رسائل آل طوق القطيفي - ج ٢

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

وقال الشيخ زين الدين : في ( تمهيد القواعد ) : ( إذا طلب الفعل الواجب من كلّ واحد بخصوصه ، أو من واحد معيّن كخصائص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : فهو فرض العين ، وإن كان المقصود من الوجوب إنما هو إيقاع الفعل مع قطع النظر عن الفاعل سمّي فرضاً على الكفاية ، ووجه التسمية بذلك أن فعل البعض فيه يكفي في سقوط الإثم عن الباقين مع كونه واجباً على الجميع ، بخلاف فرض العين فإنه يجب إيقاعه من كلّ عين ).

إلى أن قال بعد تعداد جملة من الكفائيّ المندوب والواجب ـ : ( إذا علمتَ ذلك فيتفرّع عليه فروع منها ).

إلى أن قال : ( ومنها : إذا صلّى على الجنازة واحد مكلّف كفى وإن كان أُنثى ).

إلى أن قال : ( ولو صلّى عليه أكثر من واحد دفعة ، أو متعاقبين بحيث شرع المتأخّر قبل فراغ الأوّل ، وقع الجميع فرضاً ؛ لأنه لم يسقط بالشروع سقوطاً مستقرّاً على الأقوى ، وحينئذٍ فينوي كلّ واحد الوجوب.

ولو صلّى المتأخّر بعد فراغ المتقدّم جماعة أو فرادى أو بالتفريق ، قيل : وقع الجميع فرضاً أيضاً كالسابق ؛ لأن الفرض متعلّق بالجميع ، وإنما سقط عن البعض بقيام البعض به تخفيفاً ؛ ولما فيه من ترغيب المصلّين ؛ لأن ثواب الفرض يزيد على ثواب النفل. وقيل : تكون المتأخّرة نفلاً ؛ لسقوط الفرض بالأُولى ، ولا معنًى للواجب إلّا ما يُؤثم بتركه ؛ إمّا مطلقاً ، أو بغير بدل ، ولا إثم هنا على الباقين ) (١) ، انتهى ملخّصاً.

وعلى مثل هذه العبارات كادت أن تتّفق كلمة أصحابنا في الكلام على بيان الواجب الكفائيّ. والظاهر من لفظ السقوط أن التكليف به يرتفع عن الباقين إذا قام به البعض ، وظاهر إطلاقهم السقوط يعمّ جميع أفراد الكفائيّ ، وخصوصاً عبارة ( شرح المفاتيح ) وعبارة ( القواعد ) فإنهما صريحتان في سقوط التكليف به عن الباقين إذا قام به بعض المخاطَبين به.

ومقتضى ظاهر هذا كلّه بدعيّة تكراره في جميع أفراده من غير فرق بين فرد منه

__________________

(١) تمهيد القواعد : ٤٨ ـ ٥٠.

٤٦١

وآخر ، ولا بين تكراره من فاعل بعينه واحد ، أو متعدّد على التعاقب.

وأنا أقول : ليس هذا الإطلاق بجيّد ؛ لانتقاض طرده بجملة من أفراده ، كردّ السلام ، والصلاة على الميّت ؛ فإنه لا يكاد ينكر مشروعيّة تكرارهما إذا تعدّد الفاعل أو كان إماماً ولو اتّحد.

والأخبار بهما غير عزيزة الوجود ، فقد كرّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : الصلاة على بعض الصحابة كما روي ، ويمكن أن يكون من هذا القبيل تكراره التكبير على حمزة رضى الله عنه (١).

وأمير المؤمنين عليه‌السلام صلّى على سهل بن حنيف : خمس مرّات ، ممّا روي بعدّة طرق يعرفها مَنْ راجع كتب الرجال والاستدلال كـ ( الذكرى ) (٢) و ( المدارك ) (٣).

وتكرّرت الصلاة من الصحابة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بلا شكّ ، من غير إنكارٍ من وصيّه صلّى الله على محمّد وآله (٤).

وبهذا يثبت انتقاض كلّيّته ، ويثبت مناقضته بالصلاة على الجنازة.

ويُمكن أن يجاب عنه بأَنه لعلّه أراد نفي مشروع تكراره من فاعل واحد ، لأنه لمْ يقمْ على مشروعيّته حينئذٍ دليل عنده إلّا في إمام الجماعة ؛ لثبوته بالدليل.

والتكليف خصوصاً في العبادات يحتاج ثبوت مشروعيّته إلى دليل قاطع ، فإن الله عزّ اسمه لا يُعبد إلّا من حيث يُحِبّ ، ومشروعيّة تكرار الصلاة على الميّت إذا تعدّد المصلّي جماعة أو فرادى لا يكاد يظهر فيه خلاف بين العصابة ، وإنما اختلفوا في كراهية التكرار وعدمه ، فتعيّن أنه أراد عدم الحكمة والمشروعيّة في تكراره من الفاعل الواحد غير ما ثبت بالدليل في إمام الجماعة.

على أن تعليله بحصول ظنّ الإجابة وهو يحصل بفعلها مرّة ، ضعيف ، فإنه لا ريب في تأكّد الظنّ وهو مطلوب البتّة ؛ لأن مطلوبيّته أوْلى من مطلوبيّة مطلقة ، مع

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٨٦ / ١ ـ ٣ ، ٢١١ / ٢ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٤٥ / ١٦٧ ، وسائل الشيعة ٣ : ٨١ ـ ٨٢ ، أبواب صلاة الجنازة ، ب ٦ ، ح ٥ ـ ٧.

(٢) الذكرى : ٥٥ ( حجريّ ).

(٣) مدارك الأحكام ٤ : ١٨٥.

(٤) الكافي ١ : ٤١٥ / ٣٧.

٤٦٢

أنه مطلوب في ضمن المطلوبيّة المطلقة ، ولا ينافيه عدم مطلوبيّة القطع ؛ لاستحالته إلّا بطريق أخبار المعصوم وإن كان ظاهر عبارته يعمّ الصنفين ، وهو أخبر بما قال.

أقسام التكليف

وتحرير القول في هذه المسألة المهمّة أن نقول وبالله المستعان ـ : اعلم أن التكليفات التي دار عليها نظام الوجود الجملي التي هي السبيل إلى الله وبها حياة القلوب منقسمة إلى قسمين :

قسم اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يأمر الله تعالى به كلّ فرد فرد ممّن استجمع شرائط التكليف به من البشر ، وهو ما به قوام وجود كلّ فرد منهم ، وبعموم تكليف كلّ فرد به قوام النظام الجملي ، أو تكليف فرد معيّن دون مَنْ سواه ، وهو المسمّى في اصطلاح الأُصوليين والفقهاء بالواجب العيني ، وهذا ينقسم باعتبار ما كُلّف به المكلّفون إلى قسمين :

أحدهما : ما اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يكون التكليف فيه بشي‌ء معيّن لا يقوم غيره مقامه ، وأفراده كثيرة ؛ لأنه الغالب في الواجب العيني مثل الصلوات المفروضة ، والصوم المفروض ، وغيرهما ، وهو المعروف بالواجب المعيّن.

