كتاب السرائر - ج ٣

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٣

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٨٠

والحجّ ، والجهاد ، وان اختلفوا في الآراء والديانات » (١).

وهذا خبر واحد أورده إيرادا لا اعتقادا ، لأنّا وإياه نراعي في صحة الوقف التقرب به الى الله تعالى ، وبعض هؤلاء لا يتقرب الإنسان المحق بوقفه عليه.

وقال أيضا في نهايته ، فان وقف على المؤمنين كان ذلك خاصا لمجتنبي الكبائر من أهل المعرفة بالإمامة ، دون غيرهم ، ولا يكون للفساق منهم معهم شي‌ء على حال (٢).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله ، الصحيح انه يكون لجميع المؤمنين من العدل والفاسق ، لان كلّ خطاب خوطب به المؤمنون ، يدخل الفساق من المؤمنين في ذلك الخطاب ، في جميع القرآن والسنّة والاحكام بغير خلاف ، مثل قوله تعالى « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ » (٣) وكقوله « فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ » (٤) وغير ذلك من الآيات ، ولم يرد العدل ، بغير خلاف.

وقد ذكر السيد المرتضى في جواب المسائل الناصريات ، في المسألة السابعة والسبعين والمائة ، والفاسق عندنا في حال فسقه مؤمن يجتمع له الايمان والفسق ، ويسمى باسمهما ، وكل خطاب دخل فيه المؤمنون ، دخل فيه من جمع بين الفسق والايمان ، هذا آخر كلام المرتضى رضى الله عنه (٥).

وانّما هذه اخبار آحاد يوردها شيخنا ، في كتابه النهاية ، إيرادا لأنه كتاب خبر لا كتاب بحث ونظر ، فإنه رحمه‌الله قد رجع في كتبه كتب البحث ، عن معظم ما ذكره في نهايته ، مثل مسائل خلافه ، ومبسوطة ، وغير ذلك من كتبه ، فلا يتوهم أحد وينسبه منه الى تقصير ، وقلة تحقيق ، وانما العذر له فيه ما ذكرناه ، وقد أفصح عن ذلك وابان واعتذر لنفسه في خطبة مبسوطة على ما حكيناه عنه ، في خطبة كتابنا هذا ، فليلحظ من هناك.

__________________

(١) و (٢) النهاية ، كتاب الوقوف والصدقات باب الوقوف وأحكامها.

(٣) سورة الحجرات ، الآية ١٠.

(٤) سورة النساء ، الآية ٩٢.

(٥) الناصريات كتاب الشفعة مسألة ١٧٧ آخر المسألة.

١٦١

وقد رجع شيخنا أبو جعفر ، عما قاله في نهايته ، في كتاب التبيان ، فقال في تفسير قوله تعالى « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ » فقال هذا الخطاب يتوجه الى جميع المؤمنين ، ويدخل فيه الفساق بأفعال الجوارح وغيرها ، لأن الايمان لا ينفى (١) الفسق عندنا ، وعند المعتزلة أنه خطاب لمجتنبي الكبائر ، هذا آخر كلامه رحمه‌الله في التبيان (٢).

وإذا وقف على الشيعة ، ولم يميز منهم قوما دون قوم ، كان ذلك ماضيا في الإماميّة ، والجارودية من الزيدية ، دون البتريّة ، والبترية فرقة تنسب الى كثير النواء ، وكان أبتر اليد ، ـ ويدخل معهم سائر فرق الإماميّة ، من الكيسانيّة ـ ، وهم القائلون بإمامة محمّد بن الحنفية ، وانه اليوم حيّ ، وهو المهديّ الذي يظهر ، والناووسية ، ـ القائلون بأن جعفر بن محمّد عليه‌السلام لم يمت ، وهو المهدى ، والفطحية القائلون بإمامة عبد الله بن جعفر الصادق عليه‌السلام وقيل انّه كان افطح الرجلين ، والواقفية وهم القائلون بأن موسى بن جعفر الكاظم عليهما‌السلام لم يمت ، وانه المهدى ، والاثنى عشرية على ما روى (٣). وأورده شيخنا في نهايته (٤).

وقد قلنا ما عندنا في أمثال ذلك ، وهو ان نيّة القربة معتبرة في صحة الوقف ، فان كان الواقف من احدى هذه الفرق ، حمل كلامه العام على شاهد حاله ، وفحوى قوله ، وخصص به ، وصرف في أهل نحلته ، دون من عداهم من سائر المنطوق به ، لما دللنا عليه فيما مضى ، وانما هذه اخبار آحاد ، رواها المحق والمبطل من الشيعة ، فأوردها شيخنا في نهايته ، كما هي بألفاظها.

فان وقفه على الإماميّة خاصة ، كان فيمن قال بإمامة الاثني عشر منهم ، فان وقفه على الزيدية ، وكان الواقف زيديّا ، كان على القائلين بإمامة زيد بن على بن الحسين ، وامامة كل من خرج بالسيف من ولد فاطمة عليها‌السلام من أهل الرأي

__________________

(١) ج. لا ينافي.

(٢) التبيان ، ج ٢ ، ص ٨١.

(٣) لم نجد الرواية في مظانها من كتب الأحاديث والظاهر انه رحمه‌الله نقل عبارة المفيد رحمه‌الله في المقنعة فراجع باب الوقوف والصّدقات ، ص ٦٥٤ ـ ٦٥٥.

(٤) النهاية كتاب الوقوف والصدقات باب الوقوف وأحكامها.

١٦٢

والعلم والصلاح ، فان كان الواقف إماميّا لم يصح الوقف على ما حرّرناه ، لعدم نيّة القربة التي هي شرط في صحة الوقف ، وشيخنا أطلق هذا الموضع إطلاقا.

فان وقفه على الهاشمين ، كان مصروفا في ولد أبي طالب ، وولد العباس بن عبد المطلب ، وولد أبي لهب ، وولد الحارث بن عبد المطلب ، فإنّه لا عقب لهاشم الّا من هؤلاء ، الذكور منهم والإناث ، على ما قدمناه بالسويّة ، الا ان يشرط التفضيل.

