الدكتور الشيخ جعفر الباقري [ سامي صبيح علي ]
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-03-X
الصفحات: ٢٣٣
الحياة الأخيرة ، ثمَّ يظهره ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما مُلئت ظلماً وجوراً ، وهو التفسير الوحيد الذي ينسجم ويتناسب مع هذه الأحاديث ، ويوجهها توجيهاً شرعياً معقولاً ، ومبنياً على الأسس والأصول الشرعية الثابتة ، دون تعسُّف ، أو تحميل ، أو إعلان عن الإعياء والعجز عن تقديم تفسير واضح لهذه الأحاديث ، أو التوقّف فيها ، كما فعل بعضُ العلماء على ما سيأتي توضيحه وتفصيل الكلام فيه لاحقاً إن شاء الله تعالى.
وهناك قرائن أخرى ذُكرت في الأحاديث المتقدمة تشير إلى مرافقة (الخلفاء الإثني عشر) لمسيرة الرسالة الإسلاميَّة حتى اللحظات الأخيرة ، إذ قد مرّ معنا في الصيغة الثالثة من الهياكل اللفظية ، وكذلك في القواسم المشتركة لأحاديث (الخلفاء الإثني عشر) أنّ الخلفاء كافةً ينتهون نسبياً إلى قبيلة (قريش) ، فعن طريق الجمع بين هذه الأحاديث ، وأحاديث أخرى واردة في الصحاح والكتب المعتبرة لدى أبناء (مدرسة الصحابة) ، والتي تنصُّ على أنَّ أمر الخلافة والقيمومة على المسلمين سيبقى مستمراً في قبيلة (قريش) حتى قيام الساعة.. عن طريق هذا الجمع نستطيع أن نصل الى ذات النتيجة المتقدمة ، وأنَّ هؤلاء (الخلفاء الإثني عشر) سوف يتعاقبون واحداً بعد الآخر على حفظ الرسالة الإسلامية ، وحمايتها ، وصيانتها من التحريف حتى قيام الساعة.
ولنلاحظ ما ينقله لنا (البخاري) كشاهد على هذا القول ، حيث يذكر في صحيحه ما نصّه :
|
(حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا عاصم بن محمد : سمعت أبي يقول : قال ابن عمر : قال رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) : ـ لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقى منهم اثنان) ١. |
وقال (ابن حجر العسقلاني) معلّقاً على هذا الحديث :
______________________
(١) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب الأحكام ، باب : ٢ : الأمراء من قريش ، ح : ٢.
(قوله
: (ما بقى منهم اثنان) قال ابن هبيرة : يحتمل أن يكون على ظاهره ، وأنَّهم لا يبقى منهم في آخر الزمان إلّا اثنان : أمير ، ومؤ مَّر عليه ، والنّاس لهم تبع) ١. وهذا يدلّ بناءاً على ما هو ظاهر من
قوله : (والنّاس لهم تبع) على بقاء أمر الخلافة بعد رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ)
إلى آخر الدنيا. على الرغم من أنَّنا نستبعد تفسير
الحديث بالطريقة المذكورة في حديث (أبي هبيرة) ، لأنّ النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ
وآلِهِ وسَلَّمَ) لا يريد أن يخبر في
الحديث المذكور بأنّه لا يبقى في آخر الزمان إلا شخصان من (قريش) ، وأنّ النّاس يفنون عن آخرهم إلّا هذين الشخصين ، بل يريد (صَلّى اللهُ عليهِ
وآلِهِ وسَلَّمَ) أن يخبر بأنّ الأمر
مستمرّ في (قريش) في مختلف الأحوال والأزمنة ، حتى بفرض أنّه لا يبقى من الناس إلّا اثنان ، فيكون أحدهما أميراً من (قريش) ، والآخر مؤمَّر عليه ، وليس بالضرورة أن
يقع ذلك ، ولا يبقى من النّاس بالفعل إلّا اثنان ، وهذا النوع من التعبير يكثر في
الخطابات الشرعية ، والحوارات العرفية ، على نحو العموم بالدلالة التي ذكرناها له ، ومثال
ذلك ما لو قال قائل : (ما
يزال القرآن محفوظاً بقدرة الله تعالى ما دام على وجه الأرض آدميٌّ واحد) ، ففي هذا التعبير
دلالة على الإستمرار والدوام ، وليس المقصود منه إثبات وجود آدميّ واحد في آخر الدنيا. ويؤيد هذا الخبر ما رواه (ابن حجر
العسقلاني) في نفس الموضوع حيث يقول : (قلت
: في رواية مسلم عن شيخ البخاري في هذا الحديث : (ما بقي من النّاس اثنان) ، وفي رواية الإسماعيلي : (ما بقي من النّاس اثنان ، وأشار بإصبعيه السّبابة والوسطى) ٢.
______________________
(١) العسقلاني ، ابن حجر ، فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، ج : ١٣ ، ص : ١١٧.
وانظر : صحيح مسلم بشرح النورى ، ج : ١٢ ، ص : ٢٠١.
(٢) ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، ج : ١٣ ، ص : ١١٧.
وانظر : صحيح مسلم بشرح النووي ، ج : ١٢ ، ص : ٢٠١.
ويضيف (العسقلاني) في توضيح الحديث : (وجه
الدَّلالة من الحديث ليس من جهة تخصيص قريش بالذكر ، فإنّه يكون مفهوم لقب ، ولا حجَّةَ فيه عند المحقّقين ، وإنَّما الحجة وقوع المبتدأ معرّفا باللام الجنسيَّة ، لأنَّ المبتدأ بالحقيقة ههنا هو الأمر الواقع صفة لهذا ، وهذا لا يوصف إلا بالجنس ، فمقتضاه حصر جنس الأمر في قريش ، فيصير كأنَّه قال : لا أمر إلّا في قريش) ١. وهذا الكلام منه أوضح في الدلالة على
المطلوب. وأمّا (النووي) فيعتبر الملاك في الحديث
هو استمرار أمر الدين الحنيف ما دام هناك بشر على وجه الأرض ، فيقول في تفسير الرواية المتقدمة التي نقلت من طريق (عبدلله بن عمر) : (حكم
حديث ابن عمر مستمر إلى يوم القيامة ما بقي من الناس اثنان) ٢. ومن البديهى أنَّ من غير الحكمة أن يترك
النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)
تشخيص هؤلاء الخلفاء لتأويلات المتأولين ، واجتهادات المجتهدين ، وليس من الممكن أن يبقى الأمر مبهماً ، ومرتبكاً بالشكل الذي يوقع المسلمين في عدم القدرة على تحديد الموقف ، وتشخيص هويَّة هؤلاء الخلفاء الذين يلون أمر النّاس ، وينتهون
نسبياً إلى قبيلة (قريش) ، إذ أنّ هذا الإجراء يتقاطع مع مهمَّة رسول الإنسانية (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ)
في رسم المسار الصحيح للأمّة الإسلاميَّة ، وإجلاء معالمها بكلّ وضوح ، وبأكبر قدر ممكن من المواقف والأحاديث.
