الخلفاء الإثنا عشر

الدكتور الشيخ جعفر الباقري [ سامي صبيح علي ]

الخلفاء الإثنا عشر

المؤلف:

الدكتور الشيخ جعفر الباقري [ سامي صبيح علي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-03-X
الصفحات: ٢٣٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ـ صدقت فأخبرني عن وصيِّك من هو ؟ فما من نبي إلّا وله وصي ، وإنَّ نبينا موسى بن عمران أوصى ليوشع بن نون ، فقال (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) :

ـ إنَّ وصيي علي بن أبي طالب ، وبعده سبطاي الحسن والحسين ، تتلوه تسعة أئمة من صلب الحسين ، قال :

ـ يا محمد فسمِّهم لي ، قال (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) :

ـ إذا مضى الحسين فابنه علي ، فإذا مضى علي فابنه محمد ، فإذا مضى محمد فابنه جعفر ، فإذا مضى جعفر فابنه موسى ، فإذا مضى موسى فابنه علي ، فإذا مضى علي فابنه الحسن ، فإذا مضى الحسن فابنه الحجة محمد المهدي ، فهؤلاء إثنا عشر.

قال : أخبرني كيفية موت علي ، والحسن ، والحسين ، قال (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) :

ـ يُقتل علي بضربة على قرنه ، والحسن يُقتل بالسم ، والحسين بالذبح ، قال :

ـ فأين مكانهم ؟ قال (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) :

ـ في الجنة في درجتي ، قال (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) :

أشهد أن لا إله إلا الله ، وإنَّك رسول الله ، وأشهد أنَّهم الأوصياء بعدك ، ولقد وجدتُ في كتب الأنبياء المتقدمة ، وفيما عهد إلينا موسى بن عمران (عَليهِ السَّلامُ) أنَّه إذا كان آخر الزمان يخرج نبيٌّ يقال له أحمد ومحمد ، هو خاتم الأنبياء ، لا نبيَّ بعده ،

٨١

فيكون أوصياؤه بعده إثنا عشر ، أولهم ابن عمه وختنه ، والثاني والثالث كانا أخوين من ولده ، وتقتل أمة النبي الأول بالسيف ، والثاني بالسم ، والثالث مع جماعة من أهل بيته بالسيف وبالعطش في موضع الغربة ، فهو كولد الغنم ، يُذبح ويصبر على القتل لرفع درجاته ، ودرجات أهل بيته وذريته ، ولإخراج محبيه وأتباعه من النار ، وتسعة الأوصياء منهم من أولاد الثالث ، فهؤلاء الإثنا عشر عدد الأسباط.

فقال (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) :

ـ أتعرف الأسباط ؟ قال :

ـ نعم ، إنَّهم كانوا إثنا عشر أولهم لاوي بن برخيا ، وهو الذي غاب عن بني إسرائيل غيبة ، ثمَّ عاد فأظهر الله به شريعته بعد اندراسها ، وقاتل قرسطيا الملك حتى قتل الملك ، قال (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) :

ـ كائن في أمتي ما كان في بني اسرائيل ، حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة ، وإنَّ الثاني عشر من ولدي يغيب حتى لا يُرى ، ويأتي على أمتي بزمن لا يبقي من الإسلام إلا إسمه ، ولا يبقى من القرآن إلّا رسمه ، فحينئذ يأذن الله تبارك وتعالى له بالخروج ، فيظهر الله الإسلام به ويجدده ، طوبى لمن أحبهم وتبعهم ، والويل لمن أبغضهم وخالفهم) ١.

وفي (ينابيع المودة) لـ (القندوزي الحنفي) عن (جابر بن عبد الله الأنصاري) أنَّه قال :

______________________

(١) القندوزي الحنفي ، ينابيع المودة ، ص : ٤٤٠ ـ ٤٤١ ، الباب : ٧٦.

٨٢

(دخل جندل بن جنادة بن جبير اليهودي على رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) فقال :

ـ يا محمد أخبرني يا رسول الله عن أوصيائك من بعدك ، لأتمسك بهم ، فقال (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) :

ـ أوصيائي الإثنا عشر ، قال جندل :

ـ هكذا وجدناهم في التوراة ، وقال :

ـ يا رسول الله سمهم لي ، فقال (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) :

ـ أولُهم سيد الأوصياء أبو الأئمة علي ، ثم ابناه الحسن والحسين ، فاستمسك بهم ، ولا يغرنَّك جهل الجاهلين ، فإذا ولد علي بن الحسين زين العابدين يقضي الله عليك ويكون آخر زادك من الدنيا شربة لبن تشربه.

