كتاب السرائر - ج ٣

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٣

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٨٠

فأمّا قوله رحمه‌الله فإن أقر بالسرقة أو الزنا أقيم عليه الحد ، فغير مستقيم ولا واضح ، بل نقول في القطع في السرقة لا يقطع ، كما قلناه في إقامة البيّنة ، لأنه لا مطالب له أيضا هاهنا ، فلا فرق في هذا بين البينة والإقرار في انه لا يقام عليه الحدّ الذي هو القطع ، فاما حد الزنا فإنه يقام على كل حال ، لأنه أقر بالزنا ، وما ادعى الإباحة من مولاها ، بخلاف إقامة البينة ثم يدعى الزاني الإباحة ، فتصير شبهة كما قلناه ، فليلحظ ما قاله رحمه‌الله ، وما نبهنا عليه وحررناه ، فإنه واضح للمتأمل المحصل غير المقلد للرجال.

إذا ترك الأحمال والأجمال في مكان واحد ، وانصرف في حاجة ، وكانت في غير حرز هي وكلّ ما معها من متاع وغيره ، فلا قطع فيها ولا في شي‌ء منها ، لأنها في غير حرز بمجرى العادة ، وما ذكرناه لا يعده أحد حرزا ، لان من ترك إجماله كذلك وماله قيل انه قد ضيّعه.

إذا سرق سارق باب دار رجل ، قلعه وأخذه ، أو هدم من حائطه آجرا فبلغ قيمته نصابا يجب فيه القطع ، قطع ، فان الباب والآجر في الحائط في حرز ، وكذلك من أخذ حلقة الباب ، يقطع ، لان كلّما كان حرزا لغيره فهو في نفسه حرز ، فاما حلقة الباب ، فهي في حرز ، لان الحلقة بتسكين اللام هكذا تحرز ، بان تسمر في الباب على ما جرت به العادة ، فإن قلعها قالع وبلغت نصابا قطع ، على ما قدمناه ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر واختاره في مبسوطة (١) ، ومسائل خلافه (٢) ، وهو من تخريجات المخالفين وفروعهم.

والذي يقتضيه أصول مذهبنا : انه لا قطع على من أخذ ذلك بحال ، لان الحرز عندنا القفل والغلق والدفن ، وليست هذه الأشياء في حرز ، والأصل براءة الذمة ، وقبح إدخال الضرر على بنى آدم ، والإجماع من أصحابنا فغير منعقد عليه ، بل ما ذهب منهم سوى شيخنا أبي جعفر ومن تابعه اليه فحسب ، وما وردت به عن الأئمة عليهم‌السلام اخبار لا آحاد ولا متواترة ، والعمل يكون تابعا للعلم ، فلا يجوز ان يقطع

__________________

(١) المبسوط : ج ٨ ، كتاب السرقة ، ص ٢٥.

(٢) الخلاف ، كتاب السرقة ، مسألة ٥٣.

٥٠١

إلا بدليل قاهر مزيل للعذر.

إذا كان باب الدار مغلقا فكل ما فيها وفي جوانبها في حرز ، فان كان باب الدار مفتوحا وأبواب الخزائن مفتوحة ، فليس شي‌ء منها في حرز ، فان كان باب الدار مفتوحا وأبواب الخزائن مغلقة ، فما في الخزائن في حرز ، وما في جوف الدار في غير حرز ، هذا كله إذا لم يكن صاحبها فيها ، فان كان صاحبها فيها والأبواب مفتحة ، فليس شي‌ء في حرز الّا ما يراعيه ببصره ، مثل من كان بين يديه متاع ، كالميزان بين يدي الخبّازين والثياب بين يدي البزّازين فحرز ذلك نظره إليه ، فإن سرق من بين يديه وهو ينظر اليه ففيه القطع ، وان سها أو نام عنه زال الحرز وسقط القطع.

وهكذا الحكم إذا استحفظ إنسان حمّاميّا ثيابه ، فان راعاها الحمامي فهي في حرز ، وان سها عنها أو نام ، فليست في حرز ، فاما إذا لم يستحفظه إياها ولا أودعه ، فليست في حرز ، ولا يجب على الحمامي الضمان لها ولا الغرم بحال ، هذا على ما أورده شيخنا في مبسوطة (١).

وقد قلنا ما عندنا في أمثال ذلك من ان الحرز القفل والغلق والدفن ، وما عداه لا دليل عليه من كتاب ولا إجماع (٢) وليس على من سرق من ذلك شيئا القطع ، سواء راعاه ببصره أو لم يراعه ، نظر اليه أو لم ينظر بين يديه ، كان أولا بين يديه ، الّا ان يكون في حرز ، وهذه كلها تخريجات المخالفين واستحساناتهم.

إذا نقب واحد وحده ودخل الحرز ، وأخذ المتاع ، فرمى به من جوف الحرز الى خارج الحرز ، أو رمى به من فوق الحرز ، أو سدّه (٣) في حبل ، ثم خرج عن الحرز ، فجرّه وأخرجه ، أو أدخل خشبة معوجة من خارج الحرز أو سدّه في حبل ، ثم خرج عن الحرز فجرّه وأخرجه ، فعليه القطع في كل هذا ، لأنه أخرجه من الحرز ، بآلة (٤).

فإن كان في الحرز ماء (٥) يجرى ، فجعله في الماء ، فخرج مع الماء ، فعليه أيضا

__________________

(١) المبسوط ، ج ٨ ، كتاب السرقة ، ص ٣٦ ـ ٣٧.

(٢) ج. ولا سنّة ولا إجماع.

(٣) ج. ل. شدّه ، وكذا فيما بعده.

(٤) ج. ل. وان كان بآلة.

(٥) ج. فان كان الحرز ماء يجرى.

٥٠٢

القطع ، لانه قد أخرجه بآلة ، كما لو رمى به.

فان كان معه دابة ، فوضع المتاع عليها ، وخرجت به ، فإنه يجب عليه القطع ، سواء ساقها أو قادها أو لم يسقها ، سارت بنفسها أو لم تسر بنفسها.

فاما ان دخل الحرز ، فأخذ جوهرة ، فابتلعها ، ثم خرج وهي في جوفه ، فان لم تخرج منه فعليه ضمانها ، ولا قطع عليه ، لأنه أتلفها في جوف الحرز ، بدليل ان عليه ضمانها ، كما لو كان ذلك طعاما فأكله ، وخرج ، فإنه لا قطع عليه بلا خلاف ، كذلك هاهنا وان خرجت الجوهرة بعد خروجه من جوفه ، قال قوم عليه القطع ، لأنه أخرجها في وعاء ، فهو كما لو جعلها في جراب ، أو جبب ، وقال آخرون لا قطع عليه ، لأنه أخرجها معه مكرها على إخراجها ، غير مختار لذلك ، لانه (١) لو أراد بعد ابتلاعها ان لا يخرجها معه من الحرز ، ما قدر على ذلك ، فهو كالمحمول على إخراجها ذلك الوقت ، بدليل انه ما كان يمكنه تركها ، والخروج دونها ، فهو كما لو نقب واكره على إخراج المتاع ، فإنه لا قطع عليه ، كذلك هاهنا.

