الرسائل التسع

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]

الرسائل التسع

المؤلف:

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٩

المسألة الرابعة :

ماء البئر هل ينجس بالملاقاة أم لا ينجس إلّا بالتغيّر.

الجواب :

لأصحابنا في هذه قولان :

أحدهما النجاسة ووجوب النزح للتطهير ، وهو اختيار المفيد رحمه‌الله (١) والشيخ أبي جعفر رحمه‌الله في النهاية (٢) وعلم الهدى (٣) ومن تابعهم.

الثاني أنّها لا تنجس إلّا بالتغيّر ولا يجب النزح إلّا معه ، وهو اختيار قوم من القدماء (٤).

وخرّج الشيخ رحمه‌الله في التهذيب والاستبصار (٥) وجها ثالثا وهو أنّها لا يغسل منها الثوب ، ولا تعاد منها الصلاة ، لكن لا يجوز استعمالها إلّا بعد النزح.

والمختار هو الأوّل ويدلّ عليه وجوه :

الأوّل لو لم ينجس ماؤها لكان باقيا على التطهير إذ لو لم يكن باقيا لكان إمّا لارتفاع اسم الماء عنه أو لنجاسته ، وكلّ واحد منتف على هذا التقدير ، فثبت

__________________

(١) راجع المقنعة ص ٩.

(٢) النهاية ص ٦.

(٣) الانتصار ، كتاب الطهارة. المسألة الرابعة.

(٤) قال في المختلف : اختلف علماؤنا في ماء البئر هل ينجس بملاقاة النجاسة من غير تغيّر أم لا مع اتفاقهم على نجاستها بالتغيّر ، فقال الأكثرون بنجاستها وهو أحد قولي الشيخ رحمه‌الله والمفيد وسلّار وابن إدريس ، وقال الآخرون : لا ينجس بمجرّد الملاقاة وهو القول الثاني للشيخ رحمه‌الله واختاره ابن أبي عقيل وهو الحقّ عندي. راجع المختلف ص ٤.

(٥) راجع الاستبصار ١ ـ ٣٢ والتهذيب ١ ـ ٢٣٢.

٢٢١

جواز التطهير من دون النزح لكن هذا اللازم محال بالأحاديث المتواترة الدالّة على وجوب النزح.

الثاني هي قبل النزح غير طاهرة ، فيجب أن تكون نجسة ، أما الأوّل فتدلّ عليه روايات.

منها رواية محمد بن بزيع عن الرضا عليه‌السلام في البئر يقطر فيها قطرات من بول أو دم ما الذي يطهّرها قال : ينزح منها دلاء (٦).

ومنها رواية علي بن يقطين عن موسى عليه‌السلام قال : سألته عن الحمل والدجاجة أو الفأرة أو الكلب أو الهرّة قال يجزيك أن تنزح منها دلاء فإنّ ذلك يطهّرها (٧).

ومنها رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن شاة ذبحت فوقعت في بئر وأوداجها تشخب دما أيتوضّأ من ذلك البئر؟ قال : نزح منها ما بين الثلاثين إلى الأربعين ثمّ يتوضّأ منها (٨).

وإذا ثبت أنّ النزح يطهّرها ثبت أنّها غير طاهرة قبله ، لأنّه ليس وراء الطهارة إلّا النجاسة

الوجه الثالث : ما رواه ابن أبي يعفور عن الصادق عليه‌السلام قال : إذا أتيت البئر وأنت جنب ولم تجد شيئا تغترف به فتيمّم بالصعيد فإنّ ربّ الماء وربّ الصعيد واحد ، ولا تقع في البئر ولا تفسد على القوم ماءهم (٩).

فإن قيل : لا نسلّم أنّ الإفساد عبارة عن التنجيس ، لأنّه ضدّ الإصلاح ،

__________________

(٦) التهذيب ١ ـ ٢٤٤ ـ الوسائل ١ ـ ١٣٠ ـ الكافي ٣ ـ ٥ الاستبصار ١ ـ ٤٤.

