كتاب السرائر - ج ٣

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٣

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٨٠

أو الحاكم انّ استحلافهم بالتوراة والإنجيل ، أو بشي‌ء من كتبهم أردع لهم في بعض الأحوال ، جاز له ان يحلفهم به.

ولا يقع اليمين بالطلاق ، ولا بالعتاق ، ولا بالظّهار ، ولا بتحريم الرّجل امرأته على نفسه.

ولا تنعقد اليمين إلّا بالنيّة ، والضمير ، على ما قدمناه ، والنيّة إنما تراعى فيها نية المظلوم ، دون الظالم ، فهذا معنى قول شيخنا في نهايته « والنية إنما تراعى فيها نية المستحلف » إذا كان محقا ، وإذا كان مبطلا ، كانت النية نية الحالف (١). ويمين المكره ، والغضبان ، والسّكران غير منعقدة ، الّا ان يكون في شي‌ء من هذه الأحوال مالكا فيها نفسه ، لأنا قد بيّنا ان اليمين لا تنعقد إلّا بالنية والضمير.

والاستثناء في اليمين جائز إذا كان متصلا باليمين ، أو حكم المتصل ، بان ينقطع النفس ، فان لم يتصل فلا تأثير له ، فإذا استثنى فإنما يعمل إذا كان موصولا ، ولا يعمل مفصولا ، وينبغي ان يأتي به نسقا ، من غير قطع الكلام ، أو يأتي به في معنى الموصول ، وهو ان يكون الكلام انقطع لانقطاع نفس ، أو صوت ، أو عيّ فمتى اتى به على هذا صح ، وان فصل بينه وبين اليمين فصلا طويلا ، ثمّ استثنى ، أو حين فرغ من اليمين تشاغل بحديث أخر ، سقط الاستثناء.

فإذا ثبت انه لا يصحّ الّا موصولا فإنّما يصح قولا ونطقا ، ولا يصح اعتقادا ونية ، فإذا اتى به نطقا ، فإنما يصح إذا قصد به الاستثناء ، ونواه ، واعتقده ، فامّا إذا لم يكن كذلك فلا يصح.

ويصح الاستثناء في اليمين نفيا كانت أو إثباتا ، فالنفي أن يقول « والله لا كلّمت زيدا ان شاء الله » والإثبات « والله لاكلّمنّ زيدا اليوم إن شاء الله تعالى » فإذا استثنى سقط حكمها ، ولم يحنث بالمخالفة ، ولسنا نقول الاستثناء يرفع ما حلف به ، لكنها قد وقعت ومنع من الاعتقاد (٢).

ولا يدخل الاستثناء إلّا في اليمين فحسب.

__________________

(١) النهاية ، كتاب الايمان والنذور ..

(٢) ج. ل. من الانعقاد.

٤١

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، ويدخل أيضا في الطلاق ، كقوله أنت طالق ان شاء الله. ويدخل أيضا في العتق والنذور وفي الإقرار (١).

الّا انه رجع عنه في مسائل خلافه ، في كتاب الايمان ، وقال لا يدخل في غير اليمين بالله تعالى (٢) وهذا الصحيح الذي لا خلاف فيه بين أصحابنا ، والذي اختاره رحمه‌الله في مبسوطة ، وفي مسائل خلافه ، في كتاب الطّلاق (٣) ، مذهب بعض المخالفين.

ولا يجوز لأحد ان يحلف الّا على ما يعلمه ، فإذا علمه جاز ان يحلف عليه ، قليلا كان أو كثيرا ، لأنّه مأذون له في ذلك ، الّا انّه يستحب ان يتجنب اليمين على القليل ، وان كان مظلوما ما لم يضر به ذلك.

وإذا حلف الإنسان غيره على مال له ، وجب عليه الرضا بيمينه ، وليس له ان يحاكمه بعد ذلك على ما حلفه عليه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وليس له ان يأخذ من ماله شيئا ، وان جاء الحالف تائبا مقلعا ، وأعطاه المال الذي حلف عليه جاز له قبضه ، وان جاء بالمال ومعه ربحه ، فليأخذ رأس المال ونصف الربح ، ويعطيه النّصف الآخر ، وان كان له المال عنده ، فغصبه عليه ، وجحده ، غير انه لم يحلفه ، ثمّ ظفر بشي‌ء من ماله ، جاز له انّ يأخذ منه القدر الّذي له ، من غير زيادة عليه ، وان كان المال الّذي ظفر به وديعة عنده ، لم يجز له جحده ، ولا يدخل في مثل ما دخل معه ، فيه (٤).

والذي نقول في هذا كله ، انه يجوز له ان يأخذ بمقدار ماله ، فيما بينه وبين الله تعالى ، سواء حلفه أو لم يحلفه ، وسواء كان المال المجحود غصبه منه ، أو لم يغصبه ، وسواء كان ما ظفر له به وديعة ، أو غير وديعة ، لأنّه لا دليل على المنع من ذلك ، من

__________________

(١) المبسوط ، ج ٦ ، كتاب الايمان ، ص ٢٠٠.

(٢) الخلاف ، كتاب الايمان ، مسألة ٢٦ ، والعبارة هكذا ، لا يدخل الاستثناء بمشية الله الّا في اليمين فحسب.

(٣) المبسوط ، ج ٥ ، كتاب الطلاق ، فصل في ذكر القرائن والصلات .. ، ص ٣٢.

(٤) النهاية ، كتاب الايمان والنذور ..

٤٢

كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، فلا يجوز تضييع المال ، لأنّ الرسول عليه‌السلام ، نهى عن قيل وقال وإضاعة المال (١) ، فامّا الربح المذكور ، وأخذ نصفه فلا وجه له ، الّا ان يكون المال المجحود مضاربة ، وكان الربح قبل الجحود والمطالبة والحكومة ، فحينئذ يصح ما ذكره رحمه‌الله.

ومن كان عنده وديعة لمؤمن ، فطالبه بها ظالم ، فلينكرها ، فإذا استحلفه على ذلك ، فليحلف ، ويورّى في نفسه ما يخرجه من كونه كاذبا ، وليس عليه كفّارة ، بل له فيه أجر كبير.

وهذه من جملة الإيمان التي يؤجر الحالف عليها ، لأنّها اربع ، هذه إحداها.

والثانية لا يؤجر عليها ولا يعاقب ، ووجودها كعدمها ، وهي ان يسبق لسانه إلى شي‌ء ، ويريد خلافه من غير نيّة له ، وهذه لغو اليمين.