والثاني : ما اقتضت الحكمة أن يخيّر المكلّفون فيه بين فردين ، أو أفراد ، أيّهما أو أيّهم أوقعه المكلّف في الخارج كفى في تحقّق مصلحة النظام والعدل ، وهو المعروف بالواجب المخيّر ، مثل خصال الكفّارة المخيّرة ، وغيرها.

والإجماع قائم من الفرقة على أن التكليف واقع بأحدهما أو أحدها لا على التعيين. وللعامّة فيه أقوال ثلاثة (١).

وقسم : اقتضت الحكمة الإلهيّة تعلّق التكليف بإبرازه في الخارج مطلقاً ، لا من كلّ فرد على التعيين ، ولا من فرد معيّن بخصوصه ، وهذا هو المسمّى في عرف

__________________

(١) فواتح الرحموت ( في هامش المستصفى من علم الأُصول ) ١ : ٦٦.

٤٦٣

الفقهاء بالكفائيّ ، وهذا ينقسم أيضاً باعتبار غايته إلى قسمين :

أحدهما : ما كان كمال الحكمة في العدل ، وصلاح النظام الجملي في تحقّقه في الوجود مرّة واحدة ، من واحد أو أكثر يفعلونه جميعاً مرّة واحدة ، ويكون تكراره مطلقاً قبيحاً ؛ لكونه عبثاً ، أو يستلزم ضرراً ومفسدة ، كإنقاذ الغير من الهلكة كالغرق والحرق وشبههما. وأفراده كثيرة ، بل هي الأكثر في أفراد الكفائيّ ، ومنها واجبات الاحتضار ، والتكفين ، والتغسيل ، والدفن ، والجهاد بعد ارتفاع موجبه ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد ارتفاع سببهما ، وغير ذلك ، وهو كثير.

والنصّ من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل متطابقون على بدعيّة تكرار هذا القسم وحرمته وعدم مشروعيّته ؛ وذلك لانحصار الحكمة في إيجاده في خارج الزمان مرّة واحدة ؛ ولوضوح ضرر تكراره في أكثر موارده ، فهو لا يقبل الزيادة على المرّة بذاته ، وبحسب الفاعل والمحل القابل والموضوع.

والثاني : ما يقبل الزيادة بحسب الفاعل والذات والمحلّ القابل ؛ للقطع بعدم حصول الضرر في تكراره ، بل ظهور المصلحة فيه ؛ لما فيه من تأكّد ظنّيّة حصول غايته وإن كان حكمة صلاح النظام الجمليّ وحفظ الأرض عن أن تسيخ يكفي في تحقّقها إيجاده مرّة واحدة ولو من واحد ممّن كُلّفوا به ، وذلك مثل الصلاة على الأموات ، وردّ السلام إذا كان المبتدئ قد سلّمَ على متعدّد ؛ وذلك لأنه دعاء وغايته الإجابة ، وظنّها كاف لتعذّر العلم بها ، وهو يحصل بفعلها مرّة ولو من واحد ، لكن في التكرار زيادة ظنّيّة بحصول الإجابة ، وهو مطلوب عقلاً.

ويدلّ على صحّة طلب تأكّد هذا الظنّ وراجحيّته استحباب كثرة المصلّين على الميّت ، فقد ورد أن من شهد له أربعون من المؤمنين بخير قبل الله شهادتهم وغفر له (١). ذكرته بالمعنى.

__________________

(١) الخصال ٢ : ٥٣٨ / ٤ ، أبواب الأربعين وما فوقه.

٤٦٤

مناقشة رأي الشهيد الثاني

فظهر أن الخلاف الذي ذكره الشيخ زين الدين : في ( التمهيد ) يجب أن يخصّ بهذا القسم ؛ إذ لا ينبغي الشكّ في عدم مشروعيّة تكرار القسم الأوّل.

فنقول : لو صلّى على الجنازة واحد أو أكثر دفعة ، شرع لمَنْ يأتي بعد كمالها أن يصلّي عليها أيضاً بلا شكّ ؛ لما ذُكر من الأخبار وللإجماع ، ولأنه عمل المسلمين جيلاً بعد جيل في سائر الأعصار والأمصار ؛ ولأنه الثابت من صلاة الصحابة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : بلا نكير من وصيّه عليه‌السلام.

وكذلك لو سلّم واحد على متعدّد فردّ عليه واحد مثلاً شرعَ لغيره الردّ بعد كمال ردّ الأوّل بلا شكّ ، وعمل امّة محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : على ذلك في سائر الأزمان بلا معارض ولا نكير فيهما.

فحينئذٍ : هل ينوي الآخر بصلاته ، أو ردّه السلام الوجوب ، أو الندب؟ قولان ، وعلى الأوّل وهو الوجوب ظاهر الشهيد : في ( القواعد ) و ( الذكرى ) قال في ( القواعد ) : ( ينبغي أن ينوي في الأشياء المحتملة للوجوب الوجوب ، كتلاوة القرآن ، إذْ حفْظه واجب على الكفاية ، وربّما تعيّن على الحافظ له ؛ حذراً من النسيان ، وكطلب العلم ؛ فإنه فريضة على كلّ مسلم ، وكالأمر بالمعروف إن قام غيره مقامه. وبالجملة ، فروض الكفاية كلّها.

وتجب نيّة الوجوب حيث يتعيّن عليه ، وفي ترك الحرام ينوي الوجوب ، وفي فعل المستحبّ وترك المكروه ينوي الندب ، والله الموفّق ) (١) ، انتهى.

وذلك لأن الظاهر أنه أراد بـ ( ينبغي ) الأحوط ، أي أن الاحتياط المبرئ للذمّة من عهدة التكليف بيقين هو نيّة الوجوب في كلّ واجب كفائيّ مع قيام الغير به. وهذا احتياط وجوبيّ لا يجوز غيره ؛ لعدم يقين الخروج من العهدة بغيره ، ولا يريد به نيّة

__________________

(١) القواعد والفوائد ١ : ١١٧ ـ ١١٨ / القاعدة التاسعة والثلاثون ، الفائدة الثانية ، ق ١ ، ف ٢٦.

٤٦٥

الفاعل المتعيّن عليه قطعاً ؛ للإجماع على وجوبه حينئذٍ عليه ، وعدم إرادته ظاهر من عبارته حيث قال : ( وتجب نيّة الوجوب حيث يتعيّن عليه ). ولمْ يقل : ينبغي. ولا يريد بـ ( ينبغي ) الندب ، وإلّا لكان هو القول بالتخيير ، ولو كان مراده لصرّح بالتخيير مع راجحيّة الوجوب ، فتفطّن. وسيأتي بيان ضعف القول بالتخيير إن شاء الله تعالى.

وقال في ( الذكرى ) : ( النظر الرابع : في الصلاة ، ومطالبه ثلاثة :

الأوّل : في واجبها ، وفيه مسائل :

الأُولى : تجب النيّة المشتملة على قصد الفعل على وجهه تقرّباً إلى الله تعالى ؛ لأنها عبادة وعمل ، فيدخل تحت ( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ) (١) ، إنما الأعمال بالنيّات (٢) ، وعن الرضا عليه‌السلام : لا عمل إلّا بنيّة (٣) ؛ ولأن الفعل إذا أمكن وقوعه على وجوه بعضها غير مراد للشارع ، لم يحصل الامتياز إلّا بالنيّة ، وإلّا للزم الترجيح من غير مرجّح ).

