الرسائل التسع

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]

الرسائل التسع

المؤلف:

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٩

المسألة الخامسة في المواقيت

وقت الظهر ممتدّ للمختار من زوال الشمس إلى قبل غروبها بمقدار أداء العصر. والحجة أن نقول : لو لم يمتد وقتها للمختار لزم إمّا عدم تحقّق الوجوب أو عدم الإجزاء ، والقسمان باطلان. بيان الملازمة هو أنّ الوجوب إمّا أن يكون متحقّقا بعد مضيّ أربعة أقدام أو لا ، فإن لم يكن ، لزم القسم الأول ، وإن كان ، فإمّا أن تبرأ مع الإتيان به العهدة أو لا تبرأ ، فإن برأت لزم امتداد الوقت ، إذ لا نعني به إلّا مجموع الأمرين ، وإن لم تبرأ لزم عدم الإجزاء ، لأنّا لا نعني بعدم الإجزاء إلّا ذاك ، فثبت أنّه لو لم يمتدّ لزم إمّا عدم تحقّق الوجوب أو عدم الإجزاء ، والقسمان باطلان.

أمّا الأول فبقوله تعالى ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (١). والغسق : الظلمة بالنقل عن أئمة اللغة أو انتصاف الليل بما روي في بعض الأحاديث (٢). والمنبسط من الدلوك إلى الغسق إمّا الفعل أو الوجوب ، والأوّل باطل ، فتعيّن الثاني.

وأمّا بطلان الثاني فلأنّ تحقّق الوجوب مع عدم الإجزاء ممّا لا يجتمعان لما

__________________

(١) سورة الإسراء : ٧٨.

(٢) في الفقيه : روى بكر بن محمّد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام انّه سأله عن وقت المغرب فقال :

انّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه لإبراهيم عليه‌السلام ( فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ) ( سورة الانعام : ٧٦ ) فهذا أوّل الوقت ، وآخر ذلك غيبوبة الشفق فأوّل وقت العشاء الآخرة ذهاب الحمرة وآخر وقتها إلى غسق الليل يعني نصف الليل. الفقيه ١ ـ ٢١٩ ، التهذيب ٢ ـ ٨٨ والاستبصار ١ ـ ٢٦٤ والوسائل ٣ ـ ١٢٧ وفي الثلاثة : « أوّل » بدون الفاء وليست في الاستبصار كلمة « يعني ».

أقول : ويظهر من الوسائل ٣ ـ ١٢٧ وتعليق الفقيه ١ ـ ٢١٩ أن كلمة « يعني » لم تكن في نسختهما من التهذيب والاستبصار فراجع.

١٠١

عرف.

فإن قيل : ما الذي تريد بامتداد الوقت؟ فإن قلت : نعني به أنّ ما بين الغايتين من الأوقات متساو في جواز الإتيان بالصلاة للمختار. قلت : فحينئذ لا نسلّم الحصر على هذا التقدير ، وهذا لأنّ عدم الامتداد على هذا التفسير قد يكون مع براءة الذمّة وامتداد الوجوب كما نقول في الحجّ وسائر العبادات التي لم يضرب لها وقت. سلّمنا الحصر ، لكن لا نسلّم بطلان القسمين. والاستدلال بالآية غير لازم لأنّ الدلوك مشترك بين الغروب والزوال ، وكذلك الغسق مشترك بين الغروب وانتصاف الليل وإذا كان محتملا وجب التوقّف بما عرف. سلّمنا أنّ المراد بالدلوك الزوال ، لكن لا نسلّم أنّ الغاية لصلاة واحدة ، ولم لا يكون لصلاتين؟ وظاهر أنّه كذلك وإلّا لم يبق للعصر وقت يختصّ به ، وعلى هذا لا يكون وجوب الصلاة الأولى هو القدر الذي له الغاية والبداية. يحقّقه انعقاد الإجماع على عدم امتداد وقت الظهر أداء إلى الغروب. سلّمنا أنّ وجوب الأوّل ممتدّ ولكن لا نسلّم بطلان عدم الإجزاء مع تحقّق الوجوب ، فإنّ الصلاة مع الشكّ في الحدث واجبة مع أنّ العهدة لا تخلص بها مع الذكر ، والحجّ الذي حصل إفساده بالوطء يجب المضيّ فيه مع عدم الإجزاء. سلّمنا أنّ ما ذكرته يدلّ على صورة النزاع ، لكن معنا ما يعارضه ، وبيانه بالمنقول والمعقول.

أمّا المنقول فوجوه : الأول : رواية الفضل بن يونس عن أبي الحسن عليه‌السلام في الحائض إذا رأت الطهر بعد ما يمضي من زوال الشمس أربعة أقدام. قال : لا تصلّي إلّا العصر ، لأنّ وقت الظهر دخل وهي في الدم ، وخرج عنها الوقت وهي في الدم (٣).

__________________

(٣) الكافي ٣ ـ ١٠٢ والتهذيب ١ ـ ٣٨٩ والاستبصار ١ ـ ١٤٢ والوسائل ٢ ـ ٥٩٨ وللخبر صدر وذيل فراجع.

١٠٢

الثاني : ما رواه الفضيل وزرارة وبكير ومحمّد بن مسلم قالوا : قال أبو جعفر عليه‌السلام وأبو عبد الله عليه‌السلام : وقت الظهر بعد الزوال قدمان (٤). وما روي من طرق أنّ جبرئيل عليه‌السلام أمره أن يصلّي الظهر حين زالت الشمس ، وفي اليوم الثاني حين زاد الظلّ قامة ، ثمّ قال : ما بينهما وقت (٥).

الثالث : ما رواه الكرخي عن أبي الحسن عليه‌السلام في الظهر متى يخرج وقتها؟ قال : من بعد ما يمضي من زوالها أربعة أقدام (٦).