فقال جندل :

ـ وجدنا في التوراة وفي كتب الأنبياء إيليا وشبراً وشبيراً ، فهذه أسماء علي والحسن والحسين ، فمن بعد الحسين ما أساميهم ؟ قال (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) :

ـ إذا انقضت مدة الحسين ، فالإمام إبنه علي ويلقب بزين العابدين ، فبعده إبنه محمد يلقب بالباقر ، فبعده إبنه جعفر يدعى بالصادق ، فبعده إبنه موسى يدعى بالكاظم ، فبعده إبنه علي ويدعى بالرضا ، فبعده إبنه محمد يدعى بالتقي والزكي ، فبعده إبنه علي ويدعى بالنقي والهادي ، فبعده إبنه الحسن ويدعى بالعسكري ، فبعده إبنه محمد يدعى بالمهدي والقائم

٨٣

والحجة ، فيغيب ثمَّ يخرج ، فإذا خرج يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً ، طوبى للصابرين في غيبته ، طوبى للمقيمين على محبتهم) ١.

______________________

(١) القندوزي الحنفي ، ينابيع المودة ، ص : ٤٤٢ ـ ٤٤٣ ، الباب : ٧٦.

٨٤

٨٥
٨٦

٨٧
٨٨

القواسم المشتركة لحديث (الخلفاء الإثني عشر) في مصادر (مدرسة الخلفاء)

يمكن أن ننتزع من خلال الهياكل والصياغات اللفظية المختلفة التي وردت في الروايات المتقدمة في الفصل السابق ، والتي تشير بمجموعها إلى مدلول واحد ، قواسم مشتركة تمثّل ذلك المضمون الموحّد الذي سيقت من أجل الوفاء به.

ومن الطبيعي أن نجد مثل هذه الإختلافات اللفظية في روايات موحَّدة المضمون ضمن الأحاديث الصادرة عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ، فمن المعلوم أنّ هذه الاختلافات ، وخصوصاً في مثل هذا المورد الحسّاس الذى نحن فيه ، يقود في الغالب إلى احتمال ايراد رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) لهذا المضمون النهائي الموحَّد بألفاظ متعددة ، ومواطن مختلفة ، ومناسبات شتى ، من باب تكريس الفكرة وتأكيدها ، وتوطيد محتواها في نفوس المسلمين.

كما أنَّ من الإحتمالات القائمة في مثل هذا المورد أن يكون أحد الرواة قد سمع جزءاً من الحديث ، وسمع راوٍ ثانٍ طرفاً آخر منه.. وهكذا.

واذا ما نظرنا إلى مضمون حديث (الخلفاء الاثني عشر) من حيث الأهميَّة ، وإلى قوالبه وصياغاته اللفظيّة المتعددة من حيث التنوّع والإختلاف نظرة فاحصة متأنّية ؛ لوصلنا من دون ريب إلى اليقين الكامل بأنّ هذا الحديث قد تكرر في مواطن متعددة ، ومناسبات متفاوتة ، فقد روي الحديث في مصادر (مدرسة الصَّحابة) في ما لا يقلّ عن الخمس عشرة صحابياً كما أشرنا سابقاً ، وقد اكتنف الحديث من خلال النقل المكثّف ، وذكر الخصوصيّات والقيود والإضافات المتعددة لا تنسجم إلّا مع القول بالتكرار ، والتعدّد من باب الترسيخ والتأكيد.

٨٩

إنَّ مثل هذا التعدد والتنوّع جارٍ في طائفة غفيرة من المفاهيم الإسلامية الأساسيّة التي طفحت بها آياتُ القرآن الكريم ، والأحاديث النبويّة الشريفة.

وعندما نغوص في أعماق حديث (الخلفاء الإثني عشر) لدراسة القواسم المشتركة بين هياكله وصياغاته اللفظية المتنوعة ، فإنَّنا نتوخى من خلال ذلك فهم شامل ومتكامل لمرامي الحديث ومقاصده ، ونتيقّن من موارد تطبيقه ، فنكون قد عقلناه عقل وعاية ورعاية ، ولم نقتصر على أن نعقله عقل سماع ورواية.

