الرسائل التسع

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]

الرسائل التسع

المؤلف:

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٩

لأنّا نقول : ليس كلّهم قال ذلك ، وقول البعض ليس حجّة ، إذا لم يحتجّ بالنقل وعوّل على الاستخراج ، فصار قوله كقول غيره من أرباب الأصول الذاهبين إلى ذلك ، وحينئذ نطالبه بالدليل.

وقد استدلّ على أنّ الألف واللام إذا دخلت على اسم الجنس أفادت الاستغراق : لجواز وصفها بالجمع كما قيل أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض وهي العين العور.

والجواب من وجهين :

أحدهما أنّ ذلك مجاز ، وفهم العموم منه بقرينة الوصف بالجمع ، ويدلّك على المجاز عدم الاطّراد ، فإنّك لا تقول : المرأة الحسان ، ولا الفقيه العلماء ، ولا النحوي الأدباء ، ولو كانت حقيقة فيه لاطّرد ولعذب كما يعذب سماع الفقيه العالم والنحوي الأديب. وتفاوت ذوق الاستعمال دليل على التفاوت في الوضع ، وقد يستعمل الخاصّ في العموم كما يقال : يا غافلا والمنايا تسير إليه ، وكقوله تعالى ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها ) (١٦).

والثاني أن نقول : ما ذكرته يرد بتقدير أن نقول هو حقيقة في الخصوص ، أمّا إذا كنّا نقول هو دالّ على الجنس المحض فلا إشعار له بخصوص ولا عموم ، وإنّما يستفاد كلّ واحد منهما بما ينضم إليه من الضمائم ، فإنّ ما ذكرته غير وارد ، بل يكون وصفه بالجمع دليلا على إرادة الجمع ، ووصفه بالواحد دليلا على إرادة الواحد.

ثمّ نقول : لو كان وصفه بالعموم دليلا على كونه حقيقة في الاستغراق مع ندرته ، لكان وصفه بالمفرد دليلا على كونه حقيقة في الواحد مع اطّراد استعماله

__________________

أقول : تاريخ وفاته : ٣١٦ لا ٣٦١ فراجع.

(١٦) سورة إبراهيم : ٣٤.

١٤١

وكثرته ، لكن ليس حقيقة في أحدهما فيكون حقيقة في القدر المشترك ، وهو الجنسيّة المحضة.

لا يقال : هذا اللفظ وإن لم يكن حقيقة في العموم فهو دالّ على الماهيّة المسمّاة جنسا ، فإذا علّق الحكم بها ثبت حيث ثبتت.

قلنا : هذا حقّ لكن يدلّ على ثبوت ذلك الحكم باعتبار تلك الماهيّة من حيث هي ، ولا يدلّ على ثبوته مع العوارض المشخّصة ، إذ من الجائز أن تكون تلك المشخّصات منافية ، كما أنّك تقول : الفرس خير من الحمار ، فهو حكم على الماهيّة الفرسيّة بأنّها خير من الحمار ، ولا يلزم من ذلك أن تكون تلك الخيريّة ثابتة في كلّ شخص ، حتّى لو وجد فرس ضاوي (١٧) لكان خيرا من حمار تامّ سويّ. إلّا أن يقال : الأصل عدم كون العوارض مانعة من التحاق ذلك الحكم بالجنس ، وحينئذ نقول : هذا تمسّك بالأصل ، لا تمسّك باللفظ ، فإذا وجد المنافي كان مصادما للأصل ، لا مصادما للفظ.

الوجه الثاني من الاعتراض على الاستدلال بالآية : أن نقول : متى تكون الألف واللام دالّة على الاستغراق؟ إذا كان هناك معهود أو إذا لم يكن ، وهاهنا معهود.

وبيانه من وجهين :

أحدهما أن المشركين قالوا ( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ) ثم قال ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) فحينئذ يكون البيع الثاني إشارة إلى الأوّل المعهود لأنّ الثاني وقع جوابا عن الاعتراض.

الثاني جاء في التفسير أنّهم مثّلوا البيع بثمن زائد مؤجّل بالزيادة على الدين الحالّ طلبا للتأخير ، وهو بيع خاصّ فيكون اللام تعريفا له ، وقد

__________________

(١٧) الضاوي : النحيف. القليل الجسم خلقة أو هزالا.

١٤٢

يجري (١٨) في المعهود بالقرينة لفظيّة كانت أو حاليّة أو عقليّة.

ولو قيل : ما المانع أن يكونوا شبّهوا جنس البيع بجنس الربا وإن لم يكن حقا ، فيكون التحليل لجنس البيع لا لبيع خاصّ ، قلنا : الذي يظهر أنّ العاقل لا يشبّه البياض بالسواد وإنّما يشبّهه بما يمكن اشتباهه به.

لا يقال : هذا محتمل فلا يصار إليه ، لأنّا نقول : بل هذا مقطوع به أو مظنون. ثمّ نقول : لو لم يكن مشبّها لما كان الجواب كذلك ، ولكان الجواب ببيان عدم التماثل.

ولو قال : كما يجوز الجواب ببيان عدم التماثل يجوز بمثل الجواب الذي في الآية. قلنا : كان يكون ذلك الجواب أتمّ ، والحكيم لا يعدل عن الأتمّ إلى غيره وهو يصلح جوابا.

هذا كلّه على الأغلب ، فلو قال : العامّ لا يخصّ بالاحتمال (١٩) ، قلنا : هذا ليس من ذاك ، لأنّ العموم لا يتحقّق هنا إلّا بشرط عدم المعهود ، ومع الأمارة الدالّة على المعهود لا يكون عامّا وليس كذلك ما تقرّر عمومه إذا ورد على السبب الخاصّ.