واما الذي يقوى في نفسي ، وجوب القطع عليه ، لعموم الآية ، ولانه (٢) نقب واخرج النصاب ولم يستهلكه في الحرز ولا خارج الحرز ، وليس كذلك المسألة الأولى ، لأنه إذا لم يخرج منه ، ولا يقدر على إخراجها لا في الحرز ولا خارجه ، فقد صار ضامنا لها ، فهي كالمستهلكة في الحرز ، والمسألة الثانية إذا كان قادرا على إخراجها خارج الحرز بمجرى العادة ، فهي بمنزلة جعله لها في جراب معه أو وعاء وإخراجها فيه ، وقياس ذلك على المأكول (٣) ، فإنه باكله قد استهلكه في الحرز ، وأيضا القياس عندنا باطل ، وهذا تخريج المخالفين.

فان نقب ومعه صبي صغير لا تمييز له ، فأمره أن يدخل الحرز ويخرج المتاع ، فقبل ، فالقطع على الآمر ، لأنه كالآلة ، كما لو أدخل خشبة أو شيئا فأخذ به المتاع ، فان عليه القطع.

إذا كان إنسان نائما على متاعه فسرق هو والمتاع معا ، فلا قطع ، لان يد مالكه

__________________

(١) ج. من انه.

(٢) ج. وانّه.

(٣) ل. على المأكول غير جار.

٥٠٣

عليه ، وكذلك إذا كان نائما على حمل (١) ، فسرق الجمل وهو عليه ، فان كان النائم على المتاع عبدا فسرقه والمتاع معا ، فعليه القطع ، لان العبد مال وهو لو سرق العبد وحده قطعناه ، فبأن نقطعه هاهنا اولى.

وإذا كان لرجل مال وديعة أو عارية عند إنسان ، فجعلها ذلك الإنسان في حرز ، فجاء (٢) أجنبي فهتك الحرز وسرقها ، فعليه القطع ، لان صاحبه قد رضي بهذا المكان حرزا لماله.

إذا كان لإنسان قبل رجل دين ، فنقب صاحب الدين ، وسرق من مال من عليه الدين قدر دينه ، فان كان من عليه الدين مانعا له من ذلك ، فلا قطع عليه ، وان كان باذلا له غير مانع ، فعليه القطع.

فان قامت البيّنة على رجل انه سرق من حرز رجل نصابا ، فقال السارق المال لي وملكي ، وقال صاحب الحرز المال ملكي ، فالقول قول صاحب المنزل والحرز ، لانه قد ثبت أنه أخذه منه ، فإذا حلف فلا قطع على السارق ، لانه صار خصما ، وصار شبهة لوقوع التنازع في المال ، والحد لا يجب مع الشبهة.

وهكذا لو وجد مع امرأة فادعى أنّه زوجها ، فأنكرت وحلفت ، لأحد عليه ، لانه صار متنازعا فيه ، فكان شبهة في سقوط الحد ، فلهذا لم يقطع.

إذا قطعت يد سارق حسمت ، والحسم أن يغلي الزيت حتى إذا قطعت اليد ، جعل موضع القطع في الزيت المغلي ، حتى تنسد أفواه العروق وينحسم خروج الدم ، فالزيت واجرة القاطع من بيت المال ، فان لم يفعل الامام ذلك ، لم يكن عليه شي‌ء لأن الذي عليه ، اقامة الحد ، لا مداواة المحدود.

إذا وجب الحد على شخص ، فأقامه الإمام أو الحاكم في شدة حرّ أو برد ، فمات المحدود ، فلا دية له بحال ، لان تجنب الإقامة في ذلك الوقت مستحب ، دون ان يكون ممنوعا منه بكل حال على ما قدّمناه (٣).

__________________

(١) ج. ل. حمل فسرق الحمل ، والظاهر صحة الجمل.

(٢) ج. فجاز.

(٣) في ص ٤٥٦.

٥٠٤

إذا أمره الإمام بجلد القاذف ثمانين ، فزاد الجلاد سوطا ، فمات المحدود ، فعلى الجلاد الضمان.

وكم يضمن؟ قال قوم نصف الدية ، وهو الذي يقوى عندي ، وقال قوم عليه جزء واحد من واحد وثمانين جزء من الدية لأنها تتقسط على عدد الضرب.

وما اخترناه هو خيرة شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (١) وهو الأظهر الذي يقتضيه أصول المذهب ، لأن الدية أو القود على عدد الجناة لا الجنايات.

باب حد المحاربين وهم قطّاع الطريق والنبّاش

والمختلس والخناق والمبنّج والمحتال

قال الله تعالى « إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ » (٢) ولا خلاف بين الفقهاء ان المراد بهذه الآية قطاع الطريق ، وعندنا كل من شهر السلاح لإخافة النّاس في برّ كان ، أو في بحر ، في العمران والأمصار ، أو في البراري والصحاري ، وعلى كل حال.

فإذا ثبت ذلك فالإمام مخيّر فيه بين أربعة أشياء ، كما قال تعالى ، بين ان يقطع يده ورجله من خلاف ، أو يقتل ، أو يصلّب ، أو ينفي ، هذا بنفس شهرة السّلاح واخافة النّاس.

والنفي عندنا ان ينفيه من الأرض ، وكلّما قصد بلدا نفاه منه ، فان قصد بلد الشرك كاتبهم بان يخرجوه ، فان لم يفعلوا قاتلهم ، فلا يزال يفعل معه كذلك الى ان يتوب ويرجع عما هو عليه.

فاما إذا قتل ، فإنه يتحتم (٣) عليه القتل ، سواء قتل مكافئا له ، أو غير مكاف ، أو من يجوز ان يقاد به ، أو لا يجوز ، وسواء عفى عنه ولى المقتول أو لم يعف ، لان قتله

__________________

(١) المبسوط : ج ٨ ، كتاب الأشربة ، ص ٦٥.

(٢) سورة المائدة ، الآية ٣٣.

(٣) ج. ينحتم.

٥٠٥

يتحتم (١) ، ومثاله ان يقتل الوالد ولده في المحاربة ، أو المسلم الكافر ، أو الحر العبد ، فإنه يقتل بمن قتله على كل حال للآية وكذلك ان عفى ولى المقتول فإنه يقتل للمحاربة ، ويتحتم (٢) على ما قلناه ، وليس للإمام نفيه هاهنا دون قتله.