والقواسم المشتركة بين الأحاديث المتقدمة هي :

(١) عدد الخلفاء اثنا عشر

وردت الدلالة صريحة في جميع الروايات المتقدمة على أنَّ عدد الخلفاء الذين يتولون الأمر بعد رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) هم (اثنا عشر) خليفةً ، وقد جاء التعبير عن هذا العدد بثلاثة أنحاء :

النحول الأول :

هو ذكر عدد (الخفاء الإثني عشر) بشكل صريح ، وهو ما مرّ معنا في مجمل الأحاديث السابقة على نحو العموم ، وقد يأتي في بعض الأحاديث التصريح بأول هؤلاء الخلفاء وهو الإمام علي (عَليهِ السَّلامُ) ، وبآخرهم وهو الإمام المهدي (عَليهِ السَّلامُ) ١.

______________________

(١) انظر الحديثين المذكورين تحت الصياغة رقم (١٦) من الفصل السابق ، عن ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي ، وانظر كذلك : الأحاديث المذكورة تحت الصياغة رقم (١٧) في المتن والهامش.

٩٠

النحو الثاني :

هو تشبيه (الخلفاء الإثني عشر) بعدّة نقباء بني اسرائيل ، أو عدّة نقباء موسى (عَليهِ السَّلامُ) ، على اختلاف في التعبيرين ، ومن المعلوم أنَّ عدد نقباء بني اسرائيل هو (اثنا عشر) نقيباً ، كما قال (جَلَّ وَعلا) :

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا).

النحو الثالث :

هو التصريح بأسماء ثلاثة من هؤلاء (الخلفاء الإثني عشر) ، وهم الإمام علي (عَليهِ السَّلامُ) والإمام الحسن بن علي (عَليهِ السَّلامُ) ، والإمام الحسين بن علي (عَليهِ السَّلامُ) ، بالإضافة إلى تسعة آخرين من ولد الإمام الحسين بن علي (عَليهِ السَّلامُ) ١ ، على أنَّ آخر هؤلاء الخلفاء وهو الإمام محمد المهدي (عَليهِ السَّلامُ) تاسع هؤلاء الخلفاء قد ورد التصريح باسمه أيضاً في طائفة من هذه الروايات ٢.

والمهم أنَّ إضافة الخلفاء (الثلاث) المصرَّح بأسمائهم بالإضافة إلى (التسع) الآخرين ، يشكّل بمجموعه العدد النهائي للخلفاء ، من خلال هذا الأسلوب الوارد في طوائف من هذه الروايات.

من هنا يسقط ما أورده (النووي) في (شرح صحيح مسلم) ٣ ، و (ابن حجر) في (فتح الباري في شرح صحيح البخاري) ٤ من عدم اختصاص الخلفاء بهذا العدد حيث نقلا عن (القاضي) قوله :

______________________

(١) انظر : الصياغة رقم (١٧) من الفصل السابق.

(٢) انظر : الصياغة رقم (١٦) من الفصل السابق.

(٣) النووي ، شرح صحيح مسلم ، ج : ١٢ ، ص : ١٩٩.

(٤) العسقلاني ، ابن حجر ، فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، ج : ١٣ ، ص : ١٨١.

٩١

(لأنَّه (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) لم يقل لا يلي إلّا اثني عشر خليفة ، وإنَّما قال يلي ، وقد ولي أكثر من هذا العدد ، ولا يضرّ كونه وجد بعدهم غيرهم).

وذلك لأنَّ ذكر العدد هنا كذكر العدد في قوله (جَلَّ وعَلا) :

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا).

إذ لم يأتِ التعبير : (لم نجعل منهم إلّا اثني عشر نقيباً) ، مع أنَّ تجاوز العدد لم يقل به أحد قط.

وهو نظير قولنا : (في السنة إثنا عشر شهراً) ، ولا نعبّر بقولنا : (ليس في السنة إلّا إثنا عشر شهراً) ، وهذا التعبير سائد ورائج على لسان الشريعة المقدسة ، والمحاورات العرفية ، علاوةً على القرائن التي ذكرناها من إرادة عدد (الإثني عشر) على نحو التحديد ، ونفي الزائد عن هذا العدد.