والثالثة يأثم ويعاقب عليها ، ولا كفّارة فيها ، وهي اليمين على الماضي في اقتطاع مال الإنسان ، وهي اليمين الغموس ، لأنها تغمس الحالف في الإثم ، فلأجل ذلك سميت يمين الغموس.

والرّابعة من الايمان هي التي تجب فيها الكفّارة ، فهو ان يحلف الإنسان ان لا يخل بواجب ، أو لا يفعل قبيحا ، فمتى أخل بما وجب عليه ، أو ارتكب قبيحا ، وجب عليه فيه الكفّارة.

ومتى حلف أيضا ان يفعل ما قد وجب عليه فعله أو ما الأولى به فعله في دينه أو دنياه ثمّ لم يفعل ما وجب ، أو أخل بما الاولى به فعله ، كان عليه الكفارة.

ومن حلف أيضا ان يفعل فعلا من الأفعال كان فعله وتركه على حد واحد ، ولم يكن لأحدهما مزية على الآخر ، فمتى لم يفعله كان عليه الكفّارة.

وكذلك ان حلف ان لا يفعل فعلا كان فعله مثل تركه ، فمتى فعله وجبت عليه

__________________

(١) صحيح البخاري ، كتاب الرقاق ، الباب ٢٢ ، والجزء ٢٣ ، ص ٣ ، بإسناده عن المغيرة في حديث ، انه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان ينهى عن قيل وقال ، وكثرة السؤال وإضاعة المال.

وفي الوسائل ، الباب ٦ ، من كتاب الوديعة ، الحديث ٢ ، ص ٢٣١ ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث ان الله نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال.

٤٣

الكفّارة.

وجملة الأمر ، وعقد الباب انّ ما فيه الكفارة ، فهو ان يحلف على ان يفعل أو يترك ، وكان الوفاء به امّا واجبا أو ندبا ، أو كان فعله وتركه سواء ، فمتى خالف ، كان عليه الكفّارة.

ومتى حلف الإنسان على شي‌ء يدفع به أذى عن نفسه ، أو عن مؤمن كان له فيه أجر (١) ولم يكن عليه في ذلك كفّارة.

والسّلطان الجائر إذا استحلف أعوانه على ظلم المسلمين ، فحلفوا له ، لم يجز لهم الوفاء به ، بل يجب عليهم ترك الظّلم ، ولا كفارة عليهم.

ومن كان عليه دين لا يجد إلى قضائه سبيلا لإعساره ، فقدمه صاحب الدّين الى حاكم ، يعلم انّه متى أقر عنده حبسه ، وأضرّ به وبأهله ، جاز له جحده ، والحلف عليه ، بعد ان ينوي قضاؤه عند التمكن منه ، ويورّى في يمينه ، ولا اثم عليه ، ومعنى التورية انّه يبطن بخلاف ما يظهر إذا حلف ، بان يقول : « والله مالك عندي شي‌ء » ويبطن في ضميره « تستحق المطالبة به الآن » وهو صادق في ذلك لأنه ليس له المطالبة به الآن ، لقوله تعالى « وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ » (٢).

ولا يجوز لصاحب الدين ان يعرضه لليمين ، مع علمه بإعساره ، ولا يحل له حبسه مع إحاطة علمه بعجزه ، فان حبسه حينئذ كان مأثوما.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ومن وهب له أحد والدية شيئا ، ثمّ مات الواهب ، وطالبه الورثة بذلك الشي‌ء ، جاز له ان يحلف انّه كان اشتراه ، واعطى ثمنه ، ولم يكن عليه كفّارة ولا اثم (٣).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله هذا غير واضح. امّا إذا طالبه الورثة بذلك الشي‌ء ، فأقرّ لهم به ، أو قامت لهم بيّنة بأنّه للميّت ، فلهم انتزاعه وعوده تركة ، فان ادعى انه اشتراه من والده ، فقوله غير مقبول ، والقول قول الورثة ، الّا ان يردوا عليه

__________________

(١) ج. ل. كان له فيه أجر كبير.

(٢) سورة البقرة ، الآية ٢٨٠.

(٣) النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب أقسام الايمان.

٤٤

اليمين ، لأنّ اليمين في جنبتهم ، ولا يجوز له ان يدعى انّه اشتراه ، ولا ان يحلف انّه اشتراه ، فان حلف على ذلك ، كان كاذبا ، معاقبا على كذبه ، وانّما إن ادّعى انّه له ، ورضى الورثة بيمينه ، فيجوز حينئذ ان يحلف انّه له ، ولا يكون كاذبا في يمينه ، بل يكون صادقا ، وانما هذا خبر واحد ، أورده شيخنا إيرادا لا اعتقادا.

ومن حلف على إنسان ليأكل معه ، أو يجلس معه ، أو يمشى ، فلم يفعل ، لم يجب عليه الكفّارة لأنّه حلف على فعل الغير.

ومن حلف أن لا يشترى لأهله شيئا بنفسه ، وكان شراؤه صلاحا له في دينه أو دنياه ، فليشتره ، ولا كفّارة عليه.

ومن حلف لزوجته ان لا يتزوج عليها ، ولا يتسرى ، لا في حياتها ، ولا بعد وفاتها ، جاز له ان يتزوّج ويتسرى ، ولا كفارة عليه في ذلك ، ولا اثم.

ومن حلف بأن عبيده أحرار ، خوفا من ظالم ، لم ينعتقوا بذلك ، ولم يكن عليه كفارة.

وإذا حلفت المرأة إلّا تخرج الى بلد زوجها ، ثم احتاجت الى الخروج ، فلتخرج ، ولا كفارة عليها ، وكذلك إذا أمرها بالخروج وان لم تحتج الى الخروج ، فلتخرج معه ، ويجب عليها امتثال امره ، ولا كفارة عليها في ذلك ولا اثم.

ومن كان عليه دين ، فحلّفه صاحبه ان لا يخرج من البلد إلّا بإذنه ، لم يجز له الخروج الّا بعد إعلامه ، الّا ان يخاف ان أعلمه منعه من ذلك ، وكان عليه في المقام ضرر وعلى عياله ، فإنه يجوز له الخروج ولا كفارة عليه ولا اثم.

ومن حلف ان يؤدّب غلامه بالضرب ، جاز له تركه ، ولا يلزمه الكفّارة ، لقوله تعالى « وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى » (١).

ومن حلف ان لا يشرب لبن عنز له ، ولا يأكل من لحمها ، وليس به حاجة الى ذلك ، لم يجز له شرب لبنها ولا لبن أولادها ، ولا أكل لحومهن ، فإن أكل أو شرب ، مع ارتفاع الحاجة ، كانت عليه الكفارة ، وان كان شرب ذلك لحاجة به لم يكن

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٣٧.

