رسائل آل طوق القطيفي - ج ٢

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

بالصوم للحِمية ، وما أشبه ذلك من حظوظ النفس.

فإذن ليست تلك العبادة من حيث أحبّ وأمر ، وكلّ عبادة ليست كذلك فهي باطلة إلّا إعلام المأموم بالتكبير الدخول في الصلاة ، فإنه إن كبّر لذلك بطل التكبير والصلاة ، وإن كبّر بإخلاص وقصد برفع صوته بذلك التكبير الإعلام بالدخول في الصلاة صحّتا معاً ؛ لعدم مدخليّة رفع الصوت أو خفضه في العبادة.

وظاهر عبارته يؤذن بإجماع المتأخّرين على البطلان بتلك الضمائم. وقد صرّح بموافقتهم أوّلاً ثمّ فرّق بين ما لو كانت الضمائم ملحوظة الرجحان وعدمه ، فمال إلى صحّة الأوّل دون الثاني. وهذا لا يخلو من اضطراب مع أنه لا مدخليّة لرجحان الضميمة في نفسها وعدمه ؛ لأنا لا نعلم أن الشارع تعبّدنا بالصوم مثلاً لحفظ صحّة البدن فلا تجوز منّا عبادته بالصوم لذلك ؛ لأنه زيادة في الشرع ما ليس منه وعبادة من حيث يحبّ العابد ، فليست بعبادة لله ، بل للنفس والبدن أو المال مثلاً. ورجحانه في نفسه لا يستلزم صحّة جعله غاية ومنشأً لعبادة الله تعالى ولا ضمّه لنيّة عبادة الله وقصدها له. فالفرق لا يخلو من تحكّم.

ودعوى أنها حينئذٍ مؤكّدة ممنوع ؛ إذ لا دخل لتلك الضمائم في معنى تلك العبادات ، بل ولا في عبادة بالذات ، بل هي ضرب من المعاملات. فكما أن حفظ بدن غيرك من المؤمنين مع المكنة راجح ، كذا حفظ بدنك وصحّته راجح ، والمعاملات كما تكون بينك وبين غيرك تكون بينك وبين نفسك ، وكذا الفرق بين الصوم المعيّن وغيره لا يخلو من تحكّم ، بل هو ممنوع.

وبالجملة ، فلا دليل على تفصيله في المقامين. والله العالم.

وقال محمّد باقر القاشانيّ : ( الضميمة المقصودة إمّا أن تكون راجحة كقصد الإمام من تكبيره أو ركوعه وأمثالهما إعلام القوم أيضاً وكذا قصد الحمية في الصوم الذي يُقصد لله ، فلا يضرّ ؛ لعدم منافاته للإخلاص المطلوب منه ؛ لأن الضميمة أيضاً لله تعالى خصوصاً إذا كان الباعث الأصليّ هو الفعل لله تعالى كما هو الحال في

٤٤١

إعلام الإمام ).

أقول : ظاهر هذه العبارة أن الضميمة متى كانت راجحة في نفسها صحّت العبادة وإن كانت المقصودة بالذات. وهذا قد عرفت ضعفه ممّا قدّمناه ، مع أنه بظاهره متنافٍ مع ما قال بعد هذا بلا فصل : ( بل تشكل الصحّة في صورة لم يكن الباعث الأصليّ هو العبادة ، كصوم شهر رمضان بضميمة الحمية بحيث لو لم تكن الحمية لما صام ؛ إذ الظاهر أنه غير مطيع لله في صوم شهر رمضان ، بل عاصٍ فيه البتّة.

نعم ، إذا كان كلّ واحد من الأمرين علّة مستقلّة للفعل وإن لم يكن معه الآخر ، فالظاهر الصحّة مثل أن صوم شهر رمضان علّة مستقلّة في إحداثه فعلاً لله ، والحمية أيضاً علّة مستقلّة ) ، انتهى.

أقول : وظاهر صدر هذه العبارة يعطي الفرق بين كون العبادة مع الضميمة الراجحة في نفسها مقصودة بالذات فتصحّ ، أو لا ، فتفسد. ثم عقّبه بما صريحه : ( إنه مع تساوي الداعيين في العلّيّة الباعثيّة تصحّ ). وهذا بظاهره منافٍ لما قبله.

وبالجملة ، فكلامه هذا مع جلالته ورياسته لا يخلو من اضطراب ، ولكن المقام عسر المأخذ.

وبالجملة ، فقد قرّرنا لك أنه لا تصحّ العبادة مع هذه الضمائم إذا شاب غاية العبادة والباعث عليها شوب قصد شي‌ء منها وإن رجحت في نفسها وكانت مقصودة تبعاً لفرط ظهور عدم العبادة التوحيديّة لله حينئذٍ ، فكيف إذا كانت علّة مستقلّة مساوية في الباعثيّة لإرادة وجه الله وامتثال أمره؟! مع أنا نمنع تحقّق وجود عمل يكون له باعثان متساويان في الباعثيّة والعلّيّة لقصد إيقاعه لما يلزمه من اجتماع علّتين على معلول ، وهو محال عقلاً ونقلاً.

ثمّ قال رحمه‌الله : ( وإمّا (١) ألّا يكون راجحاً ، بل يكون مباحاً ، كالتبرّد في الوضوء أو تنظيف الوجه أو أمثال ذلك ، فإن كان الباعث الأصليّ هو العبادة والامتثال بحيث

__________________

(١) عطف على قوله : ( إمّا أن تكون راجحة كقصد الإمام .. ) المتقدّم في ص ٤٤٤.

٤٤٢

لو لم يكن هذا القصد لم يفعل ، ولو كان يفعل البتّة وإن لم تكن نيّة الضميمة فهذا أيضاً لا يضرّه الضميمة ؛ لكون فعله من جهة الامتثال وقصد القربة والفرار عن المعصية ، تكون الضميمة معه أو لم تكن ).