وإذا وقفه على الطالبيّين ، كان ذلك على أولاد أبي طالب رحمة الله عليه ورضوانه.

وإذا وقفه على العلويين ، كان ذلك على ولد على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وولد ولده ، الذكور والإناث ، الفاطمي وغير الفاطمي ، بالسّويّة ، الذكر والأنثى فيه سواء.

فان وقفه على ولد فاطمة عليها‌السلام ، كان ذلك على ولد الحسن والحسين عليهما‌السلام الذكور منهم والإناث بالسّويّة.

فإن وقفه على الحسنية ، لم يكن للحسينية معهم شي‌ء على حال.

فان وقفه على الحسينية ، لم يكن للحسنية معهم شي‌ء على حال.

فان وقفه على الموسوية ، كان ذلك على أولاد موسى بن جعفر عليه‌السلام.

وإذا وقف الإنسان شيئا على جيرانه ، أو اوصى لهم بشي‌ء ، ولم يسمهم بأسمائهم ، ولا ميّزهم بصفاتهم ، كان ذلك مصروفا الى من يلي داره إلى أربعين ذراعا من أربعة جوانبها ، الا من منع دين الواقف ، وشاهد حاله ، وفحوى قوله ، من الوقف عليه ، على ما حررناه فيما مضى ، وليس لمن بعد عن هذا الحد شي‌ء.

وروي (١) إلى أربعين دارا.

والأول هو الأظهر ، والمعوّل عليه.

وروي (٢) انه إذا وقف على قومه ولم يسمهم ، كان ذلك على جماعة أهل لغته

__________________

(١) الوسائل الباب ٩٠ من أبواب أحكام العشرة.

(٢) لم نجد الرواية في مظانها من كتب الأحاديث والظاهر انه رحمه‌الله نقل عبارة المفيد رحمه‌الله في المقنعة فراجع باب الوقوف والصدقات ص ٦٥٥.

١٦٣

من الذكور ، دون الإناث.

والذي يقتضيه أصول المذهب ، وتشهد بصحّته الأدلة القاهرة ، انه يكون مصروفا الى الرجال من قبيلته ، ممن ينطلق العرف بأنهم اهله وعشيرته ، دون من سواهم ، هذا الذي يشهد به اللغة ، وعرف العادة ، وفحوى الخطاب ، قال الشاعر :

قومي هم قتلوا أميم أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي

فامّا الدليل على انّ القوم ينطلق على الرجال دون النساء ، قوله تعالى « لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ، .. وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ » (١) وقول زهير :

فما أدرى وسوف أخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

فاما الرواية التي وردت بان ذلك على جميع أهل لغته ، فهي خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، من غير دليل يعضدها من إجماع ، أو كتاب ، أو سنة ، أو دليل أصل فإذا عدم جميع ذلك ، وورد خطاب مطلق ، حمل على العرف والعرف ما اخترناه.

فان وقفه على عشيرته ، كان ذلك على الخاص من اهله ، الذين هم أقرب النّاس إليه في نسبه.

فان وقفه على مستحقي الخمس ، كان ذلك على ولد هاشم ، وقد بيناهم فيما مضى (٢) ، وذكرناهم ، فلا وجه لاعادتهم.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، فان وقفه على مستحقي الخمس ، كان ذلك على ولد أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وولد العباس وجعفر ، وعقيل (٣) ثم لم يذكر غير ذلك.

وليس اقتصاره على ذكر من ذكر دليلا على انه لا يسحق غير المذكورين الذين هم بقية ولد هاشم المستحقين للخمس شيئا من هذا الوقف ، لان هذا دليل فان وقفه على مستحقي الزكاة ، كان ذلك على الثمانية الأصناف المذكورة في القرآن الخطاب.

__________________

(١) سورة الحجرات ، الآية ١١.

(٢) في ص ١٦٦.

(٣) النهاية كتاب الوقوف والصدقات باب الوقوف وأحكامها.

١٦٤

ومتى وقف الإنسان على أحد الأجناس ممن ذكرناهم ، فان كانوا كثيرين في البلاد ، منتشرين ، كان ذلك مقصورا على من يحضر البلد الذي فيه الوقف ، دون غيره من البلدان.

ومتى وقف الإنسان شيئا في وجه من الوجوه ، أو على قوم بأعيانهم ، ولم يشرط بعد انقراضهم عوده على شي‌ء بعينه ، كان متى انقرضوا ولم يبق منهم أحد ، راجعا ميراثا على أقرب النّاس من أخر المنقرضين من أرباب الموقوف عليهم ، لانه مال من أموال الموقوف عليهم ، يورث كما يورث سائر الاملاك والأموال ، ولا يجوز عوده على ورثة الواقف ، ولا على الواقف نفسه بحال من الأحوال ، لانه بالوقف خرج من ملكه ، وانتقل الى ملك الموقوف عليه بغير خلاف بيننا ، فعوده اليه بعد ذلك يحتاج الى دليل ، ولا دليل عليه من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع منعقد ، وهذا مذهب شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان ، في مقنعته (١).

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته ، ومتى وقف الإنسان شيئا في وجه من الوجوه ، أو على قوم بأعيانهم ، ولم يشرط بعد انقراضهم عوده على شي‌ء بعينه ، فمتى انقرض أرباب الوقف ، رجع الوقف على ورثة الواقف (٢).

وهذا قول مرغوب عنه ، لانه لا دليل عليه بحال.