فإن أخذ المال قطع ، سواء أخذ ما يجب فيه قطع السارق أو أقل منه ، من حرز أخذه أو من غير حرز ، فإنه يقطع في القليل والكثير.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : المحارب هو الذي يجرّد السلاح ، ويكون من أهل الريبة ، في مصر كان أو في غير مصر ، في بلاد الشرك كان أو في بلاد الإسلام ، ليلا كان أو نهارا ، فمتى فعل ذلك كان محاربا ، ويجب عليه ان قتل ولم يأخذ المال ان يقتل على كل حال ، وليس لأولياء المقتول العفو عنه ، فإن عفوا عنه وجب على الامام قتله ، لانه محارب ، وان قتل وأخذ المال ، وجب عليه أولا ان يرد المال ، ثم يقطع بالسرقة ، ثم يقتل بعد ذلك ويصلّب ، وان أخذ المال ولم يقتل ولم يجرح ، قطع ثم نفي عن البلد (٣) ، وان جرح ولم يأخذ المال ولم يقتل ، وجب ان يقتص منه ، ثم ينفى بعد ذلك من البلد الذي فعل فيه ذلك الى غيره وكذلك إن لم يجرح ولم يأخذ المال ، وجب عليه أن ينفى من البلد الذي فعل فيه ذلك الفعل الى غيره ، ثم يكتب الى أهل ذلك المصر بأنه منفي محارب ، فلا تؤاكلوه ، ولا تشاربوه ، ولا تبايعوه ، ولا تجالسوه ، فان انتقل الى غير ذلك من البلدان كوتب أيضا أهلها بمثل ذلك ، فلا يزال يفعل به ذلك حتى يتوب ، فان قصد بلاد الشرك ، لم يمكّن من الدخول إليها ، وقوتلوا هم على تمكينهم من دخولها (٤) هذا آخر كلامه رحمه‌الله (٥).

وهو اختياره في مسائل خلافه (٦) ، ومبسوطة (٧) ، فجعل احكامه على طريق الترتيب على ما حكيناه عنه ، ولم يخيّر الامام والحاكم في أيّ الأحكام المذكورة في الآية ، فعل به بما يختاره.

__________________

(١) و (٢) ج. ينحتم.

(٣) ج. البلدان.

(٤) ج. على تمكينه من دخولها.

(٥) النهاية ، كتاب الحدود ، باب حد المحارب.

(٦) الخلاف ، كتاب قطاع الطريق ، مسألة ٣.

(٧) المبسوط ، ج ٨ ، كتاب قطاع الطريق ، ص ٤٨.

٥٠٦

وقال شيخنا المفيد في مقنعته ، وأهل الدعارة ـ بالدال غير المعجمة ، قال الجوهري صاحب كتاب الصحاح ، الدعر بالتحريك الفساد ، والدعر أيضا مصدر قولك دعر العود بالكسر ، يدعر دعرا ، فهو عود دعر اى ردي كثير الدّخان ، ومنه أخذت الدعارة وهي الفسق والخبث ، يقال هو خبيث داعر ، بيّن الدعر والدعارة ، هذا آخر كلام الجوهري ، عدنا الى قول شيخنا المفيد ، قال وأهل الدعارة إذا جردوا السلاح في دار الإسلام ، وأخذوا الأموال ، كان الامام مخيّرا فيهم ان شاء قتلهم بالسيف ، وان شاء صلبهم حتى يموتوا ، وان شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وان شاء نفاهم عن المصر الى غيره ، ووكّل بهم من ينفيهم عنه الى ما سواء ، حتى لا يستقرّ بهم مكان الّا وهم منفون (١) عنه ، مبعدون ، الى ان تظهر منهم التوبة والصلاح ، فان قتلوا النفوس مع إشهارهم السلاح ، وجب قتلهم على كلّ حال بالسيف أو الصّلب ، ولم يتركوا على وجه الأرض أحياء ، هذا آخر كلامه رحمه‌الله (٢) وهو الأظهر الأصح ، لأنه يعضده ظاهر التنزيل ، فلا يرجع عن هذا الظاهر باخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ، لأن أو حقيقتها في لسان العرب التخيير ، ولأجل ذلك اخترنا في كفارة الصيد التخيير دون الترتيب.

واللصّ حكمه عندنا حكم المحارب ، فإذا دخل على إنسان ، جاز له ان يقاتله ويدفعه عن نفسه ما دام مقبلا عليه ، فان أدّى الدفع الى قتل اللّص ، لم يكن على قاتله شي‌ء من قود ، ولا دية ، ولا كفارة ، لأنه محسن ، وقد قال تعالى ـ ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) » (٣) فاما إذا أدبر عنه اللصّ ، فلا يجوز له رميه ولا قتله ، لانه ساغ له ذلك لأجل دفعه عنه ، فإذا أدبر فلا يجوز له رميه ولا قتله في حال إدباره ، فإن ضربه في حال إقباله عليه ضربة قطع بها يده ، فأدبر عنه ، ثم ضربه في حال إدباره ضربة أخرى قطع اليد الأخرى منه ، فإنه يجب عليه في اليد الأخيرة (٤) المقطوعة القصاص ، أو الاصطلاح على ديتها ، ولا شي‌ء عليه في قطع اليد الاولى بحال.

__________________

(١) ج. منفيون.

(٢) المقنعة ، باب الخلسة ونبش القبور .. والفساد في الأرضين ، ص ٨٠٥.

(٣) سورة التوبة ، الآية ٩١.

(٤) ج. الأخرى.

٥٠٧

وحكم النساء في أحكام المحاربة حكم الرجال في انهن يقتلن ، ويعمل بهن ما يعمل بالرجال ، لعموم قوله تعالى « إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ » الآية بخلاف المرتدة ، فإنها لا تقتل بالردة ، بل تحبس ابدا ، هذا اختيار شيخنا أبي جعفر الطوسي ، في مسائل خلافه (١) ومبسوطة (٢) وهذان الكتابان معظمهما فروع المخالفين ، وهو قول بعضهم ، اختاره رحمه‌الله ، ولم أجد لأصحابنا المصنّفين قولا في قتل النساء في المحاربة.

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ان لا يقتلن الا بدليل قاطع ، فاما تمسكه بالآية فضعيف ، لأنها خطاب للذكران دون الإناث ، ومن قال تدخل النساء في خطاب الرجال على طريق التبع ، فذلك مجاز ، والكلام في الحقائق ، والمواضع التي دخلن في خطاب الرّجال فبالإجماع دون غيره ، فليلحظ ذلك.