(٧) التهذيب ١ ـ ٢٣٧ مع اختلاف يسير.

(٨) الوسائل ١ ـ ١٤١ ـ الكافي ٣ ـ ٦ والتهذيب ١ ـ ٤٠٩ وقرب الاسناد ٨٤ والفقيه ١ ـ ٢٠ طبع مكتبة الصدوق والاستبصار ١ ـ ٤٤.

(٩) جامع أحاديث الشيعة ١ ـ ٢١٣ الكافي ٣ ـ ٦٤ ـ التهذيب ١ ـ ١٥٠ والاستبصار ١ ـ ١٢٨.

٢٢٢

وكما يحتمل التنجس يحتمل غيره من تكدير الماء أو ممازجة الحمأة المنفرة وغير ذلك ، فإن كلّ واحد من ذلك ضدّ الإصلاح فيقع عليه اسم الإفساد. سلّمنا أنّ المراد بالإفساد هنا التنجيس ، ولكنّه عليه‌السلام عطف الإفساد على النزول ، والعطف لا يستلزم كون المعطوف عليه علّة في المعطوف ، بل يقتضي ظاهر اللفظ النهي عن الأمرين فكأنّه قال : لا تنزل إلى البئر ولا تفسد ماءهم بأمر آخر ، ولم يبيّنه فلعلّه بنجاسة تغيّرها ، وبالجملة أنّه محتمل ، ولو سلّمنا ما ذكرته لكان معنا ما ينافيه وبيانه الحديث والاعتبار. أمّا الحديث فما رواه حمّاد عن معاوية عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة ممّا يقع في البئر إلّا أن ينتن فإذا أنتن غسل الثوب وأعاد الصلاة ونزحت البئر (١٠). وما رواه ابن بزيع عن الرضا عليه‌السلام قال : ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتّى يذهب الريح وتطيب طعمه لأنّ له مادّة (١١).

وأمّا الاعتبار فوجهان :

أحدهما أنّ للبئر اتصالا يمنع من ظهور النجاسة عليه فلا ينجس ما يتّصل به كالماء المحقون إذا كان متّصلا بالماء الجاري أو الكثير.

الثاني أنّ كثرة الماء لو لم تكن موجبا لانقهار النجاسة الملاقية ، لما كان في الكثير المحقون ، لأنّ أحد الأمرين لازم ، وهو إمّا أن تكون الكثرة قاهرة للنجاسة وإمّا أن لا تكون ، فإن كانت لزم في الموضعين ، لكنّها قاهرة في المحقون فيكون هنا ، لقيام الدلالة على عدم الفرق.

والجواب :

قوله : لا نسلّم أنّ الإفساد هنا عبارة عن التنجيس ، قلنا الدليل على أنّه

__________________

(١٠) جامع أحاديث الشيعة ١ ـ ١٢ ـ التهذيب ١ ـ ٢٣٢ والاستبصار ١ ـ ٣٠.

(١١) جامع أحاديث الشيعة ١ ـ ١١ ـ التهذيب ١ ـ ٢٣٤.

٢٢٣

هو المراد ، أنّ الإفساد ضدّ الإصلاح فعند إطلاقه يقتضي زوال الصلاح المقصود مما أطلق عليه ، والمصلحة الظاهرة من الآبار هي الاستعمال فيصرف الإفساد إلى إزالته.

قوله : عطف النهي عن الإفساد على النهي عن الوقوع ، فيكون الإفساد غيره ، ولم يذكر علّته فلعلّه بما يغيّر أحد الأوصاف من النجاسات.

قلنا : الظاهر أنّ الاغتسال هو المفسد للماء ، لأنّ السؤال عن وقوع الجنب فيكون الحكم مختصّا به ، ولا يتحقّق الاختصاص إلا إذا كان هو السبب.

قوله : معنا من الأحاديث ما يدلّ على ما قلناه ، منها رواية حمّاد عن معاوية ورواية ابن بزيع. قلنا : الجواب عن رواية معاوية من وجوه.

