن » والمصدر ، وفي « م » : ( الذي ).

(٢) في « م » : ( التوعيد ).

٤١٦

زادوا عليها ؛ لأنها تعرف من يقوم بمصالحها ، وبما تحتاج إليه من الأسباب.

وصنف صاموا لأجل أنهم سمعوا أن الصوم واجب في الشريعة المحمّديّة ، فكان صومهم بمجرّد هذه النيّة ، من غير معرفة بسبب الإيجاب ، ولا ما عليهم لله جلّ جلاله من النيّة في تعريضهم لسعادة الدنيا ويوم الحساب. فلا (١) يستبعد أن يكونوا متعرّضين للعقاب.

وصنف صاموا وقصدوا بصومهم أن يعبدوا الله كما قدّمناه ؛ لأنه أهل للعبادة. فحالهم حال أهل السعادة.

وصنف معتقدون أن المنّة لله جلّ جلاله عليهم في صيامهم وثبوت أقدامهم ، عارفين بما في طاعته من إكرامهم وبلوغ مرامهم. فهؤلاء أهل الظفر بكمال العنايات وجلائل السعادات ) (٢).

وقال أيضاً قدّس الله روحه الطاهرة في تعداد وجوه تخدُش الإخلاص في النيّة للصوم أو تنافيه ، وأمراض نفسانيّة في التعبّديّة وعلاماتها ـ : ( ومنها : أن تعتبر صومك هل (٣) هو لمجرّد الثواب ، أو لأجل مراد ربّ الأرباب؟ فإن وجدت نفسك لولا الثواب الذي ورد في الأخبار وأنه يدفع إخطار النار ، ما كنت صمت ولا تكلّفت الامتناع بالصوم من الطعام والشراب والمسارّ ، فأنت قد عزلت الله جلّ جلاله عن أنه يستحقّ الصوم لامتثال أمره ، وعن أنه جلّ جلاله أهل للعبادة لعظيم قدره. ولو لا الرشوة والبرطيل ما عبدته ولا راعيت حقّ إحسانه السالف الجزيل ، ولا حرمة مقامه الأعظم الجليل ) (٤).

وقال أيضاً : ( اعلم أن الذي تجده في كتابنا هذا من فضل صلاة وصوم وتعظيم الثواب والإحسان ، فكلّه مشروط بالإخلاص ، ومن جملة الإخلاص من أهل الاختصاص ألّا يكون قصدك بهذا العمل مجرّد هذا الثواب ، بل تعبد به ربّ الأرباب ؛

__________________

(١) من « م » ، وفي « ن » : ( لئلّا ).

(٢) الإقبال بالأعمال الحسنة ١ : ١٨٦ ـ ١٨٩.

(٣) في المصدر : ( أن تعتبر هل صومك .. ).

(٤) الإقبال بالأعمال الحسنة ٣ : ١٩٤ ـ ١٩٥.

٤١٧

لأنه أهل لعبادة ذوي الألباب ، وهذه عقبة صعبة تبعد السلامة منها ) (١).

إلى غير ذلك من كلامه ممّا يطول نقله ، حتّى ضرب فيه الأمثال وأطال المجال في المقال. فإذا عرفت هذا عرفت أن المشهور هو صحّة العبادة مع قصد تحصيل الأجر والثواب من ثواب الدنيا والآخرة ، والخوف من العقاب.

أدلّة القول المشهور

واستدلّ للمشهور بكثرة الواردات في الكتاب والسنّة ، حتّى كان مضمونه متواتراً من ذكر الثواب ، من ثواب الدنيا والآخرة ممّا لا يمكن لغير المعصوم حصره. فلو كان قصد تحصيل الثواب الموعود به من المعبود أو الهرب ممّا توعّد به من عقابه في الدنيا والآخرة وثوابهما مخلّاً بالإخلاص الذي أمر الله العباد أن يعبدوه به ، ومنافياً له وموجباً للبطلان لكان ذكر الترغيبات الجزيلة والترهيبات الهائلة إغراءً بالقبيح ، وهذا محال ؛ لقبحه.

فيجب تنزيه الشارع الحكيم الغنيّ عن عبادة العابدين عنه ، بل الظاهر أنه إنما ذكر الترغيبات الجزيلة ليرغّب العابد في العبادة لأجلها ، والترهيبات ليعمل العامل خوفاً وهرباً منها ، فتحجزه الرغبة والرهبة عن المعصية بترك العمل.

واستدلّوا أيضاً بما مرّ من الآيات ، كقوله تعالى : ( وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً ) (٢) وأمثالها.

وبحسنة هارون بن خارجة (٣) : المذكورة أوّلاً في عبارة الشيخ بهاء الدين (٤) : ، وبما مرّ من خبر مَنْ بلغه ثواب على عمل (٥) ، المذكور في عبارة ( المدارك ) (٦) وشبهه. وبمضمونِه نحوٌ من ستّة أخبار وقفت عليها في ( أزهار الرياض ) (٧) ، ولا تحضرني

__________________

(١) الإقبال بالأعمال الحسنة ٣ : ١٨٠.

(٢) الأنبياء : ٩٠.

(٣) الكافي ٢ : ٨٤ / ٥.

(٤) الأربعون حديثاً : ٤٤١ ـ ٤٤٥.

(٥) الكافي ٢ : ٨٧ / ٢.

(٦) الكافي ٢ : ٨٧ / ٢.

(٧) أزهار الرياض : ٣٤٠ ( مخطوط ).

٤١٨

الآن. ولهم أيضاً خبر حمران : عن أبي جعفر عليه‌السلام : إنّ لله مَلَكاً ينادي : أيّ عبد أحسن الله إليه ، وأوسع عليه في رزقه ، فلم يفد إليه في كلِّ خمسة أعوام مرَّة ليطلب نوافله؟! إنّ ذلك لمحروم (١) ، وأمثاله وهي كثيرة.