وقال رحمه‌الله في مسائل خلافه ، مسألة إذا وقف على من يصح انقراضه في العادة ، مثل ان يقف على ولده ، وولد ولده ، وسكت على ذلك ، فمن أصحابنا من قال لا يصح الوقف ، ومنهم من قال يصح ، فإذا انقرض الموقوف عليه ، رجع الى الواقف ان كان حيّا ، وان كان ميّتا رجع الى ورثته ، وبه قال أبو يوسف ، وللشّافعي فيه قولان ، أحدهما لا يصح ، والأخر يصح ، فإذا انقرضوا رجع الى أبواب البر ، ولا يعود اليه ، ولا الى ورثته ، دليلنا ان عوده الى البرّ بعد انقراض الموقوف عليه ، يحتاج الى دليل ، وليس في الشرع ما يدلّ عليه ، والأصل بقاء الملك عليه ، أو

__________________

(١) المقنعة باب الوقوف والصدقات آخر الباب الّا ان الظاهر ان المصنف رحمه‌الله نقل عبارته بمعناها لا بألفاظها ص ٦٥٥.

(٢) النهاية كتاب الوقوف والصدقات باب الوقوف وأحكامها.

١٦٥

على ولده ، هذا أخر المسألة (١).

قال محمّد بن إدريس ، انظر أرشدك الله الى ما قاله شيخنا في المسألة ، فإنه ما تعرض للإجماع ، ولا للأخبار ، لان الطريقتين مفقودتان هاهنا ، انما دل ما يقضى عليه وهو محجوج به ، وهو قوله « دليلنا ان عوده الى البر بعد انقراض الموقوف عليهم ، يحتاج الى دليل ، وليس في الشرع ما يدل عليه » وكذا نقول نحن له رحمه‌الله ، ان عوده الى الواقف ، أو الى ورثته بعد انقراض الموقوف عليهم ، يحتاج الى دليل وليس في الشرع ما يدل عليه ، والأصل بقاؤه وقفا ، فمن أخرجه من كونه وقفا ، يحتاج الى دليل ، ولن يجده ، ونكيل له بصاعه حرفا فحرفا ، والله الموفّق للصّواب.

وإذا وقف المسلم شيئا على مصلحة ، فبطل رسمها ، يجعل في وجه البر بلا خلاف ، ولا يجوز عوده على الواقف ، ولا على ورثته ، وهذا أيضا دليل على صحة المسألة المتقدّمة ، وفساد قول المخالف فيها.

وإذا وقف في وجوه البرّ ، ولم يسمّ شيئا بعينه ، كان للفقراء ، والمساكين ، ومصالح المسلمين ، من بناء المساجد ، والقناطر ، وتكفين الموتى ، والحاج ، والزوّار ، وغير ذلك.

وقال شيخنا في نهايته ، وإذا وقف إنسان مسكنا ، جاز له ان يقعد فيه مع من وقفه عليه ، وليس له ان يسكن فيه غيره (٢).

وهذا على إطلاقه لا يصحّ ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك (٣) ، وهو انه ان كان الوقف عاما على جميع المسلمين ، جاز ذلك على ما حكيناه عن بعض أصحابنا ، وان كان خاصا على قوم بأعيانهم ، لا يجوز للواقف ان يسكن فيه مع من وقفه عليه ، لانه بالوقف خرج من ملك الواقف ، وصار ملكا للموقوف عليه.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، مسألة يجوز الوقف على أهل الذمّة إذا كانوا أقاربه ، وقال الشافعي يجوز ذلك مطلقا ، ولم يخصّ ، دليلنا إجماع الفرقة ، وأيضا فإن ما قلنا مجمع على جوازه ، وما ذكروه ليس عليه دليل ، هذا أخر كلامه

__________________

(١) الخلاف كتاب الوقوف والصدقات مسألة ٩.

(٢) النهاية كتاب الوقوف والصدقات باب الوقوف وأحكامها آخر الباب.

(٣) في ص ١٥٥.

١٦٦

في المسألة (١).

وقد قلنا ما عندنا (٢) في مثل هذه المسألة ، من انه لا يجوز الوقف على الكفرة ، الا ان يكون الكافر أحد الوالدين ، لان من صحة الوقف وشرطه ، نية القربة فيه.

إذا وقف على مواليه ، وله موليان ، مولى من فوق ، ومعناه المنعم عليه ، وله مولى أخر من أسفل ، ومعناه من أنعم هو عليه ، فأعتقه ، ولم يبيّن ، انصرف الوقف إليهما ، لأن اسم المولى يتناولهما.

إذا بنى مسجدا واذن النّاس ، فصلوا فيه ، أو عمل مقبرة ، فأذن في الدفن فيها ، فدفنوا ، ولم يقل ان ذلك وقف ، ولم يوجبه على نفسه بالقول والنطق بالوقفية ، لم يزل ملكه عن ذلك ، لان الأصل ، الملكيّة ، وزوالها يحتاج الى دليل ، والوقف حكم شرعي يحتاج الى دليل شرعي.

فإن وقف مسجدا وقفا صحيحا ، ثم انه خرب ، وخربت البلدة التي هو فيها ، لم يعد الى ملكه ، لان ملكه قد زال ، بلا خلاف وعوده اليه يحتاج الى دليل.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : إذا انقلعت نخلة من بستان وقف ، أو انكسرت ، جاز بيعها ، واستدل بان قال دليلنا ، انه لا يمكن الانتفاع بهذه النخلة ، الا على هذا الوجه (٣).

قال محمّد بن إدريس ، يمكن الانتفاع بهذه النخلة من غير بيعها ، وهو ان تعمل جسرا ، أو زورقا الى غير ذلك من المنافع مع بقاء عينها ، وقد بينا (٤) ان الوقف لا يجوز بيعه ، فعلى هذا التحرير لا يجوز بيعها ، وينتفع بها من هي وقف عليه بغير البيع ، فليلحظ ذلك.

باب العمرى والرقبى والسّكنى والحبيس

العمرى نوع من الهبات ، يفتقر صحّتها إلى إيجاب وقبول ، ويفتقر لزومها الى

__________________

(١) الخلاف كتاب الوقوف والصدقات مسألة ١٣.

(٢) في ص ١٥٦.

(٣) الخلاف كتاب الوقوف والصدقات مسألة ٢٣.

(٤) في ص ١٥٢.