(٢) خلفاء .. أوصياء .. أُمراء

من خلال النظر في القوالب اللفظية المتقدمة في الفصل السابق نلاحظ أنَّ التعبير عن (الخلفاء الاثنى عشر) قد ورد بألفاظ ونعوت متعددة ، تشير بمجموعها إلى أنَّ لهؤلاء الخلفاء المذكورين موقعاً حسّاساً ومصيريّاً في الإسلام ، وأنَّهم سيقومون بدور أساسي في الحياة الإسلامية بعد رحيل النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ، فقد جاء التعبير عنهم تارةً بلفظ :

(اثني عشر خليفة).

وهو التعبير الأكثر وفاءً بالمقصود ، وأخرى بلفظ :

(اثني عشر وصيّاً) .

٩٢

وهو واضح الدلالة أيضاً ، وتارةً ثالثة بلفظ :

(اثني عشر أميراً) ١.

وهو يتّجه بنفس المسارين السابقين. وفي نفس المسار يأتي التعبير عن (الخلفاء الإثني عشر) بلفظ :

(اثني عشر قيِّماً) ١.

وبلفظ :

(اثني عشر حجَّةً) ٢.

وقد يأتي التعبير عنهم أيضاً بلفظ :

(اثني عشر رجلاً) ٣.

وبهذا يحمل (الخلفاء الإثني عشر) صفات قياديّة متنوّعة ، يجمع فيما بينها كونهم في موقع بالغ الأهميَّة والحساسيَّة ، فهم (اثنا عشر خليفةً) ، و (اثنا عشر وصيّاً) ، و (اثنا عشر أميراً) ، و (اثنا عشر قيِّماً) ، و (اثنا عشر حجَّةً).

ولا نظنُّ أنّا بحاجة إلى أن نعود الى مداليل هذه المفردات اللغوية الواضحة ، والتنقيب عن معانيها ومقاصدها الواقعيّه ضمن المحاورات الشرعية على نحو الخصوص ، بل والعرفيّة على نحو العموم ؛ لكي نستفيد موقع هؤلاء الخلفاء ، ومكانتهم من الشريعة الإسلامية.

وبحسب زعمنا أنَّه لو لم يكن في حديث (الخلفاء الإثني عشر) إلّا هذه الأوصاف لكفى به دلالةً على أن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) كان في مقام تنصيب مَن يلي الخلافة من بعده ، وتكثيف النصوص لهذا الغرض ، وأنَّه كان يتناول أمراً في غاية الأهميّة والحساسيّة ، وهو أمر (الخلافة الإسلاميّة).

______________________

(١) انظر : الصياغة رقم (١٢) من الفصل السابق.

(٢) انظر : الصياغة رقم (١٧) من الفصل السابق.

(٣) انظر : الصياغة رقم (١٠) من الفصل السابق.

٩٣

إنّ الأهمية القصوى التي يحظى بها موضوع (الخلافة في الإسلام) كانت تتطلب بالضرورة أن يترجم الرسول الاكرم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) الخطابات الإستخلافية إلى هذا النوع من التفصيل الذي يذكر فيه العدد أولاً ، والخصوصيّات المتعددة الأُخرى التي سوف نقف على خصوصياتها ثانياً.

كما ويتطلب الأمر أن تُحوَّل المجملات التي قد تأتي بخصوص هذا الموضوع الخطير إلى مبيّنات واضحة ، ومشخّصة ، لا تقبل التأويل والتشكيك ، وترقى إلى مستوى إقامة الحجّة ، وإظهار البيان الكامل ، في مقام الوفاء بالمقصود والمراد.

إنَّ تكريس فكرة (الخلافة الإسلامية) من قبل النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) في ذهنية المسلمين بهذا النحو من التعبير يعزّز ما نؤمن به مبدئياً من أنَّ هذه الألفاظ والنعوت المذكورة لـ (الخفاء الاثني عشر) ، كقوله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) : (خليفة) ، أو (وصيّاً) ، أو (أميراً) ، أو (قيّماً) ، أو (حجَّةً).. إنّما يقصد بها الخلافة الواقعيّة التي تحفظ الإسلام من التبدّل ، والتحريف ، والتشويه ، وتصونه من يد الظلم ، والجور والسياسات التخريبيّة التي تتلون بألوان شتى ، وتحاول استعباد المسلمين بمختلف الوسائل والأساليب ، ومن كافة المحاور والمنطلقات.

