الخلفاء الإثنا عشر

الدكتور الشيخ جعفر الباقري [ سامي صبيح علي ]

الخلفاء الإثنا عشر

المؤلف:

الدكتور الشيخ جعفر الباقري [ سامي صبيح علي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-03-X
الصفحات: ٢٣٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ومن أساليب الإبادة التي تعرَّضت إليها أحاديث رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) بعد هذه المرحلة أسلوب الدفن للكتب الحديثية ، والغسل ، والمحو لها ، ولذا يقول (إبراهيم بن هاشم) على ما في (تقييد العلم) :

(دفنّا لبشر بن الحارث ثمانية عشر ما بين قمطر وقوصرة) ١.

وقد استنكر الإمام (أحمد بن حنبل) هذا العمل ، وقال :

(لا أعلم لدفن الكتب معنى) ٢.

وكذلك حمل (ابن الجوزي) على هذا العمل أيضاً في (تلبيس إبليس) قائلاً :

(قد كان جماعة منهم شاغلوا بكتابة العلم ، ثم لبس عليهم إبليس وقال :

وكان من سياسة (عمر) أنَّه منع كبار الصحابة من رواية الأحاديث النبوية ، فقد روي أنَّه منع (ابن مسعود) و (أبي مسعود) ، فقد جاء في (تأريخ دمشق) لـ (ابن عساكر) :

ـ بعث (عمر) إلى أبي مسعود ، وابن مسعود ، فقال :

ما هذا الحديث الذي تكثرونه عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) ٣ ما المقصود إلّا العمل.

ودفنوا كتبهم ...

وهذا فعل قبيح محظور ، وجهل بالمقصود بالكتب..

واعلم أنَّ الصحابة ضبطت ألفاظ رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ).. فإذا كانت الصحابة قد روت السنَّة ، وتلقتها التابعون ، وسافر المحدِّثون ، وقطعوا شرق الأرض وغربها ، لتحصيل كلمة من

______________________

وانظر : طبقات ابن سعد ، ج : ٥ ، ص : ١٨٨.

(١) إبراهيم بن هاشم ، تقييد العلم ، ص : ٦٢ ـ ٦٣.

(٢) إبراهيم بن هاشم ، تقييد العلم ، ص : ٦٣.

(٣) ابن عساكر ، تأريخ دمشق ، ج : ٣٩ ، ص : ١٠٨ ، ومختصر تأريخ دمشق ، ج : ١٤ ، ص : ٦٣.

١٨١

هنا ، وكلمة من ههنا ، وصحَّحوا ما صحَّ ، وزيَّفوا ما لم يصح ، وجرحوا الرواة ، وعدلوا ، وهذبوا السنن ، وصنفوا.

ثمَّ يأتي مَن يغسل ذلك ، فيضيع التعب ، ولا يُعرف حكم الله في حادثة !؟

فما عوندت الشريعة بمثل هذا !

أفترى ، إذا غُسلت الكتب ، ودُفنت ، على من يصمد في الفتاوى والحوادث) ١.

وفي (الكامل) لـ (ابن عدي) :

(بعث عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن مسعود ، وإلى أبي الدرداء ، وإلى أبي مسعود الأنصاري ، فقال :

ـ ما هذا الحديث الذي تكثرونه عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ).

فحبسهم بالمدينة ، حتى أستشهد) ٢.

وروي أيضا أنه كان يحبس بعض الصحابة لروايتهم الحديث النبوي ٣.

وسار (عثمان بن عفان) على نفس الخطى المريبة التي سار عليها (أبو بكر بن أبي قحافة) و (عمر بن الخطاب) من قبله ، ولم يسمح بالرواية إلّا لما أُقرَّ من قبله رسميّاً ، ضمن سياسة المنع السابقة ، وفي حدودها المرضيَّة.

روى بهذا الشأن عن (محمود بن لبيد) أنَّه قال :

(سمعت عثمان على المنبر يقول :

______________________

(١) ابن الجوزي ، تلبيس إبليس ، ص : ٣٩٦ ـ ٣٩٨.

(٢) ابن عدي ، الكامل ، ج : ١ ، ص : ١٨.

(٣) انظر : المستدرك على الصحيحين للحاكم ، ج : ١ ، ص : ١١ ، ومجمع الزوائد ، ج : ١ ، ص : ١٤٩ ، وتذكرة الحفاظ للذهبي ، ج : ١ ، ص : ٧ ، ومختصر تأريخ دمشق ، ج : ١٧ ، ص : ١٠١.

١٨٢

ـ لا يحلّ لأحد أن يروي حديثاً عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) لم يسمع به في عهد أبي بكر ، ولا عهد عمر) ١.

وعلى أيَّة حال فقد اتخذ الحكّام والولاة فيما بعد ذلك عين سياسة المنع هذه ، واقتفوا نفس الأثر ، ولذا يقول الشيخ (محمد أبو زهرة) :

(وقد تتابع الخلفاء على سنَّة عمر.. فلم يشأ أحدهم أن يدوِّن السنن ، ولا أن يأمر الناس بذلك ، حتى جاء عمر بن عبد العزيز).

وروى (الخطيب) ما يعزِّز هذا المعنى عن (رجاء بن حيوة) أنَّه قال :

(كان معاوية ينهى عن الحديث ، يقول :

ـ لا تحدِّثوا عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ)) ٢.