٤٥

عليه شي‌ء ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (١).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله ، اما شرب لبن العنز ، وأكل لحمها ، فان كان الشرب أو الأكل تركه اولى من فعله في دينه أو دنياه ، فهو على ما قال رحمه‌الله ، وان كان فعل الأكل أو الشرب أولى في دينه أو دنياه ، فليفعل ذلك ولا كفّارة عليه ولا آثم ، لانّه لا خلاف بيننا في ان من حلف على شي‌ء ، ورأى خلافه خيرا له في دينه أو دنياه ، فليأت الّذي هو خير له ولا كفّارة عليه ، فامّا شرب لبن أولادها ، أو أكل لحومهن ، فلا بأس بذلك على كل حال ، لان اليمين تعلقت بعين العنز ، دون أولادها ، وانما ذلك خبر واحد ، أورده إيرادا لا اعتقادا فهذا تحرير الفتيا.

ومن أودع عند إنسان مالا ، وذكر انه لإنسان بعينه ، ثمّ مات فجاء ورثته يطالبونه بالوديعة ، جاز له ان يحلف بان ليس له عنده شي‌ء ويوصل الوديعة إلى صاحبها الذي أقرّ المودع بأنها له ، سواء كان المودع ثقة أو غير ثقة ، لأنّ إقرار العقلاء جائز على نفوسهم ، سواء كانوا أتقياء أو غير أتقياء.

وذكر شيخنا أبو جعفر في نهايته ، بأنه ان كان الموصي (٢) ثقة عنده ، جاز له ان يحلف بأن ليس له عنده شي‌ء ، ويوصل الوديعة إلى صاحبها ، وان لم يكن ثقة عنده ، وجب عليه ان يرد الوديعة على ورثته (٣).

وهذا خبر واحد ، أورده رضى الله عنه إيرادا كما أورد أمثاله ممّا لا يعمل عليه ومن حلف ان لا يمس جارية غيره ابدا ، ثم ملكها بعد ذلك ، جاز له وطؤها ، لأنّه إنّما حلف الّا يمسّها حراما ، فإذا ملكها فقد زال عنه ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته وإذا قال الرجل أنا يهوديّ أو مجوسيّ أو مشرك أو كافر ، وايمان البيعة والكنيسة تلزمني ، فإنّ كلّ ذلك باطل ، ويستحق قائله به الإثم ، ولم يلزمه حكم اليمين (٤). قال محمد بن إدريس رحمه‌الله ، ايمان البيعة ، بفتح

__________________

(١) النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب أقسام الايمان.

(٢) كذا في النسخ الّا انّ في نسخة الأصل عن خط المصنف « الوصي » وهو غير ظاهر.

(٣) النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب أقسام الايمان.

(٤) النهاية ، كتاب الايمان والنذور ..

٤٦

الباء وهي اما حقيقة البيعة ، التي كانت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من المصافحة ، وبعده الى أيّام الحجاج ، أو ما حدث في أيّام الحجاج ، من اليمين بالطلاق والعتق وغير ذلك ، سواء صرّح بذلك أو نواه ، وعلى كل حال فلا يظن ظانّ انّها بكسر الباء ، وانها بيعة النصارى ، وانما يشتبه ذلك على كثير من النّاس ، لانضمام الكنيسة إليها ، وذلك غلط ووهم عظيم.

فاما الكنيسة لم يوردها أحد من أصحابنا في كتاب له ، ولا ورد بذلك خبر في كتب الاخبار ، وشيخنا مصنف النهاية لم يوردها في غير النهاية من سائر كتبه ، لا كتبه الأخباريّة ولا غيرها ، ولا أدرى الى اى شي‌ء انسب ذلك ، لانه لا ايمان للبيعة والكنيسة ، ولا فيهما ايمان يحلف بها.

وقال رحمه‌الله في مسائل خلافه في الجزء الثالث ، في آخر كتاب النذور ، مسألة إذا قال أيمان البيعة لازمة لي ، أو حلف بإيمان البيعة لا دخلت الدّار ، لم يلزمه شيئا ، ولم يكن يمينا ، سواء عنى بذلك حقيقة البيعة التي كانت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من المصافحة ، وبعده الى أيام الحجاج ، أو ما حدث في أيام الحجاج من اليمين بالطلاق والعتق وغير ذلك ، سواء صرّح بذلك أو نواه وعلى كل حال ، وقال الشّافعي ان لم ينو شيئا كان لاغيا ، وان نوى ايمان الحجاج ، ونطق فقال أيمان البيعة لازمة لي بطلاقها وعتقها ، انعقدت يمينه ، لانه حلف بالطلاق ، فان لم ينطق بذلك ، ونوى الطلاق والعتق ، انعقدت يمينه أيضا ، لأنّها كناية عن الطلاق والعتق ، دليلنا ان الأصل براءة الذمة ، وانعقاد ذلك يحتاج الى دليل ، وعليه إجماع الفرقة ، فإنهم مجمعون على ان اليمين بالطلاق والعتاق باطلة ، فهذا لو كان صريحا بها لبطل بما قلناه هذا آخر كلامه رحمه‌الله (١). فدل ذلك انّه ما أراد في نهايته بيعة النصارى ، وفي نهايته أورد الكنيسة.

إذا حلف والله لا أكلت طيبا ، ولا لبست ناعما ، كانت هذه يمين مكروهة (٢) ، والمقام عليها مكروه ، وحلها طاعة ، لقوله تعالى « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا

__________________

(١) الخلاف ، كتاب النذور ، مسألة ١٩.

(٢) ج. ل. يمينا مكروهة.

٤٧

تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ » (١) ثم قال تعالى « وَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً » (٢) ثم قال تعالى « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ » (٣) وقال تعالى « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ » (٤).

لا تنعقد يمين الكافر بالله ، ولا يجب عليه الكفارة بالحنث ، ولا يصح منه التكفير بوجه.

إذا قال « وحق الله » لا يكون يمينا ، قصد أو لم يقصد.

إذا قال الله بكسر الهاء ، بلا حرف قسم لا يكون يمينا إذا قال اشهد بالله ، لا يكون يمينا.

إذا قال اعزم بالله لا يكون يمينا.

إذا قال أسألك بالله ، أو أقسم عليك بالله ، لا يكون يمينا.

إذا حلف لا اتحلى أو لا ألبس الحلي ، فلبس الخاتم ، حنث.

إذا حلفت المرأة لا لبست حليا ، فلبست الجوهر وحده ، حنثت ، قال الله تعالى « وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها » (٥) ومعلوم ان الذي يخرج منه هو اللؤلؤ والمرجان.