أقول : لا يظهر لي أنه يمكن أن يكون مع النيّة شي‌ء من هذه الضمائم ملحوظاً مع استقلال قصد الامتثال والقربة والإخلاص بالعلّيّة الباعثيّة على الفعل ، فإنه متى كانت الضميمة لها مدخليّة في الباعثيّة كانت الباعثيّة مركّبة البتّة ، فلم تكن لله خالصة البتّة ولو ضعفت ملحوظيّتها ، ومتى لم تكن للضميمة مدخليّة في الباعثيّة أصلاً لم تكن ملحوظة البتّة.

ثمّ قال رحمه‌الله : ( وكذا الحال لو كان كلّ واحد منهما علّة مستقلّة للفعل ، مثلاً الوضوء للصلاة علّة مستقلّة ، وغسل الوجه للتنظيف أيضاً علّة مستقلّة ، لكن الداعي هو الأوّل. وأمّا إذا كان الضميمة هي المقصودة بالأصالة أو لها مدخليّة في هذا القصد بحيث لولا هي لم يفعل وإن كانت جزءاً بحيث لولا قصد القربة أيضاً لم يفعل ، فهذا باطل ؛ لعدم الإخلاص وغيره ممّا اقتضاه الأدلّة ).

أقول : وهذا الكلام أيضاً لا يخلو على ضعفه من نوع اضطراب ؛ فإنه لا معنى لكون كلّ منهما علّة مستقلّة مع أن الداعي والباعث لم يكن إلّا أحدهما ؛ لأنه من البيّن الغنيّ عن البيان أنه إذا اختصّت العلّة الباعثيّة بأحدهما لم يكن للثاني مدخليّة في العلّيّة بوجه ، مع أنك قد عرفت أن من المستحيل اجتماع علّتين على شي‌ء بلا فرق في ذلك بين أنواع العلل. ولو فرض هنا كون العلّة الباعثيّة مركّبة من الداعيين منعنا كون عبادة الله بالإخلاص على الوجه الذي أمر الله تعالى أن يعبد به على سبيل العبادة التوحيديّة ، فلا تتحقّق هذه في الوجود مع تركّب الباعث وشوبه بقصد الضميمة ولو رجحت في نفسها فضلاً عن كونها مباحة.

وما ربّما يُتخيّل من ذلك فهو وهم ، أقواه وأعلاه كحسبان يقظة أهل الكهف إن سلّمنا إمكان تخيّله ، وإلّا فهو كتخيّل سعي حبال سحرة فرعون في الحقيقة بعد

٤٤٣

التصفية.

وقد ظهر لك استحالة تحقّق وجود الإخلاص مع تحقّق مدخليّة للضميمة في القصد بوجه ولو بالجزئيّة الضعيفة.

وأيضاً إذا حكم بالبطلان مع ملحوظيّة الضميمة ولو بعنوان الجزئيّة ، فكيف يحكم بالصحّة مع كون كلّ منهما علّة مستقلّة؟! ولا معنى لكون الضميمة علّة مستقلّة وكونها ملحوظة تبعاً ، بحيث لو لم تكن كان الفعل ؛ لأن ما هذا شأنه لا مدخليّة له في الباعثيّة على الفعل وقصده أصلاً كما لا يخفى.

ثمّ قال رحمه‌الله تعالى ـ : ( وممّا ذكر ظهر حال المرجوح أيضاً من الضميمة أيضاً ، سيّما إذا كانت حراماً ، كالرياء الذي يكون شركاً لا كفراً ، يعني : كون الفعل لمحض الرياء. مضافاً إلى أن النهي في العبادة يوجب فسادها إذا تعلّق بنفس العبادة أو جزئها أو شرطها. ونقل عن المرتضى : رحمه‌الله تعالى ـ : أن الرياء لا يوجب البطلان ، بل يوجب عدم الثواب (١).

ويردّه قوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (٢) ، وغيره. ويمكن أن يكون مراده إذا كان الباعث الأصليّ إطاعة الله تعالى ).

أقول : صدر هذه العبارة صريح في أنه متى لوحظ الرياء في العبادة كانت باطلة مطلقاً على أيّ وجه كانت ملحوظيّته ولو كانت بأضعف مراتب الملحوظيّة ، وهذا هو الموافق للنصّ كتاباً وسنّةً وللإجماع الذي لا ريب فيه. وعجز العبارة يظهر منه أنه إذا لم يكن الرياء ملحوظاً بالأصالة ، بل كان الملحوظ بالقصد الذاتيّ هو الإخلاص ، صحّت العبادة.

وهذا مع مخالفته الإجماع والكتاب والسنّة لم ينقل عن أحد ، بل المعروف من مذهب أهل البيت : صلوات الله عليهم وأتباعهم أنه متى دخل الرياء في العبادة على أيّ وجه كان بطلت ولو لحقها قبل آخرها بكلمة. ولعلّ السيّد : أراد الرياء

__________________

(١) الانتصار : ١٠٠ / المسألة : ٩.

(٢) البيِّنة : ٥.

٤٤٤

اللاحق للعبادة ثمّ دخله العجب بها أو تحدّث بها ثلاثاً فإنه ورد (١) أنها حينئذٍ تكتب في الرياء. ولا شكّ أنهما ضربان من الرياء الخفيّ ، وأنهما مسقطان للأجر ، إلّا إن الظاهر أنه لا يجب بهما القضاء ولا الإعادة. فظاهر عبارته لا تخلو من شوب اضطراب.