وأمّا المعقول فنقول : لو امتدّ الوقت للمختار لكان إمّا مع جواز التأخير أو مع تحقّق الاجزاء ، والقسمان باطلان ، أمّا الملازمة فظاهرة ، وأمّا بطلان الأوّل فبوجوه : الأوّل قوله تعالى ( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ) قال : ما تركوها جملة ولكن أخّروها عن أوّل أوقاتها (٧). الثاني : رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام : وليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتا إلّا في علّة. (٨)

__________________

(٤) الفقيه ١ ـ ٢١٦ والتهذيب ٢ ـ ٢٥٥ والاستبصار ١ ـ ٢٤٨ وتمام الخبر كما في التهذيب والاستبصار : ووقت العصر بعد ذلك قدمان وهذا أوّل وقت إلى أن يمضي أربعة أقدام للعصر.

الوسائل ٣ ـ ١٠٣.

(٥) روى حديث جبرئيل عليه‌السلام في الوسائل ١ ـ ١٠٠ عن الكافي وفي ١ ـ ١١٥ عن التهذيب ٢ ـ ٢٥٣ والاستبصار ١ ـ ٢٥٧ وله خمسة طرق.

(٦) التهذيب ٢ ـ ٢٦ والاستبصار ١ ـ ٢٥٨ والوسائل ٣ ـ ١٠٩ والحديث طويل.

(٧) لم أجده بلفظه وفي تفسير علي بن إبراهيم القمّي ص ٧٤٠ : في قول الله تعالى ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ) قال : تأخير الصلاة عن أوّل وقتها لغير عذر ، ومثله روايات أخر أورده في الوسائل باب وجوب المحافظة على الصلوات في أوقاتها. وراجع جامع البيان للطبري ٣٠ ـ ٢٠٠ ففيها روايات كثيرة بهذا المضمون.

(٨) في الكافي ٣ ـ ٢٧٤ والتهذيب ١ ـ ٤٠ والاستبصار ١ ـ ٢٤٤ والوسائل ٣ ـ ٨٩ علي بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : لكل صلاة وقتان وأوّل الوقت أفضله ، وليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتا إلّا في عذر من غير علّة.

١٠٣

الثالث : رواية الكرخي عن أبي الحسن عليه‌السلام قلت : فلو أنّ رجلا صلّى الظهر من بعد ما يمضي أربعة أقدام لكان عندك غير مؤدّ لها؟ فقال : إن كان تعمّد ذلك ليخالف السنّة والوقت لم تقبل منه (٩).

وأمّا انتفاء الإجزاء ، فلأنّ عدم امتداد الوقت مع تحقّق الإجزاء ممّا لا يجتمعان.

والجواب : قوله : ما تريد بامتداد الوقت؟. قلنا : نعني به أنّ ما بين البداية والنهاية من الأوقات متساو في براءة العهدة بإيقاع الفعل بنيّة الأداء ، وما فسّره من العناية لا نرتضيه ، لأنّا لا نتعرّض للفورية كما هو مذهب المفيد ، وعند ظهور هذه العناية يتّضح بيان الحصر.

قوله : الدلوك هو الزوال والغروب أيضا. قلنا : الظاهر أنّ المراد به ها هنا الزوال بالنقل عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وروى ذلك عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١٠) ، ويدلّ عليه من حيث النظر أن نقول : لمّا كان الدلوك هو الغروب والزوال وجب جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو الزوال المطلق ، وذلك حاصل في الزوال عن وسط السماء.

قوله : الغسق هو انتصاف الليل كما أنّه الغروب. قلنا : حقّ لكن أيّ الأمرين كان مرادا حصل المبتني وهو امتداد وجوب الصلاة من الزوال إلى الليل ، وذلك كاف في تحقّق وجوبها قبل الغروب.

قوله : لا نسلّم أنّ الغاية واحدة. قلنا : الظاهر أنّه كذلك.

قوله : الإجماع منعقد على عدم امتداد وجود الظهر أداء إلى الغروب.

__________________

(٩) التهذيب ٢ ـ ٢٦ والاستبصار ١ ـ ٢٥٨ وفيهما وفي الوسائل ٣ ـ ١٠٩ : « أكان » بدل « لكان ».

(١٠) رواه الشيخ في التهذيب ١ ـ ٢٥ والاستبصار ١ ـ ٢٦١ وراجع الوسائل ٣ ـ ١١٥.

١٠٤

قلنا : فلنخرج القدر المجمع عليه ، وهو ما بيّنه داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام من اشتراك الوقتين إلى أن يبقى لغروب الشمس مقدار أداء العصر (١١).

فان قلت : إن ساغ التأويل فلنا أن نحمل الغاية على صلاة العصر. قلت : ما ذكرته أرجح ، لأن ظاهر الآية قاض بأنّ الصلاة التي وجبت عند الأداء هي التي ضربت لها الغاية ، فإذا خرج منها قدر متّفق عليه كان أقرب إلى ظاهرها.

قوله : لا نسلّم بطلان عدم الإجزاء مع تحقّق الوجوب. قلنا : قد بيّنا في أصول الفقه أنّ الإتيان بالواجب يقتضي الإجزاء ونزيده بيانا أنّ العهدة لو كانت مشتغلة بعد الإتيان بالواجب لكان إمّا بذلك الواجب أو بغيره ، ويلزم من الأوّل تحصيل الحاصل ، ومن الثاني عدم الإتيان بالواجب. وأمّا المثال فغير ما نحن فيه ، لأنّا لا نعني بامتداد الوقت سقوط العقاب بالتفريط السابق ، بل الخروج عن العهدة بإيقاع الواجب ، وفي مسألة الحجّ كذلك ، فإنّه خرج عن عهدة الحجّ بإيقاعه في العام الثّاني. وهذا هو الجواب عمّا فرض ويفرض من العبادات المضيّقة التي لم يضرب لها وقت.

والجواب : عن المعارضة ، أمّا خبر ابن يونس ، فالجواب عنه من وجوه : الأوّل في سنده ، فانّ ابن يونس ضعيف عند أهل الحديث. ذكر الطوسي رحمه‌الله ـ وهو الثقة في النقل ـ أنّه واقفي (١٢). الثاني : أنّه تضمّن ما أجمع الفقهاء على

__________________

(١١) الوسائل ٣ ـ ٩٢ نقلا عن التهذيب ٢ ـ ٢٥ والاستبصار ١ ـ ٢٦١ وأورد المصنف معنى الحديث فراجع.