إذا كان في دار فحلف لا سكنت هذه الدّار ، فأقام عقيب يمينه مدة يمكنه الخروج منها ، فلم يفعل ، حنث ، لان اليمين إذا علقت بالفعل ، تعلقت بأقل ما يقع عليه الاسم من ذلك ، كرجل حلف لا دخلت الدّار ، حنث بأقل ما يقع عليه الدخول ، وهو إذا عبر العتبة.

إذا كان في دار فحلف لأدخلها ، لم يحنث باستدامة قعوده فيها.

إذا حلف لا دخلت بيتا ، فدخل بيتا من شعر أو وبر ، أو بيتا مبنيا من حجر ، أو مدر ، فإنه يحنث.

إذا قال والله لا دخلت على زيد بيتا ، فدخل عليه وهو في الكعبة ، فإنه يحنث ، لان الله تعالى سماه بيتا فبعرف الشرع يسمّى بيتا ، وان كان بعرف الاستعمال

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٨٧.

(٢) سورة المائدة ، الآية ٨٨.

(٣) سورة الأعراف ، الآية ٣٢.

(٤) سورة التحريم ، الآية ١.

(٥) سورة النمل ، الآية ١٤.

٤٨

والعادة لا يسمى بيتا ، فإذا طرأ عرف الشرع على عرف اللغة أو الاستعمال ، كان الحكم له ، والمرجع اليه ، دون العرفين ، بغير خلاف من محصل لأصول الفقه.

وقال شيخنا في مبسوطة ، لا يحنث لأنّ البيت ما يكون للإيواء والسكنى (١).

ثمّ قال في موضع آخر من تصنيفه ، في مسائل خلافه ، إذا حلف لا يأكل لحما ، فأكل لحم السمك ، حنث ، ثمّ قال دليلنا ان اسم اللحم يطلق عليه ، قال الله تعالى « وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا » (٢) وقال « وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا » (٣) فإذا كان اسم اللّحم ينطلق عليه ، وجب ان يطلق الأيمان عليه ، هذا آخر كلامه (٤).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله العرف الشرعي وهو القرآن ، هو الّذي سمّاه لحما ، وان كان في عرف الاستعمال والعادة لا يسمّى لحما ، فلزمه في البيت والكعبة ما الزم خصمه من الاستشهاد بالقرآن ، وتحنيث من دخل الكعبة في المسألة الأولى ، إذ هما سواء.

إذا حلف لا يأكل من طعام اشتراه زيد ، فاشترى زيد وعمرو طعاما صفقة واحدة ، فأكل منه ، لم يحنث عندنا إذا اقتسما هذا الطّعام ، وأفرد كل واحد منهما نصيبه ، فإن أكل من نصيب زيد أو نصيب عمرو لم يحنث.

إذا حلف لا يلبس ثوبا من عمل يد فلان ، فوهب له فلان ثوبا ، فان لبسه حنث بلا خلاف ، وان استبدل به ، وباعه ، وبادل به ، ولبسه لم يحنث إذا حلف لا يدخل دار زيد ، فان دخلها وهي ملك لزيد ، حنث بلا خلاف ، وان كان ساكنها بأجرة ، لم يحنث ، لأن حقيقة هذه الإضافة تقيد الملك ، وانّما يستعمل في السكنى مجازا ، وظواهر الأسماء يجب حملها على الحقيقة ، والدّليل على ان حقيقة ذلك ما قلناه ، انه لو قال هذه الدار لزيد ، كان ذلك اعترافا بالملك ، ولو قال

__________________

(١) المبسوط ، ج ٦ ، كتاب الايمان ، ص ٢٤٩ ، والعبارة هكذا ، « لان البيت إذا أطلق يتناول ما بنى للإيواء والسكنى ».

(٢) سورة فاطر ، الآية ١٢.

(٣) سورة النحل ، الآية ١٤.

(٤) الخلاف ، كتاب الايمان ، مسألة ٧٣.

٤٩

أردت أن يسكنها بأجرة لم يقبل منه.

إذا حلف لا دخلت دار زيد ، أو حلف لا كلمت زيدا ، فكلمه ناسيا ، أو جاهلا بأنه هو زيد ، أو مكرها ، أو دخل الدار ناسيا ، أو مكرها ، أو جاهلا ، لم يحنث ، لأن الأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج الى دليل ، وأيضا قوله عليه‌السلام « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » (١) ، وذلك عام في جميع الأشياء إلّا ما خرج بالدليل.

إذا حلف لا دخلت على زيد بيتا ، فدخل على عمرو بيتا وزيد فيه ، وهو لا يعلم بكون زيد فيه ، فإنه لا يحنث.

إذا دخل على عمرو بيتا وزيد فيه ، واستثناه بقلبه ، كأنه قصد الدخول على عمرو دون زيد ، لم يصح.

وان حلف لا كلم زيدا ، فسلم على جماعة فيهم زيد ، واستثناه بقلبه ، لم يحنث.

إذا دخل عليه عمرو بيتا ، فاستدام زيد القعود معه لا يحنث.

إذا قال الخليفة أو الملك والله لا ضربت عبدي ، ثم أمر به فضربه ، لم يحنث.

إذا قال الخليفة والله لا تزوجت ، ولا بعت ، فوكل فيهما ، لم يحنث.

إذا حلف لا لبست هذين الثوبين ، أو لا أكلت هذين الرغيفين ، فأكل أحدهما لم يحنث.

إذا حلف لا يأكل الرءوس ، فأكل رءوس الغنم والإبل والبقر ، حنث ، ولا يحنث بأكل رءوس العصافير ، والطّيور ، والحيتان ، والجراد.

وقال بعض الفقهاء لا يحنث إلّا بأكل رءوس الغنم فحسب ، وهو قوى لعرف العادة ، هذا إذا لم يكن له نيّة ، فاما إذا كان له نية ، حنث وبرّ على نيته ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر رحمه‌الله في مبسوطة (٢) ، وهو فروع المخالفين وتخريجاتهم.

والذي يقتضيه أصولنا ، أنه يحنث بأكل جميع الرءوس ، لأنّ ذلك هو الحقيقة ،

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس وما يناسبه.

(٢) المبسوط ، ج ٦ ، كتاب الايمان ، ص ٢٣٨ ـ ٢٣٩ ، في العبارة تغيير وتقطيع.