١٦٧

قبض ، كسائر الهبات ، وهي مشتقة من العمر ، وصورتها ان يقول الرجل للرجل : أعمرتك هذه الدّار ، وجعلتها لك عمرك ، أو هي لك ما حييت ، أو ما بقيت ، أو ما عشت ، وما أشبه ذلك مما في معناه.

وهي عقد جائز ، فإذا ثبت جوازها ، فلا تخلو من أربعة أحوال ، اما ان يقول : هذه الدّار لك عمرك ، ولعقبك من بعدك عمرهم ، أو يطلق ذلك ، فيقول : هذه الدار لك عمرك ، فإذا مت رجعت اليّ ، أو يقول : هذه الدار لك عمري ، أو يقول : هذه الدّار لك مدّة عمري.

فإذا قال « عمرك ولعقبك » فإنها جائزة عندنا ، فإذا انقرض العقب ، عادت الى المعمر ، ان كان حيّا ، أو الى ورثته ان كان ميتا.

فان قال « لك عمرك » فإذا مات ، رجعت الى المعمر أيضا.

فإن قال « هذه لك مدة عمري » فليس له ان يخرجه منها ما دام حيّا ، فإذا مات كان للوارث إخراجه منها ، فان مات المعمر ، دون من أعمره ، وخلّف ورثة ، كان لهم سكناها ، الى ان يموت من أعمر أباهم.

فامّا ان قال « هذه الدّار عمرى لك » ولم يقل مدّة عمري ، ولا مدّة عمرك ، فان هذا مجهول ، لا يلزم به شي‌ء بحال.

والرقبى أيضا جائزة عندنا ، وصورتها صورة العمرى ، الا ان اللفظ يختلف ، وان كان المعنى يتفق ، لانه يقول في العمرى أعمرتك هذه الدار مدّة حياتي أو مدّة حياتك ، أو مدّة عمري أو مدّة عمرك ، والرقبى تحتاج ان يقول « أرقبتك هذه الدار مدّة حياتك أو مدّة حياتي » وفي أصحابنا من قال الرّقبى ان يقول « جعلت خدمة هذا العبد لك مدّة حياتك ، أو مدة حياتي » وهو مأخوذ من رقبة العبد ، والأوّل مأخوذ من رقبة الملك ، وهو الأظهر ، الا ان الاشتقاق المحقق انها مصدر من رقب كل واحد منهما موت صاحبه ، يرقبه رقبى.

وتحتاج أيضا الى الإيجاب والقبول ، والقبض من صحة لزومها.

وقد قلنا انه لا فرق بين العمرى والرّقبى في الحكم والمعنى ، سواء علقه بموت المرقب أو المرقب ، فإن علقة بموت المرقب ، فان مات المرقب رجع الى ورثته ، وان

١٦٨

مات المرقب أوّلا كان لورثته الى ان يموت المرقب ، فإن علقة بموت المرقب ، ومات المرقب ، لم يكن لورثته عليه سبيل حتى يموت ، فإذا مات رجع إليهم ، وان مات المرقب أوّلا ، لم يكن لورثته شي‌ء ، ورجع الى المرقب مثل ما ذكرناه في العمرى حرفا فحرفا.

فأمّا السكنى ، فلا بأس ان يجعل الإنسان داره ، أو منزله ، أو ضيعته ، أو عقاره ، سكنى لإنسان ، حسب ما أراد ، فإن جعله له مدّة من الزمان ، كان ذلك ماضيا ، ولم يجز له نقله عنه ، الا بعد مضى تلك المدّة ، وكذلك لا يجوز له بيعه ، الا بعد انقضاء المدّة ، أو يشترط على المشتري مقدار ذلك الزمان ، ومتى مات والحال ما وصفناه ، لم يكن لورثته نقل الساكن عنه ، الّا بعد ان تمضى المدّة المذكورة ، ومتى أسكنه إياه مدة عمره فهي العمرى ، وقد ذكرناها مستوفاة.

ومتى أسكنه ولم يذكر مدة ، كان له إخراجه أيّ وقت شاء.

وإذا اسكن إنسان غيره ، لم يجز للساكن ان يسكن معه غيره ، الّا ولده واهله ، يعني امرأته ، ولا يجوز له سواهم ، ولا يجوز للساكن أيضا ان يؤاجره ، ولا ان ينتقل عنه ، فيسكن غيره الا بإذن صاحب المسكن ، على ما ذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (١).

والذي يقتضيه أصول المذهب ، ان له جميع ذلك ، وخلافه وإجارته وانتقاله عنه ، وإسكان غيره معه ، سوى ولده وامرأته ، سواء اذن له في ذلك أو لم يأذن ، إذا كان أول ما أسكنه قد أطلق السكنى ، لأن منفعة هذه الدّار استحقها ، وصارت مالا من أمواله ، وحقا من حقوقه ، فله استيفاؤها كيف شاء ، بنفسه وبغيره ، وما أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته ، فلا شك انه خبر واحد ، وقليلا ما يورده أصحابنا في كتبهم ، فشيخنا المفيد رحمه‌الله لم يورده في مقنعته ، ولا السيّد المرتضى ، ولا المحصّلون من أصحابنا.

وللإنسان أن يحبس فرسه في سبيل الله ، وغلامه أو جاريته في خدمة البيت

__________________

(١) النهاية كتاب الوقوف والصدقات باب السكنى والعمرى والرقبى والحبيس.

١٦٩

الحرام ، وبعيره في معونة الحاج والزّوار ، فإذا فعل ذلك لوجه الله تعالى ، لم يجز له تغييره ، ولا تبديله ، فإنه قد خرج عن ملكه ، فان عجزت الدابة ، أو دبرت ، يعنى صار بها دبر ، ـ بفتح الدال والباء ـ ، أي عقر ، لان الدبر في لسان العرب ، العقر ، فروي ان بعض الاعراب قال لعمر بن الخطاب ، وكان أتاه ، فشكا اليه نقب ابله ودبرها ، فكذبه عمر ، وحلف بأنه كاذب ، واستحمله ، فلم يحمله ، فأنشأ يقول.