أحدهما الطعن في السند فانّ حمّادا لم يذكر أيّ معاوية روى ، ومن أصحاب الصادق عليه‌السلام جماعة بهذه السمة ، منهم الثقة ، ومنهم المجهول ، فلعلّه أحد المجاهل (١٢).

الثاني أنّ البئر في اللغة الحفيرة ، وقد يكون ماؤها محقونا ، كما يمكن أن يكون نابعا ، وإذا احتمل الأمرين نزّل على المحقون لتسليم الأحاديث القاضية بالنجاسة.

الثالث أنّه معارض بالأحاديث الموجبة للنزح ، وهي بالغة حدّ التواتر فلا يترك بخبر الواحد.

وأمّا خبر ابن بزيع فالمرويّ أنّه قال : كتبت إلى رجل يسأل الرضا عليه‌السلام ، والمكاتبة ضعيفة ، والرجل مجهول (١٣). وقوله : لا يفسده شي‌ء : لعلّه يريد فسادا يخرجه عن الانتفاع بل ينتفع به مع إخراج بعضه ، وهذا وإن لم يكن

__________________

(١٢) راجع المشتركات للكاظمي المسمّى بهداية المحدّثين ص ١٤٩. يظهر منه أنّ معاوية هذا هو ابن ميسرة وهو ضعيف.

(١٣) إلّا أن يقال : اعتمد عليه ابن بزيع وهذا يكفي في وثاقته. وفيه ما فيه.

٢٢٤

معلوما من اللفظ فإنّه محتمل ، لأنّ بقاءه على التطهير نوع من إصلاح فلم يتمكّن من الإفساد.

قوله في الوجه الاعتباري : للبئر اتّصال يمنع تأثير النجاسة في المجتمع كالمحقون المتّصل بالجاري. قلنا : هذا الاتّصال لم يتحقّق كيفيّته فلعلّه رشحان يتخلّل مسامة الأرض فلا يكون كالجاري المتّصل بالواقف ، ولا يكفي مشاهدته في البئر جاريا لأنّ المتخلّل في الأرض لا يعلم أنّه كذلك ، فلعلّه يجتمع عند فم المخرج ، على أنّه إذا حاذى المجاري وقف الجميع ، فتؤثّر فيه النجاسة. ولو قال : نّما يؤثّر النجاسة لو كان قليلا ، قلنا : إن حكم بنجاسته مع قلّته حكم مع الكثرة لأنّه لا قائل هنا (١٤) بالفرق في البئر.

قوله في الوجه الثاني : الماء الكثير يقهر النجاسة كما في المحقون ، قلنا :

مقتضى الدليل نجاسة الموضعين عملا بالدليل الدالّ على نجاسة الماء إذا لاقته النجاسة ، فاستثناء الكرّ المحقون يكون على خلاف مقتضى الدليل ، فلا يلحق به غيره ، لأنّه تكثير لمخالفة الدليل.

ويؤيّد نجاسة البئر نقل الفريقين من الجمهور والإماميّة الفتوى عن السلف بوجوب نزح البئر النابعة.

وأمّا ما خرّجه الشيخ رحمه‌الله فإنّه قصد الجمع بين الحديثين المذكورين والأحاديث الدالّة على وجوب النزح ، ونحن فقد بيّنا ضعف الحديثين ، وقصور دلالتها فبقيت الأحاديث الموجبة للنزح سليمة عمّا يدلّ على خلافها.

ولو استدلّ الخصم بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يتطهّر من بئر بضاعة (١٥) وفيها العذرة والنجاسات (١٦) ، لكان ضعيفا ، فان ذلك مما لا يثبت

__________________

(١٤) في بعض النسخ : لا قائل منّا.

(١٥) في الأصل : قضاعة ، والصحيح ما أثبتناه. قال في معجم البلدان : بضاعة بالضمّ وقد كسره بعضهم ، والأوّل أكثر وهي دار بني ساعدة بالمدينة ، وبئرها معروف. فيها أفتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ الماء طهور ما لم يتغير ..

(١٦) راجع السنن الكبرى للبيهقي ١ ـ ٢٥٧.