______________________
(١) ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، ج : ١٣ ، ص : ١١٧.
وانظر : ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري ، ج : ١٥ ، ح : ٧١٤٠ ، ص : ١٠٤.
(٢) ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، ج : ١٣ ، ص : ١١٧.
وانظر : ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري ، ج : ١٥ ، ح : ٧١٤٠ ، ص : ١٠٤.
ومن هنا يظهر لنا بطلان ما ذهب إليه (ابن حزم) بخصوص هذا الحديث ، على ما نقله (العسقلاني) في (فتح الباري) حيث يقول :
|
(وقيّد ذلك طوائف ببعض قريش ، فقالت طائفة : لا يجوز إلّا من ولد علي ، وهذا قول الشيعة ، ثمَّ اختلفوا اختلافا شديداً في تعيين بعض ذريَّة علي ، وقالت طائفة : يختصّ بولد العبّاس ، وهو قول أبي مسلم الخراساني وأتباعه. ونقل ابن حزم أنّ طائفة قالت : لا يجوز إلّا في ولد جعفر بن أبي طالب ، وقالت أخرى : في ولد عبد المطلب ، وعن بعضهم : لا يجوز إلا في بني أميَّة ، وعن بعضهم لا يجوز إلّا في ولد عمر ، قال ابن حزم : ولا حجة لأحدٍ من هؤلاء الفرق) ١. |
فمضافاً إلى ما ذكرناه من وقوع هذا التفسير وأمثاله في عدم التشخيص الذي ننزّه عنه النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ، وخصوصاً في مثل هذا الأمر الحيوي والحساس في حياة الأمّة الإسلامية.. فإنَّنا سوف نبيّن لاحقاً ، ومن خلال القرائن العلميّة ، والأدلّة الشرعيَّة القاطعة ، وعند الوصول إلى مرحلة تخصيص هؤلاء الخلفاء الوارد ذكرهم في حديث (الخلفاء الإثنى عشر) أنَّ قول أتباع مدرسة أهل البيت (عَليهِمُ السَّلامُ) من بين هذه الأقوال هو الصحيح ، وأنَّ هؤلاء الخلفاء هم من ولد علي بن أبي طالب (عَليهِ السَّلامُ).
وقد تقّدم في بعض الأحاديث التي نقلناها آنفا ما يدل على هذا المعنى أيضاً ٢.
وأمّا بقيَّة الأقوال والإدعاءات فهي لا تمتلك الدليل الشرعي المقنع على حسب ما هو موجود لدينا من مستندات ووثائق شرعية وتأريخية.
______________________
(١) ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، ج : ١٣ ، ص : ١١٨.
(٢) انظر : الصيغة (١٦) و (١٧) من الهياكل اللفظية للحديث.
ونرى أنّ هناك تصريحات واضحة من قبل علماء مدرسة الخلفاء في كون مسألة إمامة القرشي من المسائل الإجماعيّة عند المسلمين ، إلّا ثلَّة قليلة لا يُعبأ بها ، فقد جاء في (فتح الباري) :
|
(وقال عياض : اشتراط كون الإمام قرشيّاً مذهب العلماء كافةً ، وقد عدّوها من مسائل الإجماع ، ولم يُنقل عن أحدٍ من السّلف فيها خلاف ، وكذلك من بعدهم في جميع الأمصار. قال : ولا إعتداد بقول الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة لما فيه من مخالفة المسلمين) ١. |
وبعد نقل هذا الإجماع ، وبعد الإقرار به بين جميع المسلمين ، تنبثق مشكلة تلقائية تفرض نفسها في مقابل هذا الإجماع ، تلك هي الحقيقة التأريخية التي أكّدت على أنَّ (عمر بن الخطّاب) حاول أن يستخلف من هو (غير قرشي) من بعده ، وهو (معاذ بن جبل) ، وذلك باتفاق أهل التواريخ والسّيَر ، وقد حاول (العسقلاني) بعد نقل الإجماع المذكور آنفا الدفاع عن هذا الموقف الخارق للإجماع بالقول :
|
(قلت : ويحتاج من نقّل الإجماع إلى تأويل ما جاء عن عمر من ذلك ، فقد أخرج أحمد عن عمر بسندٍ رجاله ثقات أنّه قال : (إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حيّ استخلفتُه) ، فذكر الحديث وفيه : (فإن أدركني أجلي وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل.. الحديث) ، ومعاذ بن جبل أنصاريّ لا نسبة له في قريش ، فيحتمل أن يقال : لعلَّ الإجماع انعقد بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشيّاً ، أو تغيّر اجتهاد عمر في ذلك ، والله أعلم) ٢. |
______________________
(١) العسقلاني ، ابن حجر ، فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، ج : ١٣ ، ص : ١١٨.
(٢) العسقلاني ، ابن حجر ، فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، ج : ١٣ ، ص : ١١٨.