ثمّ قال رحمه‌الله تعالى ـ : ( فروع : الأوّل : قد عرفت أن النيّة التي هي الداعية إلى الفعل المحرّكة للإنسان الباعثة عليه ربّما تكون هي المخطرة بالبال ، وربّما لا تكون هي هي تنطبق عليها ، وربّما تتخلّف عنها وتغايرها ، فربّما كان الباعث غير الامتثال لأمر الله. ويخطر بالبال أنه الباعث مع علمه بأنه ليس كذلك ، أو مع غفلته عنه ، أو مع جهله به باعتقاده أن الذي أخطر بباله هو الباعث. وعبادة الكلّ فاسدة لما عرفت ، إلّا إن الأوّل أسوأ حالاً من الأخيرين ، والأخيران يحتاجان إلى جهاد نفس واجتهاد لتصحيح إعمالهما ، والأخير من الأخيرين لا يُتوهّم (٢) أنه معذور لجهله ؛ إذ ربّما كان أشدّ سيّئة ، كما قال تعالى : ( هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) (٣).

وقال الله تعالى : ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ) (٤).

إلى غير ذلك ممّا ظهر من القرآن العزيز ، والأخبار الكثيرة (٥).

ويوافقهما الاعتبار ؛ لأن الأوّلين ربّما يعترفان بأن عملهما قبيح ، فينويان ويقضيان إن كان له قضاء ، وربّما ينكسر خاطرهما ، ويحزن خاطرهما ، وهذا محمود عند الله ، ويحبّه الله بخلاف الأخير ؛ إذ هو خلافهما ، بل ربّما تعجبه أعماله القبيحة ويصرّ عليها ويستكثر ، وعن الرجوع يستكبر. ولذا نبّههم الشارع بأمثال ما ذكر

__________________

(١) انظر : الكافي ٢ : ٢٩٦ / ١٦ ، وسائل الشيعة ١ : ٧٥ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ١٤ ، ح ٢.

(٢) من « ن » ، وفي « م » : ( نتوهّم ).

(٣) الكهف : ١٣ ـ ١٤.

(٤) فاطر : ٨.

(٥) انظر وسائل الشيعة ١ : ٩٨ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٢٣.

٤٤٥

وغيرها ، مثل ما مرّ أن الرياء أخفى من دبيب النملة .. إلى آخره ، وأكثرَ وبالغَ لشدّة خطره ونهاية عظم ضرره.

فلا بدّ للمكلّف من ملاحظة ما ذكر ، وأن يشرع في مرضه المهلك بمعرفة آثاره وعلاماته ثمّ (١) المعالجة والمجاهدة ، ولا يغفل عن مكائد نفسه الأمّارة ).

أقول : هذا الكلام في غاية الحسن ، فإنه من الحكمة التي هي ضالّة المؤمن ، فاغتنم الفرصة واقتنصها. لكنّه لا يخلو بعد التأمّل من منافاةٍ لبعض ما أسلفناه من كلامه ، ولكنّه ينبّهك على ما فصّلنا فتيقّظ.

وما قاله رحمه‌الله معلوم بالوجدان من كثير من الناس ؛ فإن كثيراً منهم يكون الباعث له على العبادة طلب الطبيعة للعادة ، أو رضا بعض البشر لينال بسببه حظّا من حظوظ الدنيا أو مجاراة الأقران ومشابهتهم ، أو حذر العار ، أو حذر الحدّ الدنيويّ ، أو فوت حظّ من حظوظ الدنيا ، أو مجرّد تحصيل ثواب الله في الآخرة ، أو الدنيا من جلب نفع أو دفع ضرّ ، أو مجرّد الخوف من عقاب الآخرة أو الدنيا ودفع بلائها ، أو غير ذلك من الأغراض الباعثة على العمل. وهو في جميع هذه الأقسام يتصوّر حال نيّة الصلاة أو الصوم ، مثلاً أُصلّي فرض كذا ، أو : أصوم غداً لوجوبه أو ندبه قربة إلى الله. ويخطر هذه الأحرف بباله.

فمنهم مَنْ يعلم أن الباعث على العمل غير ما خطره حال إرادة العمل ، وهو مع هذا يظنّ أن النيّة وحقيقتها هو ما خطره حينئذٍ بباله جهلاً منه ، ومنهم من يعلم حينئذٍ أن النيّة غير ما خطره من الحروف بباله حينئذٍ ، ومنهم من لا يعلم حينئذٍ بأن النيّة والباعث غير ما خطره من الأحرف بباله جهلاً منه ، أو غفلة من أجل قصوره ، أو تقصيره إلى غير ذلك من الأقسام. والكلّ عبادته باطلة.

والجهل كما قال ليس بعذر في غير ما قام على معذوريّة الجاهل فيه الدليلُ وإلّا لبطلت فائدة البعثة ، أو لزم التكليف بالمحال ، بل بطل التكليف. ومن البشر من

__________________

(١) في « م » : ( بأتم ).

٤٤٦

يظنّ أو يتوهّم أن الله إنما كلّف بعبادته التي لم يخلق الخلق إلّا لها (١) ليطلبوا بعبادتهم ثواب الآخرة أو الدنيا أو هما ، بحيث إنه لو لم يجازهم لما كان لعبادتهم معنًى ، بل تكون شبه العبث ، فهم لا تتحقّق منهم عبادة لغير محض ذلك ، فهم لا يعبدون المنعم محبّة لما أحبّه منهم ، ولا لامتثال أمره ، ولا طلباً لقربه ومحبّته ورضاه ، ولا لأنه أهل للطاعة ، ولا شكراً له بوجه أصلاً. وهؤلاء لا شكّ أنهم لا يعبدون الله ، بل هم بالمعاملين المتكسّبين أشبه منهم بالعابدين ، بل لا يكاد يتحقّق مبدأ اشتقاق العبادة في أعمالهم ولا شي‌ء من معناه. وبالله المستعان.