الاعتراض الثالث : أن نمنع تناول الآية لموضع النزاع ، لأنّها دالّة على تحليل البيع الذي هو المصدر ، فلا يلزم تحليل المبيع ، كما أنّ النهي عن البيع لا يلزم منه النهي عن المبيع ، أو نقول : إمّا أن يريد تحليل صيغة البيع أو المبيع ، وأيّهما كان لا يدلّ على موضع النزاع. أمّا إن كان المراد المصدر فحينئذ لا يدلّ

__________________

(١٨) في بعض النسخ : يجترئ. في مجمع البيان ذيل الآية الكريمة : قال ابن عباس : كان الرجل منهم إذا حلّ دينه على غريمه فطالبه به قال المطلوب منه له : زدني في الأجل وأزيدك في المال فيتراضيان عليه ويعملان به فإذا قيل لهم : هذا ربا قالوا : هما سواء يعنون بذلك أن الزيادة في الثمن حال البيع والزيادة فيه بسبب الأجل عند محل الدين سواء.

(١٩) في بعض النسخ : بالإجمال.

١٤٣

على إرادة المبيع. وإن أراد الثاني فيكون حينئذ مشتقًّا والمشتقّ المعرّف لا يعمّ. ثمّ نقول : ولو دلّ على موضع النزاع ، لدلّ على تحليل البيع بما هو بيع ، وليس بحثنا في حلّ البيع من حيث هو ، بل في جواز اشتراط المحاباة في القرض ، وذلك لا تدلّ عليه الآية بالخصوصية.

وأمّا الاستدلال بما يوجد في كتب الأصحاب ، فالجواب عنه من وجوه :

الأوّل : إمّا أن يدّعي أنّ إجماع الخمسة أو الستة من الإماميّة حجّة ، وإمّا أن يدّعي أنّ إجماع العدّة المذكورة دليل على دخول من قوله حجّة فيه. وكيف ما قال طالبناه بالدليل. بل الذي نقوله نحن أنّ فتوى الألف ليس حجّة ما لم يعلم دخول المعصوم فيه ، فكان عليه بيان ذلك.

فإن قال : الجماعة من المتقدّمين يستدلّون بالإجماع ، ولا يذكرون ما شرطته. قلنا : إنّما يستدلّون بما علموا دخول المعصوم فيه ، أو ما يدّعون دخوله فيه ، إمّا لعلم أو شبهة ، ويصرّحون بأنّ كلّ ما لا يعلم دخول المعصوم فيه فليس إجماعا.

ولو قال : لو لم يكتف في الإجماع بفتوى الأصحاب لما وجد الإجماع. قلنا : إن أردت بالأصحاب الكلّ أو من يعلم دخول المعصوم في جملتهم فحقّ ، وإن أردت الاقتصار على فتوى الخمسة والعشرة طالبناك بالدلالة.

ولو قال : اتّفاق الجماعة وعدم المخالف دليل على دخول المعصوم ، منعنا هذه الدعوى حتّى يقيم برهانها.

ثمّ نقول : التعداد دليل على انحصار المعدودين ، وكلّ واحد منهم ليس معصوما فلا يكون قولهم حجّة.

الوجه الثاني : لو سلّمنا الاتّفاق على اللفظ المشار إليه ، لما كان إجماعا على صورة النزاع. فإن قال : اللفظ بإطلاقه يتناول موضع النزاع. قلنا : المذهب لا يصار إليه من إطلاق اللفظ ما لم يكن معلوما من القصد ، لأنّ الإجماع مأخوذ

١٤٤

من قولهم : أجمع على كذا إذا عزم عليه ، فلا يدخل في الإجماع على الحكم إلّا من علم منه القصد إليه كما أنّا لا نعلم مذهب غيرنا من الفقهاء الذين لم ينقل مذاهبهم لدلالة عموم القرآن وإن كانوا تالين له.

لا يقال : العامّ حقيقة في الاستغراق ، وعند إيراده مجرّدا لو لم يعلم القصد لكان المسمع له ملغزا. قلنا : الذي ثبت في الأصول أنّه يجوز إسماع العامّ من لم يسمع الخاصّ ، وإذا جاز أن يسمع غيره عموما ويكون له خصوص لم يسمعه. لم يتيقّن إرادة العموم إلّا بعد العلم بعدم المخصّص ، ولهذا نسمع نحن عمومات القرآن المجيد ، ولا نحكم بإرادة العموم على الجزم إلّا بعد العلم بعدم المخصّص. نعم نحكم بالعموم بعد الاجتهاد وعدم المخصّص بظاهر العموم حكما ظاهرا لا قاطعا.

هذا كلّه مع تقدير عدم الظفر بما يمكن أن يكون مخصّصا ، فكيف وفي الأحاديث والفتاوى ما يدلّ على التخصيص أو يحتمل.

الوجه الثالث : أن نسلّم أنّهم إنّما أجازوا اشتراط القرض في البيع ، لكن لم ينصّوا على أنّ المقرض توصّل بالقرض إلى البيع ، وقد وجد من الأحاديث ما يدلّ على المنع من ذلك ، فيحمل ذلك اللفظ على الجواز ما لم يكن المقرض توصّل به ، توفيقا بين اللفظين ، كما أن كثيرا يطلقون جواز العارية والهبة ولا يلزم من إطلاق ذلك جواز اشتراط أحدهما في عقد القرض.

وأمّا الاستدلال بقوله تعالى ( إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) ، فنقول : هذه ليست من ألفاظ العموم ، فهي إذا تصدق بالصورة الواحدة ثمّ نقول : الجواز مشروط بكونه ليس باطلا فلا يثبت الحلّ ما لم ينتف الباطل ويثبت التراضي. ولو قال : الأصل عدم كونه باطلا. قلنا : والأصل بقاء المال على

١٤٥

مالكه (٢٠) ثمّ نقول : التجارة مشروطة بالتراضي ، ونحن نفرض امتناع المقترض من التسليم وقت المطالبة ، فلا يتحقّق الرضا هناك.