وجاء في (تأريخ دمشق) :

(كان معاوية يقول على منبر دمشق :

ـ إيّاكم والأحاديث عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) إلّا حديثاً ذُكر على عهد عمر) ٣.

وقد عدّ العلّامة (مرتضى العسكري) عشرة موارد في أمثلة الكتمان لدى (مدرسة الشيخين) بصدد عدم السماح لأحاديث الخلافة لعلي (عَليهِ السَّلامُ) وأولاده الطاهرين (عَليهِ السَّلامُ) بأن تأخذ مواقعها من كتب الحديث ، والحدّ من إنتشارها قدر الإمكان.

والموارد التي ذكرها هي :

______________________

(١) ابن سعد ، الطبقات الكبرى ، ج : ٢ ، ص : ٣٣٦.

(٢) الخطيب ، الفقيه والمتفقه ، ج : ١ ، ص : ٧.

(٣) ابن عساكر ، تأريخ دمشق لابن عساكر ، ج : ٣ ، ص : ١٦٠.

١٨٣

١ ـ حذف بعض الحديث من سنة رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ، وتبديل المحذوف بكلمة مبهمة.

٢ ـ حذف تمام الخبر من سيرة الصحابة ، مع عدم الإرشاد إلى الحذف.

٣ ـ تأويل معنى الحديث من سنة الرسول (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ).

٤ ـ حذف بعض أقوال الصحابة ، مع عدم الإشارة إليه.

٥ ـ حذف تمام الرواية من سنة الرسول (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ، مع عدم الإشارة إليه.

٦ ـ النهي عن كتابة سنة الرسول (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ).

٧ ـ تضعيف الروايات ، ورواة سنَّة الرسول (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ، والكتب التي تنتقص السلطان.

٨ ـ إحراق الكتب والمكتبات.

٩ ـ حذف بعض الخبر من سيرة الصحابة ، وتحريفه.

١٠ ـ وضع الروايات المختلفة بدلاً من روايات سنَّة الرسول (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) الصحيحة ، وسيرة الصحابة الصحيحة.

ويذكر العلّامة (العسكري) نماذج واضحة لكل واحدٍ من هذه العناوين ، بما يشكّل حجَّة بالغة ، ودليلاً قاطعاً على أنَّ هناك جهود جبّارة قد بُذلت في سبيل تشويه ذهنيَّة المسلمين ، ورسم صورة غائمة لـ (الخلفاء الإثني عشر) في معتقداتهم ، وعدم السماح لأحاديثهم بالتحرك والإنتشار ١.

فمن موارد حذف بعض الحديث من سنة الرسول (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) وتبديلها بكلمة مبهمة ما فعله (الطبري) ، و (ابن كثير) بخبر دعوة بني هاشم في تفسير الآية :

______________________

(١) للتوسع يمكن مراجعة البحث المذكور في معالم المدرستين للعلّامة مرتضى العسكري ، ج : ١ ، ص : ٤٠٢ ـ ٤٨٣.

١٨٤

(وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ).

حيث حذف قول رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) :

(ووصيي وخليفتي فيكم) ، وأبدلاه بقولهما : وكذا وكذا) ١.

ومن أمثلة تأويل معنى الحديث من سنة الرسول (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ما فعله (الطبراني) في (مجمع الزوائد) :

(عن سلمان ، قال : قلت :

ـ يا رسول الله ، إنَّ لكلّ نبي وصياً ، فمن وصيك ؟

فسكت عنّي ، فلما كان بعد أن رآني ، فقال :

ـ يا سلمان !

فأسرعت إليه ، وقلت :

ـ لبيك ! قال :

ـ تعلم من وصي موسى ؟ قلت :

ـ نعم ، يوشع بن نون ، قال :

ـ لم ؟ قلت :

ـ لأنَّه كان أعلمهم يومئذ ، قال :

ـ فإن وصيي وموضع سرِّي ، وخير من أترك بعدي ، وينجز عدتي ، ويقضي ديني ، علي بن أبي طالب).

فقال (الهيثمي) بعد إيراد هذا الخبر في (مجمع الزوائد) :

(رواه الطبري وقال : وصيي ، أنَّه أوصاه بأهله لا بالخلافة) ٢.

______________________

(١) العسكري ، مرتضى ، معالم المدرستين ، ج : ١ ، ص : ٤٠٤.

(٢) الهيثمي ، مجمع الزوائد ، ج : ٩ ، ص : ١١٣ ـ ١١٤ ، وانظر : معالم المدرستين ، ج : ١ ، ص : ٤١١ ـ ٤١٤.

١٨٥

فمن الواضح أنَّ سياق الحديث من حيث إستعراض وصي موسى (عَليهِ السَّلامُ) ، وأنَّه إنَّما كان وصياً لكونه أعلم الناس من بعده ، ومن ثمَّ ذكر خصوصيات وصفات الوصي في هذه الأمَّة بالتفصيل ، فكلّ هذه القرائن تؤكّد على أنَّ المقصود هو الوصية بالخلافة ، والأمر في منتهى الوضوح ، ولكن بما أنَّه لم يكن هناك بدّ من قبول الخبر وروايته ، فلابدَّ إذن من اللجوء إلى تحريفه عن واقعه ومعناه الحقيقين إرضاءاً للرغبات ، وتقرباً لسلاطين الجور والضلال ، وتمويهاً للحقائق الناصعة ، والأحاديث الثابتة.