(١٢) قال الشيخ الطوسي في رجاله في أصحاب الإمام الكاظم عليه‌السلام : الفضل بن يونس الكاتب أصله كوفي تحول إلى بغداد مولى واقفي. مجمع الرجال للقهپائي ٥ ـ ٣٤ والنجاشي وثقة في رجاله ص ٣٠٩.

١٠٥

خلافه ، فانّ الحيض عذر يمتدّ معه الوقت كما في حقّ النائم والمغمى عليه. الثالث : أنّه معارض بروايات ، منها رواية أبي الصباح عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الحائض إن طهرت قبل مغيب الشمس صلّت الظهر والعصر (١٣).

وعن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله (١٤). وعن داود عن أبي جعفر عليه‌السلام مثله لفظا بلفظ (١٥). ولا يمكن أن يحمل قوله قبل أن تغيب الشمس على ما قبل الأربعة الأقدام ، ولا على الاستحباب ، لأنّ ذلك إنّما يكون مع تساوي الرواة ، وأمّا مع تفاوتهم في الجرح والتعديل فلا ، لكن الأخبار التي رويناها مسندة عن الثقات الذين عددناهم.

وأمّا الأخبار التي رواها عن أبي جعفر عليه‌السلام وأبي عبد الله عليه‌السلام ودلالتها على امتداد الوقت إلى القامة والقامتين وإلى ثلثي القامة ، فمعارض بروايات : منها خبر زرارة قال : إذا صار مثلك فصلّ الظهر (١٦). وظلّ مثله سبعة أقدام. ورواية عبيد بن زرارة لا تفوت صلاة النهار حتّى تغيب

__________________

(١٣) على بن الحسن بن فضّال ، عن محمّد بن عبد الله بن زرارة ، عن محمّد بن الفضيل ، عن أبي الصباح الكناني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا طهرت المرأة قبل طلوع الفجر صلّت المغرب والعشاء ، وإن طهرت قبل أن تغيب الشمس صلّت الظهر والعصر. التهذيب ١ ـ ٣٩٠ والاستبصار ١ ـ ١٤٣ والوسائل ٢ ـ ٥٩٩.

(١٤) على بن الحسن بن فضّال ، عن عبد الرحمن بن أبي نجران ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : إذا طهرت المرأة قبل غروب الشمس فلتصلّ الظهر والعصر ، وان طهرت من آخر الليل فلتصلّ المغرب والعشاء. التهذيب ١ ـ ٣٩٠ والاستبصار ١ ـ ١٤٣.

(١٥) على بن الحسن بن فضّال ، عن أحمد بن الحسن ، عن أبيه ، عن ثعلبة عن معمر بن يحيى ، عن داود الزجاجي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : إذا كانت المرأة حائضا فطهرت قبل غروب الشمس صلّت الظهر والعصر ، وإن طهرت من آخر الليل صلّت المغرب والعشاء الآخرة.

الاستبصار ١ ـ ١٤٣ والوسائل ٢ ـ ٦٠٠ والتهذيب ١ ـ ٣٩٠ وملاذ الاخبار ٢ ـ ١٣٢ وفي الأخيرين : « في الليل » مكان « من آخر الليل ».

(١٦) التهذيب ٢ ـ ٢٢ والاستبصار ١ ـ ٢٤٨.

١٠٦

الشمس (١٧). ووجه الجمع أن نقول : لك تأخير الفريضة وتقديم النافلة إلى هذه الغاية وهي القدمان والذراع وثلثا القامة فعند ذلك يتعيّن وقت الفريضة. يدلّ على هذا التأويل ما رواه ابن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : أتدري لم جعل الذراع والذراعان؟ قلت : لم؟ قال : لمكان الفريضة. لك أن تتنفل من زوال الشمس إلى أن يبلغ الفي‌ء ذراعا ، فإذا بلغ ذراعا بدأت بالفريضة وتركت النافلة. قال ابن مسكان : أخبرني بالذراع والذراعين من لا أحصيهم (١٨). ولو كان الذراع آخر وقتها لما جعل البدأة بالفريضة بعد استكمال الوقت ذراعا.

و. أمّا خبر إبراهيم الكرخي فوجه ضعفه تضمّنه ما أجمعنا على خلافه ، وهو أنّ أوّل وقت العصر بعد مضيّ أربعة أقدام ، وقد أجمعنا على وقت العصر عند الفراغ من فريضة الظهر ، وقد جاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام : إذا زالت الشمس دخل وقت الصلاتين (١٩). وعن العبد الصالح مثله (٢٠) من طرق. ويعارضه أيضا ما تلوتم وتلوناه من الأخبار الكثيرة عن الثقات أنّ وقت العصر بعد مضيّ قامة من الفي‌ء والقامة ذراع ، والذراع قدمان ، بدليل الأحاديث المبيّنة لهذا التفسير (٢١). وبتقدير أن يكون الحديث متضمّنا ما أجمعت الطائفة على خلافه يكون غير وارد عن الأئمّة عليهم‌السلام. وإلّا لكانت فتياهم على خلاف الإجماع.

__________________

(١٧) التهذيب ٢ ـ ٢٥٦ والاستبصار ١ ـ ٢٦٠.

(١٨) الكافي ٣ ـ ٢٨٨ والتهذيب ٢ ـ ٢٠ والاستبصار ١ ـ ٢٥٠ والوسائل ٣ ـ ١٠٦. وفي التهذيب والاستبصار بعد تمام الخبر : قال ابن مسكان : وحدّثني بالذراع والذراعين سليمان بن خالد ، وأبو بصير المرادي ، وحسين صاحب القلانس ، وابن أبي يعفور ، ومن لا أحصيه منهم.

(١٩) التهذيب ٢ ـ ٢٤٤ والاستبصار ١ ـ ٢٤٦ والوسائل ٣ ـ ٩٣.

(٢٠) التهذيب ٢ ـ ٢٤٤ والاستبصار ١ ـ ٢٤٦ والوسائل ٣ ـ ٩٣ باب أنّه إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر والعصر ، وفيه روايات كثيرة عن الباقر والصادق والكاظم عليهم‌السلام.

(٢١) راجع الوسائل ٣ ـ ١٠٢ باب وقت الفضيلة للظهر والعصر ونافلتهما.