إلى أن قال : ( [ تفريع (٤) ] : لا يشترط التعرّض لكونها فرض كفاية ، بل يكفي [ مطلق (٥) ] الفرض ؛ لحصول الامتياز به. ويحتمله ؛ لأن النيّة لامتياز الشي‌ء على ما هو عليه ) (٦) ، انتهى.

وإطلاقه يظهر منه أنها تنوي وجوباً مطلقاً ، ولا ينافيه قوله في ( الدروس ) : ( ومَنْ دفن بغير صلاة صُلّيَ على قبره يوماً وليلة ، وقيل : إلى ثلاثة أيّام. وكذا يستحبّ لمن فاته الصلاة عليه ولو أدركه قبل الدفن ، ولم يناف التعجيل ، فالأوْلى استحباب الصلاة

__________________

(١) البيِّنة : ٥.

(٢) الأمالي ( الطوسيّ ) : ٦١٨ / ١٢٧٤ ، عوالي اللآلي ٢ : ١٩٠ / ٧٩ ، وسائل الشيعة ١ : ٤٨ ـ ٤٩ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٥ ، ح ١٠ ، مسند أحمد بن حنبل ١ : ٢٥ ، وفيه : « بالنيَّة ».

(٣) الكافي ٢ : ٨٤ / ١ ، الخصال ١ : ١٨ ، باب الواحد / ٦٢ ، الأمالي ( الطوسيّ ) : ٥٩٠ / ٢٢٣ ، وفيه : « بالنيَّة » ، عوالي اللآلي ٢ : ١٩٠ / ٨٠ ، وسائل الشيعة ١ : ٤٨ ، أبواب مقدِّمة العبادات ، ب ٥ ، ح ٩.

(٤) من المصدر ، وفي المخطوط : ( فرع ).

(٥) من المصدر ، وفي المخطوط : ( نيّة ).

(٦) الذكرى : ٥٨ ( حجريّ ).

٤٦٦

عليه ، ولو نزع مَنْ لم يصلّ عليه صُلّيَ عليه مطلقاً ، وفي استحباب تكرار الصلاة عليه هنا نظر ) (١) ، انتهى.

لاحتمال إرادته المستحبّ العينيّ ، بل هو الراجح بقرينة كلامه في ( القواعد ) و ( الذكرى ) ، ولا منافاة بين المستحبّ العينيّ والواجب الكفائيّ ؛ لصحّة اجتماعهما في فرد واحد كما عرفت.

والأوّل وهو الوجوب هو الأقوى عندي. ويدلّ عليه الاستصحاب السالم من المعارض الرافع له ، مِنْ نصّ أو إجماع ، وأنه الأحوط إذْ به يحصل يقين براءة الذمّة ، والخروج من عهدة التكليف المتيقّن ثبوته ، ولا يرفع اليقين إلّا مثلُه.

ويدلّ عليه أيضاً ظاهر عموم الكتاب والسنّة في ردّ السلام حيث قال عزّ اسمه وجلّ ( فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها ) (٢) وهذا الأمر المتّفق على إفادته الوجوب هنا لا شكّ في توجّهه إلى كلّ فرد حُيّيَ بالسلام ، بل هو في أفراد الجمع المحيّي به أظهر منه في الواحد ، فظاهره عموم وجوب كلّ ردّ. فالرادّ بقصد الوجوب سواء كان أوّلاً أو أخيراً ممتثل قطعاً ؛ لأنه أدّى وفعل ما أُمِرَ به على الصفة التي تَوجّه له بها الأمر ، بخلاف ناوي الاستحباب فإنه لم يتوجّه له أمرٌ بعنوان الاستحباب في الآية فلا يكون آتياً بما خُوطِبَ به ، ولا يقين له في خلوّ عهدته.

وعموم مثل صحيح عبد الله بن سنان : عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال ردّ جواب الكتاب واجب كوجوب ردّ السلام (٣) الخبر.

وخبر السكونيّ : عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : السلام تطوُّع ، والردُّ فريضة (٤).

__________________

(١) الدروس ١ : ١١٢.

(٢) النساء : ٨٦.

(٣) الكافي ٢ : ٦٧٠ / ٢ ، وسائل الشيعة ١٢ : ٥٧ ، أبواب أحكام العشرة ، ب ٣٣ ، ح ١ ، وفيه أيضاً : ١٣٥ ، أبواب أحكام العشرة ، ب ٩٣ ، ح ١.

(٤) الكافي ٢ : ٦٤٤ / ١ ، وسائل الشيعة ١٢ : ٥٨ ، أبواب أحكام العشرة ، ب ٣٣ ، ح ٣.

٤٦٧

وخبر [ مَسْعَدة (١) ] بن صدقة : المرويّ في ( الخصال ) عن جعفر بن محمّد : عن أبيه عليهما‌السلام أنه قال التسليم من المسلّم تطوّع ومن الرادّ فريضة (٢).

فعموم هذه الأخبار وشبهها يتناول الرادّ الأوّل والآخر وما بينهما إن كان.

ومثلهُ إطلاق الفتوى من جميع الأُمّة في جميع الأعصار بأن ابتداء السلام نافلة والردّ فريضة ، بل كاد أن يكون هذا الكلام بهذه العبارة من ضروريّات الملّة ؛ فإنك لا ترى أحداً من المكلّفين إلّا وهو يخبرك أنه يعلم أن ابتِداء السلام نفل وردّه فريضة ، وعموم إطلاقه يشمل الردّ الأوّل والآخر ، وهذه الإطلاقات والعمومات من الكتاب والسنّة والإجماع بوجوب الردّ لا معارض لها ، وهي شاملة لمحلّ النزاع ، ولا فارق بين ردّ السلام وغيره ممّا يشبهه في ذلك.

فإنْ قلت : النصّ والإجماع قائمان على أنه إذا كمل الردّ من واحد مِن القوم أجزأ عن الباقين ، وسقط عنهم لا إلى بدل ، فلو ترك الباقون حينئذٍ لم يُؤثموا ، وهذا هو معنى الواجب الكفائيّ ، ولا معنًى للمندوب إلّا ما لا يؤثم تاركه لا إلى بدل ، فكيف يُتصَوّر أن الردّ من الثاني بعد كمال ردّ الأوّل واجب وهو لا يؤثم بتركه؟

قلت : لا منافاة بين سقوط الإثم عن الثاني إذا ردّ الأوّل ولم يردّ ، وبين وجوب نيّة الوجوب من الثاني لو ردّ بعد كمال ردّ الأوّل وذلك لعدم استلزام السقوط ؛ لانقلاب الواجب مندوباً. والحقائق لا تنقلب ، وما بالذات لا يزول ، والوجوب والندب حقيقتان متباينتان عقلاً وشرعاً ، وله نظائر في الفقه ، فلو وجب على الحاكم قتل شخص للردّة وقَوَداً وحدّاً ، فَقَتَلَه آخر للردّة أو غيرها ، سقط عن الحاكم وجوب القتل.