ومن أمثلة حذف بعض من أقوال الصحابة مع عدم الإشارة إلى الحذف ما فعله (ابن عبد البر) في ترجمة قصيدة الصحابي الأنصاري (النعمان بن عجلان) في (الإستيعاب) ، حيث حذف منها بيتين قالهما في وصية الرسول (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) بحقِّ علي (عَليهِ السَّلامُ) ، وهما :

فذاك بعون الله يدعو إلى الهدى

وينهى عن الفحشاء والبغي والنكر

وصي النبي المصطفى وابن عمه

وقاتل فرسان الضلالة والكفر

ومن مظاهر الكتمان أيضا ما روي في (مسند أحمد) من أنَّه قال :

(جاء رجل فوقع في علي ، وفي عمار ، عند عائشة ، فقالت :

ـ أمّا علي ، فلستُ قائلة لك فيه شيئاً ، وأمّا عمّار فإنِّي سمعتُ رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) يقول فيه :

ـ لا يخيَّر بين أمرين إلّا اختار أرشدهما) ١.

______________________

(١) ابن حنبل ، أحمد ، مسند أحمد بن حنبل ، ٦ / ١١٣.

١٨٦

ومن الغريب أن يجد المتتبع أنَّ (عائشة) بنفسها تقرّ في حديث آخر بعد واقعة (الجمل) أنَّ رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) قد قبض وإلى جواره علي (عَليهِ السَّلامُ) ، خلافاً لما ادعته في أحاديثها السابقة التي نفت فيها الوصية لعلي (عَليهِ السَّلامُ).

فقد روى (ابن عساكر) ما يلي :

(إنَّ إمرأة سألت عائشة ، فقالت :

ـ يا أمَّ المؤمنين ! أخبرينا عن علي ، قالت :

ـ أيّ شيء تسألن ، عن رجل وضع يده من رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) موضعاً فسالت نفسه في يده ، فمسح بها وجهه ، واختلفوا في دفنه ، فقال : أنَّ أحبَّ البقاع إلى الله مكان قبض فيه نبيه ، قالت :

ـ فلم خرجتِ عليه ؟ قالت :

ـ أمرٌ قُضي ، لوددت أن أفديه بما في الأرض) ١.

وفي حديث آخر أنَّها قالت :

(قال رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) وهو في بيتها لما حضره الموت :

ـ ادعوا لي حبيبي..

فدعوا علياً فأتاه ، فلمّا رآه أفرد الثوب الذي كان عليه ، ثمَّ أدخله فيه ، فلم يزل يحتضنه ، حتى قبض عليه) ٢.

وأمّا (معاوية بن أبي سفيان) فقد مارس سياسة الكتمان إلى أقصى حدٍّ ممكن ، ومارس مختلف أساليب البطش والتنكيل من جانب ، والحثّ والإغراء من جانب

______________________

(١) ابن عساكر ، ترجمة الإمام علي (عَليهِ السَّلامُ) ، ٣ / ١٥.

(٢) ابن عساكر ، ترجمة الإمام علي (عَليهِ السَّلامُ) ، ٣ / ١٥.

١٨٧

آخر ، في سبيل إنجاح هذه السياسة غير المشروعة ، فقد جاء في (شرح نهج البلاغة) لـ (ابن أبي الحديد المعتزلي) :

(قال أبو عثمان الجاحظ : إنَّ معاوية أمر الناس بالعراق والشام وغيرهما بسبّ علي ، والبراءة منه.

وخطب بذلك على منابر الإسلام ، وصار ذلك سنَّة في أيام بني أمية إلى أن قام عمر بن عبد العزيز فأزاله.

وذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ : أنَّ معاوية كان يقول في آخر خطبة الجمعة :

اللهمَّ إنَّ أبا تراب ألحد في دينك ، وصدَّ عن سبيلك ، فألعنه لعناً وبيلاً ، وعذبه عذاباً أليماً ، وكتب بذلك إلى الآفاق ، فكانت هذه الكلمات يشار بها على المنابر إلى خلافة عمر بن عبد العزيز) ١.

وجاء في تأريخ (الطبري) و (ابن الأثير) :

(استعمل معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين ، فلمّا أمَّره عليها ، دعاه ، وقال له :

ـ قد أردتُ إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها إعتمادا على بصرك ، ولست تاركاً أيصاءك بخصلة ، لا تترك شتم عليٍّ وذمِّه ، والترحّم على عثمان والإستغفار له ، والعيب لأصحاب علي ، والإقصاء لهم ، والإطراء لشيعة عثمان ، والإدناء لهم.

فقال له المغيرة :

ـ قد جربت وجربت ، وعملت قبلك لغيرك ، فلم يذممني ، وستبلو فتحمد أو تذم.

فقال :

______________________

(١) المعتزلي ، ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، شرح الخطبة : (٥٧) ، ج : ١ ، ص : ٥٦.

١٨٨

ـ بل نحمد إن شاء الله) ١.

ونقل (ابن أبي الحديد) عن (المدائني) أنَّه قال :

(كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة :

ـ أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته) ٢.

وفيه أيضاً :

(كتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق :

ـ ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة ، وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه ، وأهل ولايته ، والذين يروون فضائله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم ، وقرِّبوهم وأكرموهم ، واكتبوا إليّ بكل ما يروي كل رجل منهم ، واسمه وإسم أبيه ، وعشيرته.