ثمّ قال رحمه‌الله : ( الثاني : أنه ربّما يكون الأمر بعكس ما ذكر بأن يكون الداعي إلى الفعل قصد الله خالصاً ، إلّا إنه يخطر بباله أنه لغير الله غفلة ، وإذا راجع نفسه علم يقيناً أن المحرّك الباعث هو إرادة الله خالصة من دون شائبة شي‌ء آخر ، لكن يخطر بخاطره خطرات على الغفلة من غير أن يكون لها مدخليّة في التأثير ، وعبادته صحيحة ، ولا يضرّه التسويلات الشيطانيّة التي تكون أو لا تكون بالقياس إلى ما صدر منه.

نعم ، إن صار لها مدخليّة في الصدور بأن صارت هي العلّة أو جزء العلّة تصير العبادة فاسدة وإن صارت المدخليّة في آخر العبادة وعند الفراغ منها ولمّا يفرغ ، وأمّا بعد الفراغ فلا يضرّ ، لعدم المدخليّة في العلّة الغائيّة للعبادة التي فرغ منها.

نعم ، لو أظهر للناس أني فعلت كذا وكذا ، وإن كان هذا رياءً على حِدة إلّا إنه ربّما يفسد عبادته. ولذا ورد عنهم عليهم‌السلام أن البقاء على العمل أشدّ من العمل ، إن الرجل يصل بصِلَة (٢) ، وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فتكتب له سرّاً ، ثمّ يذكرها فتمحى فتكتب له علانية ، ثمّ يذكرها فتمحى فتكتب له رياءً (٣). إلى غير ذلك ، بل ورد أن

__________________

(١) في النسختين بعدها : ( إلّا ).

(٢) من « م » ، وفي « ن » : ( بصلاة ).

(٣) إشارة إلى قول الباقر عليه‌السلام : « الإبقاء على العمل أشدُّ من العمل ». قيل : وما الإبقاء على العمل؟ قال عليه‌السلام : « يصل الرجل بصلة وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فتكتب له سرّاً ، ثمَّ يذكرها فتمحى فتكتب له علانية ، ثمَّ يذكرها فتمحى وتكتب له رياء ». الكافي ٢ : ٢٩٦ / ١٦.

٤٤٧

العُجب يفسد العمل (١).

وورد أمثال ذلك ممّا يظهر أنه يبطل الثواب ، بل وربّما يصير موجباً للعقاب. لكن كون هذا يصير موجباً للقضاء غير معلوم ؛ لأن القضاء تدارك ما فات ، والفوت بعدم الفعل أو الفعل غير موافق لما أُمر به. وأمّا كون العُجب وأمثاله موجباً للفوت فيتدارك بالقضاء ، أو الفعل مرّة أُخرى ، فغير معلوم وغير معروف من حديث أو كلام فقيه ).

أقول : لا يخلو قوله : ( نعم ، إن صار لها مدخليّة ) إلى آخره ، من منافرة لصدر بحثه المذكور أوّلاً ، وهو اعلم بما قال ، وكلامه في هذا الفرع والذي قبله مطابق لما فصّلناه.

ثمّ اعلم أنه لا فرق في إفساد الضميمة المنافية للإخلاص في التقرّب إلى الله بامتثال أمره بين أن تكون مع نيّته في أوّل العمل ، أو تلحقه في أثنائه مطلقاً ، سواء كان رياءً أو عجباً أو غيرهما ، حتّى إنه لو أُعجب الإنسان بنفسه وما صدر منها وما يصدر واستكبارها واستحسانها وجميع صفاتها وأعمالها وعلومها واستصغارها لأدنى المؤمنين ، وأعماله واستحقارهم ، وأعمالهم بالنسبة له ولعلمه وعمله فإن إعماله وعلومه سراب بقيعة ؛ فإنه بعيد بهذا من خشية الله أشدّ البعد ومتجافٍ عن بساط العبوديّة لله بكمال الذلّ ، فهو بعيد عن دوام فيض رحمة الله ، فإنها إنما تكون للمسترحم بكمال الذلّ والحزن والخضوع والانكسار ، فإن الله يحبّ من عبده أن يسمعه صوت الحزين كما روي (٢).

فهذا عمله باطل مردود عليه ، لا يصعد إلى الله ؛ لأنه لم يشتقّ من معنى العبوديّة لله ، فإنها لا تكون مع شوب أبداً. فأمّا إذا لحق العُجب والسمعة للعمل بعد كماله ، فالظاهر أنه لا يوجب الإعادة ولا القضاء لعدم الدليل على التكليف الثانوي ، ولأنها صدرت طبق الأمر ، والامتثال يقتضي الإجزاء ، ومعه لا إعادة ولا قضاء ؛ لأنهما إنما

__________________

(١) إشارة إلى ما ورد في الكافي ٢ : ٣١٣ / ٣.

(٢) عدَّة الداعي : ١٤٦.

٤٤٨

يثبتان مع عدم وقوعه للترك المحض ، أو صدور عمل فاسد لم يطابق ما أمر الله به. ولكنّه يبطل استقراره ودوام ثوابه وإن كان لا بدّ له من جزاء ، إلّا إن دوامه يقطعه ذلك ، فهو يشبه الملك المتزلزل المشروط لزومه بأمر ، فإنه ما دام لم يتحقّق المبطل للملك فنماؤه له ، فإذا وقع المبطل للملك لم يستحقّ نفعه ونماءَه.

وجميع ما قرّرناه فَهْمُه من الأخبار غير عزيز ، ونقل الأخبار الدالّة عليه ممّا يطول ، ويخرجنا عن موضوع الرسالة وما بنيت عليه من الاختصار.

ثمّ قال رحمه‌الله تعالى ـ : ( الثالث : عرفت أن المكلّف إن كان يعمل لأجل شهوة قلبه أو شهوة غيره لا يكون ممتثلاً ، وكذا لو كان إحدى الشهوتين جزء العلّة لعمله.

وأمّا الرياء فقد عرَفت أيضاً حاله. والرياء : أن يعمل لأجل أن يرى الناس ، أو يسمعوا أو يسمّى بالسمعة ، وتكون الرؤية والسماع علّة للفعل أو جزء علّة ، وإن لم يكونا علّة ولا جزأها فلا يضرّ ، مثل أنه يعمل لله ، إلّا إنه إذا رآه إنسان أو سمعه يسرّه ذلك.