فبغض النظر عن أنّ (عمر بن الخطاب) هل يمتلك شرعية الإستخلاف أو لا ، فأنّا نرى أنَّ من الواضح أنّه لا معنى للتوفيق بين ما ثبت بالدليل الشرعي المتفق عليه بين المسلمين عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ، وعن طريق الإجماع المنقول عنهم من كون الخلفاء كافة من (قريش) ، وبين ما حاوله (عمر بن الخطاب) في مقولته الآنفة الذكر ، إذ أنّ التبرير المذكور لذلك لا يستند إلى أيّ أساس علمي ، لوضوح أنّ الإجماع إنّما ينعقد ويكتسب شرعية من خلال نفس الناطق باسم التشريع ، ومن خلال نفس أقوال رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) وأحاديثه ، ومن البديهي أنَّ الذي أخبر عن كون الخلفاء من (قريش) هو رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ، ومن خلال هذا الإخبار انتهى العلماء إلى القول بالإجماع على ذلك بلا فصل ، فلا معنى إذن للقول بأنّ الإجماع قد يكون منعقدا بعد (عمر بن الخطاب) ، بإعتبار أنَّ هذا النوع من الإجماع كاشف عن الحقيقة الشرعيّة الثابتة بالنّص الصريح.
وعلى هذا الأساس فإذا اتفقنا على القول بأنّ رسول الله قد نصّ بشكل صريح على كون (الخلفاء الإثني عشر) من (قريش) ، وأنّ الأمر لا يخرج عن ذلك أبداً ، وإلى حين قيام الساعة ، واتفقنا أيضاً على أنّ الإجماع قد انعقد بين المسلمين على ذلك ، فلا بدّ أن نتفق أيضاً بعد هذا على أن الواقع الإسلامي آنذاك ، ومن حين كان رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) حيّاً بين ظهرانىّ الأمّة قد تسالم على هذه الحقيقة ، وتعامل معها كأمرٍ مفروغ عنه من الوجهة الشرعية ، وإنّما تمّت استفادة الإجماع منذ ذلك الحين ، وعلى هذا الأساس.
وأما الإحتمال الثاني الذي أورده (ابن حجر) في مقام تصحيح محاولة (عمر بن الخطاب) فهو ساقط عن الإعتبار أيضاً ، ولا يُعبأ به بشكل لا يقبل التراجع والتردّد ، إذ لا إجتهاد في مقابل قول النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ، وحكمه الصريح ، المعترف به في مصادر (مدرسة الخلفاء) المعتبرة.
وأخيراً فعلى الرّغم من جمال وجذّابية عبارة (والله أعلم) ، وأنَّ من الممكن أن يستفاد منها تواضع الكاتب ، وإذعانه لما يعجز عن الظفر به من حقائق ، إلا أنّها قد تكشف عن عدم إيمان القائل بما يقول في بعض الأحيان ، أو أنّه يعتقد بشيء آخر خلاف ما أثبته في كتاباته ، خشيةَ الإصطدام مع الثوابت والخلفيات التي يؤمن بها مسبقاً ، ونحن نظن أنّ وضع هذه اللفظة في هذا النصّ تقترب كثيراً إلى هذا التوجّه الذي نعتقد به بثقة ، من خلال القرائن العلمية التي إثبتناها ، والتي تحفّ بالمقام ، وتحاول توجيه الحقيقة نحو المسارات والسبل المتفرقة.
على أنّ ما هو المفترض في الخطابات الشرعية والأحاديث النبوية أن تكون في مقام بيان تمام مقصوداتها الواقعية ، من خلال اللغة الواضحة التي لا تحتاج إلى الكثير من البحث والعناء والإستقصاء.
ويبقى على المسلمين أن يقوموا برصد الأحاديث الشرعية بدقة متناهية ، ومعرفة الحديث الواقعي من الحديث غير الواقعي منها ، ومن بعد ذلك ومن خلال تثبيت الأحاديث الواقعية ، والإتفاق على صدورها ، يجب تقديم الرأي العلمي الناضج ، والرؤية الواضحة لكلّ خصوصيات التشريع وتفاصيله المحددة ، وخصوصاً في القضايا المصيرية الحساسة ، كقضية (الخلافة الإسلامية) بعد النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ).
ولا يجوز بحال من الأحوال إعلان الإعياء ، والعجز من تفسير الأحاديث المقطوعة الصدور بهذه العفوية ، ومن خلال مقولة : (والله أعلم) ، بعد إيراد تأويلات في غاية البعد عن النظر الشرعي والعقلي ، ومن دون النظر إلى بقية الخطابات الشرعية ، والجولة المتأنية فيها بروحٍ تحمل التطلع المعّمق لإدراك الحقيقة ، والسعى الحثيث نحو الظفر بها ، بكلّ جدّية وإخلاص.
وهذا الكلام لا يعنى بطبيعة الحال أنّنا
يجب أن نظفر بجميع الأحكام التفصيلية الواقعية لكل شؤون التشريع ، إذ هذا الأمر مما لا يقول به أحد ، مع عدم وجود مصدر التشريع وحضوره بشكل مباشر ، ولهذا تُبنى الكثير من الأحكام الشرعية على
الظهورات التي استمدت شرعيتها من قبل نفس مصدر التشريع ، على الرغم من أنّها قد لا تصيب الواقع أحيانا.
ولكنّ الذي ينبغي التأكيد عليه هو أنَّ من غير الممكن لمن أراد البحث عن الحقائق الإسلامية الكبرى وأصول ، الإعتقادات الدينية ، من العجز عن الظفر بها عن طريق التتبع والاستقصاء ، وعن طريق الإنطلاق من حيث البدايات المتجرّدة عن الخلفيات المسلّمة ، والإتباع العشوائي لأفكار الآخرين وآرائهم ، لأنّه إن وجدت حالات من الإبهام والغموض في مثل هذه المبادئ الأصلية ، فهي إنَّما تنشأ من حالة الضبابية التي تضرب على التأريخ ووقائعه ، والغموض الذي يكتنف الكثير من الحقائق ، ويحاول أن يتجاوزها ، ويسدل عليها ستار التوقف ، والوصول إلى الطريق المسدود.
وسوف نثبت إن شاء الله تعالى أنَّ هذه الأحاديث بمجموعها تسير نحو مضمون واحدٍ ، وتحاول أن تفي بغرض مشترك موحَّد ، وأنّها تجرى على وتيرة واحدة ، من دون تفاوت أو إختلاف يُذكر.