ففعلوا ذلك ، حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعث إليهم معاوية من الصلات ، والكساء ، والحباء ، والقطايع ، ويفضيه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك كلّ مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمّال معاوية ، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلّا كتب اسمه ، وقرَّبه ، وشفعه ، فلبثوا بذلك حيناً ، ثم كتب إلى عمّاله :

ـ إنَّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر ، وفي كل وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في

______________________

(١) الطبري ، أبو جرير ، تأريخ الطبري ، ج : ٦ ، ص : ١٠٨ ، وابن الأثير ، تأريخ ابن الأثير ، ج : ٣ ، ص : ٢٠٢ ، حوادث سنة : إحدى وخمسين.

(٢) المعتزلي ، ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، شرح الخطبة : (٥٧) ، ج : ٣ ، ص : ١٥ ـ ١٦.

١٨٩

فضائل الصحابة ، والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلّا وائتوني بمناقض له في الصحابة ، فإن هذا أحبّ إليّ ، وأقرّ إلى عيني ، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته ، وأشد عليهم من مناقب عثمان ، وفضله.

فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجرى الناس في رواية الكتاتيب ، فعلَّموا صبيانهم ، وغلمانهم ، من ذلك الكثير الواسع ، حتى رووه ، وتعلَّموه كما يتعلمون القرآن ، وحتى علَّموه بناتهم ، ونساءهم ، وخدمهم ، وحشمهم ، فلبثوا بذلك إلى ما شاء الله.. فظهرت أحاديث كثيرة موضوعة ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء ، والقضاة ، والولاة) ١.

وروى (ابن أبي الحديد) عن (أبي جعفر الإسكافي) أنَّه قال :

(إنَّ معاوية وضع قوماً من الصحابة ، وقوماً من التابعين ، على رواية أخبار قبيحة في علي (عَليهِ السَّلامُ) ، تقتضي الطعن فيه ، والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله) ٢.

وروى (الطبري) عن (المغيرة بن شعبة) :

(إنَّه أقام سبع سنين وأشهراً في الكوفة ، لا يدع شتم علي والوقوع فيه ، والعيب لقتلة عثمان واللعن لهم ، والدعاء لعثمان بالرحمة ، والإستغفار له ، والتزكية لأصحابه ، غير أنَّ المغيرة كان يداري ، فيشتد مرة ويلين أخرى).

وروى (الطبري) أيضاً :

______________________

(١) المعتزلي ، ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، ج : ٣ ، ص : ١٥ ـ ١٦.

(٢) المعتزلي ، ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، ج : ١ ، ص : ٣٥٨.

١٩٠

(إنَّ المغيرة بن شعبة قال لصعصعة بن صوحان العبدي ، وكان المغيرة يومذاك أميراً على الكوفة من قبل معاوية :

ـ إيّاك أن يبلغني عنك أنَّك تعيب عثمان عند أحد من الناس ، وأيّاك أن يبلغني عنك أنَّك تذكر شيئاً من فضل علي علانية ، فإنَّك لست بذاكر من فضل علي شيئاً أجهله ، بل أنا أعلم بذلك ، ولكن هذا السلطان قد ظهر ، وقد أخذنا بإظهار عيبه للناس ، فنحن ندع كثيراً مما أمرنا به ، وتذكر الشيء الذي لا نجد منه بداً ، ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقيَّة ، فإن كنت ذاكراً فضله ، فاذكره بينك وبين أصحابك ، وفي منازلكم سراً ، وأمّا علانية في المسجد ، فإنَّ هذا لا يحتمله الخليفة لنا ، ولا يعذرنا فيه) ١.

______________________

(١) العسكري ، مرتضى ، معالم المدرستين ، ج : ١ ، ص : ٣٦٢ ، عن تأريخ الطبري.

١٩١

ثانياً : السياسات الظالمة المنحرفة التي تقلَّدت الحكم الإسلامي

إنَّ هناك حقيقة ساطعة تطالعنا بادئ ذي بدئ عند محاولة الإجابة على السؤال المطروح ضمن هذا الفصل : لماذا غابت أسماء (الخلفاء الإثني عشر) في (صحاح) (مدرسة الصَّحابة).. تلك الحقيقة تحسم لنا الأمر ، وتنطلق نحو الجذور ، لتضع النقاط على الحروف ، وتزيل ما يمكن أن يعتري الموضوع من غموض وإبهام.

تتمثل تلك الحقيقة بأنَّ (الخلفاء الإثني عشر) بأجمعهم قد ناهضوا الحكومات الجائرة ، وأمراء الضلال ، ووقفو بتحدٍّ وشموخ في وجوههم ، على مستوى التنظير والممارسة معاً.

فمن الناحية النظرية نرى أن هناك ثروة كبيرة من الأحاديث التي خلفها لنا (الخلفاء الإثنا عشر) تندِّد بكل حكم يخرج عن حدود التشريع الإلهي ، أو ينصب العداء له ، ويعلن المنازلة معه ، وتبيّن تفاصيل هذه المواجهة ، ومعالمها ، وحدودها ، وشرائطها.