وفي الصحيح عن الباقر عليه‌السلام : أنه قال لا بأس حين سئل عمّا ذكرنا ، ثمّ قال عليه‌السلام ما من أحد إلّا وهو يحبُّ أن يُظهر الله (١) له في الناس الخير إذا لم يكن صنع ذلك لذلك (٢) ). أقول : وكذلك الحال لو كره ظهور فسقه وعصيانه ، أو قبيح منه أو ذمّة ولا يكون ذلك هو العلّة لصدور العبادة.

نعم ، يصحّ الإظهار ؛ لأن يقتدي به غيره فيضاعف أجره ، أو للترغيب وإشاعة العبادة والسنّة بين الناس لله تعالى أو أمثال ذلك. ومنها ألّا يذمّه الناس بترك الفرائض ويصير مسيئاً في الظاهر ، بل ظاهره الفسق عندهم ؛ لأن الناس شهداؤه في الدنيا والآخرة أو للتجافي عن التهتّك والله يبغض التهتّك ، ولأن الستر مأمور به ، أو لخوف أن يقصد بسوء أو للحياء وأمثال ذلك. فإن الإظهار غير نفس الفعل ،

__________________

(١) ليست في المصدر.

(٢) الكافي ٢ : ٢٩٧ / ١٨.

٤٤٩

والإظهار للأُمور المذكورة ربّما يكون واجباً ، وربّما يكون مستحبّاً ، وربّما يكون مباحاً. نعم ، إن كان رياء أو سمعة ، فهو حرام البتّة ، بل ومفسد للعمل.

خلاصة القول

أقول وبالله المستعان ـ : قد عرفت فيما تقدّم أنه متى كان لشهوة الإنسان أو شهوة غيره مدخليّة في الباعث على العبادة ، بطلت لمنافاتها ما أمر الله به من العبادة بالإخلاص ، سواء كانت الشهوة هي الباعث وحدها أو كانت جزء الباعث. بل قد عرفت أن الإخلاص لا يمكن كونه جزء الباعث ، بحيث يتركّب الباعث منه ومن غيره ، وأنه محال.

ولا شبهة في أن من عمل لمجرّد تحصيل الثواب في الآخرة أو الدنيا عاملٌ عملاً الباعثُ عليه شهوةُ نفسِه ، فعبارته تعمّ ذلك ، فلا يخلو من نوع منافرة. وقد عرفت حال الرياء والعجب والسمعة وأنها أنواع من الرياء ، وعرفت أثرها في العبادة قبلاً وفي الأثناء وبعداً ، وأمّا إظهار العمل فربّما أمر الشارع به كإظهار الزكاة ، والصلاة في المساجد ، وصلاة الجماعة والجمعة والعيدين والاستسقاء وصلاة الليل في بعض الأحوال وغير ذلك.

فالعامل يجب أن يلاحظ فيما يظهره أو يخفيه موافقة إرادة الله ومحبّته وامتثال أمره في حالَيْه ، فإن الله كما يحبّ أن يعبد سرّاً يحبّ أن يعبد جهراً ، وقد أمر أن يعبد سرّاً وجهراً. فيجب أن يلاحظ العابد موافقة إرادة الله منه في إسراره وإعلانه فيظهر الزكاة الواجبة ويسرّ المندوبة مثلاً ، وهو في كلّ من الصفتين يبتغي وجه الله ورضاه وما أحبّه منه ، ويراعي فيما لم يدلّ الدليل فيه على أحد الوجهين أخلصهما لله وأقربَهما من مرضاة الله وأحبّهما إلى الله تعالى ، كأن يكون في إظهار العمل سبب للاقتداء به ، أو إخراج بعض الجاهلين من أسر الجهالة ، أو إيقاظ بعض الغافلين من رقدة الغفلة عن طاعة الله ولها وبها ، أو يكون في إسراره إبعاد للشيطان عن وسوسة الرياء والسمعة أو العُجب ، أو في إظهاره نفي العُجب ، فإنه ربّما كان الإسرار سبباً

٤٥٠

للعجب ، وربّما كان الإظهار سبباً له ، وكأن يكون الإسرار سبباً لبقاء عبادة الله بتلك العبادة ، فإنه ربّما كان إظهارها سبباً لقطعها وعدمها أو سبباً لضرر مؤمن.

فالعامل يجب عليه في إسراره وإعلانه أقرب الحالين إلى مرضاة الله ومحبّته ، فإن تساوى في نظر العامل الأمران أو (١) لم يهتدِ إلى المرجّح كان الإسرار أرجح ما دامت دولة الجهل ، فإن الله عزّ اسمه أحبّ من حيث الإطلاق أن يعبد فيها سرّاً. ومن أجل ذلك شرّعت التقيّة ووقع التكليف بها حفظاً لهياكل التوحيد عن المحو ، إلى غير ذلك من الأسرار.

وبالجملة ، فمرجّحات الإعلان و (٢) الإسرار الموجب ملاحظتها التقرّبَ إلى الله وشدّةَ الإخلاص كثيرة جدّاً ، والطرق إلى مرضاة الله وما يقرّب منه بعدد أنفاس الخلائق ، وهي سمحة سهلة لكلّ سالك بحسب وسعه ، والله رؤوف رحيم. وأمّا حبّ الإنسان لأن يُظهر الله له في الناس الخير والذكر الجميل وبغضه لعكس ذلك ، فأمر جِبليّ طبعت النفوس عليه ، وهو غير مضرّ بالإيمان ما لم يُعمل لذلك ، فيدخل في الرياء والسمعة ، وربّما أُدخل في العُجب. وأمّا كراهية الإنسان لظهور معاصيه لمولاه ، فإن كان حياءً من الله فهو حسن ، وإن كان حياءً من الناس وخوفاً من مقتهم أو عقوبتهم فما أقبحه ؛ فقد ذمّ الله هذا في كتابه العزيز أشدّ الذمّ (٣).