وفي الحقيقة إنَّ هذا التفسير لا يحمِّل الحديث المذكور أمراً إضافياً ، ولا يتعسّف في تفسير الألفاظ الواردة فيه إلى حيث التأويلات البعيدة عن المنهج العلمي في التعامل مع المداليل ، بل يسترسل مع الألفاظ في مداليلها الواقعيّه ، وما يسبق إلى الذهن منها في الخطاب الشرعي والعرفي على حدّ سواء.

من هنا ، ومن خلال القرائن الإضافيّة التي سوف نذكرها لاحقاً ندرك أنَّه لفي غاية البعد والغرابة أن يكون رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) قد أراد من النعوت التي ذكرها في حديث (الخلفاء الاثني عشر) الحكّامَ والأُمراء الذين يمسكون بزمام الحكم عن طريق السيف والغلبة ، ويتحكّمون بمجريات الحياة الإسلامية ، وفقاً لهذا المبدأ المزعوم ، وإنّما يقصد (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) من هؤلاء (الخلفاء الإثني عشر) الذين يأتون من بعده ، أولئك النفر الذين يمثّلون نفس الواقع الذي عاشه همومه ، ومارسه بنفسه

٩٤

(صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ، وينتهجون نفس السلوك والمبادئ التي سار عليها ، وضحّى من أجلها ، ويسيرون نحو تحقيق المهام والغايات التي سعى لتحقيقها وبلوغها ، بجهوده المضنية ، وجهاده الدائب المرير ، ويتمتعون بكلّ ما لهذه المفردات من معانٍ ومداليل ، تعبّر عن شؤونه ، ومهامه ، ومسؤولياته الثقيلة (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ).

إذن ، فـ (الخلفاء الاثنا عشر) هم (خلفاء) لرسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ، و (أوصياء) عنه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ، و (أمراء) على الأمّة بأمره (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ، و (قيّمون) عليها بتنصيب منه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ، و (حجج) على النّاس بوصيّة منه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ، من خلال (الخلافة) ، و (الوصاية) ، و (الإمارة) ، و (القيمومة) التي تنتسب إليه ، وتعدُّ تمثيلاً حقيقياً عنه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ).

ولو فرضنا جدلاً أنَّ هذه الألفاظ المذكورة في حديث (الخلفاء الاثني عشر) لا تفي بهذا المقصود ، ولا تدلّ على (الخلافة الإسلاميّة) ، والنيابة الحقيقية عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ).. فإنَّ معنى ذلك أنّنا سوف لن نعثر على مفردة متيسّرة تحقق لنا هذا المطلب ، وتفي به بشكل مطلق ، مهما تصفّحنا المعاجم ، والقواميس اللغويه المختلفة !!

(٣) الخلفاء من (قريش)

نصّت أغلب الأحاديث المتقدمة ، وفي مختلف مصادر مدرسة الخلفاء على كون هؤلاء (الخلفاء الإثني عشر) بأجمعهم من قبيلة (قريش) ١ ، ويأتي التعبير صريحاً في الأحاديث التي وردت بلفظ :

______________________

(١) انظر : الصياغة رقم (١) و (٢) و (٣) و (٤) و (٥) و (٦) و (٧) و (٨) و (٩) و (١٠) و (١١) و (١٢) و (١٣) و (١٤) و (١٥) وكذلك (١٦) و (١٧) ضمناً من الفصل السابق.

٩٥

(كلُّهم من قريش).

بل نرى أنّ بعض الاحاديث يذهب الى ماهو أكثر من ذلك في تخصيص نصب الخلفاء وينص على أنّهم من (بني هاشم) ١ على نحو التحديد ٢.

قال (المازري) :

(غير قريش من العرب ليسوا بكفؤ لقريش ، ولا غير بني هاشم كفؤ لبني هاشم ، إلّا بنو عبد المطَّلب ، فإنَّهم وبنو هاشم شيء واحد) ٣.

وتتضيَّق دائرة تحديد نسب الخلفاء أكثر عن طريق النص على كونهم من ولد علي بن أبي طالب (عَليهِ السَّلامُ) أو الحسين بن علي (عَليهِ السَّلامُ) كما تقدّم ٤.