كما أن نرى في نفس الوقت أن السلوك الإجتماعي لهؤلاء (الخلفاء الإثني عشر) كان يجسد هذا الأمر في منتهى الوضوح ، ويبرز هذه الأهداف في غاية الدقة ، وكان لعظيم العطاء وألوان التضحيات التي مر بها هؤلاء الخلفاء في سبيل إعلاء كلمة الله ، وإقامة شرائعه ، ودحض حكومات الضلال ، والجور ، والطغيان ، ببذل الغالي والنفيس الأثر الكبير في إرساء دعائم الدين ، وبقاء جذوته متألقة ومتجددة ، على مر الأزمنة والعصور.

بينما نلاحظ في المقابل أنَّ أساس بناء (مدرسة الصَّحابة) يقوم على مداهنة الحكّام والسلاطين ، والسمع والطاعة لكلّ إمام ، برّاً كان أو فاجراً ، وقد حشدت (الصحاح) وكتب الحديث المتبرة الأخرى بألوان الروايات التي تصبّ في هذا الإتجاه ، وتحاول تكريسه في ذهنية المسلمين ، وهو مما لا شكَّ فيه من صنيعة نفس هؤلاء الحكّام

١٩٢

الجائرين الظلمة ، الذين استطاعوا من خلال أموالهم وقدرتهم وسطوتهم من شراء الضمائر الرخيصة ، لتشويه شريعة الإسلام ، وطلائها بهذا الغثاء الباهت.

ولنأخذ بعض النماذج من هذه الوايات المفتعلة ، والمعاكسة في اتجاهها لسيرة (الخلفاء الإثني عشر) التي تقوم على أساس القرآن وتعاليمه الغرّاء ، والسنَّة النبويَّة القطعيَّة الصدور ، فمن هذه النماذج :

رُويَ عن رسول الله (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) في (صحيح مسلم) :

(إنَّ خليلي أوصاني أن أسمعَ وأطيعَ وإن كان عبداً حبشياً مجدَّعَ الأطراف) ١.

ورُويَ عنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) في (مسند أحمد) :

(اسمع وأطع ولو لحبشي كأنَّ رأسَه زبيبة) ٢.

ورُويَ عنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) :

(اعبدوا اللهَ ولا تشركوا به شيئاً ، وأطيعوا مَن ولاه اللهُ أمرَكم ، ولا تُنازِعوا الأمرَ أهلَه ، وإنْ كانَ عبداً أسودَ) ٣.

ورُويَ عنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) :

(لا تسبُّوا السلطانَ فإنَّه ظلُّ اللهِ في أرضه) ٤ !!

إلى غير ذلك من الأحاديثِ المشابهة ٥.

______________________

(١) مسلم ، صحيح مسلم بشرح النووي ، ج : ١٢ ، ص : ٢٢٥.

(٢) ابن حنبل ، أحمد ، مسند أحمد بن حنبل ، ج : ٣ ، ص : ١٧١.

(٣) الطبراني ، المعجم الكبير ، تحقيق ، حمدي عبد المجيد السلفي ، ج : ١٨ ، رقم : ٦٢١ ، ص : ٢٤٨ ، وكنز العمال ، ج : ٥ ، ح : ١٤٣٩٦ ، ص : ٧٩٠.

(٤) المتقي الهندي ، علاء الدين ، كنز العمال ، كنز العمال ، ج : ٦ ، ، ح : ١٤٨٦٨ ، ص : ٦٦.

(٥) فقد ورُويَ عنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) في (صحيح البخاري) : (مَن رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإنَّه ليس أحدٌ يفارق الجماعةَ شبراً فيموت ، إلا ماتَ ميتة جاهلية) : البخاري ، صحيح البخاري ، ج : ٨ ، كتاب الأحكام ، باب : السمع والطاعة للإمام ، ح : ٢ ، ص : ١٠٥.

١٩٣

وقد جاءَ في بعض ألفاظ حديث (سُنَّة الخلفاء الراشدين) ما نصه :

(فإنّما المؤمن كالجمل الأنف ، حيثما انقيد انقاد) ١.

فهذه الروايةُ الأخيرة تجعلُ المؤمنَ الذي يُراد له أن يكونَ مستخلفاً على هذهِ الأرض ، ووارثاً لها ، كالجمل الذلول ، الذي لا يملكُ من أمرِه شيئاً ، ولا يجدُ دونَ الانصياع والانقياد بُدّاً !!

وفي اعتقادنا أنَّ هذا مؤشرٌ آخر يؤيدُ ما ذكرناه من احتمال الوضع في بعض فصول الحديثِ على أقل تقدير ، إذ أنَّ من الاستحالة بمكانٍ أنْ يتفوَّه رسولُ اللهِ (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) بهذا اللون من الأحاديث ، التي تأمرُ بالسمعِ والطاعةِ لكلِّ حاكمٍ وأمير ؛ لأنَّ في ذلك هدماً واضحاً لدعائمِ الدين ، وخلافاً صريحاً لجميع أُسسه ومبادئه ، وتقويضاً من رأس لمرتكزاته وأركانه ، فكيفَ يمكنُ أنْ توضعَ مقاليدُ الحكم طوعاً بيد المتجبرينَ الذين كافحت الأديانُ والرسالاتُ السماوية في سبيلِ استئصالهم ، وقلع وجودهم من الجذور ؟

وما معنى إقامة العدل ، والحكم به ، الذي أمرت الشريعةُ به بشكلٍ صريح ، وحذَّرت من مخالفته ؟

______________________

ورُويَ في (صحيح مسلم) عنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنَّه قالَ : (يكونُ بعدي أئمةٌ لا يهتدونَ بهداي ، ولا يستنونَ بسُنتَّي ، وسيقومُ فيهم رجالٌ ، قلوبهُم قلوبُ الشياطين في جثمانِ إنس ، قال الراوي : كيف أصنعُ يا رسولَ الله إنْ أدركتُ ذلك ؟ قالَ : تَسمعُ وتطيعُ للأمير ، وانْ ضرب ظهرك ، وأخذ مالك ، فاسمع وأطع) : مسلم ، صحيح مسلم بشرح النووي ، ج : ١٢ ، ص : ٢٣٨.