(٦) الخلفاء يباشرون الأمر بعد وفاة الرسول (ص) بلا فصل
تتناول نصوص حديث (الخلفاء الإثني عشر) التي مرّت معنا آنفاً ، وبمختلف الألفاظ والصياغات والتعابير مسألة ولاية هؤلاء الخلفاء بعد النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) مباشرة ومن دون فصلٍ ، حيث ورد في جملة منها أنّ رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) قال :
|
(يكون بعدي ...). |
فهذا اللفظ واضح الدلالة على المباشرة
من غير فصل ، لا سيّما إذا ضممنا إلى ذلك أنّ هؤلاء خلفاء ، وأمراء ، وأوصياء للنبي الخاتَم (صَلّى
اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)
، إذ لا يمكن أن
يتحقق معنى (الخلافة) ، و (الإمارة) ، و (الوصاية) مع الفصل بين المستخلِف والخليفة ، وبين الموصِى والوصى ، ولو بمدّة وجيزة كما هو واضح.
وكذلك إذا ضممنا إلى هذا الحديث الأحاديث الأخرى التي أكّدت على أنّ الإسلام سيبقى منيعاً ، عزيزاً ، قائماً ، صالحاً ، ماضياً ، مستقيماً ، ظاهراً ، منتصراً مع هؤلاء الخلفاء ، وأنّ هذا البقاء لا يعنى إلّا بقاء معالم الإسلام ، وأصوله واضحة ، ومشخصة ، وراسخة في الواقع طبقاً لقوله تعالى :
|
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ١. |
وهذا ما لا يمكن تصوره مع وجود فترة زمنية فاصلة بين النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) وبين خلفائه وأوصيائه النائبين عنه.
مضافاً إلى كلّ هذا ، فإنّه سوف يأتى وحسب ما ثبت في مصادر (مدرسة الخلفاء) أنّ أول الخلفاء الإثنى عشر هو الإمام علي بن أبي طالب (عَليهِ السَّلامُ) ، وهو يعزّز المعنى المذكور ، وينسجم معه إنسجاماً تاماً.
وسوف يأتي في ضمن استعراض محاولات علماء مدرسة الخلفاء في تفسير حديث (الخلفاء الإثنى عشر) أنَّ هناك من يقول بعدم ضرورة مجيء هؤلاء الخلفاء بعد رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) بشكل مباشر ، وإنّما من الممكن أن يتوزّعوا على المراحل الزمنية المختلفة ، ولا مانع من أن تبدأ خلافتهم بعد مضي فترة من رحيله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ، كما أنّه ليس من اللازم أن يقع التعاقب بينهم واحداَ بعد الآخر ، ولذا فنحن نـذكّر القارئ المتتبع بأنّنا سوف نعود إلى هذه النقطة ، ونشير إليها بعد حين بإذن الله تعالى.
______________________
(١) الحجر / ٩.
(٧) أول الخلفاء الإثنى عشر هو الإمام علي بن أبي طالب
يلاحظ القارئ لحديث (الخلفاء الإثني عشر) عند اطلالته الأولية عليه أنَّ الدائرة التي تشمل هؤلاء الخلفاء قد تبدو واسعةً إلى حدٍ ما ، ولكن ، ومن خلال النظر في القواسم المشتركة بين هياكل الحديث اللفظية المتنوعة التي أشرنا إليها سابقاً ، ومن خلال الإطّلاع على القيود والمخصّصات الإضافية التي وردت على لسان طائفة معتدّ بها بنفس هذا المضمون.. من خلا هذا نستطيع وفقاً للسير العلمي الإنتقال من تلك الدائرة الواسعة إلى دائرة أضيق ، ونقف على المقصود الواقعي من الحديث ، وتحديد هوية الأشخاص الذين أشار إليهم رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) من خلاله.
ومن المفردات الأخرى التي تتجه بالحديث نحو هذا المسار من التحديد والتخصيص النصوص التي دلّت على أنَّ أول (الخلفاء الإثنى عشر) المقصودين بهذا الحديث هو علي بن أبي طالب (عَليهِ السَّلامُ).
ومما لا يقبل الريب أنَّ جميع ما أستفيد من الأحاديث المتقدمة من إستنتاجات ينطبق على علي بن أبي طالب (عَليهِ السَّلامُ) تمام الإنطباق ، ويتجسد فيه بأجلى الصور وأوضحها ، فلنعد ، وننظر في تلك القواسم المشتركة لنرى دقّة هذا التوافق والإنسجام :
أولاً : عليٌّ من قريش
إنّ الأحاديث المتقدمة قد نصّت على أنَّ (الخلفاء الاثني عشر) من (قريش) ، وعلي بن أبي طالب (عَليهِ السَّلامُ) كذلك كما لايخفى ، وأمّا الأحاديث التي دلّت على أنَّهم من (بني هاشم) ، فهي تكرّس هذه الحقيقة أيضا ، وتضيف إليها ما يوطدها ، ويؤكدها بشكل أوثق.
ثانياً : عليٌّ يتكفل حفظ الكيان الإسلامي
إنّ الأحاديث المتقدمة نصّت على أنَّ (الخلفاء الإثني عشر) يحفظون بقاء الإسلام والأمر منيعاً ، عزيزاً ، قائماً ، صالحاً ، ماضياً ، مستقيماً ، ظاهراً ، منتصراً ، ولا يمكن لهذه الحقيقة أن تتخطى بطل الإسلام الأول علي بن أبي طالب (عَليهِ السَّلامُ) الذي ما فتيء يدافع عن رسالة الإسلام ، ويذّب عنها ، ويضحي من أجلها بكلّ وجوده.
فهو نجيّ رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ١ ، وموضع سرِّه ، وقد كان له منزلة من رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) لم تكن لأحدٍ من الخلائق في هذا الخصوص.
______________________
(١) أنظر : الترمذي ، صحيح الترمذي ، ج : ٥ ، كتاب المناقب ، باب : ٢٠ ، ح : ٣٧٢٦ ، ص : ٥٩٧ ، فقد جاء فيه عن (الزبير بن جابر) أنَّه قال : (دعا رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) علياً يوم الطائف فانتجاه ، فقال الناس : لقد طال نجواه مع ابن عمّه ، فقال رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) : ما إنتجيته ، ولكن الله إنتجاه).
ثم قال الترمذي : (ولكنَّ الله إنتجاه ، يقول : الله أمرني أن أنتجي معه).