وكذا كلّ كفائيٍّ لا يقبل الزيادة على مرّة ، فإنه في جميع هذا وشبهه يسقط الوجوب بفعل الغير ، ولا يتّصف الفعل في نفسه حينئذٍ بالندب ، بل هو على حقيقته ،

__________________

(١) من المصدر ، وفي المخطوط : ( صدقة ).

(٢) الخصال ٢ : ٤٨٤ ، أبواب الاثني عشر / ٥٧ ، وفيه : « والردّ عليه فريضة ».

٤٦٨

فلو قبل التكرار فكرّر كان على تلك الحقيقة الوجوبيّة فتُلاحظ في نيّته.

فإنْ قلت : هذا الرادّ بعد كمال ردّ غيره ، أو المصلّي بعد كمال صلاة غيره ، يجوز لهما ترك الردّ والصلاة لا إلى بدل ، وهذا لازم الندب.

قلت : بل ردّ مَنْ قَبْله ، وصلاة مَنْ قَبْله هو البدل ؛ وذلك لأن الواجب الكفائيّ معناه بالنسبة إلى المكلّفين كالواجب التخييريّ بالنسبة إلى الأعمال المكلّف بها ؛ فإن حكمة النظام في التخييريّ تعلّقت بإيجاد أحد فرديه ، أو أفراده لا على التعيين ، مع ملاحظة وصف الوجوب العنوانيّ في الفرد المقصود فعله. ولهذا شاع بين العلماء أن أفضل فردي المخيّر واجب تخييراً مستحبّ عيناً ، كالجمعة والظهر على المشهور المنصور من القول بالتخيير بينهما مع أفضليّة الجمعة ، وكالردّ بالأحسن والمِثل في تحيّة السلام مع أفضليّة الأحسن (١). ولا يظهر خلاف في تعيّن قصد الوجوب بكلّ أجزاء الأحسن ، ولا نعلم قائلاً بأنك إذا سلّم عليك شخصٌ بلفظ السلام عليكم ورددتَ عليه بلفظ وعليكم السلام ورحمة الله أنكَ تقصد ب عليكم السلام الوجوب وبما زاد الندب ، بل تقصد بالجميع الوجوب ؛ فإنه أجمع أحدُ أفراد المخيّر ، وكلّ منها يُفعل بعنوان الوجوب.

وكذلك الكفائيّ معناه وقوع التخيير للجماعة الذين كُلّفوا به بين أن يفعله واحد منهم أو أكثر ، ففِعْلُ الواحد مع ترك الباقين بمنزلة أحد أفراد المخيّر ، فلو فَعَلَه الثاني أيضاً كان فعل الاثنين بمنزلة الفرد الآخر من المخيّر ، فيلزم فيه ملاحظة الوجوب ؛ لأن فعل الاثنين مثلاً متعاقباً كان أو دفعة بمثابة فرد من أفراد المخيّر ، فلا منافاة بين كون فعل الاثنين مستحبّاً عيناً واجباً تخييراً كأفراد المخيّر.

وسقوط الإثم بعدم فعل أحد فردي المخيّر لا ينافي نيّة الوجوب بفعله إذا اختير ، وهذا معنى قول الشيخ حسين : في ( شرح المفاتيح ) : ( ولو كان المخاطب به يعني : السلام جماعة ، وهي اثنان فصاعداً ، فالردّ واجبٌ كفائيّ ، وردّ الجميع مستحبّ

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى : ( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ). النساء : ٨٦.

٤٦٩

عينيّ ) ، انتهى.

فلا تتوهّم أنه أراد أن ردّ ما زاد على الواحد مستحبّ ، أي ليس بواجب ؛ إذ لا تُشعر عبارته بهذا أصلاً ، ولو كان كذلك لكان معنى كلامه أنه إذا ردّ الجميع كان ردّ كلّ واحد مستحبّاً ، الأوّل والآخر ؛ لشمول لفظ الجميع لهما وما بينهما ، وأنه لو ردّ الجميع دفعة كان ردّهم مستحبّاً ، وهذا لا يقول به أحد من الأُمّة ، بل أراد بهذا مِثْلَ ما أراد بقوله : ( يجب الردّ بالأحسن أو المثل تخييراً وإن كان الأحسن مستحبّاً عينيّاً ) ، فجَعَلَ ردّ الجميع فرداً من أفراد ما خُيّر به مَنْ وجب عليهم الردّ من ردّ واحد أو أكثر ، فجَعَل رَدّ الجميع في الكفائيّ كالردّ بالأحسن في التخيير.

والظاهر أن هذا مقصود فقهائنا بمثل هذا الكلام ، فتنبّه فإنه دقيق ، ولا تستوحش من قلّة مَنْ نبّه على هذا بواضح البيان.

ولعلّ ما جاء في أخبار الباب التي هي الدليل بعد الإجماع على كفاية ردّ واحد من الجماعة إذا سلّم عَليهم مسلّم مثل موثّق غياث بن إبراهيم : عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال إذا سلَّم من القوم واحد أجزأ عنهم ، وإذا ردَّ واحد أجزأ عنهم (١) وخبر ابن بكير : عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال إذا مرَّت الجماعة بقوم أجزأهم أنْ يسلِّم واحد منهم ، وإذا سلَّم على القوم وهُمْ جماعة أجزأهم أنْ يردَّ واحد منهم (٢) وأمثالهما يشعر بأن الردّ مطلقاً واجب ؛ لما فيه من الإشعار بأن ردّ الواحد من الجماعة أقلّ الواجب وأدنى مراتبه ، فأشعر بأن الردّ الواجب درجات ، أدناها ردّ واحد من الجماعة ، فيكون ردّ الاثنين درجة فوقه ، وهكذا إلى أن يردّ الجميع دفعة أو متعاقبين.

وردّ الجميع أعلى الدرجات ؛ ولذا قال العلماء : إن ردّ الجميع واجب كفاية ومستحبّ عيناً. ولمْ يُفَرّقوا بين ردّ الجميع دفعة أو متعاقبين ، بل أطلقوا بأن ردّ الجميع واجب كفاية ، مستحبّ عيناً.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦٤٧ / ٣ ، وسائل الشيعة ١٢ : ٧٥ ، أبواب أحكام العشرة ، ب ٤٦ ، ح ٢.

(٢) الكافي ٢ : ٦٤٧ / ١ ، وسائل الشيعة ١٢ : ٧٥ ، أبواب أحكام العشرة ، ب ٤٦ ، ح ٣.

٤٧٠

فقد بان أن الكفائيّ والتخييريّ نوعان لمطلق ما اقتضت الحكمة تخيير المكلّفين التخيير فيه إلّا إن الأوّل في فعل الفاعل من حيث هو فاعل ، والثاني في فعله من حيث هو مفعوله ، كلّ ذلك تخفيف من الله ورحمة ، فكأن الجماعة المسلّم عليهم شخص واحد بملاحظة الهيئة الاجتماعيّة ، وكلّ واحد كأنه جزء من تلك الوحدة.