١٠٧

وأيضا فهذا الحديث معارض بأحاديث كثيرة : منها رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر إلّا أن هذه قبل هذه ، ثمّ أنت في وقت منهما جميعا حتّى تغيب الشمس (٢٢). ورواية زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : أحبّ الوقت إلى الله أوّله حين يدخل وقت الصلاة فصلّ الفريضة فإن لم تفعل فإنّك في وقت منهما (٢٣) حتى تغيب الشمس (٢٤). وخبر داود بن فرقد (٢٥) الذي تلوناه.

وعلى هذا التقدير فما ذكرناه أرجح. أمّا أوّلا فلكثرة الرواية. وأمّا ثانيا فلاشتهار عدالتهم وضبطهم. ووجه التأويل أن يحمل ما تضمّنته رواية الكرخي على وقت الفضل ، ويكون قوله : « إن كان تعمّد ذلك ليخالف الوقت والسنّة لم يقبل منه » أي قبولا تامّا. ويدل عليه اشتراطه في عدم القبول تعمّد المخالفة للسنّة. ولو خرج الوقت بمضيّ أربعة أقدام لم يكن ذلك شرطا.

وعلى هذا التأويل وإن اختلفت الروايات فهي ترجع إلى معنى واحد ، وهو أنّ وقت الفضيلة تارة يكون قدمين ، وتارة يزيد على ذلك ، وتكون الزيادة بحسب الأوقات ، لأنّ المعوّل على الظلّ الزائد على الظلّ الأوّل ، وهو يختلف بحسب الأزمان.

يشهد لذلك ما رواه يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عما جاء في الحديث : أن صلّ الظهر إذا كانت الشمس قامة وقامتين ، وذراعا وذراعين ، وقدما وقدمين ، من هذا ومن هذا. [ فمتى هذا ] وكيف هذا؟ وقد

__________________

(٢٢) الفقيه ١ ـ ٢١٦ والتهذيب ٢ ـ ١٩ والاستبصار ١ ـ ٢٤٦ والكافي ٣ ـ ٢٧٦ إلى قوله : ( إلّا أن هذه قبل هذه ). والوسائل ٣ ـ ٩٢.

(٢٣) كذا في المصادر.

(٢٤) التهذيب ٢ ـ ٢٥ والاستبصار ١ ـ ٢٦١ والوسائل ٣ ـ ٨٧ وقد مرّ آنفا.

(٢٥) التهذيب ٢ ـ ٢٥ والاستبصار ١ ـ ٢٦١ والوسائل ٣ ـ ٩٢.

١٠٨

يكون الظلّ في بعض الأوقات نصف قدم قال : إنّ ظلّ القامة يختلف مرّة يكثر ومرّة يقلّ قال : وتفسير القامة والقامتين في الزمان الذي يكون فيه ظلّ القامة ذراعا (١).

وهذا (٢٦) التأويل جمع الشيخ رحمه‌الله بين اختلاف ألفاظ الأحاديث (٢٧).

فإن قلت : هذا تحكّم على الأحاديث ، والحديث الذي تلوتموه لا يفتي به ، لأنّ ابن بابويه رحمه‌الله ذكر أنّه لا يعمل بمراسيل يونس (٢٨).

قلت : التحكّم إنّما يتحقّق إذا عريت الدعوى من دلالة. قوله : حديث يونس مرسل. قلنا : نحن نعمل بالأحاديث المرسلة في باب الترجيح والجمع (٢٩) ، لأنّها لا تضعف عن أمارة توجب الظنّ ، وعند الأمارة يكون ما عضدته راجحا ، فيكون العمل بالدليل الراجح لا بمجرّد الأمارة المرجّحة.

لا يقال : إن ساغ التأويل فلنا أن نتأوّل ونقول : حديث الكرخي يدلّ على وقت الاختيار ، وأخباركم محمولة على الأعذار. يؤكّد هذا التأويل رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتا إلّا عند عذر (٣٠). ورواية ربعي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنّ

__________________

(١) الكافي ٣ ـ ٢٧٧ والتهذيب ٢ ـ ٢٤ والحديث طويل وبين نقل المصدرين بعض الاختلافات فراجع.

(٢٦) وبهذا ظ.

(٢٧) راجع التهذيب ٢ ـ ٢٣ ـ ٢٤.

(٢٨) قال ابن داود في رجاله ص ٢٨٥ طبع قم نقلا عن الفقيه للشيخ الصدوق : سمعت محمد بن الحسن بن الوليد يقول : كتب يونس التي هي بالروايات صحيحة معتمد عليها ..

أقول : مفهوم هذا الكلام عدم الاعتماد على مراسيله. راجع تنقيح المقال ٣ ـ ٣٤٢.

(٢٩) يظهر منه ره أنّه قائل بمرجحية كلّ ما كان موجبا لأقوائية خبر من الآخر.

(٣٠) الكافي ٣ ـ ٢٧٤ والتهذيب ١ ـ ٤٠ والاستبصار ١ ـ ٢٤٤ والوسائل ٣ ـ ٨٩.

١٠٩

الرخصة للناسي والمريض والمدنف والمسافر والنائم في تأخيره (٣١).

لأنّا نجيب من وجوه :

الأوّل أنّ ما ذكرته من الروايتين (٣٢) يدلّ على تضييق الفريضة بحيث لا يجوز تأخيرها عن أوّل الوقت ، وليس بحثنا في التضييق. فإن قلت : الوقت الأوّل هو ما بين الزوال إلى أربعة أقدام. قلت : بل الوقت الأوّل هو عند الزوال وتأخيرها عن الزوال سائغ بالاتفاق.

يدلّ أنّ الوقت الأوّل هو زوال الشمس ما روي من طرق عدّة. منها ما روي عن أبي جعفر ( عليه‌السلام ) : أوّل الوقت زوال الشمس وهو وقت الله الأوّل وهو أفضلها (٣٣). ويدلّ على أنّ التأخير سائغ عن هذا الوقت ما رواه عبيد بن زرارة : قلت : يكون أصحابنا في المكان مجتمعين فيقوم بعضهم يصلّي الظهر وبعضهم يصلّي العصر ، قال : كلّ واسع (٣٤). وما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : الرجلان يصلّيان أحدهما يعجّل العصر ، والآخر يصلّي الظهر فقال : لا بأس (٣٥). وإذا كان الحثّ على الوقت الأوّل والإذن في التأخير متوجّها إليه أيضا وجب أن يحمل الحثّ على الفضل توفيقا بين الأحاديث.