وانظر الحديث أيضاً في : كتاب (فضائل الخمسة من الصحاح الستة) للفيروزآبادي ، ج : ٢ ، ص : ١٧ ، عن : (المتقي الهندي) في (كنز العمال) ، ج : ٦ ، ص : ١٥٩ ، وكذلك : (الخطيب البغدادي) في تأريخه ، ج : ٧ ، ص : ٤٠٢.
وانظر الرواية في : (أسد الغابة) ، (ابن الأثير الجزري) ، ج : ٤ ، ص : ٢٧.
وقال (الطبري) : انَّه لما نزل قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) ، (المجادلة / ١٢) قال : (نُهوا عن مناجاة النبي (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) حتى يتصدَّقوا ، فلم يناجه أحدٌ إلّا علي بن أبي طالب) ، (مرتضى العسكري ، معالم المدرستين ، ج : ١ ، ص : ٥٢٠ ـ ٥٢١ ، عن تفسير الطبري ، ج : ٢٨ ، ص : ١٤ ـ ١٥ ، وتفسير الدر المنثور للسيوطي ، ج : ٦ ، ص : ١٨٥).
وجاء في (كنز العمال) عن (جندب بن ناجية) أو (ناجية بن جندب) أنَّه قال : (لما كان يوم غزوة الطائف قام النبي (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) مع علي ملياً ، ثم مرّ ، فقال له أبو بكر : يا رسول الله ! لقد طالت مناجاتك علياً منذ اليوم ! فقال (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) : ما إنتجيته ، ولكنَّ الله إنتجاه) ، (علاء الدين الهندي ، كنز العمال ، ج : ١٣ ، ح : ٣٦٤٣٨ ، ص : ١٣٩).
وكان علي (عَليهِ
السَّلامُ) آخر الناس عهداً برسول الله (صَلّى
اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)
١. ______________________ (١) جاء في (خصائص
النسائي) عن علي (عَليهِ السَّلامُ) أنَّه قال : (كان
لي منزلة من رسول الله لم تكن لأحدٍ من الخلائق ، كنت أدخل على نبي الله كلَّ ليلة ، فإذا كان يصلّي سبّح ، فدخلتُ ، وإن
لم يكن يصلّي أذِن لي فدخلت). وورد فيه أيضاً عن علي (عَليهِ
السَّلامُ) أنَّه قال : وروى (النسائي) أيضاً عن (أم سلمة) : وروي عن (عائشة) أنَّها قالت : وعن (ابن عباس) أنّه قال :
وكان (عَليهِ السَّلامُ)
أول الناس به (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)
لحوقاً واشدهم به لزوقاً ١. وهو الذي آخاه رسول الله (صَلّى
اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)
من بين جميع المهاجرين والأنصار ٢
، وهو الذي اختاره الله تعالى له (صَلّى اللهُ عليهِ
وآلِهِ وسَلَّمَ) ٣.
______________________ (١) أنظر : المستدرك
على الصحيحين للحاكم النيسابوري ، ج : ٣ ، ص : ١٣٥ ، روى عن أبي إسحاق أنَّه قال :
(سألتُ
قثم بن العّباس : كيف ورثَ عليٌّ رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) دونكم ؟
قال : لأنّه كانَ أوّلنا به لحوقاً ، وأشدّنا به لزوقاً). وأنظر كذلك : كنز العمال للمتقي الهندي
، ج : ٦ ، ص : ٤٠٠ ، والنسائي في خصائصه ، ص : ٣٨ ، ونقله (مرتضى الفيروز آبادي) في (فضائل الخمسة) ، ج : ٣ ، ص : ٣٨. وروى عن الفضل بن العباس بن عبد المطّلب
أنّه : وجاء في (شرح نهج البلاغة) لـ (ابن أبي
الحديد) أيضاً عن (جبير بن مطعم) أنَّه قال :
(٢) فقد جاء في (صحيح الترمذي) عن (ابن عمر) أنَّه قال : (آخى رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) بين أصحابه ، فجاء عليٌّ تدمع عيناه ، فقال : يا رسول الله ! آخيتَ بين أصحابك ، ولم تواخِ بيني وبين أحدٍ ، فقال رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) : أنت أخي في الدنيا والآخرة) ، (عبدالله نعمة ، روح التشيع ، ص : ٤٤ ، عن صحيح الترمذي ، ج : ٢ ، ص : ٢٩٩ ، وتأريخ الخلفاء ، ص : ١٧٠).
(٣) الحاكم النيسابوري ، المستدرك على الصحيحين ، ج : ٣ ، ص : ٥٧٦ ـ ٥٧٧ ، فقد ذكر باسناده عن (زيد بن علي بن الحسين) عن جدّه أنّه قال : (أشرف رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) من بيتٍ ، ومعه عماه العباس وحمزة ، وعلي ، وجعفر ، وعقيل ، هم في أرضٍ يعملون فيها ، فقال رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) لعميه : اختارا من هؤلاء ، فقال أحدهما : اخترت جعفراً ، وقال الآخر : اخترت علياً ، فقال : خيّرتُكما فاخترتما ، فاختار الله لي علياً).
وهو أعلم الناس بعد رسول الله (صَلّى
اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ، كما تضافرت بذلك النصوص القاطعة الصريحة في مصادر (مدرسة الصَّحابة) (١). ______________________ (١) ورد في (صحيح
الترمذي) ، ج : ٥ ، كتاب : المناقب ، باب : ٢٠ ، ح : ٣٧٢٢ ، ص : ٥٩٥ ، وكذلك : ح :
٣٧٢٩ ، ص : ٥٩٨ ، بإسناده إلي (عوف بن عبدالله بن عمرو بن هند الجملي) عن علي (عَليهِ
السَّلامُ) أنَّه قال : (كنت إذا سألت رسول الله أعطاني ، وإذا
سكت ابتدأني). وروى (أبو نعيم) في حليته بسنده إلى (ابن
عباس) قال : وروى (ابن سعد) في كتاب (الطبقات) عن
علي (عَليهِ السَّلامُ) أنَّه قيل له :
______________________
وفيه أيضاً بإسناده عن (وهب) أنَّه قال : (قال رسول الله صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ : يا علي إنَّ الله أمرني أن أدنيك ولا أقـصيك ، وأعلمك ولا أجفوك ، فحق عليَّ أن اعلِّمك ، وحقّ عليك أن تعي) ، (محمد بن سلمان الكوفي القاضي) ، (مناقب الإمام أمير المؤمنين) ، ج : ٢ ، ص : ٢١ ، وذكر المحقق من مصادر الحديث : (الحافظ الحسكاني) في تفسير الآية (١٢) من سورة الحاقة ، وما بعده من كتاب (شواهد التنزيل) ، ج : ٢ ، ص : ٢٧١).