ورُويَ عنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) : (فإنَّ من طاعة اللهِ أن تطيعوني ، ومن طاعتي أن تطيعوا أُمراءَكم ، وإن صلّوا قعوداً صلّوا قعوداً) : علاء الدين الهندي ، كنز العمال ، ج : ٥ ، ح : ١٤٣٧٤ ، ص : ٧٨٢.

ورُويَ عنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) : (اسمعوا وأطيعوا فإنّما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتُم) : مسلم ، صحيح مسلم بشرح النووي ، ج : ١٢ ، ص : ٢٢٦ ، وكنز العمال للهندي ، ج : ٦ ، ح : ٤٧٩٦ ، ص : ٤٩.

ورُويَ عنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) : (صلّوا خلفَ كلِّ بَرٍّ وفاجر ، وصلّوا على كلِّ بَرٍّ وفاجر ، وجاهدوا مَعَ كلِّ بَرٍّ وفاجر) : علاء الدين الهندي ، كنز العمال ، كنز العمال ، ج : ٦ ، ص : ٥٤ ، ح : ١٤٨١٥.

(١) ابن حنبل ، أحمد ، مسند أحمد بن حنبل ، ج : ٤ ، ح : ١٦٦٩٢ ، ص : ١٢٦.

١٩٤

وما هي فائدةُ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ وما معنى كلمةِ الحق عندَ سلطانٍ جائر ؟ وما المغزى من حرمة معونة الظالمين ولو بشقِّ كلمة ؟

جاءَ في (الجامع الصحيح) عن رسولِ اللهِ (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنَّه قالَ :

(مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فان لم يستطع فبلسانه ، فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعفُ الإيمان) ١.

وجاءَ في (التاج الجامع للأصول) :

(عن طارق بن شهاب رضي الله عنه ، أنَّ رجلاً سأل النبي صَلّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ ، وقد وَضَع رجله في الغرز : أي الجهاد أفضل ؟ قالَ : كلمة حقٍّ عند سلطانٍ جائر) ٢.

وجاءَ في (كنز العمال) :

(أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطانٍ جائر) ٣.

ومما يثيرُ فيكَ العجب أنَّ نفسَ هؤلاءِ الذين يروون أحاديثَ السمعِ والطاعة للبرِّ والفاجر ، يروونَ أيضاً عن رسولِ اللهِ (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ما يناقضُ هذا الأمرَ تماماً ، ويعقِّبُ شرّاحُ الحديث بعد ذلك بقولهم (والله تعالى أعلم) ، ولا يكلِّفونَ أنفسَهم برفعِ هذا التهافت ، الذي أصبح مثاراً للجدال ، وبلاءً على الأجيال.

فلننظر إلى مجموعةٍ من هذهِ الأحاديث ، لنرى أنَّها رُويت في نفس المصادر والكتب السابقة ، ونقفَ على التناقض الفاضح الذي وقعت فيه هذهِ الروايات.

فقد جاءَ في (التاج الجامع للأُصول) عن صحيحي (النسائي) و (الترمذي) :

(وعن كعب بن عجزة رضيَ اللّهُ عنه قالَ : خرجَ علينا رسولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ ونحنُ تسعةٌ ، فقالَ : إنَّه سيكونُ بعدي

______________________

(١) ابن مسلم ، الجامع الصحيح ، ج : ١ ، ص : ٥٠ ، وكنز العمال للهندي ، ج : ٣ ، ح : ٥٥٢٤ ، ص : ٦٦.

(٢) ابن مسلم ، الجامع الصحيح ، ج : ١ ، ص : ٥٠ ، وكنز العمال للهندي ، ج : ٣ ، ح : ٥٥٢٤ ، ص : ٦٦.

(٣) المتقي الهندي ، علاء الدين ، كنز العمال ، ج : ٣ ، ح : ٥٥١١ ، ص : ٦٤.

١٩٥

أُمراءُ مَن صدَّقهم بكذبهم ، وأعانَهم على ظُلمهم ، فليسَ منّي ولستُ منه ، وليسَ بواردٍ عليَّ الحوض ، ومَن لم يصدِّقهم ، ولم يُعنهم على ظلمهم فهوَ منّي وأنا منه ، وهو واردٌ عليَّ الحوضَ ، رواهما النسائي والترمذي. والله تعالى أعلى وأعلم) ١.

وجاءَ في كلٍّ من (صحيح البخاري) و (صحيح مسلم) و (سنن ابن ماجة) و (سنن الترمذي) عن رسولِ اللهِ (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنَّه قالَ :

(على المرء المسلم السمعُ والطاعةُ فيما أحبَّ وكره ، إلّا أنْ يؤمرَ بمعصيةٍ فلا سَمع ولا طاعة) ٢.