أقسم بالله أبو حفص عمر

ما مسّها من نقب ولا دبر

 ـ النقب الجرب ـ فان (١) مرض الغلام أو الجارية ، وعجزا عن الخدمة ، سقط عنهما بمرضهما ، فان عادا إلى الصّحة كان الشرط فيهما قائما حتى يموت العبد ، وتنفق الدابة.

فاما ان حبس ملكه على بعض الآدميين إلى مدة موت الحابس ، فإنه إذا مات عاد الملك إلى ورثة الحابس ، وأنفذت فيه المواريث ، فهذا معنى ما روى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انه قضى برد الحبيس ، وإنفاذ المواريث (٢).

فاما الحبيس على بيت الله ، ونحو ذلك ، فلا يعود الى ملك الحابس ، ولا الى ورثته بعده بحال ، فهذا فرق ما بين الحبيسين والمسألتين ، فليلحظ ذلك ويتأمل ، فربما اشتبه على كثير من المتفقهة.

وروي انه إذا جعل الإنسان خدمة عبده أو أمته لغيره ، مدة من الزمان ، ثم هو حر بعد ذلك ، كان ذلك جائزا ، وكان على المملوك الخدمة في تلك المدّة ، فإذا مضت المدّة ، صار حرا فإن أبق العبد هذه المدّة ، ثم ظفر به من جعل له خدمته ، لم يكن له بعد انقضاء تلك المدّة عليه سبيل ، وان كان صاحب الغلام أو الجارية جعل خدمته لنفسه مدّة من الزمان ، ثم هو حر بعد ذلك ، وأبق المملوك انتقض ذلك التدبير ، فان وجده بعد ذلك كان مملوكا يعمل به ما شاء (٣).

__________________

(١) ج. ل. أو مرض. وعلى هذا فهو عطف على « عجزت الدابة » وعلى اي حال فلم يذكر للشرط الأوّل جوابا الّا انه معلوم من سياق الكلام.

(٢) الوسائل الباب ٥ من احكام السكنى والحبيس.

(٣) لم نجد الرواية في مظانها من كتب الاخبار الّا ما أورده الشيخ رحمه‌الله في نهايته كما أشار إليه المصنف رحمه‌الله.

١٧٠

أورد هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته (١) ، وهي من أضعف أخبار الآحاد ، لأنها مخالفة لأصول المذهب ، لان التدبير عند أصحابنا بأجمعهم لا يكون الا بعد موت المولى الذي هو المعتق المباشر للعتق ، ويكون بمنزلة الوصيّة ، يخرج من الثلث ، هذا لا خلاف بينهم فيه ، فمن ادعى حكما شرعيا أخر ، غير هذا ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ولا يرجع الى اخبار الآحاد في مثل ذلك ، لا يوجب علما ولا عملا ، على ما بيناه.

ثم انه لم يذهب إليه أحد من أصحابنا إلا الشاذ التابع لمسطور شيخنا في نهايته ، فإنه رحمه‌الله لم يذكر ذلك في مسائل خلافه ، ولا في مبسوطة ، ولا في معظم كتبه المصنفة ، سوى الكتب الاخبارية ، لانه من طريق اخبار الآحاد ، فيذكرها في جملة الاخبار ، وأوردها إيرادا لا اعتقادا ، على ما اعتذر به لنفسه.

باب الهبات والنحل

الهبة والنحلة جائزتان ، بالكتاب والسنّة وإجماع الأمّة.

فالكتاب قوله تعالى « وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ » (٢) والهبة من البرّ ، وكذلك النحلة.

والسنّة ما رواه محمّد بن المنكدر ، عن جابر ان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : كل معروف مرغب فيه (٣).

وروى أبو هريرة انّ النبيّ عليه‌السلام قال : لو اهدي اليّ ذراع لقبلت ، ولو دعيت الى كراع لأجبت (٤).

__________________

(١) النهاية كتاب الوقوف والصدقات باب السكنى والعمرى والرقبى والحبيس آخر الباب.

(٢) سورة المائدة ، الآية ٢.

(٣) لم نجد الحديث بعينه في المجاميع الروائية لكن الموجود « كل معروف صدقة » صحيح البخاري ج ٨ كتاب الأدب باب ٣٣ ص ١٣ نعم نفس الحديث موجود في المبسوط ج ٣ كتاب الديات ص ٣٣.

(٤) سنن البيهقي ، الباب ١ من كتاب الهبات ، الحديث ٢ ، ج ٦ ، ص ١٦٩. صحيح البخاري ، كتاب الهبة ، باب القليل من الهبة ، الرقم ٢٣٩٨ ، ج ١١ ، ص ١١١. وفيه : « لو دعيت الى ذراع أو كراع لأجبت ، ولو اهدى الىّ ذراع أو كراع لقبلت ».

١٧١

وروت عائشة ، أن الرسول عليه‌السلام كان يقبل الهدية ، ولا يقبل الصّدقة (١).

أما صدقة الواجب فكانت حراما عليه وعلى بنى هاشم ، واما صدقة الندب فهي حلال عندنا عليه وعلى بنى هاشم ، وانما كان يتنزه عنها على جهة الاستحباب دون الفرض والإيجاب.

وروي ان جعفر بن محمّد عليه‌السلام كان يشرب من السقايات التي بين مكة والمدينة ، فقيل له في ذلك ، فقال انّما حرمت علينا صدقة الفرض (٢).

وامّا الإجماع ، فقد أجمعت الأمة على جواز الهبة واستحبابها.

إذا تقرّر هذا فالهبة والصّدقة والهدية بمعنى واحد ، غير انّه إذا قصد الثواب والتقرب بالهبة الى الله تعالى ، سميّت صدقة ، فإذا أقبضها لا يجوز له الرجوع فيها بعد الإقباض على كل من تصدّق عليه بها ، وإذا قصد بها التودد والمواصلة ، لا التقرب الى الله تعالى سميت هدية وهبة.