(٤) الخلفاء يحفظون بقاء الإسلام منيعاً عزيزاً قائماً صالحاً ماضياً مستقيماً ظاهراً منتصراً

دلّت جملة من روايات (الخفاء الإثني عشر) ، وبألفاظ متنوعة على أنَّ الإسلام يبقى محفوظاً بمبادئه وبتعاليمه الواقعية ، ببقاء هؤلاء (الخلفاء الإثني عشر) ، وأنَّ الدين لا يقبل التعطيل والتحريف مادام هؤلاء الخلفاء بين ظهراني الأمّة ، وما فتئوا يتوالوان عليها واحداً بعد واحد.

______________________

(١) هاشم هو أول أولاد عبد مناف الجدّ الثالث للنبي (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ، وهو أشرفهم وأفضلهم.

(٢) انظر : الصياغة رقم (٤) وكذلك (١٦) و (١٧) ضمناً من الفصل السابق.

(٣) محمد صالح المازندراني ، شرح أصول الكافي ، ج : ٥ ، ص : ٢٣٠.

(٤) انظر : الصياغة رقم (١٦) و (١٧) من الفصل السابق.

٩٦

وستقف معنا أيُّها القارئ الكريم على أنّ المراد من منعة ١ أمر (الدين) ٢ و (الإسلام) ٣ ، و (الأمّة) ٤ ، و (النّاس) ٥.. وعزّته ٦ ، وقيمومته ٧ ، وصلاحه ٨ ، ومضيّه ٩ ، واستقامته ١٠ ، وظهوره ١١.. إنّما هو بحسب الحيثيات الواقعية ، والإرتكازات المبدئية الثابتة التي لا تقبل التبدلّ والتغيير ، بحيث تبقى تشريعاته وأحكامه الواقعية محفوظة من التشويه والتحريف ، مهما تعاقبت الأجيال ، ومهما امتدّ الزمن بالإنسان ، وتغيّرت ظروف الحياة من حوله ، وبهذا فإنّ الأحاديث بجملتها تكون تفسيراً ، وتصديقاً ، وتأكيداً لقوله (جَلَّ وَعَلا) :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).

ونقرأ في أقوال رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) بعض الأحاديث التي تتجه بنفس هذا المسار ، وتصبّ في عين هذا الإتجاه ، وتعبِّر عن هؤلاء (الخلفاء الإثني عشر) بـ (الطائفة) ، أو (العصابة) ، أو (أُناس) من هذه الأمّة ، وذلك باعتبار أنَّ مضامين هذه الأحاديث تشير إلى نفس الحقيقة المستفادة من حديث (الخلفاء الإثني عشر) ، وهي عبارة عن بقاء الإسلام عزيزاً ، منيعاً ، قائماً ، مستقيماً ، صالحاً ، وظاهراً على مَن

______________________

(١) انظر : الصياغة رقم (٥) و (٦) من الفصل السابق.

(٢) انظر : الصياغة رقم (٦) و (٧) و (١١) و (١٣) من الفصل السابق.

(٣) انظر : الصياغة رقم (٥) من الفصل السابق.

(٤) انظر : الصياغة رقم (٨) و (٩) من الفصل السابق.

(٥) انظر : الصياغة رقم (١٠) من الفصل السابق.

(٦) انظر : الصياغة رقم (٦) من الفصل السابق.

(٧) انظر : الصياغة رقم (٧) من الفصل السابق.

(٨) انظر : الصياغة رقم (٩) من الفصل السابق.

(٩) انظر : الصياغة رقم (١٠) من الفصل السابق.

(١٠) انظر : الصياغة رقم (٨) من الفصل السابق.

(١١) انظر : الصياغة رقم (١١) و (١٢) من الفصل السابق.

٩٧

عاداه ، وخالفه ، وناوأه ، حتى قيام الساعة ، وأنَّ مهمة هؤلاء الخلفاء هي الذبّ ، والدفاع عن تعاليمه ، ومبادئه الواقعية ، من كيد الأعداء ، وهو ما قد يأتي التعبير عنه في هذه الأحاديث بـ (القتال) ، و (الظهور) ، و (القهر) ، فكلّها معان ، ومصطلحات للدفاع عن الرسالة الإسلامية بكلّ ما أمكن.

وليس من شكّ في أنَّ هذه الأحاديث تتوجه بنفس التوجيه الذي تمَّت الإشارة إليه سابقاً في تفسير بقاء الإسلام منيعاً ، ظاهراً ، منتصراً في حديث (الخلفاء الإثني عشر) ، حيث إنَّ (القتال) ، و (الظهور) ، و (القهر) المذكور في هذه الأحاديث إنّما يكون مع الحقّ ، ولأجل الحقّ ، وفي طريقه ، حسب النصوص التي تناولته.