الوجه الثاني في الجواب أن نقول :

سلّمنا أنّه لا يجوز له التأخير إلّا لعذر ، وأنّ الفريضة مضيّقة ، ولكن لا

__________________

(٣١) التهذيب ٢ ـ ٤١ والاستبصار ١ ـ ٢٦٢ والوسائل ٣ ـ ١٠٢ وإليك الخبر تمامه : عن ربعي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : انّا لنقدّم ونؤخّر وليس كما يقال من أخطأ وقت الصلاة فقد هلك وإنّما الرخصة للناسي والمريض والمدنف والمسافر والنائم في تأخيرها.

(٣٢) يعني روايتي عبد الله بن سنان وربعي.

(٣٣) التهذيب ٢ ـ ١٨ والاستبصار ١ ـ ٢٤٦ والفقيه ١ ـ ٢١٧ مرسلا.

(٣٤) التهذيب ٢ ـ ٢٥١ والاستبصار ١ ـ ٢٥٦.

(٣٥) التهذيب ٢ ـ ٢٥٢ والاستبصار ١ ـ ٢٥٦.

١١٠

نسلّم أنّ التضيّق مناف لامتداد الوقت ، وما المانع أن يمتدّ الوقت مع التضيّق بامتداد الوجوب كما صوّرتموه في الحجّ والواجبات المضيّقة التي ليس لها وقت مضروب؟

ونحن فلا ننازع وجوبها على الفور ، بل ندّعي امتداد الوقت من غير تعرّض لتضيّق ولا لعدمه.

والجواب : عن الملازمة أن نقول : بل يجوز التأخير ولتحقّق الإجزاء (٣٦) ، وما تلاه من الأحاديث غاية تتضمّن الوجوب على الفور من أوّل الوقت. على أنّا نمنع من ذلك ونحمله على الاستحباب بدلالة ما ذكرناه من الأحاديث الدالّة على التوسعة.

وأمّا الآية ، فلا نعمل بظاهرها لأنّه تتضمّن المؤاخذة على السهو ، ولو عدل إلى التأويل ساغ لنا أيضا تنزيله على إخلاء الوقت من الفعل. ولو سلّمناه فإنّا لا نسلّم أنّ الويل مستحقّ لأجل التأخير إن صحّ التأويل ، بل لضميمة أنّهم يراءون ، بدليل قوله ( وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ ) (٣٧) ، لأنّ الماعون متاع البيت ومنعه ليس بمحرّم.

__________________

(٣٦) في بعض النسخ : بل لجواز التأخير ولتحقّق الاجزاء.

(٣٧) سورة الماعون : ٧.

١١١

المسألة السادسة في أنّ الفوائت ليست مرتبة على الحاضرة

وتحرير موضع النزاع أن نقول : صلاة كلّ يوم مرتّبة بعضها على بعض حاضرا كان أو فائتا ، فلا تقدّم صلاة الظهر من يوم على صبحه ، ولا عصره على ظهره ، ولا مغربه على عصره ، ولا عشاؤه على مغربه إلّا مع تضيّق الحاضرة ، وأمّا إذا فاته صلوات من يوم ثمّ ذكرها في وقت حاضرة من آخر هل يجب البدأة بالفوائت ما لم يتضيّق الحاضرة؟ قال أكثر الأصحاب : نعم. وقال آخرون : لا يجب. وقال آخرون : ترتّب الفوائت في الوقت الاختياري ثمّ يقدّم الحاضرة.

والذي يظهر وجوب تقديم الصلاة الواحدة واستحباب تقديم الفوائت ، ولو أتى بالحاضرة قبل تضيّق وقتها والحال هذه جاز ، ويدلّ على الأخير النصّ والأثر والمعقول.

أمّا النصّ ، فقوله تعالى ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (١) وقوله تعالى ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) (٢).

والاستدلال بذلك يستدعي بيان مقدّمتين :

الأولى : في أنّ هذا الحكم متناول للأمّة كما هو متناول للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتدلّ عليه وجوه ثلاثة : الأوّل : اتّفاق المفسرين أنّ الخطاب المذكور يراد به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمّته. الوجه الثاني : أنّه عليه‌السلام فعل ذلك على وجه الوجوب ، وإذا عرف الوجه الذي فعل صلى‌الله‌عليه‌وآله فعله عليه وجبت المتابعة ، بما عرف في أصول الفقه. الثالث : أنّه يجب متابعته هنا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « صلّوا كما رأيتموني

__________________

(١) سورة الإسراء : ٧٨.

(٢) سورة هود : ١١٤.

١١٢

أصلّي ». (٣).

المقدمة الثانية : في أن المراد بهذه الأوامر صلوات الوقت الحاضر ، وتدلّ عليه وجوه : الأول : النقل عن علماء التفسير أنّ المراد بالصلاة عند الدلوك هي الظهر أو المغرب ، وبالطرف الأوّل من النهار صلاة الفجر. الثاني : ما نقل عن أهل البيت عليهم‌السلام في تفسير الآية الأولى أنّ المراد صلاة الظهر والعصر وصلاة المغرب والعشاء (٤). الثالث : روى معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : أتى جبريل وعليه‌السلام حين زالت الشمس فأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فصلّى الظهر ، وأمره حين زاد الظلّ قامة فصلّى العصر ، ثمّ أمره حين غربت الشمس فصلّى المغرب ، ثمّ أتاه حين سقط الشفق فأمره فصلّى العشاء ، ثمّ قال : ما بينهما وقت (٥). ورواية ذريح عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله. وذكر أنه أمره بصلاة الظهر في الوقت الذي يصلّي فيه العصر ، ثمّ قال : ما بين هذين الوقتين وقت (٦). وما رواه جماعة من الأصحاب عن أبي جعفر عليه‌السلام وعن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام : إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر ، وإذا غربت دخل الوقتان المغرب والعشاء (٧).