فأما كيفية صلب المحارب فشيخنا أبو جعفر يذهب في مسائل خلافه ، إلى انه لا يجوز صلبه حيّا بل يقتل ثم يصلب بعد قتله ، ولا ينزل إلى ثلاثة أيام (٣).

وقال شيخنا المفيد في مقنعته ، يصلب حيّا وينزل من خشبته بعد ثلاثة أيام ، ويغسّل ويكفّن ويحنط ويصلّى عليه ، لانه قتل حدا لا قودا (٤).

وشيخنا أبو جعفر الطوسي ، قال في مبسوطة على ما قدمناه (٥) قتله قودا (٦) ، فكان يلزمه انّه يؤمر أولا بالاغتسال والتكفين ، ثم يصلب ، وهو لا يرى غسله الّا بعد نزوله من خشبته (٧).

__________________

(١) الخلاف ، كتاب قطاع الطريق ، مسألة ١٥.

(٢) المبسوط ، كتاب قطاع الطريق ، ص ٥٦.

(٣) الخلاف ، كتاب قطاع الطريق ، مسألة ٥ ، وفي المصدر ، وينزل بعد ثلاثة أيام.

(٤) المقنعة ، باب الخلسة ونبش القبور ، والعبارة هكذا ، وجب قتلهم على كل حال بالسيف أو الصلب حتى يموتوا وفي باب تلقين المحتضرين .. العبارة هكذا ولا يجوز ترك المصلوب في ظاهر الأرض أكثر من ثلاثة أيام وينزل بعد ذلك من جثّته فتوارى جثّته بالتراب ص ٨٠٥.

(٥) في ص ٥٠٦.

(٦) المبسوط ، ج ٨ ، كتاب قطاع الطريق ، ص ٤٩.

(٧) كما في المبسوط ، ج ٨ ، كتاب قطاع الطريق ، ص ٤٨ ، والعبارة هكذا ، وإذا قتل غسل وكفّن وصلّى عليه كسائر الأموات.

٥٠٨

والصّحيح ما ذهب اليه شيخنا المفيد ، وهو الذي يقوى في نفسي ، لأنه الذي يقتضيه ظاهر التنزيل ، وهو قوله تعالى « أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا » فجعل تعالى الصلب غير القتل ، وخيّر في ذلك بقوله أو ، وهي تقتضي التخيير في لسان العرب على ما قدمناه (١) ، فعلى هذا كان يلزم المخالف لنا ان يصلّبه حيّا ولا يقتله ، بل ينزله حيا أيضا بعد صلبه ، لانه تعالى قد جعل الصلب غير القتل ، وعندنا ان الجميع يقتضي القتل ، الا انه ليس كل قتل صلبا.

وإذا قطع جماعة الطريق ، وأقروا بذلك ، كان حكمهم ما ذكرناه ، فان لم يقروا قامت عليهم بذلك بينة ، وهي شهادة عدلين ، كان الحكم في ذلك مثل ما ذكرناه من الإقرار سواء.

فان شهد قطاع الطريق أو اللصوص بعضهم على بعض لم تقبل شهادتهم ، لأنهم فساق.

وكذلك ان شهد الذين أخذت أموالهم بعضهم لبعض ، لم تقبل شهادتهم ، لأنهم خصوم ، وانما تقبل شهادة غيرهم لهم ، أو يحكم بإقرار اللصوص على أنفسهم.

لا يجب احكام المحارب على الطليع والرد بالنظر لهم ، وانما يجب على من باشر القتل ، أو أخذ المال ، أو جمع بينهما ، أو شهر سلاحه لإخافة الناس.

إذا جرح المحارب جرحا يجب فيه القصاص في حد غير المحاربة ، مثل قطع اليد أو الرجل ، أو قلع العين وغير ذلك ، وجب عليه القصاص بلا خلاف ، ولا يتحتم ، بل للمجروح العفو (٢).

وإذا قطع المحارب يد رجل ، وقتله في المحاربة ، قطع ثم قتل ، وهكذا لو وجب عليه القصاص فيما دون النفس ، ثم أخذ المال ، اقتص منه ، وقطع من خلاف ، ويأخذ المال صاحبه.

والمحارب إذا وجب عليه حد من حدود الله تعالى لأجل المحاربة ، مثل انحتام القتل ، أو قطع الرجل واليد من خلاف ، والصّلب (٣) عند من رتب الاحكام ،

__________________

(١) في ص ٥٠٥ ـ ٥٠٦.

(٢) ج. العفو عنه.

(٣) ل. أو الصلب. والظاهر انه الصحيح.

٥٠٩

وعند من لم يرتبها ، ثم تاب قبل القدرة عليه وقبل قيام الحد ، سقط الحد بلا خلاف ، وان تاب بعد القدرة عليه لا يسقط بلا خلاف ، وما يجب عليه من حقوق الآدميين وحدودهم فلا يسقط ، كالقصاص والقذف وضمان الأموال ، وما يجب عليه من حدود الله التي لا يختص بالمحاربة ، كحد الزنا والشرب واللواط فإنها تسقط عندنا بالتوبة قبل رفعه الى الحاكم والقدرة عليه.

وكذلك كل من وجب عليه حدّ من حدود الله تعالى ، من شرب الخمر ، أو الزنا من غير المحاربين ، ثم تاب قبل قيام البيّنة عليه بذلك ، فإنها بالتوبة تسقط.

إذا اجتمع حد القذف وحد الزنا وحد السرقة ، ووجوب القطع ، قطع اليد والرجل بالمحاربة ، وأخذ المال فيها ، ووجب عليه القود بقتل في غير المحاربة ، فاجتمع حدان عليه وقطعان وقتل ، فإنه يستوفى منه الحدود كلها ، ثم يقتل ، ولا يتداخل بعضها في بعض ، لان الظواهر تقتضي إقامتها كلها ، فمن ادعى تداخلها فعليه الدلالة.

قد قلنا ان احكام المحاربين يتعلّق بالرجال والنّساء سواء ، على ما فصلناه (١) من العقوبات ، لقوله تعالى « إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ » الآية ولم يفرق بين النّساء والرجال ، فوجب حملها على عمومها.

إذا مات قطاع الطريق قبل اقامة الحد عليهم ، لا يصلّبون ، لانه قد فات بالموت ، ولله فيهم المشية.

إذا شهد شاهدان ان هؤلاء قطعوا الطريق علينا وعلى القافلة ، وقاتلونا وأخذوا متاعنا ، لم تقبل هذه الشهادة في حق

أنفسهما ، لأنهما شهدا لأنفسهما ، ولا تقبل شهادة الإنسان لنفسه ، ولا تقبل شهادتهما أيضا للقافلة على ما قدمناه ، لأنهما قد أبانا العداوة والخصومة ، وشهادة العدوّ والخصم لا تقبل على عدوه وخصمه.