وأمّا الاستدلال بالآثار الدالة على جواز جرّ النفع بالقرض ، ففيها رواية ابن بكر وهو ضعيف (٢١) ، ورواية في طريقها ابن فضّال وهو فطحي (٢٢) ، ورواية موقوفة (٢٣) ، فلم يبق إلّا رواية محمّد بن مسلم (٢٤) ، وهي معارضة بالروايات التي يرويها الخصم (٢٥). وأمّا رواية عبد الملك فإنّها عريّة من بيان المسئول (٢٦) ، فلعلّ المجيب ممّن لا يجب تقليده فهي إذا ساقطة.

وما رواه محمّد بن إسحاق بن عمّار فيحتمل وجوها : أحدها أن يكون التأخير لثمن اللؤلؤة لا الدين ويكون عينة (٢٧) الثاني أن يقال : لو سلمت لما

__________________

(٢٠) كذا.

(٢١) في تنقيح المقال ٢ ـ ١٧١ : اعلم أن الفقهاء رضوان الله عليهم قد اختلفوا في قبول رواية عبد الله بن بكير وعدمه فبنى جمع على عدم القبول منهم المحقق في المعتبر والفاضل المقداد في التنقيح .. فقد قال في مواضع من المعتبر والتنقيح وغيرهما مكررا أن الرواية ضعيفة بعبد الله ابن بكير وهو فطحي.

(٢٢) وهي رواية ابن محبوب عن أيوب بن نوح عن الحسن بن علي بن فضال عن بشير بن سلمة عن أبي عبد الله ( عليه‌السلام ) راجع الوسائل ١٣ ـ ١٠٥.

(٢٣) الموقوف هو المروي عن الصحابة أو أصحاب الأئمة عليهم‌السلام قولا لهم أو فعلا .. كذا قال في وصول الأخبار الى أصول الأخبار ص ١٠٤. ومقصود المحقق من الموقوفة رواية الصّفار عن محمد بن عيسى عن علي بن محمد وقد سمعه من علي قال : كتبت اليه : القرض يجرّ المنفعة هل يجوز ذلك أم لا؟ فكتب يجوز ذلك. راجع الوسائل ١٣ ـ ٧١ و ١٠٧.

(٢٤) وهي الرواية الأولى من الروايات التي استدل بها على الجواز.

(٢٥) وسيأتي ذكرها في أدلّة المانعين.

(٢٦) إذ فيه : سألته عن الرجل ..

(٢٧) قال الفيض في الوافي ج ١٠ ص ٩٦ في باب العينة : بيان : العينة بكسر المهملة والنون بعد الياء المثناة التحتانية. ثم ذكر معناها فراجع.

١٤٦

تناولت موضع النزاع ، لأنّ البحث في من أقرض ليجرّ نفعا لا متطوّعا به لا في من باع ليؤخّر دينا حالّا.

ولو قال : فإنّ محمّد بن إسحاق بن عمّار روى ما يدلّ على صورة النزاع ، وهي قصة سلسل فإنّه أجاز أن يقرضها مائة ألف ويبيعها ثوبا وشيئا معه بتسعة آلاف درهم ويسمّي سنة أو شهرا (٢٨) ، فلنا عن ذلك أجوبة : أحدها أنّ الرواية لم تثبت إذ لم تنقل في غير كتاب محمّد المذكور. والثاني أنّها قضيّة في واقعة مخصوصة فلا عموم لها. الثالث أنّ مثل هذه يجوز أن يؤخذ منها الزيادة لوجوه لا تخفى.

الثالث أن يعارضه بما رواه يعقوب بن شعيب ، وهو قوله : فان كان يفعل ذلك معروفا فلا بأس ، وإن كان إنّما يقرضه من أجل أنّه يصبّ عليه فلا يصلح (٢٩).

وأمّا الاستدلال بكونه شرطا لا يمنع منه الكتاب والسنّة. قلنا : لا نسلّم ، بل الكتاب مانع منه ، والسنّة أيضا ، وسيذكر ذلك.

وأمّا الاستدلال بالأصل فنقول : كما أنّ الأصل الحلّ ، فالأصل حرمة مال الغير ، فبتقدير الامتناع من الإقامة على ذلك الشرط يلزم الحرمة. ولأنّ التمسّك بالأصل مشروط بعدم المعارض الشرعي ، وقد وجد المعارض ، وهو ما يستدلّ به الخصم.

قوله : لهما ولاية الالتزام. قلنا : لا نسلّم ، فإنّ الإنسان لو ألزم نفسه ما لم يدلّ الشرع على لزومه لما لزم.

__________________

(٢٨) الوسائل ١٢ ـ ٣٧٩ ، الكافي ٥ ـ ٢٠٥ مع اختلاف يسير ، وفيه « سلسبيل » مكان « سلسل ». وهو اسم امرأة.

(٢٩) رواه مع صدره في الوسائل ١٣ ـ ١٠٥ والتهذيب ٦ ـ ٢٠٤ مع اختلاف يسير ، وفيه : « يصيب » مكان « يصبّ ».