وفيه أيضا بإسناده إلى (سعيد بن جبير) عن (ابن عباس) أنّه قال : (ذكرنا عنده علياً ، فقال : إنَّكم تذكرون رجلاً ربما سمع وطأ جبريل فوق بيته) ، (محمد بن سلمان الكوفي القاضي) ، (مناقب الإمام أمير المؤمنين) ، ج : ٢ ، ص : ٥٣٢ ، ح : ١٠٣١ ، وقال المحقق في الهامش : ورواه (ابن عساكر) بسند آخر عن (عمرو بن ثابت) في الحديث : ٨٢٧ من ترجمة أمير المؤمنين من (تأريخ دمشق) ، ٢ / ٣١٤ ، ط : ٢).
وفيه أيضا باسناده إلى (أبي اسحق) أنَّه قال : (بينما سلمان جالس في أناس من أصحابه إذ مرّ عليّ فقال : ما يمنعكم ، أفلا تقومون إليه فتأخذون بحجرته ؟ فوالله ما أعلم أحداً هو أعلم بسر رسول الله صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ منه) ، (محمد بن سلمان الكوفي القاضي) ، (مناقب أمير المؤمنين) ، ج : ٢ ، ص : ٥٣٢ ، ح : ١٠٣٢ ، وقال المحقق في الهامش : (وقريباً منه رواه (البلاذري) في الحديث (٢١٧) من ترجمة أمير المؤمنين من (أنساب الأشراف) ، ٢ / ١٨٣).
وفيه أيضاً بإسناده إلى (أبي صالح) عن علي (عَليهِ السَّلامُ) أنَّه قال : (قلت : يا رسول الله علِّمني شيئاً ينفعني ، قال : قل ربي الله ثم استقم ، قال : قلت : حسبي الله وما توفيقي إلا بالله ، فقال : ليهنيك العلم أبا حسن ! لقد شربت العلم شرباً ، وثاقبته ثقباً) ، (محمد بن سلمان الكوفي القاضي) ، (مناقب الإمام أمير المؤمنين) ، ج : ٢ ، ص : ٥٧٢ ، ح : ١٠٨٣ ، وقال المحقق في هامش الحديث : رواه (أبو نعيم) في ترجمة أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلامُ) من كتاب (حلية الأولياء) ، ج : ١ ، ص : ٦٥ ، ورواه (ابن عساكر) تحت الرقم ١٠٢٨ من ترجمة أمير المؤمنين من (تأريخ دمشق) ، ج : ٢ ، ص : ٤٩٨ ، ط : ٢).
وورد عن علي (عَليهِ السَّلامُ) أنَّه قال : (علَّمني رسول الله ألفَ بابٍ من العلم ، ففتح لي من كل بابٍ ألف بابٍ) ، (حسين الشاكري ، علي في الكتاب والسنّة ، ج : ٢ ، ص : ١٤٣ ، عن السيد (أحمد المغربي) في (فتح الملك العلي) ، ص : ١٩ ، والمحدّث (الهروي) في (الأربعين) ، ص : ٤٧ ، (مخطوط) ، و (القندوزي) في (ينابيع المودّة) ، ص : ٧٢).
وروي عن (أنس) أنَّه قال : (قيل : يا رسول الله ! عمّن نأخذ العلم من بعدك ؟ فقال : صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ : عن علي) ، (حسين الشاكري ، علي في الكتاب والسنّة ، ج : ٢ ، ص : ١٤٣ ، عن العلّامة (قطب الدين أحمد شاه) في (قرّة العينين) ، ص : ٢٣٤.
وقد رشَّحه رسول الله (صَلّى
اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)
للمواقف الإسلامية الفاصلة ، والمهامّ الرسالية الكبرى من بين المسلمين قاطبةً. ______________________ وعنه (صَلّى اللهُ
عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنَّه قال : (أنا مدينة الحكمة ،
وعليٌّ بابها ، فمن أراد الحكمة فليأت الباب).
وقال (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) : (أنا مدينة العلم
وعليٌّ بابها) ، واستقصى جلَّ مصادرهما في (إحقاق
الحق) ، ج : ٥ ، ص : ٥٠٢ ـ ٥١٦ ، وكذلك : ج : ١٦ ، ص : ٢٩٨ ـ ٣٠٩ ، ج : ٥ ، ص : ٤٦٩ ـ ٥٠١
، وكذلك : ج : ١٦ ، ص : ٢٧٧ ـ ٢٩٧ ، وكذلك : ج : ٢١ ، ص : ٤١٥ ـ ٤٢٨). وعنه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ
وسَلَّمَ) أنَّه قال : وعنه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ
وسَلَّمَ) أنَّه قال : وعنه أنه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ
وسَلَّمَ) قال : ( وعنه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ
وسَلَّمَ) أنَّه قال : وجاء في (نهج البلاغة) عن علي (عَليهِ
السَّلامُ) أنَّه قال :
فمن ذلك مبيته (عَليهِ
السَّلامُ) على فراش النبي الخاتَم (صَلّى
اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)
ليلة الهجرة ليحميه من الأعداء ، ويذبُّ عنه بمهجته ، ويؤثره بالحياة ، حتى باهى الله تعالى به الملائكة ١. ______________________ (١) فقد جاء في مصادر
مدرسة الخلفاء المختلفة : (أنَّ رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ
وآلِهِ وسَلَّمَ) لما أراد الهجرة خلَّف علي بن أبي طالب (عَليهِ السَّلامُ) بمكة لقضاء ديونه ، وردِّ الودائع التي
كانت عنده ، وأمره ليلة الخروج من الغار ، وقد أحاط المشركون بالدار ، ونام على فراشه ، فقال : يا علي ، اتّشح
ببردي الحضرمي ، ثمَّ نَم على فراشي ، فإنَّه لا يخلص إليك مكروه إن شاء الله. وفعل ذلك علي (عَليهِ السَّلامُ) ،
فأوحى الله عز وجل إلى جبرئل وميكائيل : إنّي آخيت بينكما ، وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر ، وأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة ، فاختار كلاهما الحياة ،
فأوحى الله إليهما : ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيتُ بينه وبين محمد ، فنام على فراشه يفديه بنفسه ، ويؤثره