وهذا التفسير لا يتقبّل أن تُحمل هذه الألفاظ على معناها الظاهري السطحي من المبارزة ، والقتال ، والحرب بشكل دائم ، وطيلة فترة بقاء الإسلام على وجه هذه الأرض ، لأن الواقع التاريخي الثابت يرفض هذا التفسير بشكل قاطع ، ولا يدع مجالاً حتى لإحتماله.

إذن ، يجب حمل هذه الألفاظ والمصطلحات الصادرة عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) بشأن هذه الطائفة من الأمّة على المعنى الذي استفدناه سابقاً ، وسنشير إليه لاحقاً أيضاً في النقطة الآتية من حديث (الخلفاء الإثني عشر) ، وهو المعنى الواقعي المقصود من مجموع هذه الأحاديث ، والذي قامت عليه الشواهد التأريخية القاطعة ، والقرائن العلميّة الثابتة.

ومن هذه الأحاديث ما روي عن (جابر بن عبدالله الأنصارى) عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنّه قال :

(لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ...) ١.

______________________

(١) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب الأحكام ، باب : الأمراء من قريش.

٩٨

وجاء عن (عمران بن حصين) أنّ رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) قال :

(لا تزال طائفة من أمتي على الحق ، ظاهرين على مَن ناواهم ، حتى يأتِ أمرُ الله تبارك وتعالى ، وينزل عيسى بن مريم) ١.

وعن (عمران بن الحصين) عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنّه قال :

(لا تبرح عصابة من أمتي ظاهرين على الحقّ ، لا يبالون من خالفهم ، حتى يخرج المسيح الدجّال فيقاتلونه) ١.

وفي حديث آخر عنه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنّه قال :

(لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين ، لعدوّهم قاهرين ، لا يضرُّهم مَن خالفهم ، ولا ما أصابهم من لأواء ، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك ...) ١.

وعنه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنَّه قال :

(لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ، قاهرين لعدوِّهم ، لا يضرّهم مَن خالفهم ، حتى تأتيهم الساعة ، وهم على ذلك) ١.

وقال (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) :

(لا يزال ناسٌ من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) ١.

وقال (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) :

(لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمرُ الله عزّ وجلّ) ١.

وقال (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) :

______________________

(١) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب الأحكام ، باب : الأمراء من قريش.

٩٩

(لا يزال هذا الدين قائماً ، تقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة) ١.

(٥) الخلفاء يرافقون مسيرة الرسالة حتى اللحظات الأخيرة للحياة

بما أنَّنا استنتجنا من النقطة السّابقة أنَّ (الخلفاء الإثني عشر) يحفظون بقاء الإسلام منيعاً ، عزيزاً ، قائماً ، صالحاً ، ماضياً ، مستقيماً ، ظاهراً ، منتصراً.. فإنّ هذا لوحده كافٍ للدَّلالة على أنَّ هؤلاء الخلفاء سيتواصلون مع الرسالة الإسلاميَّة إلى حيث اللحظات الأخيرة من عمر مسيرة الإنسان على وجه الأرض ، باعتبار أنَّ جوهر الدّين الإسلامي المتمثل بـ (القرآن الكريم) سوف يبقى مصوناً ، ومحفوظاً من التغيير والتحريف على مدى الأزمنة والعصور بنصِّ قوله (جَلَّ وَعَلا) :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ٢.

وقوله (جَلَّ وَعَلا) :

(لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ٣.

وسيأتي فيما بعد أنَّ (الإماميَّة الإثني عشرية) تقدّم تفسيراً رصيناً ، متيناً ، مقبولاً ينسجم مع هذه النظرية ، وذلك من خلال الإيمان بفكرة (الإمام المهدي) الغائب المنتظر (عَليهِ السَّلامُ) ، وهو آخر (الخلفاء الإثني عشر) ، حيث غيَّبه الله (جلَّ وَعَلا) حتّى لحظات

______________________

(١) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب الأحكام ، باب : الأمراء من قريش

(٢) الحجر / ٩.

(٣) فصلت / ٤٢.

١٠٠