١٤٧

وأمّا التحريم فيمكن أن يحتجّ له بوجوه :

الأوّل البيع بالمحاباة نفع وهو مشترط في القرض ، فيجب أن يكون حراما. أمّا أنّه نفع ، فلانّ النفع هو ما يؤدّي إلى سرور أو فائدة مقصودة ، ونحن نتكلّم على هذا التقدير. وأمّا أنّها مشترطة في القرض ، فلانّ الشرط هو العلامة من قولهم : أشراط الساعة ، وكلّ علامة بين الإنسان وغيره فهي شرط ، وإذا كان التقدير إنّه يقرضه ليربحه لا تبرّعا من المقرض (٣٠) ، بل لأنّ الربح في مقابل (٣١) القرض فقد صار علامة بينهما على القرض ، فيكون شرطا ولا يظن (٣٢) أنّ الشرط عبارة عن التلفّظ بقولك : بشرط كذا ، فإنّ هذا الظنّ فاسد.

وإنّما قلنا : إنّه إذا كان كذلك كان حراما لقوله ( وَحَرَّمَ الرِّبا ) (٣٣) والربا هو الزيادة التي لا عوض لها ، ومعلوم أنّ اشتراط المحاباة نفع لا عوض له.

يؤيّد ذلك ما رواه محمّد بن قيس ، قال : من أقرض غيره مالا فلا يشترط إلّا مثل وزنه (٣٤) وقوله عليه‌السلام : إذا جرّ القرض نفعا فهو ربا (٣٥).

لا يقال : لفظة الربا يرد عليها ما يرد على لفظة البيع ، لأنّا نجيب من وجهين :

أحدهما أنّا نقول : علّة التحريم في كلّ صورة فرضت من الربا كونها ربا ، فيكون التحريم عامّا ، كما أنّ قوله ( الزّانِيَةُ وَالزّانِي ) (٣٦) يفهم منه العموم من

__________________

(٣٠) في بعض النسخ : المقترض.

(٣١) في بعض النسخ : في المقابلة.

(٣٢) في بعض النسخ : ولا تظنن.

(٣٣) سورة البقرة : ٢٧٥.

(٣٤) الوسائل ١٣ ـ ١٠٦ ، التهذيب ٦ ـ ٢٠٣ مع اختلاف يسير.

(٣٥) رواه أبو الجارود على ما قاله المصنف فيما سيأتي.

(٣٦) سورة النور : ٢.

١٤٨

حيث عرف أنّ العلّة في الحدّ كونه زانيا ، وقد يفهم التعميم بالقرينة كما قرّرناه أوّلا.

الثاني : أن نقول : أجمع المسلمون أنّ كلّ ما صدق عليه أنّه ربا يجب أن يكون حراما ، وقد صدق على هذا كونه ربا ، فيجب أن يكون حراما.

ولا يقال : الربا اسم شرعي فيرجع بيانه إلى الشرع ، وقد روي أنّ الربا بيع الدرهم بدرهمين (٣٧) ، وفي رواية بيع المكيل والموزون متفاضلا (٣٨). لأنّا نمنع ذلك ، بل هو اسم للزيادة من غير عوض لغة وشرعا ، فإنّ الأصل عدم النقل. والتفسير الأوّل متروك إجماعا إذ لا يشترط في التحريم بيع المثل بمثليه. والتفسير الثاني يختصّ البيع ، لأنّ القرض يحرم فيه اشتراط الزيادة وإن لم يكن مكيلا ولا موزونا ، كبيضة ببيضتين ، أو ثوب بثوبين ، وتحريم الزيادة لا يشترط فيه أن يكون من جنس المزيد.

الوجه الثاني : ما رواه يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يسلّم في مبيع عشرين دينارا ويقرض صاحب السلم عشرة دنانير أو عشرين دينارا قال : لا يصحّ إذا كان قرضا يجرّ المنفعة (٣٩).

لا يقال : إذا تبايعا على المنفعة لم تكن المنفعة مجرورة بالقرض. قلنا : البيع مجرور بالقرض الجارّ للمنفعة ، فيكون القرض جارّا لهما ، أحدهما بالأصل ،

__________________

(٣٧) الوسائل ١٢ ـ ٤٣٤ الفقيه ٣ ـ ١٧٦ طبع النجف والتهذيب ٧ ـ ١٨ الاستبصار ٣ ـ ٧٢ : قال عمر بن يزيد : قلت لأبي عبد الله ( عليه‌السلام ) : وما الربا؟ قال دراهم بدراهم مثلين بمثل وحنطة بحنطة مثلين بمثل.

(٣٨) في الوسائل ١٢ ـ ٤٣٤ نقلا عن الكتب الأربعة عن الصادق عليه‌السلام : لا يكون الربا إلا فيما يكال أو يوزن.

(٣٩) الوسائل ١٣ ـ ١٠٥ التهذيب ٦ ـ ٢٠٤ والاستبصار ٣ ـ ١٠ وفيهما : « لا يصلح » مكان « لا يصحّ ».

١٤٩

والآخر بالتبع. على أنّ البيع نفسه يعدّ (٤٠) نفعا وهو مجرور بالقرض.

وروى يعقوب بن شعيب أيضا قال : سألته عن الرجل يأتي حريفه وخليطه فيستقرضه الدنانير فيقرضه ، ولو لا أن يخالطه ويحارفه ويصبّ عليه لم يقرضه. فقال : إن كان معروفا بينهما فلا بأس ، وإن كان إنّما يقرضه من أجل أنّه يصبّ عليه فلا يصحّ (٤١).

الثالث : ما رواه محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام : ولا يأخذ أحدكم ركوب دابّة ولا عارية متاع يشترط من أجل قرض ورقه (٤٢). والمنع عامّ فهو يتناول منع التوصّل بالقرض إلى الفائدة ، سواء كان باشتراط محاباة أو مطلقا ، عملا بإطلاق اللفظ.

الرابع : رواية خالد بن الحجّاج قال : جاء الربا من قبل الشرط ، وإنّما تفسده الشروط (٤٣). لا يقال : هذا ليس بمشروط ، لأنّا نقول : كلّ ما لم يتبرع المقترض فهو مشروط قطعا.