وهكذا لو شهدا على رجل فقالا هذا قذفنا وقذف زيدا ، لم تقبل شهادتهما

__________________

(١) في ص ٥٠٨. وص ٥٠٩ الّا انه قال هذا اختيار الشيخ ( رحمه‌الله ) في كتابي الخلاف والمبسوط واعترض عليه شديدا وردّ كلامه فراجع.

٥١٠

لأنفسهما ولا لزيد ، لما مضى.

فان شهدا بأن هؤلاء قطعوا الطريق على هؤلاء وهذا قذف زيدا ، قبلت الشهادة ، لأنهما شهدا بالحق مطلقا على وجه لا ترد به شهادتهما.

وليس للحاكم ان يسأل الشهود هل قطعوا الطّريق عليكم مع هؤلاء أم لا؟

وهل قذفكما هذا مع قذفه زيدا أم لا؟ لان الحاكم لا يبحث عن شي‌ء مما تشهد به الشهود الا ما يكون مجملا من قولهم مما لا يمكنه الحكم به الّا بعد مساءلتهم عنه ، كشهادتهم ان زيدا قتل عمروا فإنه يجب عليه ان يبحث عن صفة هذا القتل ، هل هو عمد محض أو خطأ محض؟ أو خطأ شبيه العمد؟ لان القتل مجمل ، وهو على ثلاثة أضرب ، فلا يؤمن في حكومته ان يكون القتل بخلاف الجنس الذي يحكم به ، فيخطى على المشهود عليه أو المشهود لهم.

وجملته ان كل شهادة كانت بأمرين فردت في أحدهما هل ترد في الآخر أم لا؟ نظرت ، فان كان الرد لأجل العداوة ، ردّت في الآخر ، وان كان لأجل التهمة فهل ترد في الآخر أم لا؟ قال قوم ترد ، وقال آخرون لا ترد ، وهو الأقوى عندي ، لأن التهمة موجودة في حق نفسه دون حق غيره ، والعداوة في الشهادتين حاصلة ، فبان الفصل بينهما.

فان شهدوا فقالوا هؤلاء عرضوا لنا ، وقطعوا الطريق على غيرنا ، قبلت هذه الشهادة ، لأن العداوة ما ظهرت لهم ، فلهذا سمعت وعمل بها.

والخنّاق يجب عليه القتل ، ويسترجع منه ما أخذ ، فيرد على صاحبه ، فان لم يوجد بعينه اغرم قيمته أو مثله ان كان له مثل ، أو أرش ما لعلّه نقص (١) من ثمنه ، الّا ان يعفو صاحبه عنه.

ومن بنّج غيره أو أسكره بشي‌ء احتال عليه في شربه أو أكله ، ثم أخذ ماله ، عوقب على فعله ذلك بما يراه الإمام أو الحاكم من قبله ، واسترجع منه ما أخذه ، فان جنى البنج أو الإسكار عليه جناية كان المبنّج ضامنا لما جنياه.

__________________

(١) ج. أرش ما نقص. ل. أرش ما لعمله نقص.

٥١١

والمحتال على أموال الناس بالمكر والخديعة وتزوير الكتب ، والرسالات الكاذبة ، والشهادات بالزور ، وغير ذلك من الأكاذيب ، يجب عليه العقوبة والتعزير والتأديب ويغرّم ما أخذ بذلك على الكمال ، وينبغي للحاكم أن يشهره بالعقوبة لكي يرتدع غيره عن فعل مثله في مستقبل الأوقات ، وينهكه ضربا.

والمختلس هو الذي يسلب الشي‌ء ظاهرا لا قاهرا من الطرقات والشوارع ، من غير شهر لسلاح ولا قهرا ، بل استلابا واختلاسا ، فإنه يجب عليه العقاب المردع ، والضرب الموجع ، ولا قطع عليه ، لانه ليس بسارق ولا قاطع طريق.

ومن نبش قبرا وسلب الميت كفنه ، وأخرجه من القبر ، وكان قيمته ربع دينار ، فإنه يجب عليه القطع ، ويكون المطالب بذلك الورثة ، لأنه على حكم ملكهم ، بدلالة انه لو أكل الميّت سبع ، أو أخذه سيل ، وبقي الكفن فإنه يكون للورثة دون غيرهم ، ويجب عليه مع القطع التأديب المردع.

فان كان قد نبش القبر ولم يأخذ شيئا ، أو أخذ وكان الكفن دون ربع دينار ، فإنه لا قطع عليه ، بل يجب عليه العقوبة المردعة.

فان نبش ثانية ، فإنه يجب عليه القطع إذا أخذ الكفن ، سواء كان قيمته ربع دينار أو أقل من ذلك ، ولا يراعى في مقدار الكفن النصاب إلّا في الدفعة الاولى فحسب ، لقولهم عليهم‌السلام ، سارق موتاكم كسارق احيائكم (١).

ولا خلاف ان من سرق من حيّ دون ربع دينار عندنا لا يجب عليه القطع ، فان قيل فهذا يلزم في الدفعة الثانية؟

قلنا لمّا تكرر منه الفعل صار مفسدا ساعيا في الأرض فسادا فقطعناه لأجل ذلك ، لا لأجل كونه سارقا ربع دينار ، ولهذا روى (٢) أصحابنا انه من سرق حرا صغيرا ، فباعه ، وجب عليه القطع ، قالوا لانه من المفسدين في الأرض ، وأيضا

__________________

(١) الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب حد السرقة ، ح ٤ ، الّا ان لفظ الحديث هكذا ، يقطع سارق الموتى كما يقطع سارق الأحياء.

(٢) الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب حد السرقة والباب ٢٨ من أبواب حد الزنا ، ح ١ ـ ٢ فراجع كلام الشيخ ( قدس‌سره ) في المقام ص ٤٩٩. من هذا الكتاب.

٥١٢

فالاخبار مختلفة في ذلك ، فبعضها يوجب عليه القطع مطلقا ، وبعضها يوجب عليه التعزير ، ولا يوجب عليه القطع ، فحملنا ما يوجب القطع منها.

إذا سرق الكفن وأخرجه من القبر ، وكان قيمته ربع دينار قطع لقولهم عليهم‌السلام ، سارق موتاكم كسارق احيائكم على ما قدمناه ، أو على من يتكرر منه ذلك وكان معتادا لفعل ذلك ، وان لم تبلغ قيمة الكفن ربع دينار ، وان لم يأخذ كفنا أيضا ، على ما ذهب اليه شيخنا أبو جعفر في كتابه الاستبصار (١).