بالحياة ، اهبطا إلى الأرض ، فاحفظاه من عدوه ، فكان جبرئل عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، فقال
جبرئيل : بخٍ بخٍ ، من مثلك يا بن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة ، فأنزل الله تعالى على رسوله ، وهو متوجه
إلى المدينة في شأن علي : وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ
ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)
، (البقرة : ٢٠٧). انظر : (القاضي التستري ، إحقاق الحق ،
ج : ٣ ، ص : ٢٣ ـ ٣٣ ، فقد أشار إلى قول مجموعة كبيرة من علماء مدرسة الخلفاء ومفسريهم بنزول الآية في علي (عَليهِ السَّلامُ) ، منهم أحمد بن
حنبل في مسنده ، ج : ١ ، ص : ٣٣١ ، ط : ١ ، مصر ، والعلّامة (الطبري) في تفسيره ، ج : ٩ ، ص : ١٤٠ ، ط :
الميمنية بمصر ، والحاكم في المستدرك ، ج : ٣ ، ص : ٤ ، ط : حيدر آباد ، دكن ، والذهبي في تلخيص المستدرك ، ج
: ٣ ، ص : ٤ ، ط : حيدر آباد ، دكن ، والعلّامة (الثعلبي) في تفسيره على ما في (تفسير اللوامع) ، ج :
٢ ، ص : ٣٧٦ ، ط : لاهور ، والأصفهاني في كتاب (ما نزل في شأن علي) على ما في (تفسير اللوامع) ، ج : ٢ ، ص :
٣٧٥ ، و (الغزالي) في (الإحياء) ، و (فخر الدين الرازي) في تفسيره ، ج : ٥ ، ص : ٢٢٢ ، ط : البهية بمصر
، و (ابن الأثير) في (أسد الغابة) ، ج : ٤ ، ص : ٢٥ ، ط : جمعية المعارف بمصر.. إلى غير ذلك من المصادر
العامية الكثيرة. وقد نسب (الحاكم النيسابوري) في (المستدرك
على الصحيحين) هذه الأبيات إلى أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلامُ) عند مبيته على فراش رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) : وفيتُ بنفسي خيرَ
من وطي الحصى
ومن طافَ بالبيتِ
العتيقِ وبالحجر
رسول الله خافَ أن
يمكروا به
فنجّاه ذو الطولِ
الإله من المكر
وباتَ رسولُ اللهِ
في الغارِ آمناً
موقى وفي حفظِ
الإلهِ وفي ستر
(الحاكم
النيسابوري ، المستدرك على الصحيحين ، ج : ٣ ، ص : ٤).
ومنها أنه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) هدد الكفار به (عَليهِ السَّلامُ) ، ليضرب رقابَهم على الدين وهم مجفلون إجفال النعم ١.
ومنها أنَّه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) دفع له (عَليهِ السَّلامُ) الراية يوم خيبر ، ووصفه بأنَّه يحبُّ اللهَ ورسولَه ، ويحبُّه اللهُ ورسولُه ، يفتح الله له ، ليس بفرّار ، وهو إذ ذاك أرمد العينين ٢.
______________________
(١) فقد جاء في مصادر مدرسة الخلفاء أنَّه : (جاء سهيل بن عمرو إلى رسول الله ، فقال : يا محمد ! إنّه قد خرج إليك أناس من أرقّائنا ليس بهم للدين تعبداً ، فارددهم إلينا ، فقال أبو بكر وعمر : صدق رسول الله ، فقال النبي : لن تنتهوا يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم رجلاً مني امتحن الله قلبه للإيمان ، يضرب رقابكم على الدين وأنتم مجفلون إجفال النعم ، فقال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا ، قال عمر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكنَّه خاصف النعل.
قال : وكان في كفّ علي نعل يخصفها لرسول الله) ، (محمد بن سلمان الكوفي) ، (مناقب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) ، ج : ٢ ، ص : ١٦ ، ح : ٥٠٦ ، وأشار المحقق إلى رواة الحديث قائلاً : رواه الحافظ (ابن عساكر) بسنده عن (الخطيب) ، ثمَّ بأسانيد آخر تحت الرقم : (٨٧٣) ، وما بعده من ترجمة أمير المؤمنين في عنوان (قد امتحن الله قلب علي للإيمان) تحت الرقم : (٣١) من كتاب (خصائص علي) ، ص : ٨٥ ، ط : بيروت.
(٢) فقد ورد في مصادر مدرسة الخلفاء الكثيرة ، منها ما ذكره (الهيثمي) في (مجمع الزوائد) عن (عبد الرحمن بن أبي ليلى) عن أبيه أنَّه قال : (قلت لعلي ـ وكان يسمر معه ـ إنَّ الناس قد أنكروا منك أن تخرج في الحرِّ في الثوب المحشو ، وفي الشتاء في الملاءَتين الخفيفتين ، فقال علي : أولم تكن معنا بخيبر ؟ قلت : بلى ، قال : فإنَّ رسول الله دعا أبا بكر ، فعقد له لواءاً ، فسار ، ثمَّ رجع منهزماً بالناس ، وانهزم حتى إذا بلغ ورجع ، فدعا عمر ، فعقد له لواءاً ، فسار ، ثمَّ رجع منهزماً بالناس ، فقال رسول الله : لأعطينَّ الرايةَ رجلاً يحبُّ اللهَ ورسولَه ، ويحبُّه اللهُ ورسولُه ، يفتح الله له ، ليس بفرّار ، فأرسل إليَّ فأتيته ، وأنا أرمد لا أبصر شيئاً ، فتفل في عيني ، وقال : أكفه ألمَ الحرِّ والبرد ، فما آذاني حرٌّ ولا بردٌ بعد) ، (نور الدين الهيثمي) ، (مجمع الزوائد) ، ج : ٩ ، ص : ١٢٤ ، وروى الحديث أحمد بن حنبل ، الخبر : ١٣٩ في مسنده ، ج : ٣ ، ص : ١٦ ، ورواه (القطيعي) في الحديث (١٧٦) في فضائل علي ، ورواه (ابن عساكر) في الحديث : ٢٥٦ و ٢٥٧ في ترجمة أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلامُ) من (تأريخ دمشق) ، ١ / ٢١٣ ، مع اختلاف في التعبير ، وانظر : هامش ، ص : ٤٩٥ ـ ٤٩٧ من ج : ٢ من كتاب (مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) ، بتحقيق : محمد باقر المحمودي.