الخامس : رواية الوليد بن صبيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة ، والفضل بينهما هو المنكر (٤٤). لا يقال هذا مختصّ بالبيع ، لأنّا نمنع ذلك ، إذ الفضل هو الزيادة من جنسه أو غير جنسه.

السادس : أن يقال : لو جاز اشتراط بيع المحاباة في القرض لجاز اشتراط الهبة والعارية ، لأنّ كلّ واحد منهما عقد لو انفرد لأفاد الحلّ ومع اشتراطه في

__________________

(٤٠) في بعض النسخ : يعود.

(٤١) الوسائل ١٣ ـ ١٠٥ ـ التهذيب ٦ ـ ٢٠٤ ، وفيها : « يصيب » و « فلا يصلح » مكان « يصبّ » و « فلا يصحّ ».

(٤٢) الوسائل ١٣ ـ ١٠٦ ـ التهذيب ٦ ـ ٢٠٣.

(٤٣) التهذيب ٧ ـ ١١٢ والكافي ٥ ـ ٢٤٤.

(٤٤) الوسائل ١٢ ـ ٤٥٧ ـ التهذيب ٧ ـ ٩٨ وفي الوسائل : هو الربا المنكر هو الربا المنكر.

١٥٠

القرض يحرّم ، فاللفظ الدالّ على تحريمه كما يتناول هذين الموضعين ، يتناول موضع النزاع.

السابع : أن يقال : اختلفت الروايات في المنع والجواز ، فيجب الاحتياط دفعا للضرر المظنون المستفاد من الأحاديث المانعة.

ولنذكر ما يمكن الاعتراض به :

أمّا الاستدلال بالآية فنقول : لا نسلّم أن اشتراط المحاباة في القرض ربا.

قوله : هي زيادة. قلنا : مسلّم لكنّها زيادة غير ماليّة ولا متقوّمة بالمال ، فلا تؤثر في التحريم. ولو قال : هي وإن لم تكن ماليّة لكنّها نفع زائد على القرض. قلنا : مسلّم لكن لا نسلّم أنّ كلّ نفع ربا.

واستدلاله برواية محمّد بن قيس ضعيف من حيث جهالة محمد بن قيس فإنّ من أصحابنا من هو بهذه السمة وهو ضعيف ، ونحن فلا ندري لعلّ المشار إليه هو الضعيف (٤٥).

وما روي من أنّ القرض إذا جرّ نفعا فهو ربا ، هي رواية أبي الجارود (٤٦) ، وهو ضعيف أيضا. ولو ادّعى اشتهارها عارضناه برواية محمّد بن مسلم (٤٧).

وأمّا رواية يعقوب بن شعيب فمعارضة برواية محمّد بن مسلم.

وأمّا الرواية المتضمّنة لقوله : ولا يأخذ أحدكم ركوب دابّة ولا عارية متاع

__________________

(٤٥) راجع جامع الرواة ٢ ـ ١٨٤ وفيه : محمد بن قيس أبو أحمد الأسدي ضعيف روي عن أبي جعفر عليه‌السلام. أقول : ولكن يمكننا أن نميّز الثقة من الضعيف بالراوي عنهم فراجع.

(٤٦) لم أجد هذه الرواية في جوامعنا الروائية ، نعم في شرح الإرشاد للأردبيلي : روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من طريق العامّة انّه قال : كل قرض يجرّ منفعة فهو حرام. راجع مجمع الفائدة باب القرض. وأورده أيضا الشيخ الطوسي في الخلاف ٣ ـ ١٧٤.

(٤٧) التي ذكرت في أدلّة المجوّزين.

١٥١

لأجل قرض يقرضه ، قلنا : روى ذلك محمّد بن قيس وقد بينّا وجه التوقف فيه (٤٨).

وأمّا رواية خالد بن الحجّاج فانّا نجهل حال الراوي ، مع أنّها محتملة (٤٩).

وأمّا رواية الوليد بن صبيح فإنّها صريحة في المعارضة ، ولو احتمل القرض لكان احتمالا ضعيفا.

وأمّا قوله : لو ساغ اشتراط المحاباة لساغ اشتراط الهبة والعارية. قلنا : نسلّم الملازمة ، فما الدليل على بطلان اللازم.

فإن احتجّ بالروايات المانعة من اشتراط ركوب الدابّة وعارية المتاع لأجل القرض ، أجبناه بما أجبنا أوّلا من جهالة الراوي. وإن ادّعى الإجماع منعناه ، وبتقدير تسليمه لا يلزم من تحريمه في موضع الإجماع ، تحريمه في غيره.

وأمّا الاستدلال بالاحتياط فضعيف جدّا ، لأنّه يلزم اعتقاد تحريم ما لا يعلم تحريمه. ولأنّه منع للمسلم من مال يحتمل أن يكون ملكا له. ونقول : الاحتياط يلزم مع عدم الدليل الدالّ على التحليل ، أو مع وجوده؟ والدليل موجود ، وهو أمّا أصل الحلّ ، أو أحد الأدلّة السابقة.

وإذا عرفت هذا ، فالحقّ أنّ أدلّة الفريقين غير ناهضة بالمقصود ، لما يتطرّق إليها من الاحتمال. وينبغي أن يكون البحث حينئذ في الأخبار المتعارضة على صورة النزاع ، وهو ما إذا أقرض الإنسان غيره ما لا ليربح عليه المقترض لا ربحا متطوّعا به. بل ربحا يبني عليه القرض ، سواء كان ما بنى عليه القرض من النفع بواسطة عقد أو مجرّدا عنه ، فإنّه في كلا الحالين نفع مشترط ، وقد عرفت أنّ بإباحة ذلك روايات مطلقة ، لكنّها ضعيفة الدلالة ، عدا رواية يعقوب بن

__________________

(٤٨) وهو كون محمّد بن قيس مشتركا بين الضعيف والثقة.