وحملنا منها ما يوجب التعزير والعقوبة ، إذا نبش أوّل مرّة ولم يكن له عادة بذلك ، ولم يكن قيمة الكفن تبلغ ربع دينار ، أو كونه لم (٢) يأخذ الكفن ، وقد عمل بجميعها ، وكان لكل منها وجه يقتضيه الأدلة.

وقال شيخنا أبو جعفر في استبصاره ، لما اختلفت عليه الاخبار ، فإنه أورد جملة منها بوجوب القطع ، ثم أورد جملة أخرى بالتعزير فحسب ، فقال فهذه الأخبار الأخيرة كلها تدل على انه انما يقطع النباش إذا كان ذلك له عادة ، فاما إذا لم يكن ذلك عادته نظر ، فان كان نبش وأخذ الكفن ، وجب قطعه ، وان لم يأخذ ، لم يكن عليه أكثر من التعزير ، قال وعلى هذا تحمل الأخبار التي قدمناها ، هذا جملة ما أورده رحمه‌الله في استبصاره متوسطا بين الاخبار (٣).

قال محمّد بن إدريس بقي عليه رحمه‌الله انه أسقط جميع الأخبار التي رويت في ان سارق موتاكم كسارق احيائكم ، لأنه رحمه‌الله لم يراع النصاب في شي‌ء منها في وساطته بينها ، فقد سقطت جملة ، وهذا بخلاف عادته ، وخرم لقاعدته في وساطته بينها.

وقال في نهايته من نبش قبرا وسلب الميت كفنه ، وجب عليه القطع كما يجب على السارق سواء ، فان نبش ولم يأخذ شيئا أدب تغليظ العقوبة ، ولم يكن عليه قطع

__________________

(١) الاستبصار ، الباب ١٤٥ من كتاب الحدود ، ص ٢٤٥ ، ج ٤.

(٢) ج. ل. أو انّه لم.

(٣) الاستبصار ، ج ٤ ، الباب ١٤٥ من كتاب الحدود ، ص ٢٤٧.

٥١٣

على حال ، فان تكرر منه الفعل وفات الامام تأديبه ، كان له قتله كي يرتدع غيره عن إيقاع مثله في مستقبل الأوقات ، هذا آخر كلامه في نهايته (١).

وما اخترناه من مراعاة المقدار الذي يجب فيه القطع في أوّل مرّة مذهب شيخنا المفيد في مقنعته ، فإنه قال ويقطع النباش إذا سرق من الأكفان ما قيمته ربع دينار ، كما يقطع غيره من السراق إذا سرقوا من الإحراز ، وإذا عرف الإنسان بنبش القبور ، وكان قد فات السلطان ثلاث مرات ، كان الحاكم فيه بالخيار إن شاء قتله.

وان شاء قطعه وعاقبه والأمر في ذلك اليه ، يعمل فيه بحسب ما يراه أزجر للعصاة وأردع للجناة ، هذا آخر كلامه رحمه‌الله (٢).

ونعم ما قال فإنه الذي يقتضيه أصول المذهب ، وتحكم بصحته أعيان الآثار عن الأئمة الأطهار عليه‌السلام ، وأيضا الأصل براءة الذمة ، فمن قطعه في غير المتفق عليه يحتاج الى دليل.

وشيخنا أبو جعفر يفوح من فيه استدلاله في مسائل خلافه ، الى اعتبار النصاب ، لانه قال مسألة ، النباش يقطع إذا أخرج الكفن من القبر الى وجه الأرض ، ثم استدل فقال دليلنا قوله ( وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ ) ، وهذا سارق ، فان قالوا لا نسلّم انه سارق ، قلنا السارق هو من أخذ الشي‌ء مستخفيا متفزعا (٣) ، قال الله تعالى « ( إِلّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ) (٤) » وقالت عائشة ـ سارق موتانا كسارق احيائنا ـ (٥) وقال عليه‌السلام ـ القطع في ربع دينار ـ ولم يفصّل الى هاهنا كلامه رحمه‌الله (٦).

الا ترى الى استدلاله بالاية والخبر عنه عليه‌السلام من قوله القطع في ربع دينار فأستدل بهذا الخبر ، وفيه مقدار النصاب ، واستدل بالاية ، ولا خلاف انه لا يقطع السارق إلّا إذا سرق من حرز ربع دينار ، على ما بيّناه وحرّرناه.

والذي أعتمد عليه بعد (٧) هذا كله وافتى به ، ويقوى في نفسي ، قطع النباش

__________________

(١) النهاية ، كتاب الحدود ، باب حد المحارب.

(٢) المقنعة ، باب الخلسة ونبش القبور ص ٨٠٤.

(٣) ل. متفرغا.

(٤) سورة الحجر : الآية ١٨.

(٥) لم نعثر عليه.

(٦) الخلاف ، كتاب السرقة ، مسألة ٢٨.

(٧) ج. ل. فغير.

٥١٤

إذا أخرج الكفن من القبر الى وجه الأرض ، وسلب الميت ، سواء كان قيمة الكفن ربع دينار أو أقل من ذلك ، أو أكثر ، في الدفعة الأولى أو الثانية ، لإجماع أصحابنا وتواتر اخبارهم بوجوب قطع النباش من غير تفصيل ، وفتاويهم وعملهم على ذلك ، وما ورد في بعض الاخبار وأقوال بعض المصنفين بتقييد ، وتفصيل ذلك بالمقدار في الدفعة الاولى ، فمثل ذلك لا يخصّص العموم ، لان تخصيص العموم يكون دليلا قاهرا مثل العموم في الدّلالة.

باب الحد في الفرية وما يوجب التعزير والتأديب

وما يلحق بذلك من الاحكام

قال الله تعالى « إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ » (١) وروى حذيفة ان النبيّ عليه‌السلام قال قذف محصنة يحبط عمل مائة سنة (٢) ولا خلاف بين الأمة ان القذف محرّم.

فان قذف إنسان مكافئا ، أو أعلى منه ، وجب عليه الجلد ثمانون جلدة ، حرا كان القاذف أو عبدا ، رجلا أو امرأة ، مسلما أو كافرا ، لقوله تعالى « وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً » (٣).

وروى ان النبيّ عليه‌السلام لما نزل براءة ساحة عائشة ، صعد المنبر وتلا الآيات ، ثم نزل فأمر بجلد الرّجلين والمرأة (٤).

فالرجلان حسّان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة مسطح بكسر الميم ، والسين غير المعجمة المسكنة ، والطاء غير المعجمة المفتوحة ، والحاء غير المعجمة ، ـ والاثاثة ـ بضم الالف ، والثاءين المنقطة كل واحدة بثلاث نقط ، والمرأة حمية بنت جحش ، بسكون

__________________

(١) سورة النور ، الآية ٢٣.