ولا ريب أن المسلّم إذا سلّم على متعدّدين يُلاحِظ أنه يسلّم على جملتهم من حيث إنهم جملة ، وعلى جميعهم من حيث الجمعيّة الحاصلة لهم حينئذٍ ، فكأنه يُلاحظ التسليم على شخص ذي أجزاء لا عليهم من حيث تعدّدهم ، وإلّا لم يكن فرق بين أن يسلّم على كلّ واحد واحد بعينه بسلام متعدّد ، أو بأنْ يقول : السلام عليك يا فلان ، ويا فلان ، ويا فلان ، وبين أن يقول : السلام عليكم. ملاحظاً للسلام على الجميع من حيث هو جميع.

والفرق واضح ؛ إذ لا ينبغي الشكّ في وجوب الردّ على كلّ واحد منهم إذا لاحظ المسلّم وقصد التسليم على كلّ واحد ولو بالصيغة الأخيرة ؛ لأن ردّ السلام ثابت وجوبه لا يسقط إلّا بوجه دلّ عليه الشرع ، ولا دليل هنا. والأصل أيضاً عدم إجزاء فعل الغير في سقوط ما وجب على الغير ، ولا دليل هنا على إجزاء ردّ الغير عن الغير.

وخرج ما لو سلّم على جماعة بعنوان الجمعيّة ، وملاحظة الوحدة الحاصلة من الهيئة الاجتماعيّة بدليل ، فيبقى ما سوى ذلك في عهدة التكليف حتّى يردّ بنفسه. وكأنهم أرادوا جميعاً حينئذٍ شخصاً واحداً كُلّفَ بعبادة فعملها بجميع أجزائه ، وذلك أكمل أفراد امتثاله ، وتأديته ما وجب عليه.

وأمّا وجه سقوط الإثم عن الكلّ إذا ردّ واحد منهم فظاهرٌ ممّا قرّرناه ؛ إذ هو حينئذٍ بمثابة عمل بعض الكلّ من حيث هو بعض ، فيجزي عن كلّه من حيث هو كلّه ، وذلك حينئذٍ بمثابة ذكر اللسان الواجب ، فإنه يُسقط العقاب ، ويُوجبُ الثواب عن كلّ الإنسان ، وله ، فما أشبه هذا بهذا!.

٤٧١

وأيضاً فإنه إذا ثبت أن بيع الحاكم عن الممتنع عن أداء ما لزمه من الحقّ الماليّ ، وإخراجه الزكاة عن الممتنع عن إخراجها قهراً ، وأمثال ذلك كالحجّ الواجب عن الميّت إجماعاً ، وعن الحيّ العاجز لكبر وضعف على المشهور ، وغير ذلك وهو كثير ، يجزي فيه فعل الغير عن الغير ولو كان عبادة مع تباين الشخصين ، فَلأَن يجزي فعل ردّ السلام من واحد من الجماعة عنهم ، ويُسقط الإثم عن الباقين مع كونه حينئذٍ جزءاً من كلّ ، وبعضاً من جملة ، أوْلى مع ملاحظة انضمام سعة رحمة الله وبناء التكليف على التخفيف ، فتيقّظ فإن المقام دقيق.

وأيضاً ابتداء السلام مستحبّ كفائيّ لا نعلم فيه خلافاً ، فلو سلّم واحد من القوم أجزأ عنهم ، والأخبار دالّة عليه ، مع أنه لا يكاد أحد يشكّ في بقاء استحباب التسليم من كلّ واحد بلا منافاة بين السقوط بفعل الواحد ، وبين بقاء الاستحباب في نفسه لكلّ واحد كفاية. فكما أن تسليم واحد من القوم لا يغيّر ذات ابتدائه عن كونه مستحبّاً كفائيّاً لو سلّمَ غيره ولو غيّره عن ذلك لسقط التكليف به رأساً ، وهو ظاهر البطلان. ولا قائل بوجود قسم مباح في الابتداء كذلك لو ردّ واحد من القوم لم يخرج الردّ من غيره بعد عن حقيقته ، وتنقلب ذاتُه إلى الاستحباب بحكم المقابلة ، ولأن اتّصاف الأفعال والعبادات بأحد العناوين الخمسة ليس يدور ويتسبّب عن أفعالهم ، ولا عليها ، ووجوب الردّ على الإطلاق ثابت على الرادّ ، وكذا وجوب الصلاة على الجنازة ، بل الكفائيّ قام إجماع العصابة على وجوبه على كلّ مستجمع للشرائط. فانقلابه حينئذٍ إلى الاستحباب يحتاج إلى دليل قاطع ، وسقوط الإثم لا يستلزمه كما عرفت.

وأيضاً فالقول بأن الثاني مثلاً إذا صلّى وردّ السلام بعد كمال عمل الأوّل ينوي الندب في الحقيقة قول بسقوط التكليف عن الثاني بما كلّف به ، وعدم مشروعيّة تكراره مطلقاً ؛ فإن النفل قسم من مطلق التكليف يباين الواجب ، فالمنوي حينئذٍ غير الساقط ، فليس هو إعادة لما سقط ولا تكراراً له ، وإنما هو عمل مستقل وتكليف

٤٧٢

آخر خارج عن الكفائي الواجب والمندوب فهو مستحب عينيّ. فهذا القول مستلزم لعدم مشروعيّة إعادة العمل الواجب الكفائي مطلقاً ؛ فهذا التكليف يحتاج في تحقّق مشروعيّته إلى دليل ، ولا دليل.

واستدل الشهيد الثاني لهذا القول بأن الغرض متعلق بالجميع ؛ وإنما سقط عن البعض ؛ تخفيفاً ، ولما فيه من ترغيب المصلّين ؛ لأن ثواب الفرض يزيد على ثواب النفل ) ، انتهى.

ودليله الأوّل عرفت وجهه ، والثاني كما ترى ، ونحن في غنًى عنه.

والقول الثاني : هو الاستحباب كما نقله في ( التمهيد ) (١) ، ولا تتوهّم أن السيّد : في ( المدارك ) ذهب إليه ، حيث قال رحمه‌الله في شرح قول المحقّق : ( وتكره الصلاة على الجنازة الواحدة مرّتين ) (٢) ـ : ( اختلف الأصحاب في هذه المسألة ، فقال العلّامة : في ( المختلف ) (٣) : ( المشهور كراهة تكرار الصلاة على الميّت ) ، وقيّد ابن إدريس (٤) الكراهة بالصلاة جماعة لتكرار الصحابة الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : فرادى ، وقال الشيخ : في ( الخلاف ) : ( مَنْ صلّى على جنازة يُكره له أن يصلّي عليها ثانياً ) (٥) ، وهو يُشِعرُ باختصاص الكراهة بالمصلّي المتّحد ، وربّما ظهر من كلامه في ( الاستبصار ) (٦) استحباب التكرار من المصلّي الواحد وغيره.