٥٠

فلا يعدل عنها الى المجاز ، لأنا ننظر الى مخرج اليمين ، ويحنث صاحبها ويبر على مخرجها وحقائقها ، دون أسبابها ، ومعانيها ، ومجازاتها ، وفحوى خطابها ، ولهذا إذا حلف الإنسان لا ضرب عبده ، أولا اشترى شيئا ، فأمر بضربة أو شراء ذلك الشّي‌ء ، فإنه لا يحنث ، لأن الإيمان تتعلق بحقائق الأسماء والافعال ، لا بمجازاتها ومعانيها. وكذا إذا حلف إنسان على إنسان آخر وقد عدد انعامه عليه ، فقال له في جواب ذلك والله لا شربت لك ماء من عطش ، فانتفع بغير الماء وأكل الخبر ، ولبس الثياب ، لا يحنث ، لأنّ يمينه تعلقت بشرب الماء فحسب ، وهو الحقيقة ، وما عدا ذلك مجاز وفحوى خطاب ، ولأن الأصل براءة الذّمة من الواجبات والمندوبات ، الّا ما أوجبه دليل قاطع للأعذار ، فليلحظ ذلك ويتأمّل حق التأمّل.

إذا حلف لا يأكل البيض ، انطلق على كل بيض يزايل بائضه ، وهو بيض الدجاج ، والإوز ، والنعام ، والطّيور ، ونحوها ، فامّا ما عدا ذلك ، ممّا لا يزايل بائضه حيا ، وهو بيض الحيتان ، والجراد ، فلا يحنث بأكله ، لأن إطلاق الايمان يتعلق بما يقصد ويفرد للأكل وحده ، دون بائضه ، هكذا ذكر شيخنا في مبسوطة (١).

والذي يقتضيه مذهبنا انه يحنث بأكل جميع ما ينطلق عليه اسم البيض ، لان اسم البيض يقع حقيقة على جميع ذلك ، والايمان عندنا تتعلق بحقائق الأشياء ، ومخارج الافعال والأسماء ، ولا ترجع إلى المعاني ، فإنما هذه تخريجات المخالفين وقياساتهم ، فإذا كان اسم البيض ينطلق على بيض السّمك حقيقة ، وجب ان يتعلق الأيمان وتطلق عليه ، وطريقة الاحتياط أيضا يقتضيه.

وقال شيخنا في مسائل خلافه : إذا حلف لا يأكل لحما ، فأكل قلبا ، لا يحنث (٢).

والاولى انّه يحنث ، لان اسم اللحم ينطلق عليه حقيقة ، وقد قلنا ان الايمان تتعلق بمخارج الأسماء وحقائقها ، وانما بعض المخالفين قال هذا ، واستدلّ بأنّه لا يباع

__________________

(١) المبسوط ، ج ٦ ، كتاب الايمان ، ص ٢٣٩.

(٢) الخلاف ، كتاب الايمان ، مسألة ٧٩.

٥١

مع اللّحم ، وهذا خروج منه عن الحقائق إلى المعاني ، والمقاييس ، فلا يعرج عليها ، ولا يلتفت إليها.

إذا حلف لا يشم الورد ، فشم دهنه ، لا يحنث ، وكذلك البنفسج ، لأنّ اليمين ما تعلقت الّا بشم الورد والبنفسج ، فلا يتعدى الى غيره ، ولا يرجع عن الحقائق الى المجازات ، والمعاني ، والتخريجات.

إذا حلف ان لا يأكل لحما فأكل لحم النعم والصّيود والطيور ، حنث ، بلا خلاف ، وان أكل لحم السّمك ، ذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، إلى أنه يحنث ، واحتج بالآية ، وهي قوله تعالى « وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا » (١) وإذا كان اسم اللحم ينطلق عليه شرعا ، وجب ان تطلق الايمان عليه (٢).

الّا انّه رجع عن ذلك في مبسوطة ، وقال لا يحنث بأكل لحم السّمك (٣).

وهو قوى لعرف العادة ، والأوّل أقوى ، للآية ، لأن عرف الشرع إذا طرأ على عرف العادة ، كان الحكم لعرف الشرع.

وقال شيخنا في مسائل خلافه : إذا حلف لا شربت من نهر ، لا شربت من دجلة ، فمتى شرب من مائها ، سواء غرف بيده ، أو في كوز ، أو غيره ، أو كرع فيها كالبهيمة ، حنث (٤).

الّا انه رجع عن ذلك ، في مبسوطة ، فقال لا يحنث حتّى يركع فيها كالبهيمة ، لأنّه إذا شرب غرفا بيده ، فما شرب منها ، وانما شرب من يده (٥).

وهذا الّذي يقوى في نفسي ، لأن الأصل براءة الذّمة ، والكلام في الحقائق دون المجاز ، وهذا هو الحقيقة ، وما عداه مجاز.

ومعنى قوله كرع يقال كرع في الماء يكرع كروعا ، فهو كارع ، إذا تناوله بفيه من

__________________

(١) سورة النحل ، الآية ١٤.

(٢ و ٤) الخلاف ، كتاب الايمان ، مسألة ٧٣ ـ ٦٧.

(٣) المبسوط ، ج ٦ ، كتاب الايمان ص ٢٣٩ ، والعبارة هكذا : فإن أكل لحم الحيتان لا يحنث.

(٥) المبسوط ، ج ٦ ، كتاب الايمان ، ص ٢٣٢.

٥٢

موضعه ، من غيران يشرب بكفيه ، ولا بإناء ، يقال أكرع في هذا الإناء نفسا أو نفسين ، اى اشرب بفيك ، وفيه لغة أخرى ، كرع بكسر الراء ، يكرع كرعا.

وجملة الأمر وعقد الباب ، ان الحكم إذا علق باسم ، لم يخل من أحد أمرين ، اما ان يكون باسم خاص ، أو عام :

فان كان خاصا ، نظرت ، فان كان حقيقة فيه ، لا مجاز له في غيره ، تعلق بالحقيقة ، ولم يتعلق بغيرها ، وان قصد الغير ، ونواه ، واراده ، كقوله لا شربت لك ماء من عطش ، هذا حقيقة غير مجاز في الشراب ، ومجاز في الطّعام ، وفي الناس من قال هو حقيقة فيهما ، والأوّل أوضح ، والثاني قوى ، لا للحقيقة ، بل لفحوى الخطاب.