(٢) مستدرك الوسائل ، الباب ١ من أبواب حد القذف ، ح ٨ ، باختلاف يسير.

(٣) سورة النور ، الآية ٤.

(٤) سنن أبي داود ، الباب ٣٥ من كتاب الحدود ، الحديث ١ و ٢ ( ج ٤ ، ص ١٦٢ ، الرقم ٤٤٧٤ و ٤٤٧٥ ).

٥١٥

الميم ، وفتح الحاء غير المعجمة.

فإذا ثبت ان موجب القذف الجلد ، فإنما يجب ذلك بقذف محصنة أو محصن ، لقوله تعالى « وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ».

وشرائط الإحصان خمسة أشياء ، ان يكون المقذوف حرا ، بالغا ، عاقلا ، مسلما ، عفيفا عن الزنا ، فإذا وجدت هذه الخصال ، فهو المحصن الذي يجلد قاذفه ، وهذه الشروط معتبرة بالمقذوف لا بالقاذف ، لقوله تعالى ـ ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) ـ فوصف المقذوف بالإحصان.

فمتى وجدت الشرائط ، وجب الحد على قاذفه مع مطالبته له.

ومتى اختلت أو واحدة منها فلا حد على قاذفه ، واختلالها بالزنا أو بالوطي الحرام على ما يأتي بيانه ان شاء الله.

واما القاذف فلا يعتبر فيه الحصانة ، وانما الاعتبار بان يكون عاقلا ، سواء كان حرا أو عبدا عندنا ، فإن أصحابنا رووا وأجمعوا ان عليه الحدّ كاملا هاهنا ، وفي شرب الخمر والمسكر سواء كان حرا أو عبدا.

فاما الكلام الذي يكون قذفا يوجب الحد الذي هو الثمانون على قائله ، فهو ان يقول يا زاني ، يا لائط ، أو يا منكوحا في دبره ، أو قد زنيت ، أو لطت ، أو نكحت ، أو ما معناه معنى هذا الكلام بأي لغة كانت ، بعد ان يكون القائل عارفا بها وبموضوعها ، وفائدة اللفظة (١) في عرفه وعادته ولغته ، وان لم يكن المقول له عارفا بذلك ، بل الاعتبار بمعرفة القائل فائدة اللفظ ، لا المقول له ، وجب عليه حد القاذف ، وهو ثمانون.

فان قال له شيئا من ذلك ، وكان غير بالغ ، أو المقول له كان غير بالغ ، لم يكن عليه حد القذف ، وروى (٢) ان عليه التعزير.

فان قال له شيئا من ذلك ، وهو لا يعلم فائدة تلك اللفظة ولا تلك اللغة ، ولا موضوع

__________________

(١) ج. ل. اللفظ.

(٢) لم نتحققها الّا أنّه أوردها الشيخ قدس‌سره في النهاية ، كتاب الحدود باب الحد في الفرية وما يوجب التعزير.

٥١٦

الألفاظ في عادته وعرفه ، لم يكن عليه شي‌ء ، وكذلك إذا قال لامرأة أنت زانية ، أو قد زنيت ، أو يا زانية ، كان أيضا عليه حد القاذف ثمانون جلدة ، لا يختلف الحكم فيه.

فان قال لكافر أو كافرة ، أو عبد أو أمة شيئا من ذلك ، لم يجب عليه الحد ، ويجب عليه التعزير ، لئلا يوذي أهل الذمة والعبيد.

وإذا قال لغيره يا ابن الزّانية ، أو يا ابن الزاني ، أو قد زنت بك أمك ، أو ولدتك أمّك من الزّنا ، وجب أيضا عليه الحد ، وكان المطالبة في ذلك الى امه ، إلّا في قوله يا ابن الزاني فإن المطالبة في ذلك الى أبيه.

فإن عفت عنه ، جاز عفوها ، لان ذلك من حقوق الآدميين ، ولا يجوز عفو غيرها مع كونها حية وان كانت ميتة ، ولم يكن لها ولى غير المقذوف كان إليه المطالبة والعفو ، فان كان لها وليان أو أكثر من ذلك ، وعفى بعضهم أو أكثرهم كان لمن بقي ممن لم يعف المطالبة واقامة الحد عليه على الكمال ، ولا يسقط منه بقدر حقوقهم وعفوهم شي‌ء على حال على ما بيّناه في باب الشركة وأوضحناه (١).

ومن كان له العفو ، فعفى في شي‌ء من الحدود التي تختص بالآدميين ، لم يكن له بعد ذلك المطالبة ولا الرجوع فيه.

فان قال له يا ابن الزاني ، أو زنى بك أبوك ، أو لاط أو ولدك من حرام ، كان عليه الحد لأبيه دون امه ودونه ، لأن أباه المقذوف هاهنا فان كان حيا ، كان له المطالبة والعفو ، وان كان ميتا ، كان لأوليائه الذين هم وراثه سوى الزوج والزوجة حسب ما ذكرناه في الأم سواء.

وشيخنا أبو جعفر قال في نهايته فان قال له ولدت من الزنا ، وجب عليه الحد ، وكان المطالبة في ذلك الى امه (٢).

وهذا غير واضح ، لانه محتمل (٣) اما ان تكون الأم هي الزّانية ، أو يكون الأب هو الزاني دون الام ، فمع الاحتمال كيف يختص بالأم دون الأب ، ووجه

__________________

(١) الجزء الثاني ص ٣٩٨.

(٢) النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في الفرية وما يوجب التعزير.

(٣) ج. ل. يحتمل.

٥١٧

احتماله انه قد تكون الام غير زانية من هذه الولادة والأب زانيا منها ، بان تكون مكرهة على الزنا غير مطاوعة ، والأب يكون زانيا بان يكرهها على الزنا فيكون هو الزاني دونها ، وقد تكون هي الزانية دون الواطى ، بان لا تعلم ان لها زوجا فتقول لمن يريد نكاحها لا زوج لي ، وانا خلو من الأزواج ، فيتزوّجها فتكون هي زانية ، والواطى غير زان في هذه الولادة.

فإذا ثبت ذلك وتقرر الاحتمال لما قلناه ، كيف يختص الحد بها مع هذا الاحتمال ، بل على ما حررناه يختص بواحد منهما المطالبة بالحد ، بان يقول ولدك أبوك من الحرام ، أو من زنا ، فيكون المطالب بإقامة الحد الأب دون الأم ، فإن قال ولدتك أمك من حرام أو من زنا ، فيكون المطالبة بإقامة الحد عليه الام (١) دون الأب ، فليلحظ ذلك.