٢٢٥

صحّته ، وقد أنكره أحد الأئمّة عليهم‌السلام ولأن عادته صلى‌الله‌عليه‌وآله التنزّه عن النجاسات ، والتباعد عن المكروهات ، فلا يظنّ به صلوات الله عليه المسامحة باستعمال المياه المستخبثة مع وجود غيرها من الطاهرة ، فكيف بما سواها.

٢٢٦

المسألة الخامسة

الماء المستعمل في غسل الجنابة هل يرفع به الحدث؟.

الجواب :

للأصحاب في هذه قولان وإن اتّفقوا على طهارته ، أحدهما المنع من رفع الحدث به وهو اختيار الشيخين وأكثر الأصحاب ، والآخر الجواز وهو اختيار علم الهدى ومن تابعه ، وهو الاولى (١).

لنا أنّ الاستعمال لم يسلبه إطلاق الاسم لغة ولا شرعا ولم يلاق نجاسة فيلزم بقاؤه على التطهير.

أمّا أنّه لم يسلبه الإطلاق فلوجهين : أحدهما أنّه يحنث شاربه لو حلف لا يشرب ماء. الثاني ما باعتباره مسمّاه اللغوي « ماء » باق عليه إذ الواضع لم يشترط فيه عدم التطهير ، والأصل عدم النقل فتبقى التسمية.

وأمّا أنّه لم يلاق نجاسة فإنّه لم يلاق إلّا جسد الجنب وهو غير نجس العين ، ويدلّ عليه وجهان : أحدهما أنّه لا ينجس المائع بملاقاته ، والثاني ما روي عن الأئمة عليهم‌السلام من طرق أنّه يجوز إدخال يده في الإناء إذا لم تكن قذرة (٢).

وأمّا أنّه مع تحقّق الوصفين يجوز التطهير به فلقوله تعالى ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) (٣) وقوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً

__________________

(١) راجع المختلف للعلّامة الحلّي ص ١٢.

(٢) راجع الوسائل الباب الثامن من أبواب الماء المطلق ، ففيه بعض تلك الروايات.

(٣) سورة الأنفال : ١١.

٢٢٧

طَهُوراً ) (٤). وقوله عليه‌السلام : الماء طهور (٥). وقول الصادق عليه‌السلام وقد سئل عن الوضوء باللبن : فقال إنّما هو الماء أو الصعيد (٦).

الوجه الثاني : لو لم يجز استعماله في الطهارة لجاز التيمّم مع وجوده ، لكن هذا محال ، لأنّه يلزم فيه تخصيص عموم قوله تعالى ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) (٧).

لا يقال : يخرج بالاستعمال عن الإطلاق إلى الإضافة ، لأنّا نقول : هذا باطل باستعماله للتبرّد واستعماله في غير الطهارة.

ولو قال : ما أزيل به حدث فلا يزال به ثانيا ، قلنا : هذا موضع المنع فما وجهه؟ ولو قال : يخرج بإزالته الحديث عن كونه مطلقا طالبناه بالحجّة على الفرق بين استعماله في إزالة الحدث واستعماله لا فيه.

والخيال الذي يعرض (٨) أنّه انتقل إليه المنع غير مستند إلى حجّة.

ولو قال : للماء قوّة التطهير ، وقد استفيدت في الطهارة فلم تبق له قوّة ، طالبناه بالوجه ، فانّ موضع النزاع أنّ القوّة باقية أم لا ، ونحن نقول : هي باقية ما دام طاهرا واسم الماء واقع عليه بالإطلاق.

وأمّا المانع من الأصحاب فيمكن أن يحتجّوا بما رواه عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به الرجل من الجنابة لا يجوز أن يتوضّأ به (٩). وشبهه ما رواه بكر بن كرب عن أبي

__________________

(٤) سورة الفرقان : ٤٨.

(٥) سنن البيهقي ١ ـ ٤.

(٦) الوسائل ١ ـ ١٤٦ ـ التهذيب ١ ـ ٢٢١ ـ الإستبصار ١ ـ ٢٧.