فنقول : هذه الصلوات هي المختصّة بهذه الأوقات ، فالأمر بالصلاة في هذه الأوقات ينصرف إليها ، لأنها هي المعهودة بقرينة الحال.

__________________

(٣) صحيح البخاري ١ ـ ١٥٤ ، وسنن الدار قطني ١ ـ ٣٤٦ وسنن الدارمي ١ ـ ٢٨٦ كما في ذيل الخلاف للشيخ الطوسي ١ ـ ٣١٤ و ٦٢٩.

(٤) الوسائل ٣ ـ ٥ الكافي ٣ ـ ٢٧١ والتهذيب ٢ ـ ٢٤١ والفقيه ١ ـ ١٩٥ طبع مكتبة الصدوق ومعاني الاخبار ٣٣٢ وعلل الشرائع ٢ ـ ٤٣ طبع قم.

(٥) التهذيب ٢ ـ ٢٥٢ والاستبصار ١ ـ ٢٥٧ والوسائل ٣ ـ ١١٥ وتمام الخبر لم يذكر في كلام المصنف فراجع.

(٦) التهذيب ٢ ـ ٢٥٣ والاستبصار ١ ـ ٢٥٨ والوسائل ٣ ـ ١١٦.

(٧) راجع الوسائل ٣ ـ ٩١ « باب أنّه إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر والعصر ».

١١٣

إذا ثبت ذلك ، فالاستدلال بالآية من وجهين : الأوّل : أن نقول : ثبت وجوب هذه الصلوات ، وثبت وجوب قضاء الفوائت في كلّ وقت ما لم يتضيّق الحاضرة ، ولا ترجيح في الوجوب ، فوجب الاشتراك ، الوجه الثاني : لو لم تجب الحاضرة في أوّل وقتها لزم أحد الأمرين : إمّا التخصيص أو النسخ ، والقسمان باطلان ، أمّا الملازمة فلأنّ صورة النزاع إمّا أن تكون مرادة وقت الخطاب وإمّا أن لا تكون ، ويلزم من الأوّل النسخ ومن الثاني التخصيص ، وأمّا بطلان كلّ واحد من القسمين أمّا أوّلا : فلأنّا سنبطل ما يدّعي الخصم كونه حجّة له ، فيكون كلّ واحد من النسخ والتخصيص على تقدير بطلان حجّته منفيا بالإجماع. وأمّا ثانيا : فلأنّ مستند الخصم خبر الواحد وبمثله لا ينسخ القرآن ولا يخصّص ، مع أنّا سنبطل دلالة ذلك الخبر على موضع النزاع.

فإن قيل : لا نسلّم أنّ الحكم المذكور متناول للأمّة.

قوله « اتّفاق أهل التفسير على ذلك » قلنا : أوّلا نمنع ذلك ، غايته أن يوجد في كتاب أو عشرة فمن أين أنّ الباقين قائلون بذلك؟ سلّمنا أنّ كلّ مصنّف منهم قال ذلك فمن أين أنّ إطباق المصنّفين منهم حجّة؟.

قوله في الوجه الثاني « فعله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله واجبا فيجب التأسّي به » قلنا : أوّلا نمنع وجوب التأسّي وإن علم الوجه الذي أوقعه عليه فما الدليل على وجوب ذلك؟ سلّمنا لكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقدّر في حقّه فوات الفرائض لا عمدا ولا سهوا ، فيكون وجوب الإتيان بالحاضرة في حقّه لخلوه من قضاء الفوائت فلا يتناول من يلزمه قضاء الفوائت.

وأمّا الاحتجاج بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » كما يحتمل من وجوب المماثلة في الكيفيّة ، يحتمل وجوب المماثلة في وجوب الصلاة حسب ، كما إذا قلت لإنسان : « افعل كما أفعل » أي كما أنّني فاعل. أو

١١٤

يكون المراد المماثلة في الوضوح ، ويؤيّد هذا أنّ معنى الكلام : صلّوا كرؤيتكم صلاتي ، أي أوقعوا الصلاة قطعا كمشاهدتكم صلاتي. وهذه الوجوه وإن لم تكن متيقنة فهي محتملة ، ومع الاحتمال لا يبقى الدليل يقينيا. سلّمنا أنّ الخطاب عامّ في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيره ، وأنّه دالّ على إيجاب إقامة الصلاة ، ولكن لا نسلّم أنّ المراد بهذا الأمر الصلاة الحاضرة ، لأنّ الصلاة جنس والجنس لا إشعار فيه بأحد أنواعه ولا أشخاص أنواعه ، فكما يحتمل إرادة الحاضرة يحتمل إرادة الفائتة. سلّمنا أنّ المراد الحاضرة ، لكن العموم مخصوص بصورة التيمّم وإذا تطرّق إليه التخصيص صار مجازا فجاز أن لا يراد منه موضع النزاع ، أو نقول : كما جاز تخصيصه لدلالة فليجز تخصيصه لأخرى لتساويهما فيما يقتضي التخصيص ، ثمّ العموم معارض بقوله تعالى ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) (٨) ، والمراد بالصلاة هنا الفائتة ، يدلّ عليه استدلال الباقر عليه‌السلام في رواية زرارة عنه في قوله : « أبدا بالّتي فاتتك ، فإنّ الله تعالى يقول ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) (٩) ».

قوله في الاستدلال بالوجه الأوّل : « ثبت وجوب الحاضرة ووجوب قضاء الفوائت ولا ترجيح في الوجوب فثبت التخيير ». قلنا : لا نسلّم التساوي ، بل الرجحان في طرف الفوائت حاصل ، وبيانه من وجهين : أحدهما أنّ الفائتة مضيّقة ، والحاضرة موسّعة ، فيكون الترجيح لجانب المضيّق ، وإنّما قلنا : إنّ الفائتة مضيّقة ، لأنّ الأمر بالقضاء مطلق ، والأوامر المطلقة مقتضية للتعجيل بما عرف في الأصول ، الثاني : الأحاديث الدالة على ترتيب الفوائت على الحاضرة متناولة لموضع النزاع. وما ذكره المستدلّ من وجوب الحاضرة مطلق والترجيح لجانب التقييد.

__________________

(٨) سورة طه : ١٤.