فان قال له يا ابن الزانيين أو أبواك زانيان ، أو زنى بك أبواك ، كان عليه حدان ، حد للأب وحد للأم ، فان كانا حيين ، كان لهما المطالبة أو العفو ، وان كانا ميتين ، كان لورثتهما ذلك حسب ما قدمناه.

فان قال له أختك زانية ، أو أخوك زان ، كان عليه الحد لأخته أو لأخيه إذا كانا حيين ، فان كانا ميتين كان لورثتهما وأوليائهما ذلك على ما رتبناه.

وحكم العم والعمة والخال والخالة ، وسائر ذوي الأرحام حكم الأخ والأخت ، في ان الاولى بهم يقوم بمطالبة الحد ، ويكون له العفو على ما بيّناه.

فان قال له ابنك زان ، أو لائط ، أو ابنتك زانية ، أو قد زنت ، كان عليه الحد ، وللمقذوف المطالبة بإقامته عليه ، سواء كان ابنه أو بنته ، حيين أو ميّتين ، وكان إليه أيضا العفو ، الّا ان يسبقه الابن أو البنت الى العفو ، فان سبقا الى ذلك ، كان عفوهما جائزا على ما روى (٢) أصحابنا ، وأورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (٣).

__________________

(١) ج. للأم.

(٢) لم نجد الرواية في خصوص المورد ، ولعله مستفاد من موثقة سماعة ، الباب ٢٠ من أبواب حد قذف الوسائل ، الحديث ٣.

(٣) النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في الفرية وما يوجب التعزير.

٥١٨

والذي يقتضيه المذهب ، انهما ان كانا حيين غير مولى عليهما ، فالحق لهما وهما المطالبان به ، ولا يجوز لأحد العفو عنه دونهما ، ولهما العفو عنه ، لان حد القذف حدّ من حقوق الآدميين يستحقه صاحبه المقذوف به دون غيره ، فليلحظ ذلك.

فان قال لغيره يا زان فأقيم عليه الحدّ ، ثم قال له ثانيا يا زان ، كان عليه حدّ ثان ، فان قال ان الذي قلته لك كان صحيحا ، لم يكن عليه حد ، وكان عليه التعزير ، لانه ما صرح بالقذف في قوله ان الذي قلته لك كان صحيحا.

فان قال له يا زان دفعة بعد اخرى مرات كثيرة ، ولم يقم عليه فيما بينها (١) الحد بشي‌ء من ذلك ، لم يكن عليه أكثر من حدّ واحد.

ومن أقيم عليه الحد في القذف ثلاث مرّات قتل عند أصحابنا في الرابعة ، أو في الثالثة على ما روى عنهم عليهم‌السلام ، ان أصحاب الكبائر يقتلون في الثوالث (٢) ، وهو الصحيح وهو اختيار شيخنا أبي جعفر في استبصاره (٣).

فإن قذف جماعة رجال أو نساء أو رجالا ونساء نظرت ، فان قذف واحدا بعد واحد كل واحد منهم بكلمة مفردة ، فعليه لكل واحد منهم حد القذف ، سواء جاءوا به متفرقين أو مجتمعين فان قذفهم بكلمة واحدة فقال زنيتم أو أنتم زناة ، فالذي رواه أصحابنا واجمعوا عليه ، انه ان جاءوا به متفرقين ، كان لكل واحد منهم حد كامل وان جاءوا به مجتمعين ، كان عليه حد واحد لجماعتهم فحسب ، ومخالفونا اختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا.

ومن قال لغيره من الكفار أو المماليك يا ابن الزاني ، أو يا ابن الزانية ، وكان أبواه مسلمين أو حرين ، كان عليه الحد كاملا لان الحد لمن لو واجهه بالقذف لكان له (٤) الحدّ تاما ، ولان الحر أو المسلم المقذوف ، والحد يستحقه المقذوف دون غيره.

وروى (٥) ان من قال لمسلم أمك زانية ، أو يا ابن الزانية ، وكانت امه كافرة أو

__________________

(١) ج. ل. بينهما.

(٢) الوسائل ، الباب ٥ من أبواب مقدّمات الحدود ، والباب ١١ من أبواب حد المسكر.

(٣) الاستبصار ، ج ٤ ، الباب ١٢٣ من كتاب الحدود ، ص ٢١٢.

(٤) ج. لكان الحد له.

(٥) الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب حد القذف ، ح ٦.

٥١٩

امة ، كان عليه الحد تاما لحرمة ولدها المسلم الحر.

والأصل مراعاة التكافؤ للقاذف ، أو علو المقذوف كما قدمناه أوّلا في صدر الباب.

وإذا تقاذف أهل الذمة أو العبيد أو الصبيان بعضهم لبعض ، لم يكن عليهم حد ، وكان عليهم التعزير.

وإذا قال لغيره قد زنيت بفلانة ، وكانت المرأة ممن يجب لها الحد كاملا ، وجب عليه حدان ، حد للرجل ، وحد للمرأة ، مع مطالبتهما جميعا بإقامة الحد عليه.

وكذلك إذا قال لطت بفلان كان عليه حدان ، حد للمواجه ، وحد لمن نسبه إليه.

فإن كانت المرأة أو الذكر غير بالغين ، أو مع كونهما بالغين لم يكونا حرين ، أو لم يكونا مسلمين ، كان عليه الحد تامّا للمواجه ، لأجل قذفه إياه ، ويجب مع ذلك عليه التعزير لنسبته له إلى هؤلاء.

والذي يقتضيه الأدلة ، انه لا يجب على قائل ذلك سوى حد واحد ، وان كان المقول لهما بالغين حرين ، لأنه إذا قال له زنيت بفلانة ، أو لطت بفلان ، فقد قذفه بلا خلاف ، واما المرأة والرجل فليس بقاذف لهما ، لانه قد لا تكون المرأة زانية ، بأن تكون مكرهة على الزنا ، وكذلك الرجل قد لا يكون مختارا ، بل يكون مكرها على اللواط ، فالزنا واللواط متحققان في جهة المقول لهما ، وغير متحقق في جنبة من فعل به ذلك ، فالشبهة حينئذ حاصلة بغير خلاف وبالشبهة لا يحدّ لقوله عليه‌السلام المجمع عليه ، ادرءوا الحدود بالشبهات (١) وهذا القول الواقع به الفعل من أعظم الشبهات ، فليلحظ ذلك.

وانما أورد شيخنا ذلك في نهايته (٢) إيرادا ، لا اعتقادا كما أورد أمثاله.

وإذا قال له زنت زوجتك ، أو يا زوج الزانية ، وجب عليه الحد لزوجته ، وكان

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٢٤ ، من أبواب مقدّمات الحدود والتعزير ، ح ٤.

(٢) النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في الفرية وما يوجب التعزير.

٥٢٠