فاما إذا علقه بالعموم ، حمل على العموم ، الّا ان يدخله التخصيص ، ويكون ذلك بأحد ثلاثة أشياء ، نيّة ، أو عرف قائم في الاسم ، أو عرف الشرع :

فالنية إذا علقها بعموم الأعيان ، كقوله لا كلمت أحدا ، تعلق بكل أحد ، فإن قال نويت الّا زيدا ، كان على ما نوى ، وتعلقها بعموم الزّمان ، مثل ان يحلف لا كلمت زيدا ابدا ، اقتضى أبد الدهر ، فان قال نويت شهرا ، أو نويت ما لم يدخل الدّار ، صحّ لان دخول التخصيص في مثل هذا صحيح. وفي مثل هذا المعنى إذا علقها باسم خاص لشي‌ء حقيقة فيه ، وقد استعمل في غيره مجازا ، كقوله لا دخلت دار زيد ، حقيقته ملك زيد ، ومجازه دار يسكنها زيد بأجرة ، فإذا نوى المجاز ، قبل منه ، كما يعدل بالحقيقة إلى المجاز بدليل.

فإذا ثبت انها تختص بالنية ، نظرت ، فان كانت يمينا بالله ، قبلنا منه في الحكم ، وفيما بينه وبين الله ، لأنّه أعرف بما نواه ، وان كانت بالعتق أو بالطّلاق ، لم تنعقد عندنا أصلا ، وعندهم تقبل فيما بينه وبين الله ، دون الحكم ، لأنه يدعي خلاف الظاهر.

وامّا التخصيص بالعرف القائم في الاسم ، كقوله « لا أكلت البيض » حقيقة هذا كل بيض ، سواء زائل بائضه ، وهو حيّ كالدجاج والنعام والإوز ، أو لا يزايل بائضه ، وهو حي ، كبيض السّمك ، والجراد ، إلّا أنا نحمله على ما يزايل بائضه

٥٣

حيا ، بالعرف القائم في الاسم ، الا تراه إذا قال أكلت البيض ، لم يفهم منه بيض السّمك والجراد ، وكذلك إذا حلف لا أكلت الرءوس ، فهذا حقيقة في كل رأس ، ونحمله على رءوس النعم بالعرف القائم في الاسم ، وقد قلنا ما عندنا في مثل ذلك ، وحققناه وحرّرناه ، وانّما أوردنا ما أورده شيخنا في مبسوطة ، من كلام المخالفين ، وتخريجاتهم ، الا ترى الى قوله « فهذا حقيقة في كل رأس » فأين يعدل عن الحقيقة ، وهي الأصل ، وانما يعدل في بعض المواضع بدليل قاطع ، مثلا : قال إنسان لغلامه اشتر لنا رءوسا نتغدى بها باليوم ، حملناه على رءوس النعم لأجل القرينة ، وشاهد الحال ، وليس كذلك إذا حلف إنسان ، وأطلق كلامه عن القرائن والبيان ، انه لا يأكل الرءوس فأكل رءوس الغزلان ، وحمر الوحش ، والخنازير ، نقول لا يحنث وقد فعل ما حلف عليه انه لا يفعله ، حقيقة بلا خلاف بين أهل اللّسان ، والعقلاء والعلماء ، ان تلك تسمى رءوسا بلا اشكال.

واما ما يخصّ بالعرف الشرعيّ فكل ما كان له اسم في اللغة واختص بالشرع الى غير ما وضع له في اللغة ، حمل إطلاقه على الشرعي ، كالصّيام ، هو في اللغة عام في الإمساك عن كل شي‌ء ، وهو في الشّرع إمساك عن أشياء مخصوصة ، فحملنا المطلق على الشرعي ، وفي هذا المعنى الصّلاة في اللغة الدّعاء ، وفي الشرع هذه الأفعال المخصوصة ، فانطلقت على الشرعية ، فحملنا المطلق من الكلام ، على عرف الشرع ، لأنه الطّارى.

فإذا حلف لا كلمت النّاس فهذا عام في كل أحد ، فإذا كلّم واحدا حنث ، لانّه تعلق بالجنس.

إذا حلف لا ذقت شيئا ، فأخذه بفيه ، ومضغه ، ورمى به ، ولم يبتلع منه شيئا ، حنث ، لأنّ الذوق عبارة عن معرفة طعم الشّي‌ء ، وهذا قد عرف طعمه قبل ان يبتلعه.

قال شيخنا في مسائل خلافه : إذا حلف لا وهبت له ، فإن الهبة عبارة عن كل عين يملّكه إياها متبرعا بها بغير عوض ، فان وهب له ، أو اهدى له ، أو نحلة ، أو

٥٤

أعمره ، أو تصدّق عليه بصدقة تطوع ، حنث (١).

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب « تغمده الله برحمته » اما قوله رحمه‌الله وحدّه « فإن الهبة عبارة عن كل عين يملكه إياها متبرعا بغير عوض » فغير واضح ، لان الوقف كذلك ، ولا يسمّى هبة بغير خلاف ، وصدقة التطوع عندنا لا تسمّى هبة ، بل بينها وبين الهبة فرق كثير ، لأنّ صدقة التطوع بعد القبض ، لا يجوز الرجوع فيها ، والهبة يجوز الرجوع فيها ، فلا يحنث بصدقة التطوع ، لانّه ما وهب.

إذا حلف لا أكلت هذه الحنطة ، أو من هذه الحنطة ، وأشار الى حنطة بعينها ، ثمّ طحنها دقيقا وأكلها ، لم يحنث وكذلك إذا حلف لا أكلت هذا الدقيق ، فخبزه ، ثمّ اكله ، لم يحنث.

ذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه إلى انه إذا حلف لا وهبت عبدي ، ثمّ وهبه من رجل ، حنث ، بوجود الإيجاب قبل الموهوب له ، أو لم يقبل (٢).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله مصنف هذا الكتاب ما ذهب إليه رحمه‌الله ، مذهب أبي حنيفة ، وأبي العباس بن شريح ، والذي يقتضيه أصول أصحابنا ، انّه لا يحنث الّا بوجود الإيجاب والقبول ، لأنّ الهبة عقد عندنا بلا خلاف ، والعقود لا يكون الّا بين اثنين ، وهو مثل البيع سواء ، وقد فرق شيخنا بيتهما بغير فرق ، وهو انه قال لا يقال باع بلفظ قوله بعت ، حتى يحصل القبول ، وكذلك نقول نحن في الهبة ، لأنّها باقية على ملكه بلا خلاف ، فإذا وجد القبول ، انتقلت من ملكه ، وكذلك البيع سواء ، فليلحظ ذلك.

وقد رجع شيخنا في مبسوطة (٣) ، الى ما اخترناه وحرّرناه.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : إذا حلف لا آكل شحما ، فأكل شحم الظهر ، لم يحنث (٤).

__________________

(١) الخلاف ، كتاب الايمان ، مسألة ٩١.

(٢ و ٤) الخلاف كتاب الايمان ، مسألة ١٠٣ ـ ٧٨.