ومنعوا من منافاة هذا القصد للإخلاص والقربة ، كما مرّ.

ويدلّ على ما ذهب إليه رضيّ الدين بن طاوس (٢) : ونقله البهائيّ (٣) : عن كثيرٍ الإجماعُ المدّعى من العلّامة (٤) : المذكور سابقاً ، ومن قواعد الشهيد (٥) : على عبارة أكثر نسخها ، وأنه منافٍ للإخلاص لوجه الله ، فإنه حينئذٍ مشوبٌ بطلب النفس ونيل شهوتها ، ودفع المضارّ والمكروهات عنها في الدنيا والآخرة ، أو أحدهما بقدر طبقات المتعبّدين.

ولا ريب أن هذا منافٍ لمعنى الإخلاص لله ، بل للفظه ، فإن الخالص غير المشوب ، والمشوب غير خالص. وقد دلّ العقل والنقل كتاباً (٦) وسنّة (٧) والإجماع المقطوع به على وجوب الإخلاص في نيّة العبادات ، وأنها بدون الإخلاص باطلة غير مجزية ولا دافعة للذمّ والعقاب ، وأنه لا يستحقّ فاعلها مدحٌ ولا ثواب. بل لا يعدّ مطيعاً أصلاً ولا يوصف بأنه أطاع الله وعبده وحده ، ومن لم يعبده وحده لم يعبده أصلاً ؛ لأنه أشرك بعبادة ربّه أحداً. ومن كان كذلك تركه الله وشركه ، فللشرك دبيب في النفوس والنيّات أخفى من دبيب النمل على الصفا. فالله سبحانه لا يعبد إلّا بما خلص لوجهه الكريم من كلّ شائبة.

ويمكن أن يستدلّ لهذا أيضا بما رواه الكلينيّ : مرسلاً عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنه قال في خطبة له ولو أراد الله جلّ ثناؤه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ،

__________________

(١) الكافي ٤ : ٢٧٨ / ٢.

(٢) المتقدّم في ص : ٤١٧.

(٣) الأربعون حديثاً : ٤٤١.

(٤) أجوبة المسائل المهنائية : ٩٠ / المسألة : ١٤٠.

(٥) القواعد والفوائد ١ : ٧٧ / القاعدة الأُولى ، الفائدة الثانية.

(٦) الأعراف : ٢٩ ، غافر : ١٤ ، الشعراء : ٨٩ ، البيّنة : ٥.

(٧) انظر وسائل الشيعة ١ : ٥٩ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٨.

٤١٩

ومعادن البلدان (١) ، ومغارس الجنان ، وأن يحشر طير السماء ، ووحش الأرض معهم لفعل. ولو فعل لسقط البلاء ، وبطل الجزاء ، واضمحلَّ الابتلاء (٢) ، ولما وجب للقائلين (٣) أُجور المُبتَلين ، ولا لحق المؤمنين ثواب المحسنين ، ولا لزمت الأسماء أهاليها على معنًى مبين. وكذلك (٤) لو أنزل الله من السماء آية فظلَّت أعناقهم لها خاضعين ، ولو فعل لسقط البلوى عن الناس أجمعين ، لكن الله جلّ ثناؤه جعل رسله أُولي قوَّة في عزائم نيّاتهم ، وضعَفة فيما ترى الأعين من حالاتهم ، من قناعة تملأ القلوب والعيون غناؤه ، وخَصَاصَة تملأ الأسماع والأبصار أداؤه.

ولو كانت الأنبياء أهل قوَّة لا ترام ، وعزَّة لا تضام ، وملك تمدّ له أعناق الرجال ، وتشدّ إليه عقد الرحال ، لكان أهون على الخلق في الاختبار ، وأبعدَ لهم عن (٥) الاستكبار ، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم ، أو رغبة مائلة بهم. فكانت النيّات مشتركة ، والحسنات مقتسمة ، ولكن الله أراد أن يكون الاتِّباع لرسله ، والتصديق بكتبه ، والخشوع لوجهه ، والاستكانة لأمره ، والاستسلام لطاعته ، أُموراً له خاصَّة لا يشوبها من غيرها شائبة.

وكلَّما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل. ألا ترون أن الله عزوجل اختبر الأوَّلين من لدن آدم إلى الآخرين من هذا العالم ، بأحجار لا تضرّ ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام الَّذي جعله للناس قياماً ثم جعله بأوعر بقاع الأرض حجراً ، وأقل نتائق الدنيا مدراً ، وأضيق بطون الأودية معاشاً ، وأغلظ محالِّ المسلمين مياهاً. بين جبال خشنة ، ورمال دمثة ، وعيون وشِلة ، وقرًى منقطعة ، وأثر من مواضع قطر السماء داثر ، ليس يزكو به خفٌّ ولا ظلف ولا حافر.

ثمّ أمر آدم عليه‌السلام : وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه ، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم ، وغاية لملقى

__________________

(١) في النسخة التي بين أيدينا : « ومعادن العقيان » ، لكن أشار المحقّق إلى أنه في بعض النسخ : « ومعادن البلدان ».

(٢) في النسخة التي بين أيدينا : « واضمحلَّت الإنباء » ، لكن أشار المحقّق إلى أنه في بعض النسخ : « واضمحل الابتلاء ».

(٣) جمع قائل ، وهو : الذي ينام القيلولة. لسان العرب ١١ : ٣٧٤ قيل.

(٤) في المصدر : « ولذلك ».

(٥) في المصدر : « في ».

٤٢٠