(٩) الكافي ٣ ـ ٢٩٣ والتهذيب ٢ ـ ٢٦٨ والاستبصار ١ ـ ٢٨٧ والوسائل ٣ ـ ٢٠٩.

١١٥

قوله في الوجه الثاني : « لو لم تجب الحاضرة في أوّل وقتها لزم إمّا التخصيص أو النسخ ». قلنا : مسلّم.

قوله : « وكلّ منهما باطل ». قلنا : أمّا النسخ فمسلّم ، فما المانع من التخصيص؟ قوله : « سنبطل معتمدكم في التخصيص ». قلنا : وسنجيب عنه. قوله : « خبر الواحد لا يخصّ القرآن ». قلنا : لا نسلّم ذلك فما الدليل عليه؟ سلّمناه لكن لا نسلّم أن التخصيص بخبر الواحد بل بأخبار مقبولة تجري مجرى المتواتر في وجوب العمل ، ثمّ ما ذكرته من الدلالة ينتقض بما سلّمت ترتّبه على الحاضرة من فرائض اليوم والفريضة الواحدة.

والجواب : قوله : « لا نسلّم عموم الحكم ». قلنا : لا ندّعي أنّ الحكم مستفاد من الصيغة بل نقول : دلّ الدليل على إرادة العموم ، وقد يجوز أن يراد العموم ممّا صيغته الخصوص ، وقد بيّنا الوجوه الدّالة عليه.

قوله على الوجه الأوّل : « بعض المفسّرين ذكر ذلك ». قلنا : لم نجد من المفسّرين إلّا ذاكرا له ، ولم نجد منهم من زعم أنّ الحكم مخصوص به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والواجب في كلّ فنّ الرجوع إلى أهله ، ثمّ نقول : المعلوم بين المسلمين كافّة أنّ حكم الأمّة في ذلك حكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله على الوجه الثاني : « لا نسلّم وجوب التأسّي للنبيّ ». قلنا : يدل على ذلك قوله تعالى ( وَاتَّبِعُوهُ ) (١٠) وقوله عليه‌السلام : « فاتبعوني » (١١) وقوله تعالى : ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (١٢). ولو قيل : هذا الأخير لا يدلّ على الوجوب. قلنا : يدلّ على حسن التأسّي وهو يكفي في هذا المقام ، إذ المراد

__________________

(١٠) سورة الأعراف : ١٥٨ وفي الأصل : فاتّبعوه.

(١١) سورة آل عمران : ٣١.

(١٢) سورة الأحزاب : ٢١.

١١٦

جواز أن يفعل مثل فعله.

قوله : « النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يترك الصلاة عمدا ولا سهوا ، فلا يكون وجوب التأسّي دالا على صورة النزاع ». قلنا : هو صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن لم يفرض في حقّه الفوات ، لكن فرض في حقّه وجوب الإتيان بالفريضة في أوّل الوقت فتكون الأمة كذلك ، وهذا هو المراد من التأسّي به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ بعد ذلك نقول : هذا التشريع المتناول للأمّة ، لا ينسخ ولا يخص إلّا بدليل قطعيّ ، فيتمّ ما نحاوله.

قوله في الوجه الثالث : « كما يحتمل أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله الإتيان بمثل كيفية صلاته يحتمل أحد الوجهين الآخرين ». قلنا : هذا الاحتمال ضعيف ، والأسبق إلى الأذهان إذا قيل : « اشرب كما شرب فلان وكل كما أكل » أن يراد التمثيل في الفعل والكيفيّة ، فيكون في كلّ موضع كذلك دفعا للاشتراك والمجاز.

قوله : « لا نسلّم أنّ المراد من هذا الأمر الحاضرة ، لأنّ الصلاة جنس فكما يحتمل إرادة الحاضرة يحتمل إرادة الفائتة ». قلنا : قد بيّنا أنّ المراد من هذا الخطاب الحاضرة بالنقل عن أئمة التفسير وما روي عن الأئمّة عليهم‌السلام ، ونزيد هنا ما رواه عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) قال : « إنّ الله تعالى افترض أربع صلوات ، أوّل وقتها من زوال الشمس الى انتصاف الليل منها صلاتان أوّل وقتهما من زوال الشمس إلى غروبها إلّا أنّ هذه قبل هذه ، ومنها صلاتان أوّل وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلّا أنّ هذه قبل هذه » (١٣).

قوله : « هذا العموم مخصوص فيكون مجازا فلا نعلم تناوله لموضع النزاع ». قلنا : قد بيّنا في الأصول أنّ عروض التخصيص للعامّ لا يمنع من استعماله في

__________________

(١٣) التهذيب ٢ ـ ٢٥ والاستبصار ١ ـ ٢٦١.

١١٧

الباقي.

قوله : « كما جاز تخصيصه هناك جاز هنا ». قلنا : الجواز لا عبرة به ، أمّا الوقوع فمفتقر إلى وجود الدلالة وسندلّ على ارتفاعها هنا إذا الموجود هنا خبر واحد أو خبران وهما لا ينهضان لتخصيص الدليل القطعيّ خصوصا مع وجود المعارض لهما.

قوله : « هذا العموم معارض بقوله تعالى ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) (١٤) ». قلنا : لا نسلّم أنّ المراد بها الفوائت ، وتعويله على الرواية ضعيف ، لأنّه استناد في التفسير إلى خبر واحد ، ولو عمل به لزم تخصيص القرآن بخبر الواحد ، ثمّ لو صحّ لم يكن دالا عليه ، لأنّه عليه‌السلام استدلّ على وجوب الفائتة به وكما يدلّ على الفائتة يدلّ على الحاضرة ، إذ الصلاة يصحّ أن يراد بها كلا القسمين ، ثمّ نقول : غاية مدلول هذه الآية وجوب إقامة الصلاة عند الذكر ، ونحن فلا ننازع فيه بل إجماع الناس على وجوب قضاء الفائتة عند الذكر ، لكن البحث في هل هو وجوب يمنع من الحاضرة أم لا؟ وذلك ليس في الآية.