(٧) سورة المائدة : ٦ والنساء : ٤٣.

(٨) في بعض النسخ : يعترض.

(٩) الوسائل ١ ـ ١٥٥ ـ التهذيب ١ ـ ١٨٨ ـ الاستبصار ١ ـ ١٥٥.

٢٢٨

عبد الله عليه‌السلام في الرجل يغتسل من الجنابة : إن كان يغتسل في موضع تستنقع رجلاه في الماء فليغسلهما (١٠). وما رواه محمّد بن مسلم عن أحدهما في ماء الحمام ، لا تغتسل من ماء آخر إلّا أن يكون فيه جنب أو يكثر أهله فلا يدرى فيه جنب أم لا (١١). وما رواه حمزة بن أحمد عن أبي الحسن عليه‌السلام : ولا تغتسل من البئر التي فيها ماء الحمام فإنّه يسيل فيها ماء يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب (١٢).

ولانّه لو اغتسل من البئر وجب نزحها سبعا ، ولو لم يكن الاغتسال يحدث في الماء منعا لما وجب ، إذ غسل الجسد الطاهر الذي لا يتعلّق به منع لا يؤثّر في بئر وغيرها كما لو توضّأ للصلاة. وقد روى أبو بصير عن الصادق عليه‌السلام عن لجنب يدخل البئر فيغتسل منها قال : ينزح منها سبع دلاء (١٣).

وبعض المتأخرين (١٤) خصّ النزح بالارتماس حتّى لو اغتسل لا مرتمسا لم يتعلّق به حكم عنده وادّعى الإجماع والأخبار على ذلك ، ولعلّه وقف على كلام المفيد رحمه‌الله في المقنعة وكلام شيخنا أبي جعفر رحمه‌الله (١٥) فظنّه إجماعا من الباقين ، وهو قلّة تطلّع ، فإنّ من عدا الشيخين لم يورد لفظ الارتماس ، والأخبار التي وصلت خالية عن ذكر الارتماس ، بل مقصورة على لفظ الاغتسال أو النزول أو الوقوع ، فنحن نطالب بهذا الإجماع الذي أشار إليه والأخبار التي

__________________

(١٠) جامع أحاديث الشيعة ١ ـ ١٤٧ ـ الكافي ٣ ـ ٤٤ والتهذيب ١ ـ ١٣٢.

(١١) رواه في جامع أحاديث الشيعة ١ ـ ٥ نقلا عن التهذيب ١ ـ ٣٧٩.

(١٢) التهذيب ١ ـ ٣٧٣. وفي ذيله : والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم ـ وراجع الكافي ٦ ـ ٤٩٨.

(١٣) التهذيب ١ ـ ٢٤٤.

(١٤) هو ابن إدريس في السرائر ١ ـ ٧٩.

(١٥) المقنعة ص ٩ وفيه : وإن ارتمس فيها جنب أو لاقاها بجسمه وان لم يرتمس فيها أفسدها ولم يطهر بذلك ووجب تطهيرها بنزح سبع دلاء. وهذا لا يوافق ما نقله المصنّف ره منه فراجع والنهاية ص ٧.

٢٢٩

عوّل عليها.

وهذا المتأخّر أيضا ناقش شيخنا أبا جعفر رحمه‌الله في الفرق بين ماء الغسل وماء الوضوء ، وقال : إن كان هذا مضافا فماء الوضوء كذلك ، وإن كان مستعملا فماء الوضوء مستعمل وإن كان ماء الوضوء منزّلا فماء الغسل كذلك (١٦).

والمناقشة لا ترد ، فإنّ الشيخ رحمه‌الله لم يمنع من الجنابة بشي‌ء من العلل التي ذكرها فيلزمه التسوية ، بل منع تبعا للرواية المشهورة المقرونة بعمل جماعة من الفضلاء ، فالفرق نشأ من الفتوى والرواية لا من حيث ذكر ، كما فرّق هو والجماعة بين استيطان الجنب في المسجد والمحدث ، وكما فرّق هو بين الارتماس في البئر ووضوء المحدث.