وهي على ضربين ، هبة يجوز للواهب الرجوع فيها بعد قبض الموهوب لها ، وهبة لا يجوز للواهب الرجوع فيها بعد قبض الموهوب لها.

فالموهوب على ضربين ، ذي رحم ، وأجنبي ، وذو الرحم على ضربين ، ولد وغير ولد ، والولد على ضربين ، كبير وصغير.

فإذا كان كبيرا بالغا ، فلا يجوز للواهب الرجوع فيها بعد قبضها على حال ، سواء أضاف الولد الى القبض شيئا أخر ، أو لم يضف ، وكذلك الولد الصّغير ، لان قبض الوالد قبض عنه ، فلا يحتاج الى قبض ، والولد الكبير يحتاج الى قبض في هبته

__________________

(١) صحيح البخاري ، كتاب الهبة ، باب المكافاة في الهبة ، ج ١١ ، ص ١٢٢ ، الرقم ٢٤١٤. وسنن الترمذي ، الباب ٣٤ من كتاب البرّ والصلة ، ج ٣ ص ٢٧٧ ، الرقم ٢٠١٩. وسنن أبي داود ، كتاب البيوع ، باب في قبول الهدايا ، ج ٣ ، ص ٢٦٠. وفيها جميعا : « عن عائشة انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقبل الهدية ويثيب عليها ».

(٢) سنن البيهقي ، كتاب الهبات ، باب إباحة صدقة التطوع لمن لا تحل له صدقة الفرض ( ج ٦ ، ص ١٨٣ ).

١٧٢

ولزومها ، فهذا الضّرب من الهبة الذي لا يجوز بعد القبض الرجوع فيها بحال.

فاما ذو الرحم غير الولد ، فبعض أصحابنا يجريه مجرى الولد الأكبر ، ويذهب إلى انه لا يجوز للواهب الرجوع في الهبة بعد إقباضها إيّاه ، وهو اختيار شيخنا أبي جعفر في نهايته (١) ، وبعض يذهب الى ان له الرجوع بعد القبض ، ويجريه مجرى الأجنبي ، وهو الذي يذهب اليه شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (٢) ، وهو الذي يقوى في نفسي.

فاما الضرب الذي يجوز له الرجوع في الهبة بعد الإقباض ، فهي الهبة للأجنبي ، ولذي الرحم غير الولد ، على الأظهر الأصح عند أصحابنا ، فإذا وهب الأجنبي ، وقبّضه إياها ، فللواهب الرجوع فيها ما لم يضف الموهوب له الى القبض أحد ثلاثة أشياء ، امّا ان يعوّض عنها الواهب ، سواء كان العوض مثلها ، أو أقل منها ، أو أكثر ، أو يتصرف فيها ، أو تستهلك عينها ، فمتى أضاف إلى القبض أحد الثلاثة الأشياء ، فلا يجوز للواهب الرجوع فيها بحال ، لقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (٣) وهذا عقد يجب الوفاء به ، وما عدا هذا الموضع ممّا يجوز للواهب الرجوع في هبته ، أخرجناه بدليل ، وهو الإجماع من أصحابنا.

فإذا تقرر هذا ، فهي من العقود الجائزة ، يحتاج إلى إيجاب وقبول.

ومن شرط لزومها الإقباض ، وذهب الأكثرون من أصحابنا ، الى ان من شرط انعقادها وصحته الإقباض بإذن الواهب (٤) ، فمتى قبضها الموهوب له بغير اذن الواهب ، كان القبض فاسدا.

ويكره ان يرجع الإنسان فيما يهبه لزوجته ، وكذلك يكره للمرأة الرجوع فيما تهبه لزوجها.

وقد قلنا (٥) انه لا يجوز للإنسان ان يرجع فيما يهبه لوجه الله تعالى بعد الإقباض على حال ، وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وما تصدّق الإنسان به لوجه الله ، فلا يجوز له ان يعود اليه بالبيع والهبة والشراء ، فان رجع اليه بالميراث كان جائزا (٦).

__________________

(١) النهاية : كتاب الوقوف والصدقات ، باب النحل والهبة.

(٢) الخلاف ، كتاب الهبة ، مسألة ١٢.

(٣) سورة المائدة ، الآية ١.

(٤) ج. وصحة الإقباض اذن.

(٥) في ص ١٧٢.

(٦) النهاية ، كتاب الوقوف والصدقات ، باب النحل والهبة.

١٧٣

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله ، لا بأس ان يعود إليه بأمر شرعي ، امّا بالبيع أو الهبة أو الشراء ، أو غير ذلك وانما هذا خبر واحد أورده إيرادا لا دليل عليه من كتاب ، ولا سنة ولا إجماع ، لأن المتصدق عليه ، قد ملك الصدقة ، وله بيعها على من شاء من الناس ، سواء باعها على المتصدّق بها ، أو على غيره بغير خلاف.

وشيخنا قد رجع عمّا قاله في مسائل خلافه ، في الجزء الأوّل من كتاب الزكاة ، قال مسألة يكره للإنسان أن يشتري ما أخرجه في الصدقة ، وليس بمحظور ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، وقال مالك البيع مفسوخ ، دليلنا قوله تعالى « وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » (١) وهذا بيع ، فمن ادعى فسخه فعليه الدلالة ، هذا أخر كلامه رحمه‌الله في مسألته (٢).

فانظر الى قوله هاهنا ، والى قوله في نهايته ، يشعرك ان تلك اخبار آحاد يوردها إيرادا على ما يجدها بألفاظها ، من غير اعتقاد لصحّتها.

وروي انه إذا أخرج الإنسان شيئا لوجه الله تعالى يتصدق به ، ففاته من يريد إعطائه ، فليتصدق به على غيره ، ولا يرده في ماله (٣).

وذلك على طريق الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب.

ولا بأس ان يفضّل الإنسان بعض ولده على بعض بالهبة والنحلة ، الا انّه يكره ذلك في حال المرض ، إذا كان الواهب معسرا ، فإذا كان موسرا لم يكره ذلك.