ثمّ ذكر رحمه‌الله تعالى بعد هذا سبعة أبحاث حقّق فيها حال جملة من الأغراض التي تخدش الإخلاص أو لا تخدشه ، لا نطوّل بذكرها من أرادها فليرجع إليه.

وبالجملة ، فكلّ غرض من أغراض النفس يكون له مدخليّة في الباعثيّة على العمل فهو يخدش الإخلاص ، ويرفع إطلاق الاسم على النيّة والعمل حقيقة ، ويبطل

__________________

(١) في « م » : ( و ).

(٢) في « م » : ( أو ).

(٣) النساء : ١٠٨.

٤٥١

العمل. فلا بدّ في صحّة العمل صدق الإخلاص فيه حقيقة ، وهذا لا يتحقّق مع شوب مدخليّة لغير محض الامتثال والتقرّب وحبّ ما يحبّه الله من عبده كما هو واضح ، فإنه مع ذلك لا يخفى عدم تحقّق مبدأ اشتقاق الإخلاص عليه حقيقة ، بل ولا مجازاً ؛ لأنه ما لم تتحقّق الحقيقة في مثل المقام لا يتحقّق المجاز ؛ لأن المقام ليس بقابل للمجازفات والتجوّزات التي يصحّ نفيها بوجه. فصحّة العبادة يحتاج إلى مجاهدات كثيرة صعبة للنفس وعليها ، لكنّه بعد ارتياض النفس وتطبّعها به يكون سهلاً جدّاً لا يخرج عن وسع كلّ عابد بقدر قابليّته ، وعلى الله قصد السبيل ، ومنها جائر. عصمنا الله وإيّاكم من همزات الشيطان ، وأخذ بنا سبيل الرشاد.

تتمَّة في مطابقة العمل النيّة

لا يصحّ العمل إلّا إذا طابق النيّة وطابقته من كلّ وجه فـ : « إنما الأعمال بالنيّات ، وإنما لكلِّ امرئ ما نوى » (١) ، وجاء في تفسير قوله تعالى : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ ) (٢) تفسير الشاكلة بالنيّة (٣). فلا بدّ إذن من تطابقهما.

والأخبار بهذا المضمون كثيرة جدّاً. والنيّة هي الإرادة الخاصّة من كلّ وجه بالعمل الخاصّ المتشخّص من كلّ وجه. فلا بدّ من تشخّص العمل فيها من كلّ وجه ، وروحها هو الباعث على تلك الإرادة. فإذن هي رتبة من مراتب وجود العمل الكونيّ ، فلا بدّ من تطابقهما من كلّ وجه ، وإلّا لم تكن تلك النيّة والإرادة نيّة لذلك العمل ، فلا بدّ من تشخّصه فيها من كلّ وجه.

فإذن لو كانت النيّة كلّيّة أو مجملة أو مبهمة ولو بوجه ، لم تكن مطابقة للعمل الواقع في خارج الزمان المتشخّص بجميع مشخّصاته ولا نيّة له ؛ لأنها رتبة من رتب

__________________

(١) الأمالي ( الطوسيّ ) : ٦١٨ / ١٢٧٤ ، وليس فيه لفظ : « إنما » ، وأخرجه بهذا اللفظ البخاريُّ في صحيحه ١ : ٣ / ١ ، يُذكر أن المصنّف قدس‌سره ذكر الحديث من غير لفظ : « إنما ». راجع الصفحة : ٢٧ ، الهامش : ١.

(٢) الإسراء : ٨٤.

(٣) الدرّ المنثور ٤ : ٣٦١ ، الجواهر الحسان ٢ : ٢٧٧.

٤٥٢

وجوده في مقابلة الرتبة الأدنيّة التي تشخّص فيها بجميع حدوده ، وهذه غير تلك.

والدليل على هذا من الأخبار لا يُحصر ؛ لكثرته جدّاً ، وأيّده الاعتبار.

وأنت إذا تتبّعت جميع أبحاث الفقه من الطهارة إلى الحدود والديات ، وجدتها بأجمعها مستفيضة الدلالة على هذا ، ومضامين الأخبار المؤيّدة بالاعتبار دالّة عليه ، مثل إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكلِّ امرئ ما نوى.

فإذا أمرك الله تعالى بصلاة ركعتين مثلاً على سبيل الفرض بعد الطواف ، ونويت ركعتين مثلاً في الجملة ، ولم تلاحظ في نيّتك وصفهما بالوجوب وأنهما ركعتان من الطواف ، لم تنوِ ما فعلته ، ولم يطابق ما نويت. وكيف يُتصوّر كمال المطابقة بين المتشخّص الجزئيّ من كلّ وجه للكلّيّ ، أو المجمل ولو بوجه ، بحيث يكون هو هو من كلّ وجه.

وبيان هذا البحث يحتاج إلى بسط واسع ، والمقام لا يسعه. وما ذكرناه لك قانون كلّيّ ينفعك في موارد كثيرة ، وأرجو من الله أن يمدّ لي في التوفيق لإملاء رسالة مبسوطة في جزئيّات النيّات ، برحمته إنه جواد كريم.

وهذا آخر ما أردنا إملاءه في مسألة ضميمة طلب الثواب والهرب من العقاب في نيّة العبادة ، وقد جعلتها هدية لحضرة سيّد العالم السلطان الأعظم : عجّل الله بنشر ظلال عدله على جميع الخلائق فإن قبلها على حقارتها فهو أهل الرحمة ، وإن ردّها فبذنوب مؤلّفها الأقلّ أحمد بن صالح بن سالم بن طوق : ، وهو أكرم من أن يخيب راجيه.