(٤٩) يعني من حيث المعنى مجملة.

١٥٢

شعيب التي مضمونها : أنّ الرجل يأتي حريفه وخليطه يستقرضه ولو لا أنّه يخالطه ويحارفه ويصبّ عليه لم يقرضه. فقال : إن كان معروفا بينهما فلا بأس ، وإن كان إنّما يقرضه من أجل أنّه يصبّ عليه لم يصلح (٥٠).

وعند هذا يجب أن يلتزم أحد أمرين : إمّا تنزيل رواية محمّد بن مسلم على الجواز ورواية يعقوب بن شعيب على الكراهة ، توفيقا بين الروايتين ، وإمّا تنزيل رواية الجواز على النفع المتبرّع به دون الملتزم به في عقد القرض ، بناء على التفصيل الذي رواه يعقوب بن شعيب ، وهو أقرب إلى الجمع من الأوّل ، لأنّ الأوّل تقييد لإطلاق كلّ واحدة من الروايتين ، والأخير عمل بإحدى الروايتين على وجهها وتفصيلها ، والعمل بالمفصّل أولى (٥١).

__________________

(٥٠) الوسائل ١٣ ـ ١٠٥ التهذيب ٦ ـ ٢٠٤ وفيهما « يصيب » مكان « يصبّ » و « فلا يصلح » مكان « لم يصلح ».

(٥١) في بعض النسخ : بالتفصيل.

١٥٣

المسألة الثامنة في نكاح المتعة

النكاح بالعقود قسمان : دائم ومنقطع. والأوّل لا خلاف فيه ، والثاني فيه الخلاف. والذي عليه فقهاء الإمامية القول بإباحته ، ونحن نذكر ما يحتجّ به كلّ واحد من الفريقين.

أمّا القائلون بالإباحة فلهم مسالك :

الأوّل : قوله تعالى ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) (١). والاستدلال بالآية من وجهين :

أحدهما أنّ المتعة في الشرع اسم للنكاح المنقطع فيجب صرف الآية إليه مراعاة لجانب الحقيقة الشرعيّة. وإنّما إنّ قلنا إنّ المتعة في الشرع كذلك أمّا أوّلا : فلأنّ هذا المعنى هو الذي سبق إلى أذهان أهل الشرع عند قول القائل : تمتّعت بامرأة.

وأمّا ثانيا : فبالاستعمال : لأنّ المانع روى عن عليّ عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « أنّه عن المتعة » (٢). وعن [ ربيع بن ] سبرة عن أبيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « استمتعوا من هذه النساء » (٣). وعن عمر أنّه قال : « أذن لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المتعة ثلاثا » (٤).

__________________

(١) سورة النساء : ٢٤.

(٢) حكاه في نيل الأوطار ٦ ـ ٢٦٩ عن صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد.

(٣) سنن البيهقي ٧ ـ ٢٠٣.

(٤) لم أجده عاجلا عن عمر ، ولكن رواه البيهقي في السنن ٧ ـ ٢٠٤ عن سلمة بن الأكوع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

١٥٤

وعرف المراد من إطلاق اللفظ ، وهو دلالة الحقيقة.

الوجه الثاني في الاستدلال بالآية أن نقول : لو لم يرد المتعة لزم إمّا إرادة الحقيقة اللغويّة وإمّا العقد الدائم. أمّا انحصار اللزوم في القسمين : أمّا أوّلا فبالثاني (٥) السالم عن المعارض ، وأمّا ثانيا فباتّفاق الخصمين ، ولأنّه لو لم يردهما ولا أحدهما على تقدير عدم إرادة المتعة لزم إمّا خلوّ اللفظ من فائدة أو إرادة ما لا يجوز إرادته من اللفظ وكلاهما محالان.

وأمّا بطلان كلّ واحد من القسمين فلأنّ إرادة الحقيقة اللغويّة يلزم منه تأخير إيتاء المهر إلى وقت الاستمتاع ، وهو باطل بالاتفاق. وإرادة العقد الدائم حمل اللفظ على مجازه ، إذ لا يسمّى العقد الدائم نفسه (٦) متعة ، والأصل عدم المجاز. ويؤيّد إرادة المتعة قراءة ابن عبّاس وأبيّ بن كعب وسعيد بن جبير « ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ) ـ إلى أجل مسمّى ـ » ) وهو صريح في المتعة.

فإن قيل لا نسلّم أنّ المتعة في الشرع اسم للعقد المنقطع. وظاهر أنّه ليس كذلك ، فإنّه في اللغة الانتفاع ، والأصل عدم النقل ، وإذا ثبت ذلك فالعقد الدائم يحصل به الانتفاع لأنّه مراد للعاقد وكلّ محصّل لمراده يحصل له بحصوله التذاذ وكلّ لذّة نفع ، وحينئذ يصحّ إطلاق المتعة على الدائم بهذا الاعتبار. وبالجملة نمنع اختصاص هذا اللفظ بالعقد المنقطع ، فلا بدّ للخصم من دليل. سلّمنا أنّ المتعة اسم للمنقطع شرعا لكن لا نسلّم أنّ المراد بالاستمتاع المتعة ، فمن أين أنّ الشرع وضع الاستمتاع لما وضع له المتعة.

قوله في الوجه الثاني : لو لم يرد العقد المسمّى متعة لزم إمّا ارادة الموضوع

__________________

(٥) معنى العبارة غير ظاهر ، ونحتمل كون كلمة « فبالثاني » أو « فالباقي » على ما في بعض النسخ تصحيفا.

(٦) كذا.

(٧) راجع مجمع البيان للطبرسي ره ذيل الآية الكريمة.