إذا وهب الوالد لولده وان علا الوالد ، أو الأم لولدها وان علت ، وقبضوا ان كانوا كبارا ، أو كانوا صغارا ، لم يكن لهما الرجوع فيه ، هكذا ذكره شيخنا في مسائل خلافه (٤).

والذي يقتضيه مذهبنا ، ان هبة الوالد تكون كما قال ، وذكر رحمه‌الله ، وان علا

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٧٥.

(٢) الخلاف ، كتاب الزكاة ، مسألة ١٣٦.

(٣) الوسائل ، الباب ٢٤ ، من أبواب الصدقة ، الحديث ٣.

(٤) الخلاف ، كتاب الهبة ، مسألة ١١ ـ ١٢ ـ ١٣.

١٧٤

الوالد ، فامّا هبة الامّ للولد الكبير البالغ ، فإذا قبض ، فليس لها رجوع ، واما هبتها لولدها الصّغير ، فلا بد من تقبيض وليه ، فإذا قبض الولي الهبة ، امّا أبوه ، أو وصيّة ، فليس لها رجوع ، فإذا لم يقبض فلها الرجوع ، بخلاف الأب ، لأنّ قبض الأب قبضه ، وليس كذلك الام ، فليلحظ ذلك.

وقال شيخنا في مسائل الخلاف مسألة : إذا وهب لأجنبي وقبضه ، أو لذي رحم ، غير الولد ، كان له الرجوع فيه ، ويكره الرجوع في الهبة لذي الرّحم (١).

وهذا الذي اخترناه ونصرناه ، ومذهبه في نهايته بخلاف هذا ، فإنه يجعل ذا الرحم بمنزلة الولد البالغ ، وهو خيرة شيخنا المفيد أيضا في مقنعته (٢) ، وهو قوي يمكن اعتماده ، لقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » فامّا الأجنبي فأخرجناه من عموم الآية بالإجماع.

الهبة عندنا لا تقتضي الثواب الذي هو العوض عنها ، الا ان يشرطه الواهب على الموهوب له.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، مسألة ، الهبات على ثلاثة أضرب ، هبة لمن فوقه ، وهبة لمن دونه ، وهبة لمن هو مثله ، فكلها تقتضي الثواب (٣).

ولم يدل على ذلك بشي‌ء يعتمد ، وامّا دليلنا نحن على انّها لا تقتضي الثواب الذي هو العوض عنها الا بالشرط ، فالأصل براءة الذمة ، فمن شغلها بشي‌ء يحتاج الى دليل ، وإجماع أصحابنا عليه ، فان أحدا منهم لم يذكر ذلك في مسطور.

إذا شرط الثواب ، فان كان مجهولا صح ، لانه وافق ما يقتضيه الإطلاق ، وان كان معلوما كان أيضا صحيحا ، لانه لا مانع منه.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، مسألة ، إذا وهب ثوبا خاما لمن له الرجوع في هبته ، فقصره الموهوب له ، لم يكن للواهب الرجوع فيه ، ثم استدل ، فقال دليلنا إجماع الفرقة واخبارهم ، على انه إذا تصرّف الموهوب له في الهبة ، لم يكن للواهب الرجوع فيها ، وهذا قد تصرّف ، ولأن إثبات الرجوع في هذا الموضع يحتاج

__________________

(١) و (٣) الخلاف ، كتاب الهبة ، مسألة ١١ ـ ١٢ ـ ١٣.

(٢) المقنعة ، باب النحلة والهبة والهبة ص ٦٥٨.

١٧٥

إلى دليل (١).

هذا أخر استدلاله ونعم ما استدلّ به رحمه‌الله.

إذا وهب في مرضه المخوف شيئا واقبضه ، ثمّ مات ، فمن أصحابنا من قال تلزم الهبة في جميع الشي‌ء الموهوب ، سواء كان الثلث أو أكثر من الثلث ، وهو الصّحيح من المذهب الذي تقتضيه الأصول ، ومنهم من قال تلزم في الثلث ، وتبطل فيما زاد عليه.

إذا كان له في ذمّة إنسان مال ، فوهبه له ، كان ذلك إبراء بلفظ الهبة ، وهل من شرط صحّة الإبراء قبول المبرئ أم لا؟ قال قوم من شرط صحته قبوله ، فلا يصحّ حتى يقبل ، وما لم يقبل فالحق ثابت بحاله.

وهو الذي نختاره ، ونقول به ، لأنّ في إبرائه من الحق الذي له عليه منّة عليه ، وغضاضة ، ولا يجبر على قبول المنّة ، وتحمّل الغضاضة فإذا لم نعتبر قبوله ، أجبرناه على ذلك ، كما نقول في هبة العين له « انها لا تصح إلا إذا قبل ».

وقال قوم ان ذلك يصح ، شاء من عليه الحق ، أو أبي لقوله تعالى « فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ » (٢) و « أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ » (٣) فاعتبر مجرد الصدقة ، ولم يعتبر القبول ، وقال تعالى « وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلّا أَنْ يَصَّدَّقُوا » (٤) فأسقط الدّية بمجرد التصدق ، ولم يعتبر القبول ، والتصدق في هذا الموضع الإبراء.

قلنا اما التمسّك بهذا فضعيف عندنا ، لأنه دليل الخطاب ، ودليل الخطاب عند المحصلين من أصحابنا المتكلّمين في أصول الفقه لا يعملون به ، هذا إذا وهبه لمن عليه الحقّ.

فإن وهبه لغيره صحّ ذلك ، الا انه لا يلزم الا بالقبض.

قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، صدقة التطوع عندنا بمنزلة الهبة في جميع الاحكام ، من شرطها الإيجاب والقبول ، ولا تلزم الّا بالقبض ، وكل من له الرجوع

__________________

(١) الخلاف ، كتاب الهبة ، مسألة ١٧ ، في نقل العبارة تقطيع.

(٢) و (٣) سورة البقرة ، الآية ٢٨٠.

(٤) سورة النساء ، الآية ٩٢.

١٧٦

في الهبة ، له الرجوع في الصدقة عليه (١) ، هذا آخر كلامه.