انتهى بعصر اليوم الثالث عشر من شهر صفر سنة (١٢٤٣) (١) بقلم مؤلِّفها غفر الله له ولوالديه ، ولجميع إخوانه المخلصين ، وصلّى الله على محمَّد : وآله وسلم ، والحمد لله ربِّ العالمين كما هو أهله (٢).

وافق الفراغ من نساخة هذه الرسالة ضحى يوم الخميس اليوم السابع من شهر رجب

__________________

(١) في « م » بعدها : ( والحمد لله ).

(٢) ورد في ذيل هذه العبارة قوله : ( هذه صورة خَطِّ المصنّف شكر الله سعيه ) والظاهر أنها من الناسخ.

٤٥٣

[ الأصمّ (١) ] سنة (١٢٤٣) على يد الأقلِّ الأحقر الراجي عفو ربِّه الأجلِّ ناصر بن عليِّ بن ناصر بن عليِّ بن ناصر بن محمَّد ابن عبد الله بن حرم الفارساني البحراني عفا عنهم بمنِّه وكرمه إنه غفور رحيم. والحمد لله ربِّ العالمين كما هو أهله ، وصلّى الله على محمَّد وآله الطاهرين أبناء طه وياسين ، آمين آمين ربَّ العالمين (٢).

__________________

(١) في المخطوط : ( الأصب ) ولم نعثر على كلمة الأصب في اللغة كنعت لشهر الله رجب. والأصمُّ : شهر رجب ، وسمّي أصمّ ؛ لعدم سماع قعقعة السلاح فيه ، ولا صوت مستغيث بـ ( يا لَفلان ) و ( يا صاحباه ). لسان العرب ٧ : ٤١١ صمم.

(٢) في « م » بدلها : ( بقلم الأذلِّ الأحقر المخطئ الآثم الجاني زرع بن محمَّد علي بن حسين بن زرع : ، عفا الله عنهم بمحمَّد : الأمين وعترته المعصومين ، وعن المؤمنين وعمَّن ترحَّم عليهم من المؤمنين. والحمد لله ، وصلّى الله على أفضل الأنبياء والمرسلين محمَّد : وآله الطاهرين ).

٤٥٤

الرسالة السادسة عشرة

الواجب الكفائي

٤٥٥
٤٥٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين ، ولا حول ولا قوَّة إلّا بالله العليِّ العظيم.

أمّا بعد :

يقول المقصّر القاصر أحمد بن صالح بن سالم بن طوق : إن تحقيق مسألة ( الواجب الكفائيّ ) لم أقف فيها على تحقيق يكشف عن حقيقته ، فأحببتُ البحث عنه ، وبيان حقيقة الحال فيه ، فأقول وبالله المستعان ومنه الهداية وعليه التكلان ـ :

تعريف الواجب الكفائي

قال العلّامة : في ( نهاية الأُصول ) : اعلم أن غرض الشارع قد يتعلّق بتحصيل الفعل من كلّ واحد من المكلّفين عيناً ، وقد يتعلّق بتحصيله مطلقاً.

والأوّل هو الواجب على الأعيان ، والأمر يتناولهم على سبيل الجمع.

والثاني هو الواجب على الكفاية ، والأمر يتناول الجماعة لا على سبيل الجمع ، وهو إنما يكون إذا كان الغرض يحصل بفعل البعض ، كالجهاد المقصود منه حراسة المسلمين ، فمتى حصل بالبعض سقط عن الباقين ، والتكليف فيه موقوف على الظنّ ..

واعلم أن الواجب على الكفاية واجب على الجميع ، ويسقط بفعل البعض ، خلافاً

٤٥٧

لقوم (١) ، انتهى ملخّصاً.

وقد عنى بالقوم المخالفين بعض الشافعيّة (٢) ، حيث ذهبوا إلى أنه إنما يجب على فرد غير معيّن وطائفة غير معيّنة ، وقد ردّه العلّامة (٣) : وغيره بأن الإثم حاصل للجميع على تقدير الترك ، بالإجماع.

وقال في ( تهذيب الأحكام ) (٤) وشرحه لعميد الدين : ( البحث الثالث : في الواجب على الكفاية : وهو كلّ فعلٍ تعلّق غرض الشارع بإيقاعه لا من مباشر معيّن وهو واقع كالجهاد ، وهو واجب على الجميع ، ويسقط بفعل البعض ؛ لاستحقاقهم أجمع الذمّ والعقاب لو تركوه ، ولا استبعاد في إسقاط الواجب بفعل الغير.

والتكليف فيه موقوف على الظنّ ، فإن ظنّت طائفة قيام غيرها به سقط عنها ، ولو ظنّتْ كلّ طائفة ذلك سقط عن الجميع ، ولو ظنّت كلّ طائفة عدم الوقوع وجب على كلّ طائفة ) ، انتهى.

وكلامه في ( النهاية ) (٥) بالنسبة إلى إناطة سقوطه وعدمه بالظنّ طبق هذه العبارة.

وقال الشارح : ( اعلم أن غرض الشارع قد يتعلّق بتحصيل الفعل من كلّ واحد من المكلّفين بعينه ، ويسمّى واجباً على الأعيان ، كالصلاة والصيام والحجّ ، وقد يتعلّق بتحصيله مطلقاً لا من مباشرٍ بعينه ، ويسمّى وجوباً على الكفاية وهو واقع ، كالجهاد الذي قصد به حراسة المسلمين وإذلال الكفّار ، فمتى حصل ذلك من بعض المسلمين سقط عن الباقين ؛ لحصول مقصود الشارع ، وهو واجب على جميع المكلّفين المخاطبين به ، بدليل توجّه الذمّ إليهم ولحوق العقاب بهم عند اتّفاقهم على

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الأُصول : ٢٠١ ـ ٢٠٢ ( مخطوط ) ، عنه في مفاتيح الأُصول : ٣١٢ ( حجريّ ).