قوله ـ على الوجه الأوّل من الاستدلال ـ : « الترجيح حاصل من وجهين : أحدهما : أنّ الفائتة مضيّقة ، لأن الأمر بها مطلق والأمر المطلق للفور ». قلنا : أوّلا لا نسلّم ذلك ، فإنّ الذي نختاره أنّ الأمر لا إشعار فيه بفور ولا تراخ ، وإنّما يعلم أحدهما بدلالة غير الأمر ، سلّمنا أنّه بمجرّده يدلّ على التعجيل. لكن لا نسلّم تجرّده هنا وهذا لأنّ في الحاضرة تنصيصا على التوسعة وتعيين الوقت الأوّل والأخير ، فلا يكون الأمر المطلق دالًّا على الفورية هنا وإلّا لزم إبطال التنصيص على التوسعة ويجري ذلك مجرى أن نقول : « افعل كذا أيّ وقت شئت من هذا النهار وأعط زيدا درهما » ، فإنّه لا يجب تقديم العطيّة على الفعل الآخر وإلّا

__________________

(١٤) سورة طه : ١٤.

١١٨

بطلت المشيّة المذكورة نطقا.

قوله : « إذا اجتمع الموسّع والمضيّق كان الترجيح لجانب المضيّق » قلنا : هذا كلام غير محصّل ، فإنّه لا يمكن اجتماع الأمرين إلّا إذا لم يكن أحدهما منافيا للآخر ، وإلّا فمع فرض تضيّق أحد الفعلين يستحيل سعة الآخر ، فلا يكون ما فرض موسّعا موسّعا ، لكن لو قال : « إذا نصّ الشرع على فعل بالتوسعة وأمر بآخر مطلقا ، كان المطلق مقدّما على ما نطق بتقدير التوسعة فيه ». منعنا نحن وبيّنّا أنّ ذلك نقض لكونه موسّعا ، وكذا نقول : في صورة النزاع ، فإنّ الحاضرة منصوص على الأمر بها عند الزوال إلى الغسق ، فلو حمل الأمر المطلق على الفورية المانعة من الإتيان بالحاضرة كان ذلك نسخا لمدلول الآية أو تخصيصا بالخبر ، وكلاهما غير جائز.

ثمّ نقول : الظاهر أنّ الفوائت غير مضيّقة ، ويدلّ على ذلك أمران الأوّل : ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ـ إنّه « إذا ذكرت المغرب والعشاء وقد تضيّق وقت الصبح ابدأ بالصبح ـ ثمّ قال : ـ فأيّهما ذكرت فلا تصلّهما إلّا بعد شعاع الشمس ، قلت : لم ذلك؟ قال : لأنّك لست تخاف فوته » (١٥). ولو كانتا مضيّقتين لما جاز تأخيرهما إلى بعد الشعاع. والثاني : لو كانت الفوائت مضيّقة لما جاز تأخير القضاء مع التمكّن لحظة واحدة وكان يقتصر على ما يمسك الرمق من مأكول ومشروب ويتشاغل بالقضاء ، ولو التزم ذلك كان عمل الناس على خلافه ، إذ لم نر أحدا من فقهاء الإسلام من يفسّق من يصلّي في كل يوم شهرين قضاء وهو قادر على زيادة الصبح ، والتزام ذلك مكابرة.

قوله : « لا نسلّم أنّ العموم القرآني لا يختصّ بخبر الواحد ». قلنا : الدليل على ذلك مذكور في كتب الأصول ، ونزيد هنا وجهين : أحدهما : أنّ الأصحاب بين

__________________

(١٥) الوسائل ٣ ـ ٢١١ الكافي ٣ ـ ٢٩٢ والتهذيب ٣ ـ ١٥٨ والحديث طويل فراجع.

١١٩

مانع من العمل بخبر الواحد ومجيز ، والمجيز لا يختصّ به ، ويلزم انتفاء التخصيص على التقديرين. الثاني : إنّا نعارض ذلك الخبر بمثله مما يوجب تنزيله إمّا على التخيير أو الاستحباب.

قوله : « ما ذكرته من الدلالة منقوض بما سلّمت ترتّبه ». قلنا : لنا عن ذلك جوابان : أحدهما : أنّا إنّما سلّمنا ذلك بناء على دلالة قطعيّة توجب التخصيص فإن صحّت وإلّا منعنا الحكم. الثاني : أنّا نفرّق بسلامة دلالة الترتيب على ما أشرنا إليه عن معارض ، ولا يكون كذلك ما ادّعوه.

وأمّا الأثر : فما رواه ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا نام رجل ونسي أن يصلّي المغرب والعشاء ، فان استيقظ قبل الفجر قدر ما يصلّيهما كلتيهما فليصلّهما ، فإن خاف أن يفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء ، فإن استيقظ بعد الفجر فليصلّ الصبح ثمّ المغرب ثمّ العشاء قبل طلوع الشمس » (١٦). وما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إن نام رجل ولم يصلّ المغرب والعشاء أو نسي ، فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما يصلّيهما كلتيهما فليصلّهما ، فإن خشي أن يفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء ، فإن استيقظ بعد الفجر فليبدأ فليصلّ الفجر ثمّ المغرب ثمّ العشاء قبل طلوع الشمس » (١٧).

فإن قيل : هذان الخبران يدلّان على أن العشاء تمتدّ إلى الفجر ، وهو قول متروك ، وإذا تضمن الخبر ما لا يعمل به دلّ على ضعفه ، ثمّ هما شاذّان لقلّة ورودهما وبعد العمل بهما.

فالجواب : لا نسلّم أن القول بذلك متروك ، بل هو مذهب جماعة من فقهائنا المتقدّمين والمتأخّرين ، منهم الفقيه أبو جعفر بن بابويه (١٨) وهو أحد

__________________

(١٦) التهذيب ٢ ـ ٢٧٠ والاستبصار ١ ـ ٢٨٨ مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ.

(١٧) التهذيب ٢ ـ ٢٧٠ والاستبصار ١ ـ ٢٨٨ مع اختلاف يسير.

(١٨) قال ابن بابويه في الفقيه ١ ـ ٣٥٥ : لا تفوت صلاة النهار حتّى تغيب الشمس ولا صلاة الليل حتى يطلع الفجر وذلك للمضطر والعليل والناسي.

١٢٠