والأخبار الواردة في هذه المسألة مختلفة ، فورد في بعضها الأمر بالصلاة لمَنْ لم يُصلّ ، كموثّقة عمّار الساباطي : عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال الميّت يُصلّى عليه ما لم يُوارَ بالتراب وإنْ كان قد صلّي عليه (٧) ، وموثّقة يونس بن يعقوب : عن أبي عبد الله عليه‌السلام :

__________________

(١) تمهيد القواعد : ٥٠.

(٢) شرائع الإسلام ١ : ٩٧.

(٣) مختلف الشيعة ٢ : ٣٠٩ ـ ٣١٠ / المسألة : ١٩٤.

(٤) السرائر : ٣٦٠.

(٥) الخلاف ١ : ٧٢٦ / المسألة : ٥٤٨.

(٦) الاستبصار ١ : ٤٨٥ / ذيل الحديث ١٨٧٨.

(٧) تهذيب الأحكام ٣ : ٣٣٤ / ١٠٤٥ ، الإستبصار ١ : ٤٨٤ / ١٨٧٤ ، وسائل الشيعة ٣ : ٨٦ ، أبواب صلاة الجنازة ، ب ٦ ، ح ١٩.

٤٧٣

قال : سألته عن الجنازة لمْ أُدركها حتّى بلغت القبر ، أُصلّي عليها؟ قال إنْ أدركتها قبل أنْ تُدفن فإنْ شئتَ فصلِّ عليها (١).

وورد في بعض النهي عن ذلك كرواية وهب بن وهب : عن جعفر : عن أبيه عليهما‌السلام إنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : صلّى على جنازة ، فلمّا فرغ جاء أُناس فقالوا : يا رسول الله : ، لم ندرك الصلاة عليها. فقال : لا يصلّى على جنازة مرَّتين ، ولكن ادعوا له (٢).

ورواية إسحاق بن عمّار : عن أبي عبد الله عليه‌السلام : مثله (٣).

وهذه الروايات قاصرة من حيث السند ، وجَمَعَ الأكثر بينها بحمل النهي على الكراهة ، وظاهرهم الاتّفاق على الجواز.

أمّا تكرار الصلاة من المصلّي الواحد فلمْ أقفْ فيه على رواية ، سوى ما نُقِلَ من صلاة أمير المؤمنين : صلوات الله عليه على سهل بن حنيف : خمس مرّات ، وقد روي ذلك بعدّة طرق ، منها : ما رواه الشيخ : في الحسن عن الحلبي : عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال كبَّر أمير المؤمنين عليه‌السلام : على سهل بن حنيف : ، وكان بدريّاً ، خمس تكبيرات ، ثمّ مشى ساعة ، ثمَّ وضعه وكبَّر عليه خمساً اخرى ، فصنع ذلك حتّى كبَّر عليه خمساً وعشرين تكبيرة (٤).

وعن أبي بصير : عن أبي جعفر عليه‌السلام : نحو ذلك ، وفي الرواية أنه عليه‌السلام كلَّما أدركه الناس قالوا : يا أمير المؤمنين ، لم ندرك الصلاة على سهل. فيضعه فيكبِّر عليه خمساً حتّى انتهى إلى قبره

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٣ : ٣٣٤ / ١٠٤٦ ، الإستبصار ١ : ٤٨٤ / ١٨٧٥ ، وسائل الشيعة ٣ : ٨٦ ، أبواب صلاة الجنازة ، ب ٦ ، ح ٢٠.

(٢) تهذيب الأحكام ٣ : ٣٣٢ / ١٠٤٠ ، الإستبصار ١ : ٤٨٥ / ١٨٧٩ ، وسائل الشيعة ٣ : ٨٧ ـ ٨٨ ، أبواب صلاة الجنازة ، ب ٦ ، ح ٢٤.

(٣) تهذيب الأحكام ٣ : ٣٢٤ / ١٠١٠ ، الإستبصار ١ : ٤٨٤ / ١٨٧٨ ، وسائل الشيعة ٣ : ٨٧ ، أبواب صلاة الجنازة ، ب ٦ ، ح ٢٣.

(٤) الكافي ٣ : ١٨٦ / ٢ ، وسائل الشيعة ٣ : ٨٠ ، أبواب صلاة الجنازة ، ب ٦ ، ح ١.

٤٧٤

خمس مرّات (١).

وبذلك احتجّ الشيخ (٢) : على استحباب الإعادة مطلقاً ، وهو إنما يدلّ على استحباب الإعادة للإمام خاصّة ، لكنْ قال العلّامة : في ( المختلف ) : ( إن حديث سهل ابن حنيف : مختصّ بذلك الشخص ؛ إظهاراً لفضله ، كما خصّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : عمّه حمزة : بسبعين تكبيرة (٣) ) (٤).

وفي كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام : في ( نهج البلاغة ) (٥) ما يدلّ على ذلك.

وكيف كان ، فينبغي القطع بكراهة التكرار من المصلّي الواحد لغير الإمام ، بل يُمكن القول بعدم مشروعيّته ؛ لعدم ثبوت التعبّد به.

أمّا الإمام فلا يبعد الحكم بأنه يستحبّ له الإعادة بمن لم يصلّ ؛ للتأسّي ، وانتفاء ما ينتهض حجّة على اختصاص الحكم بذلك الشخص. ومتى قلنا بمشروعيّة الإعادة ، وأُريد التعرّض للوجه ، نوى الندب ؛ لسقوط الفرض بالأوّل ، وجوّز المحقّق الشيخ عليّ : إيقاعها بنيّة الوجوب اعتباراً بأصل الفعل ، ولا وجه له ) (٦) ، انتهى.

ولفظ عبارة الشيخ عليّ : في شرح قول المحقّق : في ( الشرائع ) (٧) والعلّامة : في ( القواعد ) (٨) : ( وتكره الصلاة على الجنازة الواحدة مرّتين إذا كان المصلّي واحداً أو كان التكرار منافياً للتعجيل ، ويتخيّر في المُعادة بين نيّة الوجوب اعتباراً بأصل الفعل ، والندب اعتباراً بسقوط الفرض ) (٩) ، انتهى.

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٨٦ / ٣ ، وسائل الشيعة ٣ : ٨١ ـ ٨٢ ، أبواب صلاة الجنازة ، ب ٦ ، ح ٥.

(٢) الاستبصار ١ : ٤٨٥ / ذيل الحديث ١٨٨٧.

(٣) الكافي ٣ : ١٨٦ / ١ ، وسائل الشيعة ٣ : ٨٢ ، أبواب صلاة الجنازة ، ب ٦ ، ح ٦.

(٤) مختلف الشيعة ٢ : ٣٠٩ ـ ٣١٠ / المسألة : ١٩٤.

(٥) نهج البلاغة : ٥٢٧ ـ ٥٢٨ / الكتاب ٢٨ ، وفيه : « ألا ترى غير مخبر لك ، ولكن بنعمة الله أُحدِّث أن قوماً استشهدوا في سبيل الله تعالى من المهاجرين والأنصار ، ولكلٍّ فضلٌ حتّى إذا استشهد شهيدنا ، قيل : سيِّد الشهداء ، وخصَّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه ».