ثمّ نقول لم أوجب النزح سبعا ، فإن ادّعى الإجماع عرفناه أنّ كلّ من قال بالنزح من فضلائنا رأيناه يمنع من استعمال ماء الجنب كالشيخين وابن بابويه ، أمّا علم الهدى رحمه‌الله فإنّه لما رفع به الحدث لم يذكره في المنزوحات ، فإن كان ذلك إجماعا فهذا مثله. وإن استدلّ بالرواية على وجوب النزح وادّعى تواترها أريناه أنّها عن اثنين أو ثلاثة ومثلها لا يكون متواترا ، وهو يمنع العمل بخبر الواحد ، فما حجّته في النزح ، مع القول بجواز استعماله في غير البئر.

رجعنا إلى الجواب فنقول : الجواب عن خبر ابن سنان ، الطعن في سنده ، فإنّ في طريقه ابن فضّال (١٧) عن أحمد بن هلال (١٨) وهما ضعيفان (١٩) ، فلا يرجع إلى خبرهما عمّا دلّت عليه الظواهر القطعيّة من الآيات والأحاديث الصحيحة الصريحة ، وأمّا بقيّة الأخبار فغير دالّة على موضع النزاع بل فيها احتمال لغيره.

__________________

(١٦) السرائر ١ ـ ٦١ ، وقوله : منزّلا أي منزّلا من السماء طهورا. راجع السرائر.

(١٧) أي الحسن بن علي بن فضال.

(١٨) العبرتائي.

(١٩) راجع تنقيح المقال ١ ـ ٩٩ و ٢٩٧.

٢٣٠

وأمّا الاحتجاج بنزح البئر فقويّ ، غير أنّه يمكن اختصاص هذا الحكم بالبئر لضرب من التعبّد غير معلوم العلّة ، ويصار إليه تبعا للروايات الموجبة للنزح ، فإن صحّت تلك الروايات فقد تحقّق الفرق وإلّا منعنا الحكم بالنزح.

ولو قال : نحن نعلم من الشرع أنّه لا يوجب نزحا بملاقاة لا يؤثّر في الماء منعا ، قلنا : نمنع هذه الدعوى ونطالب بحجّتها.

وقد استدلّ شيخنا أبو جعفر رحمه‌الله على المنع من استعمال ماء الغسل في الخلاف (٢٠) بأنّه ماء لا يقطع بجواز استعماله في الطهارة فلا يتيقّن معه رفع الحدث.

والجواب لا نسلّم أنّه لا يقطع بطهارته ، لأنّ كلّ دليل على جواز استعماله قبل الاغتسال دالّ بعمومه أو إطلاقه على جوازه بعده ، لدخوله تحت اسم الماء المطلق بما بينّاه ، وتخصيص ذلك بخبر الواحد القويّ السند غير جائز فكيف بضعيفه.

وهذا القدر الذي ذكرناه هو ما اتّفق على الخاطر من غير إغراق في البحث ، ولا تأنّ في النظر ، بحيث يشعب الاعتراضات ويستقصي الإيرادات ، وفيه مقنع للمستبصر إن شاء الله وحسبنا الله ونعم الوكيل.

__________________

(٢٠) قال في الخلاف كتاب الطهارة المسألة ١٢٦ : الماء المستعمل في الوضوء عندنا طاهر مطهّر وكذلك ما يستعمل في الأغسال الطاهرة بلا خلاف بين أصحابنا ، والمستعمل في غسل الجنابة أكثر أصحابنا قالوا : لا يجوز استعماله في رفع الحدث وقال المرتضى : يجوز ذلك وهو طاهر مطهّر. ولم أجد ما نقله المصنّف في الخلاف المطبوع فراجع الخلاف ١ ـ ١٧٢ و ١٩٨.

٢٣١
٢٣٢

٤

المسائل البغداديّة

وهي تشتمل على ٤٢ مسألة

تأليف المحقق الحلّي ره.