١٥٥

اللغوي أو العقد الدائم.

قلنا : لا نسلّم الحصر ، فلم لا يجوز إرادة الأمرين أو غيرهما أو أحدهما مع ثالث إذ الاحتمالات متعدّدة سلّمنا الحصر فلم لا يجوز ارادة الموضوع اللغوي.

قوله : يلزم توقّف إيتاء المهر على الانتفاع ـ وهو منفيّ بالإجماع ـ قلنا : الإجماع على أنّ المهر لا يستقرّ إلّا بالدخول فيكون تعليقه على الالتذاذ إحالة على محلّ الاستقرار ، أو نقول لم لا يجوز أن يضمر إرادة الاستمتاع كقوله : ( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ) (٨) وكقوله ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ) (٩) سلّمنا أنّه لا يريد الموضوع اللغوي فلم لا يراد مجازه؟ فإن قال : كان يلزم عدم فهم المراد على تقدير عدم القرينة إذ لو فهم المراد من دون القرينة لكان حقيقة لا مجازا. قلنا : إنّما يفهم بالقرينة ، والقرينة موجودة ، لأنّه إذا ثبت أنّ الحقيقة غير مرادة وجب حمل اللفظ على المجاز صونا له عن الإلغاء ، ومن جملة مجازاته إرادة العقد الدائم لأنّه سبب لحلّ الوطء الذي يقع به الاستمتاع حقيقة ، وقد يطلق اسم الشي‌ء على سببه. سلّمنا أنّه لا يريد الحقيقة اللغويّة ولا مجازها فلم لا يجوز إرادة العقد الدائم.

قوله : لا يفهم ذلك من إطلاق اللفظ إذ لا يقال تمتّعت بفلانة وهو يريد إيقاع العقد الدائم من غير دخول ولا انتفاع ، قلنا : نمنع ذلك بل كما سمّي المنقطع متعة لما يحصل به من الالتذاذ فكذا الدائم.

وما ذكره من قراءة جماعة من القرّاء ، قلنا : كما قرأه تلك الجماعة فقد أنكره الأكثرون ، ولو كان ما ذكروه حقّا لقرأه الفضلاء والمختبرون من القرّاء ،

__________________

(٨) سورة النحل : ٩٨.

(٩) سورة المائدة : ٦.

١٥٦

وإطراح الناس له دليل على شذوذه. ثمّ نقول : رواية المذكورين لا يثبت بمثلها القرآن ، إذ لا يثبت إلّا تواترا فلا يثبت به حكم. ثمّ نقول : تنزيله على العقد الدائم أولى لأنّ صدر الآية دالّ على ابتغاء الإحصان والمتعة لا تحصن.

أجابوا عن ذلك بأن قالوا : قوله : لا نسلّم أنّ المتعة في الشرع اسم للعقد المؤجّل قلنا : الدليل على ذلك النقل والاستعمال. أمّا النقل فظاهر ، فإنّ الفريقين يذكرون تحريم المتعة أو تحليلها ، ويقتصرون على اللفظة ، بناء على فهم المراد منها مجردة ولا معنى للحقيقة إلّا ذلك. وأمّا الاستعمال فلانّ هذا المعنى موجود في موارد استعمال لفظة المتعة ، فيكون حقيقة دفعا للاشتراك والمجاز.

قوله : العقد الدائم يحصل به الانتفاع فيسمّى متعة بذلك الاعتبار. قلنا : قد بينّا أنّ هذه اللفظة عند الإطلاق يفهم منها المتعة ، وهو النكاح المنقطع. فلو كانت دالّة على القدر المشترك بينهما لم يفهم أحدهما على الخصوصية إلّا بقرينة ، وقد بينّا انتفاء ذلك. ثمّ نقول : لو صحّ إرادة الدائم لأنّه يؤول إلى الانتفاع ، لصحّ إرادة المنقطع أيضا بهذا الاعتبار ، لأنّ الكلّي مقوّم للجزئي ، فهو يوجد معه ، فإذا وقع اسم الكلّي على أحد نوعيه بإطلاقه لزم وقوعه على الآخر ، وإلّا لزم الترجيح من غير مرجّح.

قوله : سلّمنا أنّ المتعة اسم للنكاح المؤجّل ، لكن لا نسلّم أنّ الاستمتاع كذلك ، قلنا : الدليل عليه أنّ الاستمتاع استفعال من استمتعت المرادف لتمتّعت ، والاسم المتعة ، ثبت هذا بالنقل ، فإذا ثبت أنّ المتعة اسم للمؤجّل كان الاستمتاع كذلك.

قوله : لا نسلّم الحصر. قلنا : قد بينّا ذلك.

قوله : لم لا يجوز إرادة الموضوع اللغوي. قلنا : كان (١٠) يلزم تأخير إيتاء

__________________

(١٠) قد كان كذا في بعض النسخ.

١٥٧

المهر وهو منفيّ اتّفاقا.

قوله : لم لا يكون ذكر الاستمتاع لبيان استقرار المهر. قلنا : لم تتعرّض الآية للاستقرار بل لوجوب الإيتاء.

قوله : ما المانع أن يريد به العقد الدائم ويكون مجازا لغويّا لكونه سبب الاستباحة المقارنة للذة. قلنا : المجاز على خلاف الأصل.

قوله : القرينة موجودة وهي عدم إرادة الحقيقة. قلنا : قد بينّا أنّ القرينة المذكورة ساقطة حيث بينّا أنّه ينزل على الحقيقة الشرعيّة فلم يكن ضرورة إلى المجاز اللغوي ، وإذا دار اللفظ بين حقيقتين ودلّ الدليل على انتفاء إحديهما تعيّن للأخرى دون المجاز.