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله ، هذا غير واضح ولا مستقيم ، لأن صدقة التطوع بعد إقباضها المصدق بها عليه ، لا يجوز ، ولا يحلّ العود والرجوع بها على من كانت من الناس بغير خلاف بيننا ، وليس كذلك الهبة على ما حررناه.

إذا اهدى لرجل شيئا على يد رسوله ، فإنه على ملكه بعد ، وان مات المهدى اليه كان له استرجاعه ، وان مات المهدي ، كان لوارثه الخيار ، وإذا وصلت الهدية الى المهدى اليه ، لم يملكها بالوصول ، ولم تلزم ، ويكون ذلك إباحة من المهدي.

فمن أراد الهدية ولزومها وانتقال الملك فيها الى المهدى اليه الغائب ، فليوكل رسوله في عقد الهدية معه ، فإذا مضى وأوجب له ، وقبل المهدى اليه واقبضه إياها ، لزمه العقد ، وملك المهدى اليه الهدية.

ومن وكيد السنة ، وكريم الأخلاق الإهداء ، وقبول الهدية إذا دعي إليها داعي المودّة الدنيويّة والتكرم ، فيحسن قبولها إذا عريت من وجوه القبح ، ويقبح القبول مع ثبوته ، وتخرج بالقبول والإقباض عن ملك المهدي ، وله الرّجوع فيها ما لم يتصرّف فيها من أهديت اليه أو يعوّض عنها ، أو تهلك عينها ، وإمضاؤها أفضل ، ولا يجب المكافاة عليها ، وفعلها أفضل.

وقد جاء في الترغيب لقبولها اخبار ورخص ، وجاء في كراهيّة قبولها وذمّها ، أشياء.

فمن جملة ما في الترغيب فيها ، ما روي عنه عليه‌السلام انه قال تهادوا تحابوا (٢).

وروى ان أم حكيم بنت وادع الخزاعية قالت يا رسول الله أتكره رد الهدية؟ فقال ما أقبح رد الهدية ، ولو اهدي الىّ كراع لقبلته ، ولو دعيت الى ذراع لأجبت (٣).

وروى انّ بعض نسائه عليه‌السلام سألته ، فقالت يا رسول الله ، انّ لي جاريتين

__________________

(١) المبسوط ، ج ٣ ، كتاب الهبات ص ٣١٤.

(٢) الوسائل ، الباب ٨٨ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٥ ـ ١٠ ـ ١٨. سنن البيهقي ، الباب ١ من كتاب الهبات ، الحديث ٦ ، رواه أبو هريرة.

(٣) سنن البيهقي : ج ٦ ، ص ١٦٩ الباب ١ من كتاب الهبات ح ٦ ، ولكن بطريق آخر.

١٧٧

فإلى أيتهما اهدي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أقربهما منك بابا (١).

وروى ان سليمان بن داود عليه‌السلام أمر الريح ، فعدلت عن عشق قبّرة فيه فراخ لها ، فجاءت القبّرة ، فرفرفت على رأسه ، ثم ألقت إليه جرادة ، فقيل لسليمان عليه‌السلام في ذلك ، فقال كل يهدي على قدره (٢).

وروى عنه عليه‌السلام انه قال : نعم الشي‌ء الهدية بين يدي الحاجة (٣).

فأما ما روى في ذمّها وكراهيتها ما روى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انه قال :

هدايا العمّال غلول (٤).

قال : ووصى بعض الولاة أحد كفاته ، فقال إيّاك والهدية ، وليست بحرام عليك ، ولكني أخاف عليك القالة (٥).

وسال رجل مسروقا حاجة ، فقضاها فاهدى له هدية فردّها ، وحلف ان لا يقضي له حاجة ، قال فقال القوم لمسروق ، يا با عايشة ما كنا نرى ان بهذا بأسا ، فقال مسروق هذا السحت.

وأهدي الى عمر بن عبد العزيز تفاح فرده ، فقيل له انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقبل الهدية ، فقال كانت هدية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هدية ، وهي اليوم لنا رشوة (٦).

وكان يقال الهدية تعوّر عين الحكم.

وقيل اهدى رجل الى صديق له هدية ، فجزع لها ، فعاتبه أصحابه ، فقال كيف

__________________

(١) صحيح البخاري ، كتاب الهبة ، باب بمن يبدأ بالهدية ، ج ١١ ، ص ١٢٩ ، المرقم ٢٤٢٣. فيه. عن عائشة : « قلت يا رسول الله انّ الى جارين ، فإلى أيّهما اهدى؟ قال : إلى أقربهما منك بابا ».

(٢) لم نعثر عليه بعينه فيما بأيدينا من المصادر غير أنّه ورد نظيره في البحار ج ١٤ ص ٨٢.

(٣) الوسائل ، الباب ٨٨ من أبواب ما يكتسب به ح ١٢ ـ ١٨ ، وفي المصدر أمام الحاجة.

(٤) مجمع الزوائد ، ج ٤ ، ص ٢٠٠ ، كتاب الاحكام ، باب هدايا الأمراء ، عن أبي حميد الساعدي.

(٥) سير اعلام النبلاء ، ج ٥ ص ١٤٠ رقم ٤٨.

(٦) في صحيح البخاري ، كتاب الهبة ، باب من لم يقبل الهدية لعلّة ( ج ١١ ، ص ١٢٩ ) : قال عمر بن عبد العزيز : كانت الهدية في زمن رسول الله هدية ، واليوم رشوة.

١٧٨

لا أجزع ، والمراد بالهدية أحد حالتين ، اما تطويق منّة ، أو مكافأة على معروف ، وما فيهما الا ما يجزع.

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله ما ورد في الاستحباب وما ورد في الكراهية المرجع فيه الى قرائن الأحوال ، والأغراض والأزمان ، وشاهد الحال ، فيعمل عليه ، ويعتبر به ، وقد عمل بالاخبار جميعها ، فهذا وجه الجمع بينها.

١٧٩
١٨٠