وفي (سنن ابن ماجة) :

(وعن عبد اللهِ بنِ مسعود عن النبي صَلّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ قالَ : سَيلي أُمورَكم بعدي رجالٌ يُطفئونَ السُنَّة ، ويعملونَ بالبدعة ، ويؤخرونَ الصلاةَ عن مواقيتها ، فقلتُ : يا رسولَ اللهِ إنْ أدركتُهم كيفَ أفعل ؟ قالَ : تسألني يابنَ أُمِّ عبدٍ كيفَ تفعل ؟ لا طاعةَ لمن عصى الله) ٣.

______________________

(١) منصور علي ناصيف ، التاج الجامع للأصول ، ج : ٣ ، ص : ٥٣ ، باب : الإخلاص للأمير.

(٢) البخاري ، صحيح البخاري ، ج : ٨ ، كتاب الأحكام ، باب : السمع والطاعة للإمام ، ص : ١٠٥ ـ ١٠٦ ، ح : ٣.

وصحيح مسلم بشرح النووي ، ج : ١٢ ، ص : ٣٢٦.

وسنن ابن ماجة ، ج : ٢ ، باب : الجهاد ، ص : ٩٥٦ ، ح : ٢٨٦٤.

وسنن الترمذي ، ج : ٤ ، ح : ١٧٠٧ ، ص : ١٨٢.

(٣) ابن ماجة ، سنن ابن ماجة ، ج : ٢ ، ح : ٢٨٦٥ ، ص : ٩٥٦.

وانظر : كنز العمال ، ج : ٥ ، ح : ١٤٤١٣ ، ص : ٧٩٧ ، ج : ٦ ، ح : ١٤٨٨٩ ، ص : ٧٠ ، وح : ١٤٩٠٧ ، ص : ٧٦.

١٩٦

وغير ذلك مما زخرت به كتب الحديث لدى (مدرسة الخلفاء) ١.

وبعد هذه الجولة المختصرة سوف نستعرض بعض النماذج لهذا الدور الخطير الذي جعل من هؤلاء (الخلفاء الإثني عشر) ندّاً للسياسات الظالمة ، بما أملى على التأريخ الذي دوَّنته زبانيتهم حجب أسمائهم عن (صحاح) ومصادر (مدرسة الصَّحابة).

______________________

(١) ففي (كنز العمال) عنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنَّه قالَ : (لا ينبغي لنفس مؤمنةٍ ترى مَن يعصي اللهَ ، فلا تنكر عليه) : علاء الدين الهندي ، كنز العمال ، ج : ٣ ، ح : ٥٦١٤ ، ص : ٨٥.

وفيه عن رسولِ اللهِ (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) : (لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق) : علاء الدين الهندي ، كنز العمال ، ج : ٦ ، ح : ١٤٨٧٢ ، ص : ٦٧ ، وانظر : مسند أحمد ، ج : ١ ، ح : ١٠٩٨ ، ص : ١٣١.

وفيه أيضاً عن رسولِ اللهِ (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) : (سيصيبُ أُمتي في آخر الزمان بلاءٌ شديدٌ من سلطانهم ، لا ينجو فيهم إلا رجلٌ عرف دينَ اللهِ بلسانه ، ويده ، وقلبه ، فذلكَ الذي سبقت له السوابق) : علاء الدين الهندي ، كنز العمال ، ج : ٣ ، ح : ٨٤٥٠ ، ص : ٦٨٢.

وفيه أيضاً عن رسولِ اللهِ (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) : (يا أبا هريرة : لا تدخلنَّ على أميرٍ وإن غُلبتَ على ذلك ، فلا تجاوز سنتي ، ولا تخافنَّ سيفَه وسوطَه ، أنْ تأمره بتقوى اللهِ وطاعته ، يا أبا هريرة ! إنْ كنتَ وزيرَ أمير ، أو مشيرَ أمير ، أو داخلاً على أمير ، فلا تخالفنَّ سُنَّتي ولا سيرتي ؛ فإنَّ مَن خالفَ سنتي وسيرتي ، جيءَ به يومَ القيامة تأخذُه النار من كلِّ مكان ، ثمَّ يصيرُ إلى النار) : علاء الدين الهندي ، كنز العمال ، ج : ٣ ، ح : ٨٤٧٣ ، ص : ٦٨٩.

وفيه أيضاً عن رسولِ اللهِ (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) : (إحذروا على دينكم ثلاثةً : … ورجلٌ آتاه اللهُ سلطاناً ، فقالَ : مَن أطاعني فقد أطاعَ الله ، ومَن عصاني فقد عصى الله ، وقد كذبَ ، ولا يكون لمخلوق خشية دونَ الخالق) : علاء الدين الهندي ، كنز العمال ، ج : ٥ ، ح : ١٤٣٩٩ ، ص : ٧٩٢.

وفي (الدر المنثور) عن رسولِ اللهِ (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) انَّه قالَ : (إنَّ رحى الإسلام ستدورُ ، فحيثُما دارَ القرآنُ فدوروا به ، يوشك السلطانُ والقرآنُ أن يقتتلا ويتفرَّقا ، إنَّه سيكون عليكم ملوك ، يحكمون لكم بحكم ، ولهم بغيره ، فإن أطعتموهم أضلّوكم ، وإن عصيتموهم قتلوكم ، قالَوا : يا رسولَ الله ، فكيف بنا إن أدركنا ذلك ؟ قالَ : تكونوا كأصحاب عيسى عَليهِ السلامُ نُشروا بالمناشير ، ورُفعوا على الخشب ، موت في طاعة خير من حياة في معصية) : جلال الدين السيوطي ، الدر المنثور ، ج : ٢ ، ص : ٣٠١.