(٢) ذهب إلى ذلك صاحب المحصول ، انظر فواتح الرحموت ( في هامش المستصفى من علم الأُصول ) ١ : ٦٣ ، والبيضاوي. انظر مفاتيح الأُصول : ٣١٣ ( حجريّ ).

(٣) نهاية الوصول إلى علم الأُصول : ٢٠٢ ، عنه في مفاتيح الأُصول : ٣١٣ ( حجريّ ).

(٤) عنه في مفاتيح الأُصول : ٣١٢ ( حجريّ ).

(٥) انظر : هامش ١ من نفس الصفحة.

٤٥٨

تركه ) (١) ، انتهى.

وقال المحقّق ابن سعيد : في ( معارج الكمال ) : ( إذا تناول الأمر جماعة على سبيل الجمع يسمّى فرض عين ، كقوله ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (٢) ، أو لا على سبيل الجمع ، يسمّى فرض كفاية ، والفرض فيه موقوف على العلم أو غلبة الظنّ ، فإن عَلِم أو ظنّ قوم أن غيرهم يقوم به سقط عنهم ) (٣) ، انتهى.

وقال الشهيد : في ( القواعد ) : ( فرض العين [ شرعيّته للحكمة (٤) ] في تكراره كالمكتوبة ، فإن مصلحتها الخضوع لله عزوجل ، وتعظيمه ، ومناجاته ، والتذلّل له ، والمثول بين يديه ، والتفهم لخطابه ، والتأدّب بآدابه. وكلّما تكرّرت الصلاة تكرّرت هذه المصالح الحكميّة.

أما فرض الكفاية فالغرض إبراز الفعل إلى الوجود ، وما بعده خالٍ عن الحكمة ، كإنقاذ الغير.

ولا ينتقض بصلاة الجنازة ؛ لأن الغرض منها الدعاء له ، وبالمرّة يحصل ظنّ الإجابة ، والقطع غير مراد ، فلا تبقى حكمة في الدعاء بعد ذلك ، لخصوصيّة هذا الميّت. وإنما قيّدنا بالخصوصيّة ؛ لأن الإحياء على الدوام يَدْعون للأموات لا على وجه الصلاة ) (٥) ، انتهى.

وقال أيضاً في قواعده : الواجب على الكفاية له شَبَهٌ بالنفل ، من حيث إنه يسقط عن البعض بفعل الباقين. ومن حيث إن له شَبَهاً بالنفل جاز الاستئجار عليه ، كالاستئجار على الجهاد (٦) ، انتهى ملخّصاً.

وقال الشيخ بهاء الدين : في ( الزبدة ) : ( الواجب الكفائيّ : ما يسقط عن الكلّ بفعل

__________________

(١) عنه في مفاتيح الأُصول : ٣١٢ ( حجريّ ) ، ولم يورده كاملاً.

(٢) البقرة : ٤٣.

(٣) معارج الأُصول : ٧٥.

(٤) من المصدر ، وفي المخطوط : ( شرعية الحكمة ).

(٥) القواعد والفوائد ٢ : ٣٣ ـ ٣٤ / القاعدة الرابعة.

(٦) القواعد والفوائد ١ : ١٨٩ ـ ١٩٠ / القاعدة الثالثة والخمسون.

٤٥٩

البعض قطعاً ، أو ظنّاً شرعيّاً ) (١).

وقال الشارح الشيخ جواد : ( الفعل الواجب باعتبار فاعله ينقسم إلى فرض كفاية وفرض عين ؛ لأنه إن تعلّق غرض الشارع بوقوعه من كلّ واحد من المكلّفين بعينه ، أو من واحد معيّن كخصائص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ، فهو فرض عين كالصلاة.

وإن كان المقصود من إيجابه إيقاعه مع قطع النظر عن الفاعل المباشر له ، فهو فرض كفاية ، كالجهاد ، إذا كان الغرض منه إذلال الكفّار وإعانة المسلمين ، وهو قد يحصل بفعل البعض.

الواجب كفاية : هو ما يسقط عن الكلّ بفعل البعض قطعاً أو ظنّاً شرعيّاً ) ، انتهى.

قال الكاشاني : في ( المفاتيح ) والشيخ حسين : في شرحه وعبارتاهما ممزوجة [ إحداهما (٢) ] بالأُخرى في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : ( إذا اجتمعت الشرائط كلّها على تقدير الوجوب الكفائيّ لا العينيّ ، وكان المطّلع منفرداً تعيّن عليه وحده وصار واجباً عينيّاً ؛ إذ لا فرق بين الكفائيّ والعينيّ إلّا عند التعدّد وكان الجميع مستكملاً للشرائط.

فإن كان ثمّة غيره ، وشرع أحدهما في الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر ، فإن ظنّ المشارك الآخر أن لمشاركته أثراً في تعجيل ترتّب الأثر وهو الائتمار في الأوّل والانزجار في الثاني ، ورسوخ الانزجار أيضاً وجب عليه أيضاً ، ولا يسقط عنه بمجرّد التلبّس ، وإلّا فلا يجب عليه ؛ لظنّه بوقوع الأمر على يد شريكه ؛ ولأن الغرض ووجه الحكمة في وجوبهما وقوع المعروف ممّنْ أمر به ، وارتفاع المنكر ممّن نُهي عنه ، فمتى حصلا أو ظنّ حصولهما بفعل واحد قد تلبّس بالفعل كان السعي من قبل الآخر عبثاً.

وهذا هو الفارق بين الواجب العينيّ والكفائيّ ، وهو معنى ما قيل كما هو المشهور بين علماء الفريقين ـ : إن وجوبهما كفائيّ ) ، انتهى.

__________________

(١) الزبدة : ٤٢ ( حجريّ ).

(٢) في المخطوط : ( أحدهما ).

٤٦٠