(٣) المبسوط ، ج ٦ ، كتاب النذر ، ص ٢٥٠.

٥٥

قال محمد بن إدريس رحمه‌الله ، الصحيح الذي يقتضيه أصول المذهب ، انه يحنث ، لأنّ الشحم عبارة عن غير اللحم ، من اى موضع كان ، سواء كان شحم الألية أو الظهر ، أو البطن ، بغير خلاف بين أهل اللسان.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : إذا حلف لا يأكل رطبا ، فأكل المنصف ، وهو الّذي نصفه رطب ، ونصفه بسر أو حلف الا يأكل بسرا فأكل المنصف حنث (١).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله والذي يقوى في نفسي ، انه لا يحنث ، للعرف ، لأنّ الإنسان إذا قال لغلامه اشتر لنا رطبا ، فاشترى له منصفا ، لم يمتثل امره ، وكذلك ان امره بشرى البسر ، فاشترى له المنصف ، لم يكن ممتثلا أمره ، لأنّ في عرف العادة ، الرّطب هو الذي جميعه قد نضج ، وكذلك في البسر ، الذي جميعه لم ينضج منه شي‌ء ، وهذا هو المتعارف.

إذا حلف لا استخدم فلانا ، فخدمه فلان من قبل نفسه ، لا يحنث ، لأنّ لفظ الاستفعال ان يطلب منه الخدمة ، هذا موضوعها في اللغة ، وإذا لم يطلب منه ذلك ، لم يكن مستخدما.

إذا حلف لا يشمّ الورد ، فشم دهنه لم يحنث.

إذا حلف لا اضرب فلانا فعضه ، أو خنقه ، أو نتف شعره ، لم يحنث.

إذا حلف لا أتسرّى ، فالكلام في التسري ما هو؟ قال قوم : التسري الوطي والتخدير ، أنزل أو لم ينزل ، لأنّ الجارية ضربان ، سريّة ، وخادمة. فإذا خدّرها ووطئ ، فقد تسرى ، وترك الاستخدام ، وقال قوم التسري مجرد الوطي ، أنزل أو لم ينزل ، خدّرها ، وحصنها ، أو لم يفعل ذلك.

والأقوى عندي الأول ، قال الجوهري في كتاب الصّحاح ، كان الأخفش يقول السريّة مشتقة من السرور ، لانّه يسّر بها ، يقال تسرّيت جارية ، وتسررت ، كما قالوا تظننت وتظنيت ، فعلى هذا من قال هو مشتق من التسري (٢) ، يكون مصدر

__________________

(١) الخلاف كتاب الايمان ، مسألة ٨٢.

(٢) ج. من السرور.

٥٦

تسررت ، ومنهم من قال من السرّ ، وهو الجماع ، ومنهم من قال من السري (١) وهو الظهر.

إذا حلف ، الا يأكل أدما ، فأكل الخبز ، بالملح ، حنث بلا خلاف.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : إذا حلف لا يتكلم فقرأ القرآن ، لم يحنث ، واحتج رحمه‌الله بان قال : لا يطلق على من قرأ القرآن انه يتكلم (٢).

وهذا غير واضح. والذي يقتضيه أصل المذهب ولغة العرب ، انه إذا قرأ القرآن فقد تكلم ، وانّ القرآن كلام بغير خلاف ، فعلى هذا التقرير يحنث ، وانّما اختار شيخنا قول بعض المخالفين محتجا بان القرآن ، ان كان كلاما خارج الصّلاة ، كان كلاما داخل الصّلاة ، فيؤدّي إلى بطلانها ، وهذا ليس بشي‌ء ، لأنا نقول انه كلام خارج الصّلاة وداخل الصلاة ، وليس كل كلام يقطع الصّلاة ، لأنّ التكبير والتحميد والتسبيح كلام بلا خلاف ، وهو داخل الصّلاة ولا يقطعها بالاتفاق.

باب النّذور والعهود

وأقسام ذلك واحكامه

النذر على ضربين : ضرب يجب الوفاء به ، وضرب لا يجب ذلك فيه :

فالذي يجب الوفاء به هو ان ينذر أنه متى فعل واجبا أو ندبا أو مباحا ، أو متى لم يفعل واجبا أو ندبا أو مباحا ، ولا يكون ترك المباح أعود عليه في دينه أو دنياه ، ولا يكون النذر معصية ولا في معصية ، بل لا ينعقد النذر إلّا في طاعة خالصة لله ، مماثلة لما تعبد الله به سبحانه في شريعتنا ، فمتى علّق بطاعة تخالف المشروع كان باطلا ، وما روى (٣) ان من نذر (٤) ان يطوف على اربع كان عليه أن يطوف طوافين : طواف ليديه ، وطواف لرجليه (٥) فهي من اخبار الآحاد الشواذ ، وقد قلنا ما عندنا

__________________

(١) ج. ل. من السرا.

(٢) الخلاف ، كتاب الايمان ، مسألة ١٠٢.

(٣) الوسائل ، كتاب الحج ، الباب ٧٠ ، من أبواب الطواف ، ح ١ ـ ٢.

(٤) ج. من نذر.

(٥) ج. طوافا ليديه وطوافا لرجليه.

٥٧

في ذلك في كتاب الحج (١) ، وأشبعنا القول فيه.

فعلى هذا التقرير والتحرير لا يصح أن ينذر الإنسان أن يصلّى خمس ركعات بتسليمة واحدة ، لأنّه نذر مخالف للمشروع ، غير مماثل له.

ولا يصح النذر حتى يكون النّاذر لافظا بقصده لله على نفسه ، بان يقول ويتلفّظ ، علىّ لله ، أو لله عليّ ، ويكون معتقدا له ، مختارا من غير إكراه ولا إجبار.

ولا يصح أيضا إلّا فيما يملكه الإنسان.

فإذا تقرّر ذلك ، وتلفّظ بما قدّمناه ، فهذا الّذي تسميه الفقهاء نذر التبرر والطّاعة ، وهو على ضربين : امّا ان يعلّقه بجزاء ، أو يطلق.

فإن علّقة بجزاء فالجزاء ضربان : امّا ابتداء نعمة ، كقوله : إن رزقني الله ولدا فلله علىّ أن أتصدّق بمال ، أو إن ملكت مالا ، أو إن فتحت بلدا من بلاد أهل الحرب ، وامّا دفع نقمة ، مثل ان يقول : إن نجّانى الله من هذا الحرب ، أو ردّني من هذا السفر ، أو أنجاني من البحر ، أو شفاني من هذا المرض ، فإذا وجد شرط نذره لزمه الوفاء به ، بلا خلاف.