قوله : كما قرأ ذلك جماعة فقد أنكره آخرون. قلنا : رواية المثبت أرجح ، إذ قد يخفى على إنسان ما يظهر لغيره ، ولأنّه صيانة للمسلم الظاهر العدالة عن التكذيب.

قوله : لو ثبت لكان قرآنا ، والقرآن لا يثبت بالآحاد. قلنا : لا يثبت به قرآن ، فما المانع أن يثبت به حكم ، ونحن نقنع بخبر الواحد في هذه الصورة ، لأنّ الخصم يحتجّ بأضعف من رواية هؤلاء ، بل منهم من ينسخ به الحكم الثابت.

قوله : تنزيله على الدائم أولى. قلنا : لا نسلّم.

قوله : صدر الآية تضمّن ابتغاء الإحصان ، وهو لا يتحقّق في المتعة. قلنا : الجواب من وجهين : أحدهما : منع هذه الدعوى ، فانّ بعض الأصحاب يرى أنّها تحصن. قلنا : التزام ذلك على هذا التقدير.

والوجه الثاني : أن نقول : لا نسلّم أنّ المراد من الإحصان هاهنا ما يثبت معه الرجم ، بل المراد التعفّف ، والمحصن العفيف ، يشهد

١٥٨

لذلك قوله ( غَيْرَ مُسافِحِينَ ) (١١) أي غير زانين. ولو لم يكن هذا التأويل متحقّقا كان محتملا ، فلا يبقى فيه حجّة للخصم.

المسلك الثاني لهم : الأحاديث المنقولة عن النبيّ والأئمّة من أهل البيت عليهم‌السلام :

من ذلك : ما رواه البلخي عن وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس ابن أبي حازم عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « أنّه رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل » (١٢).

وما رواه أبو بصير عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : سألته عن المتعة. قال : نزلت في القرآن ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) (١٣).

وعن ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام قال : سمعته يقول : كان علي عليه‌السلام يقول : لو لا ما سبقني إليه بني الخطاب ما زنى إلّا شقي (١٤).

وعن زرارة قال : جاء عبد الله بن عمير الليثي إلى أبي جعفر عليه‌السلام فقال : ما تقول في متعة النساء؟ فقال : أحلّها الله في كتابه وعلى لسان نبيّه فهي حلال إلى يوم القيامة (١٥).

__________________

(١١) سورة النساء : ٢٤.

(١٢) سنن البيهقي ٧ ـ ٢٠٠ مع تفاوت يسير في السند.

(١٣) الوسائل ١٤ ـ ٤٣٦ ـ الكافي ٥ ـ ٤٤٨ ـ والتهذيب ٧ ـ ٢٥٠ الإستبصار ٣ ـ ١٤١.

(١٤) الوسائل ١٤ ـ ٤٣٦ ـ الكافي ٥ ـ ٤٤٨ ـ والتهذيب ٧ ـ ٢٥٠ ـ الاستبصار ٣ ـ ١٤١ وفي الكافي وعن ابن مسكان عن عبد الله بن سليمان قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول ..

(١٥) الوسائل ١٤ ـ ٤٣٧ ـ الكافي ٥ ـ ٤٤٩ ـ التهذيب ٧ ـ ٢٥٠ وفي الوسائل : « سنّة » مكان « لسان ».

١٥٩

وعن أبي مريم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : المتعة نزل بها القرآن وجرت بها السنّة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١٦).

وعن ابن محبوب عن علي السائي قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام :

إنّي كنت أتزوّج المتعة فكرهتها وتشأّمت بها فأعطيت الله عهدا بين الركن والمقام فجعلت عليّ صياما ونذرا أن لا أتزوجها فقال : إنّك عاهدت الله أن لا تطيعه والله لئن لم تطعه لتعصينّه (١٧).

وعن أبي سارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن المتعة قال لي : حلال ولا تتزوج إلّا عفيفة (١٨).

وأحاديث أهل البيت في ذلك كثيرة جدّا (١٩) ولا يظنّ بمثل أبي جعفر الباقر وجعفر بن محمّد الصادق وموسى الكاظم عليهم‌السلام أن يذهبوا إلى ما يعلم من مذهب علي عليه‌السلام خلافه ، بل لا يظنّ ذلك بأضعف أتباعهم. ووراء هذه الأحاديث من الأحاديث الصريحة في أحكام المتعة وفروعها عن أهل البيت عليهم‌السلام ما يفيد اليقين بذهابهم إلى ذلك.

المسلك الثالث لهم : قالوا : ثبت بالنقل المتواتر : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أباح النكاح المذكور ولم يثبت النسخ فوجب الحكم باستمرار الإباحة عملا بالاستصحاب الواقع.

فان قيل : لا نسلّم أنّه عليه‌السلام أذن فيها ، قوله : ثبت ذلك بالنقل المتواتر. قلنا : نمنع ذلك بل لم ينقله إلّا من نقل نسخه ، فإن كان قوله حجّة في

__________________

(١٦) الوسائل ١٤ ـ ٤٣٧ ـ الكافي ٥ ـ ٤٤٩ ـ التهذيب ٧ ـ ٢٥١ ـ الإستبصار ٣ ـ ١٤٢.

(١٧) الوسائل ١٤ ـ ٤٤٥ ـ الكافي ٥ ـ ٤٥٠ ـ التهذيب ٧ ـ ٢٥١ ـ الإستبصار ٣ ـ ١٤٢.

(١٨) الوسائل ١٤ ـ ٤٥١ ـ الكافي ٥ ـ ٤٥٣ التهذيب ٧ ـ ٢٥٢ ـ الاستبصار ٣ ـ ١٤٢.

(١٩) راجع الوسائل ج ١٤ ومستدرك الوسائل ج ٢ أبواب المتعة.

١٦٠