ومنها أنه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أسند إليه (عَليهِ السَّلامُ) تبليغ سورة براءة ١ ... وغير ذلك من المهام الكبرى التي رقى إليها بطل الإسلام علي بن أبي طالب (عَليهِ السَّلامُ).
إنَّ كل هذا يشير بمجموعه إلى عين الحقيقة التي وردت في حديث (الخلفاء الإثنى عشر) الذين افتُرض فيهم أن يكونوا حماةً للدين ، وروّاداً لمسيرة الرسالة الإسلامية ، وحفظة لتعاليمها المقدسة ، بحيث يبقى أمر الإسلام منيعاً ، عزيزاً ، قائماً ، صالحاً ، ماضياً ، مستقيماً ، ظاهراً ، منتصراً ، على حد تعبير الأحاديث المتقدمة.
ولا يفوتنا الإشارة في هذا المقام إلى أنَّ ما ذكرناه سابقاً لمعنى الحفظ الواقعي لمبادئ الإسلام وتعاليمه ، وأنَّه لا ينحصر في مسألة استلام السلطة ، وتقلّد مهام الحكم الإسلامي ظاهرياً.
وعند العودة إلى ما ذكرناه آنفا من تفسير الحفظ ، والصيانة ، والمنعة ، والعزّة ، والقيمومة ، والصلاح ، والمضي ، والاستقامة ، والظهور التي ورد ذكرها في روايات (الخلفاء الإثنى عشر) وأنَّه لا ينحصر في مسألة استلام السلطة ، وتقلّد مهام الحكم
______________________
(١) جاء في (روح التشيع) للشيخ (عبدالله نعمة) نقلاً عن مصادر مدرسة الخلفاء المعتبرة : (فإليه أسند مهمة تبليغ سورة (براءة) ليقرأها على أهل مكة في السنة الثامنة للهجرة حين فتح مكة ، وكان صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أرسل أولاً أبا بكر لأداء نفس المهمة ، فأتبعه بعد ذلك بعلي ، وأمره أن يكون المتولّي لأداء ذلك ، وأمره أن يقوم بها على الناس بمنى ، ويرجع أبا بكر ، وقال له : أذِّن في الناس : أن لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحجُّ بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ عهد فهو له إلى مدته ، وأجَّل الناس أربعة أشهر من يوم تنادي ، ليرجع كلّ قوم إلى مأمنهم ، ثمَّ لا عهد لمشرك ولا ذمة ، وحمل عليا على ناقته العضباء.
وقد انصرف أبوبكر وهو كئيب ، فقال لرسول الله صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ : أنَزَلَ فيّ شئ ؟ قال : لا ، ألا إنّي أمرت أن أبلغه أنا أو رجل من أهل بيتي) ، (عبدالله نعمة ، روح التشيع ، ص : ٤٥ ـ ٤٦ ، استنادا إلى (التنبيه والإشراف) ، (المسعودي) ، ص : ٢٣٧ ، و (ينابيع المودة) ، ص : ٨٩ ، و (الطبري) ، ج : ٣ ، ص : ٥٤ ، ومن قوله : وقد انصرف ... إلى قوله : من أهل بيتي ، عن : (خصائص النسائي) ، ص : ٢٠.
الإسلامي ظاهراً ، وإن كان ذلك ممكنا معه.. نجد أنَّ هذا التفسير يتجلى بكل وضوح في المواقف والمبادرات التي كان يتقدم فيها الإمام علي (عَليهِ السَّلامُ) ليصحح الأخطاء التي قد يقع فيها من استلم الخلافة الإسلامية الظاهرية قبله ، وتلافي كلّ ما يمكن له تلافيه من الإنحرافات التي تعترض مسيرة الشريعة الإسلامية ، ومراقبة التشريع ومبادئه عن كثب ، ومعالجة كلّ حالة يمكن أن تخطو باتجاه التحريف ، والخروج عن السنّة النبوية القاطعة.
ومن الطبيعي أنَّ هذا السلوك المسؤول الذي يمارسه الإمام علي (عَليهِ السَّلامُ) تجاه التشريع الإسلامي على الرّغم من أنّه لم يكن متصدياً لشؤون الحكم لا يعني إلّا تكريس الحقيقة التي أكّدها رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) في حديث (الخلفاء الإثنى عشر) من أنَّ هؤلاء الخلفاء سيقومون بهذا الدور طيلة مسيرة الرسالة ، وفي مختلف الظروف التي تكتنف بها ، وفي مختلف العصور والأزمنة ، وإلى حين قيام الساعة.
إنَّ ممارسة (الخلفاء الإثني عشر) لدورهم الريادي هذا ، وأدائهم لمهام الخلافة التي أنيطت بهم كانت تمارس بغض النظر عن كونهم يجدون الطريق للإمساك بزمام الحكم الشرعي كما حدث في عهد الإمام علي (عَليهِ السَّلامُ) بعد مقتل عثمان ، فتجتمع بذلك الوظيفتان ، أو أنَّ الظرف تحول بينهم وبين ذلك ، فيبقى على عاتقهم الإضطلاع بالدور الحقيقي والأساسي الموكل بهم ، كما حدث لعلي (عَليهِ السَّلامُ) في فترة استلام (أبي بكر) ، و (عمر) ، و (عثمان) للخلافة من قبله ، وكما حدث لبقيّة خلفاء الرسول إجمالاً.
ثالثاً : عليٌّ خليفة الرسول ووصيُّه
إنَّ الأحاديث المتقدمة قد نصّت جميعاً
من خلال هياكلها اللفظية المتنوعة على كون هؤلاء (الخلفاء الإثنى عشر) هم خلفاء ، وأمراء ، وأوصياء لرسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)
، وقد تضافرت أحاديث أخرى عنه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)
تؤكد