وأمّا المطلق بان يقول : لله عليّ أن أتصدق بمال وان أحج ، أو أصوم ، ونحو هذا نذر طاعة ، ابتداء بغير جزاء ، فعندنا أنّه يلزمه ، وعند الأكثر ، وذهب بعض المخالفين إلى انّه لا يتعلق به حكم ، وتمسّك بأنّ غلام ثعلب قال عن ثعلب : « إنّ النّذر عند العرب وعيد بشرطه » وهو اختيار المرتضى « رحمه‌الله » (٢) وما ذهبنا اليه هو الظاهر المعمول عليه عند أصحابنا ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر (٣) ، وغيره ، من مشيختنا (٤) « رحمهم‌الله ».

ومتى نذر الإنسان أنّه إن عوفي ولد له من مرضه ، وهو غائب عنه ، ثمّ سمع بصلاحه ، فان كان برؤه بعد النذر وجب عليه الوفاء به ، وإن كان برؤه قبل النّذر لم يجب عليه ذلك.

__________________

(١) الجزء الأول ، ص ٥٧٦.

(٢) الانتصار ، كتاب النذور.

(٣) النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب أقسام النذور والعهود.

(٤) ج. ل. مشايخنا.

٥٨

وقد روى (١) أنّه متى نذر الإنسان أنه لا يتزوج حتّى يحج ، ثمّ تزوّج قبل الحج ، وجب عليه الوفاء بالنّذر ، سواء كانت حجّته حجة الإسلام ، أو حجة التطوع ، لانّه عدل عن طاعة إلى مباح.

ومتى وجب عليه ما نذر ، فان كان علّقه بشرط ، وأنّه يفعله في وقت معيّن ، وجب عليه الوفاء عند حصول الوقت ، فان خالفه أثم ، وكان عليه الكفارة ، وسنبيّنها فيما بعد ، إن شاء الله تعالى.

وإن لم يكن علّقه بشرط ، ولا بوقت معيّن ، كان ذلك ثابتا في ذمّته إلى ان يفي به ، ولا يجب عليه في تأخيره له كفّارة ، بغير خلاف ، على ما بيّناه في أبواب الصّيام.

ومن نذر أنّه يصوم شهرا أو سنة أو أقل أو أكثر ، ولم يعلّقه بوقت معين ، وجب عليه الوفاء به ، أيّ وقت كان ، ولا يجب عليه أيضا في تأخيره له كفّارة ، غير أن الأحوط ، إتيانه به على الفور والبدار ، فإن أخّره لم يلزمه كفّارة ، على ما قدمناه.

ومتى علّقه بوقت معيّن فمتى لم يصمه في ذلك الوقت ، من غير عذر ، من مرض أو حيض أو سفر ، وجب عليه القضاء والكفّارة ، كفارة من أفطر يوما من شهر رمضان ، بغير خلاف في هذا.

بل الخلاف في كفّارة خلاف النّذر الّذي هو غير الصيّام ، فذهب فريق من أصحابنا الى أن كفّارة ذلك كفّارة من أفطر يوما من شهر رمضان ، وذهب فريق منهم الى أن كفّارة ذلك كفارة يمين ، فالأوّل اختيار شيخنا أبي جعفر (٢) والثاني اختيار السيد المرتضى (٣) وابن بابويه ، وهو الذي يقوى في نفسي ، وبه أفتى ، لأن الأصل براءة الذّمة ، والإجماع غير منعقد (٤) من أصحابنا ، والاخبار مختلفة في ذلك.

ومن وجب عليه صيام نذر معين ، فمرض أو سافر ، وجب عليه أن يفطر ذلك اليوم ، ويقضيه ، وليس عليه كفّارة.

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٧ ، من أبواب النذور والعهد ، ح ١.

(٢) في النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب الكفارات.

(٣) وهو مخالف لقوله في كتاب الانتصار ، كتاب النذر ، فراجع.

(٤) ج. وامّا الإجماع فغير منعقد.

٥٩

قال شيخنا أبو جعفر : « أو اتفق أن يكون يوم العيدين » (١).

والصّحيح من المذهب أنه إن اتفق ان يكون يوم العيدين لا يجب عليه القضاء ، لأنّ صيام يوم العيدين لا يتعلق النذر به ، على كلّ حال ، لأنّ النذر انّما يتعلق بما يصح صومه وإفطاره قبل النذر ، فيجب به ، وشهر رمضان واجب قبل النذر بأمره تعالى ، وصوم العيدين محرّم ، فلا يدخل النذر على شي‌ء منه ، وشيخنا فقد رجع عن ذلك في مبسوطة (٢).

فإن كان الناذر للصّيام المعين نذر أنّه يصومه على كل حال ، سواء كان حاضرا أو مسافرا ، فإنه يجب عليه الوفاء به ، وصيامه في السّفر بغير خلاف ، وقد أشبعنا القول في ذلك ، في كتاب الصيام (٣) ، واستوفينا أقسامه ، فلا وجه لإعادته.

فامّا صيام يوم العيدين فلا يجوز له على حال ، وإن ذكر ذلك في حال النذر ، لان ذلك نذر في معصية ، لأنّه زمان لا يصح صيامه ، ولا ينعقد النذر به على حال.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : « ومن نذر أن يعتق رقبة بعينها لم يجزه غيرها ، سواء كانت كافرة أو مؤمنة ، وعلى اىّ وجه كانت » (٤).

وقد بينا أن عتق الكافرة لا يصح ، لأنّ العتق لا بدّ فيه من نية القربة ، ولا يتقرّب الى الله سبحانه بالمعاصي ، ولقوله تعالى « وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ » (٥) والكافر خبيث بغير خلاف ، وقد بيّنا أيضا احكام ذلك وحرّرناه في كتاب العتق (٦) وما أورده شيخنا خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا ، أورده إيرادا لا اعتقادا.

ومن نذر أن يصوم حينا ، وأطلق ذلك ، من غير نية بمقداره ، كان عليه صيام

__________________

(١) النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب أقسام النذور والعهود.

(٢) المبسوط ، ج ١ ، كتاب الصوم ، فصل في ذكر أقسام الصوم ص ٢٨١ الّا انه قال بمقالته في النهاية بوجوب القضاء عليه ان اتفق يوم العيدين. وعبارته كذلك وامّا يوم العيدين فان صادف نذره المعين أفطر وعليه القضاء.

(٣) الجزء الأوّل ، ص ٣٩٤.

(٤) النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب أقسام النذور والعهود.

(٥) سورة البقرة ، الآية ٢٦٧.

(٦) في ص ٦.

٦٠