١٩٧

فخذ إليك مواقف أول (الخلفاء الإثني عشر) وسيدهم علي بن أبي طالب (عَليهِ السَّلامُ) الذي قاتل على التأويل ، كما كان يقاتل رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) على التنزيل ، وقضى حياته جهاداً ، وتضحية ، في سبيل إعلاء كلمة الحق ، والإبقاء على موازين التشريع وقيمه وأسسه ثابتة راسخة ، إلى أن قُتل في هذا السبيل ، وهو يلهج بذكر الله في محراب صلاته.

ولنستمع إلى بعض نظرياته العملاقة في مجال مواجهة الظالمين ، والجائرين ، وكل من يحاول أن يحكم غير تعاليم الدين الإسلامي الحنيف ، حيث يقول :

(اللهم إنَّك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان ، ولا التماس شئ من فضول الحطام ، ولكن لنردَّ المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك ، فيأمن المظلومون من عبادك ، وتقام المعطلة من حدودك) ١.

وورد عن (ابن عباس) أنَّه قال :

(دخلتُ على أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلامُ) بذي قار وهو يخصف نعله ، فقال لي :

ـ ما قيمة هذه النعل ؟ فقلت :

ـ لا قيمة لها ! فقال (عَليهِ السَّلامُ) :

ـ واللهِ لهيَ أحبُّ إليّ من أمرتكم ، إلّا أن أقيم حقاً ، أو أدفع باطلاً) ٢.

وقال (عَليهِ السَّلامُ) :

(هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ، ولعل بالحجاز أو اليمامة مَن لا طمع له في القرص ، ولا عهد له

______________________

(١) نهج البلاغة / الكلام ١٣١.

(٢) نهج البلاغة / الخطبة : ٣٣.

١٩٨

بالشبع ، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى ، وأكباد حرّى ، أو أكون كما قال القائل :

وحسبُك داءً أن تبيت ببطنةٍ

وحولك أكبادٌ تحنُ إلى القِدِّ !

أأقنع من نفسي بأن يقال : هذا أمير المؤمنين ، ولا أشاركهم في مكارة الدهر ، أو أكون أسوة لهم في حبشوبة العيش) ١.

ويبيِّن (عَليهِ السَّلامُ) خصائص الحاكم الشرعي بالقول :

(أيُّها الناس ! إنَّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه ، وأعلمهم بأمر الله فيه) ٢.

وفي نفس هذا المعنى يقول (عَليهِ السَّلامُ) :

(لا يقيم أمر الله سبحانه إلّا مَن لا يصانع ، ولا يضارع ، ولا يتبع المطامع) ٣.

ويقول (عَليهِ السَّلامُ) :

(وإنَّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ، ضلَّ وضُلَّ به ، فأمات سنَّة مأخوذة ، وأحيا بدعة متروكة) ٤.

ويعلنها أبو الحسن علي (عَليهِ السَّلامُ) حرباً ضدَّ حكومات الجور والضلال ، من خلال المبدأ الذي صدع به قائلاً :

(لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ٥.

______________________

(١) نهج البلاغة / الرسائل : ٤٥.

(٢) نهج البلاغة / الخطبة : ١٧٣.

(٣) نهج البلاغة / الخطبة : ١١٠.

(٤) نهج البلاغة / الكلام : ١٦٤.

(٥) نهج البلاغة / الخطبة : ١٦٥.

١٩٩

وفيما ذكره الإمام الحسن بن علي المجتبى ثاني (الخلفاء الإثني عشر) (عَليهِ السَّلامُ) حول (معاوية بن أبي سفيان) وسياسته الجائرة ، وحول استحقاقه الخلافة أنَّه قال :

(وكذب معاوية ، أنا أولى الناس بالناس في كتاب الله ، وعلى لسان رسول الله ، فأقسمُ بالله لو أنَّ الناس بايعوني ، وأطاعوني ، ونصروني ، لأعطتهم السماء قطرها ، والأرض بركتها ، ولما طمعت فيها يا معاوية ، وقد قال رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) :

ـ ما ولَّت أمَّة أمرها رجلاً قط ، وفيهم من هو أعلم منه ، إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً ، حتى يرجعوا إلى ملَّة عبدة العجل.

وقد ترك بنو إسرائيل هارون ، واعتكفوا على العجل ، وهم يعلمون أنَّ هارون خليفة موسى.

وقد تركت الأمَّة علياً (عَليهِ السَّلامُ) ، وقد سمعوا رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) يقول لعلي (عَليهِ السَّلامُ) :

ـ أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير النبوة ، فلا نبي بعدي.

وقد هرب رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) من قومه ، وهو يدعوهم إلى الله ، حتى فرَّ إلى الغار ، ولو وجد أعوانا ما هرب منهم ، ولو وجدتُ أنا أعوانا ما بايعتُك يا معاوية ، وقد جعل الله هارون في سعة ، حين استضعفوه ، وكادوا يقتلونه ، لما لم يجد أعواناً ، وكذلك أنا وأبي في سعة من الله حين تركتنا الأمَّة ، وبايعت غيرنا ، ولم نجد أعواناً ، وإنَّما هي السنَّن والأمثال ، يتبع بعضها

٢٠٠