(٦) مدارك الأحكام ٤ : ١٨٣ ـ ١٨٦.

(٧) شرائع الإسلام ١ : ٩٧.

(٨) قواعد الأحكام ١ : ٢٠ ( حجريّ ).

(٩) جامع المقاصد ١ : ٤٢٨ ـ ٤٢٩ ، بالمعنى.

٤٧٥

وكلاهما لم يُرد ما نحن فيه من نيّة مَنْ أراد أن يصلّي على ميّتٍ بعد أن صلّى عليه غيره ، بل أرادا نيّة من صلّى ثمّ أراد أن يُعيد الصلاة هو مرّة أُخرى على فرض مشروعيّتها ، وهذه حينئذٍ بمنزلة اليوميّة المُعادة جماعة.

فقد قيل بالتخيير فيها بين نيّة الوجوب والندب ، والمشهور المنصور أنها لا تُعاد إلّا ندباً ؛ لانقضاء الفرض ، وعدم الدليل على ثبوت التكليف بفرضي ظهر مثلاً في يوم ، فهو حينئذٍ خارج عن الشريعة ، والتخيير أيضاً لا معنى له ؛ لأن العبادة بأصل الشرع ؛ إمّا واجبة ، أو مندوبة بذاتها. وكلّ منهما لا ينقلب حقيقته إلى الآخر باختيار أحد من المكلّفين ، وإنما توصف الأفعال وتتحقّق بصفة الوجوب أو الندب وغيرهما من الصفات الخمس بحسب حكمة الله وحده ، فلا أرى وجهاً لجواز نيّة الوجوب في المُعادة من شخص واحد ، فضلاً عن الجواز ؛ إذ لا يظهر دليل على مشروعيّتها بوجه أصلاً ، وكلامهما خارج عمّا نحن فيه.

وما مال إليه السيد : رحمه‌الله (١) من عدم مشروعيّة تكرار الصلاة من الشخص الواحد إذا لم يكن إماماً وصلّى بجماعة أُخرى مطلقاً ، سواء صلّى الأُولى جماعة أو منفرداً ، قويّ جدّاً.

ومثله إعادة الصلاة جماعة للإمام أيضاً بمن صلّى بهم أوّلاً ؛ فإنه لم يظهر لي دليل على مشروعيّة ذلك.

فأمّا إعادتها بمعنى تكرارها من أشخاص متعدّدين ، ومن الإمام بجماعة آخرين ، فلا شكّ في مشروعيّته.

وفي كراهته فرادى أو جماعة نظر ؛ لعدم ما يقاوم ويعارض ما مرّ من الأخبار من فعل المعصوم وتقريره ، وأمّا ما في ( المختلف ) (٢) من اختصاص سهل : بذلك فممّا لا دليل عليه ، بل الدليل ينفيه ؛ لأن في أُمّة محمَّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمثاله كثير ، ومَنْ هو أفضل منه ، فلا يظهر وجه حكمة ولا دليل على اختصاصه بذلك دونهم. وما جاز بالنسبة لأهل

__________________

(١) مدارك الأحكام ٤ : ١٨٣ ـ ١٨٦.

(٢) مختلف الشيعة ٢ : ٣١٠ / المسألة : ١٩٤.

٤٧٦

الفضل جاز في غيرهم ؛ لعدم الفارق في هذا التكليف ، من نصّ ، أو فتوًى.

ولم أقف على ناصّ مصرّح من الأصحاب على اتّصاف صلاة المصلّي ثانياً على الجنازة بعد أن صلّى عليها غيره ، وسلام الرادّ بعد ردّ غيره بعنوان الندب.

ومثل عبارة ( الدروس ) (١) المتقدّمة وقول العلّامة : في ( التحرير ) : ( من لم يصلّ على الجنازة يستحبّ له أن يصلّي على القبر يوماً وليلة ، ثمّ لا يصلّي بعد ذلك على أظهر القولين ) (٢) ، وما ماثلهما من عبارات الأصحاب ، فالظاهر أنهم إنما عَنوا الاستحباب العينيّ ، وهو يجامع الوجوب الكفائيّ والتخييريّ ، ولا أقلّ من الاحتمال.

وبالجملة ، فنيّة الاستحباب فيما نحن فيه لم أقف على مصرّح بها من الأصحاب إلّا ما تُوهّم عن ( روض الجنان ) (٣) ولا على ما يدلّ عليه. وما استدلّ له به الشهيد رضي‌الله‌عنه : في ( التمهيد ) من ( سقوط الفرض بالأُولى ، ولا معنى للواجب إلّا ما يؤثم بتركه إمّا مطلقاً ، أو بغير بدل ، ولا إثم هنا على الباقين ) (٤) قد مرّ جوابه ، فإن الكفائيّ يعمّ الخطاب به جميع المكلّفين ، بإجماع الفرقة.

ولم يُنقل الخلاف فيه إلّا عن بعض الشافعيّة (٥) ، فإنهم ذهبوا إلى أنه واجب على فرد غير معيّن ؛ واحتجّوا بأن الواجب ما يستحقّ تاركه الذمّ والعقاب ، وهذا التارك لا يستحقّ ذمّاً ولا عقاباً إذا فعله غيره ، فلا يكون واجباً عليه ، ولأن الواجب لا يسقط بفعل الغير ، ولأنه كما أمَرَ بواحد مبهم ، جاز أمْرُ بعضٍ مبهم ، ولأنه تعالى أوجبَ النفور للتفقّه في الدين (٦) على بعض غير معيّنٍ.

ودليلهم الأوّل هو بعينه دليل القائل بالاستحباب في المبحوث عنه كما يظهر

__________________

(١) الدروس ١ : ١١٢.

(٢) تحرير الأحكام ١ : ١٩ ( حجريّ ).

(٣) روض الجنان : ٣١٠.

(٤) تمهيد القواعد : ٥٠.

(٥) ذهب إلى ذلك صاحب المحصول ، انظر فواتح الرحموت ( في هامش المستصفى من علم الأُصول ) ١ : ٦٣. والبيضاوي ، انظر مفاتيح الأُصول : ٣١٣ ( حجريّ ).

(٦) في قوله تعالى : ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ). التوبة : ١٢٢.

٤٧٧

بأدنى ملاحظة.

وأجاب عنه القائلون بوجوبه على جميع المكلّفين من الخاصّة والعامّة بما مضمونه ومعناه ما أجاب به العلّامة : في ( النهاية ) حيث قال : ( والجواب أن ما ذكرتموه حدّ الواجب [ المعين (١) ] ، أمّا المخيّر فلا ، ولأنه على تقدير فعل الغير يسقط فلا يبقى واجباً عليه فلا يستحقّ ذمّاً ولا عقاباً. ولا استبعاد في أن يسقط الواجب على الشخص بفعل غيره إذا كان الغرض تحصيل ذلك الفعل وإدخاله في الوجود لا من مباشر معيّن.

والفرق بين الأمر بالمبهم والأمر له إمكان الإثم على ترك المبهم وإثم واحد مبهم غير معقول.

ويجب تأويل الآية على مَنْ يسقط الواجب بفعله ؛ جمعاً بين الأدلّة ، ولأنا نقول بموجبه ، فإن إيجاب النفور على بعض كلّ فرقة من غير تعيين يستلزم الوجوب على الجميع على الكفاية ، فإنه أوّل المسألة ) (٢) ، انتهى.

وبهذا يسقط الاستدلال للقائل بالاستحباب بما في ( التمهيد ) زيادة على ما مرّ ، فإذا عمّ الخطاب بالكفائيّ جميع المخاطبين به ، وثبت وجوبه على كلّ فرد بمقتضى عموم الخطاب به للجميع ، وإن كان على وجه البدليّة ؛ إمّا لعدم الحكمة في إيجاده في الخارج مرّتين ، أو لتحقّق المفسدة أيضاً بفعله مرّتين كما في القسم الأوّل من قسميه ، أو لتحقّق مصلحة النظام الوجوديّ بفعله مرّة واحدة.

وإن قبلت الزيادة كما في الثاني ، فإمّا أن يعمل حينئذٍ فيما فيه النزاع بما يقتضي وصف فعله ثانياً بعد فعله أوّلاً من شخص آخر بالأدلّة التي مرّ ذكرها فنحكم بوجوبه مطلقاً ، أو نقول بعدم مشروعيّة فعله أكثر من مرّة مطلقاً ، اتّحد الفاعل أو اختلف ؛ التفاتاً إلى عبارات الفقهاء وعلماء الأُصول في تعريفه ، وحكمهم بأنه متى فَعَلَه واحد سقط عن الباقين.

__________________

(١) من المصدر ، وفي الخطوط : ( العيني ).

(٢) نهاية الوصول إلى علم الأُصول : ٢٠٢ ، ( مخطوط ).

٤٧٨

فإن ظاهر إطلاق السقوط يقتضي عدم المشروعيّة ، ولا قائل بعدم مشروعيّة تكرار الصلاة على الجنازة من شخصين ، ولا تكرار ردّ السلام كذلك ، فلم يبقَ إلّا القول بوجوب ملاحظة نيّة الوجوب في فعل الشخص الثاني ، للردّ والصلاة ، وأمّا نيّة الاستحباب حينئذٍ فلا دليل يظهر عليها.

والعبادات لا تشرع إلّا كما أمر الله تعالى وأحبّ ، وهو الذي قسّمها برحمته وحكمته إلى واجب ومندوب بحسب قسمته الوجود إلى ذلك ، فإن فيه ما هو متمّم ومكمّل ، وفيه ما هو واجب بالذات. فالواجب لا تنقلب حقيقته إلى الندب ، ولا الندب إلى الوجوب بفعل بعض المكلّفين ، وما بالذات لا يزول ، ولا دليل هنا على انحلال ما وجب على جميع المكلّفين غير الفاعل الأوّل ، وانقلابه إلى الندب بعد فعل العامل الأوّل.

بل لو تأمّلت حقّ التأمّل لوجدتَ القول بذلك هو بعينه قول بعض الشافعيّة بأن الكفائيّ إنما وجب على واحد غير معيّن يرجع تعيينه إلى اختيار المكلّفين. وهو واضح الاستحالة والفساد ؛ لما عرفت ، ولأن أدلّة التوحيد تدفعه ؛ لمنافاته لها. فتأمّل المقام بقلب خالٍ من الشبهة والشكّ ، واعرف الرجال بالحقّ لا الحقّ بالرجال ، ثبّتنا الله وإيّاك على الصراط المستقيم ، والحمد لله ربّ العالمين.

تنبيهات

بقي هنا إلحاقة تكمل بها الرسالة ، فيها تنبيهات :

الأوَّل : تَفَطّنْ في قول العلّامة : وغيره في الجواب عن شبهة بعض الشافعيّة المذكورة : إن ما ذكره الشافعيّة حدّ الواجب العينيّ أمّا المخيّر فلا.

فإنه عنى بالمخيّر الكفائيّ ، ففيه إشارة إلى أن الكفائيّ تخييريّ بوجه. وفي هذا انسٌ لك فيما قرّرناه سابقاً وأوضحناه ، ووسيلة لقبوله ، وبه يتّضح معنى عبارة العلّامة : وأضرابه هنا.

الثاني : سقوط الكفائيّ عن المخاطبين به بفعل بعضهم ، هل مناطه الظنّ ، أو العلم؟

٤٧٩

أطلق العلّامة : في ( النهاية ) و ( تهذيب الأحكام ) : أن مناطه الظنّ ، وكذلك السيّد عميد الدين : ، وجماعة.

قال في ( النهاية ) : ( والتكليف فيه موقوف على الظنّ ، فإذا ظنّ بعضٌ قيام غيرهم به سقط عنهم ، وإن ظنّوا عدم قيامهم وجب عليهم ، وإن ظنّ كلّ منهم عدم قيام غيره وجب على كلّ واحد القيام به ، وإن ظنّ كلّ فريق قيام غيرهم سقط عن الجميع ؛ لأن تحصيل العلم بأن غيره هل يفعل غير ممكن ، بل الممكن الظنّ ) (١) ، انتهى.

ومثله كلامه في ( تهذيب الأحكام ) وكلام عميد الدين : في شرحه ، وغير واحد من الأُصوليّين ، وشرط جماعة منهم الشيخ بهاء الدين : في ( الزبدة ) ، والشيخ جواد : في شرحها لسقوطه حصول العلم القطعيّ أو الظنّ الشرعيّ قال رحمه‌الله : ( الواجب الكفائيّ : ما يسقط عن الكلّ بفعل البعض قطعاً ، أو ظنّاً شرعيّاً ) (٢).

وقال الشارح الشيخ جواد : ( فالواجب كفاية : هو ما يسقط عن الكلّ بفعل البعض قطعاً أو ظنّاً شرعيّاً ، والمراد بالظنّ الشرعيّ : ما نصبه الشارع حجّة كشهادة العدلين ، لا العدل الواحد. فعلى هذا سقوط التكليف إنما يكون مع القطع بفعل البعض له أو الظنّ الشرعيّ به ، فلو حصل لطائفةٍ ظنّ بوقوعه وطائفة اخرى لم يحصل لها ذلك الظنّ ، وجب على هذه الطائفة دون الاولى. وإذا حصل لكلّ طائفة ظنّ بعدم فعل الغير له ، وجب على الجميع. وإذا حصل لكلّ طائفة ظنّ شرعيّ أن الغير قد فعله ، سقط عن الكلّ.

لكن إذا حصل هذا الظنّ للجميع ولم يقم به أحد ، فهل يسقط الوجوب أم لا؟

فيه نظر ؛ إذ يلزم منه ارتفاع الوجوب قبل أدائه من غير نسخ.

ويدفعه أن سقوط الوجوب قد يكون بغير النسخ كانتفاء علّته ، مثل إحراق الميّت الرافع لوجوب الغسل.

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الأُصول : ٢٠٢ ( مخطوط ) ، عنه في مفاتيح الأُصول : ٣١٦ ( حجريّ ).

(٢) الزبدة : ٤٢ ( حجريّ ).

٤٨٠