٢٣٣
٢٣٤

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا بعد حمد الله الذي أرشدنا لدينه وحفظ حدوده ، وسدّدنا لبيانه وحلّ معقودة ، والصلاة على سيّدنا محمّد المبعوث لإظهار الإسلام ورفع عموده ، وعلى آله القائمين بنشره وتشييده.

فانّا مجيبون عمّا تضمّنته هذه الأوراق من المسائل. لدلالتها على فضلية موردها ومعرفة ممهّدها (١) فهو حقيق أن نحقّق أمله ونجيبه إلى ما سأله ، وبالله التوفيق.

المسألة الأولى

إذا أتلف الإنسان على غيره دابّة أو جارية هل يلزمه المثل أو القيمة وما الحكم في ذلك؟.

__________________

(١) ممدّها. كذا في بعض النسخ. وقد قال العلّامة الطهراني في الذريعة ٢٠ ـ ٣٣٩ : إنّ الذي سأل عنه هذه المسائل تلميذه الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي العاملي المشغري.

٢٣٥

الجواب

يلزمه القيمة لا المثل ، لأنّ المثل متعذّر ، وإلزامه حرج وضيق وهما منفيّان.

ولو أمكن وجود المثل من كلّ وجه وإن كان نادرا ودفعه المتلف لزم صاحب التالف أخذه ، وظاهر (٢) كلام الأصحاب أنّ المستقر في الذّمة القيمة لا غير ، ويلزم على هذا جواز امتناع صاحبه بعن قبض مثله لو اتّفق.

المسألة الثانية

في امرأة دخل إليها صبيّ دون البلوغ فأمرته بالصعود إلى سطحها ليكشف كنيسة الدار وعليها لحاف فصعد الصبيّ ليكشف اللحاف عن الكنيسة فوقع إلى وسط الدار فمات في الحال ، فهل على المرأة دية الصبيّ وما الحكم في ذلك شرعا؟.

الجواب

لا نصّ لأصحابنا في هذه ، والذي يقتضيه النظر إن كان الصبيّ غير مميّز ضمنت ديته لأنّه غير قادر على التحفّظ فهي مسبّبة إتلافه. وكذا إن كان مميّزا وكانت الكنيسة مغشاة غشاء يخفى عن الصبيّ مواضع الخطر منه لتحقّق الغرور. أمّا لو كان بصيرا مميّزا ولم يكن هناك غرور فلا ضمان لأنّ وقوعه يكون بتفريط منه في التحفّظ ويصفو فعلها عن السببيّة والمباشرة. ولا يقال : تصرّف في الصبيّ المولّى عليه من غير ولاية فيضمن. لأنّا نقول : ذلك التصرّف ليس إتلافا ولا سببا فلا يرتّب عليه ضمان.

المسألة الثالثة

في الرجل اشترى من شخص حيوانا فوجد فيه عيبا سابقا على العقد وقد

__________________

(٢) في الأصل : فظاهر.

٢٣٦

انقضت الثلاثة الأيّام ولم يتصرف فهل له الردّ بعد انقضاء الأيام؟ وهل إن حصل فيه عيب بعد العقد وقبل التصرّف وانضاف إلى العيب السابق ما الحكم في الجميع؟.

الجواب

نعم له الردّ وإن انقضت الأيّام. ولو حصل العيب بعد العقد وقبل القبض لم يمنع الردّ. وكذا لو حدث بعد القبض في أيّام الخيار الثلاثة ، أمّا لو حدث بعد الثلاثة يمنع من الردّ بالعيب السابق (٤).

المسألة الرابعة

ما يصطفيه الإمام عليه‌السلام من الغنيمة التي توجد في دار الحرب هل فيها خمس أم لا؟ وكذا ما يجب له من رءوس الجبال وبطون الأودية والآجام إذا كانت في الأرض التي تملك رقبتها هل يكون فيها خمس أم لا؟ وهل الأرض التي تملك رقبتها تصير له عليه‌السلام أم لا؟.

الجواب

نعم يجب إخراج الخمس ممّا يصطفيه الإمام لأنّه من جملة ما غنم. أمّا رءوس الجبال والأدوية من الأرض المملوكة فلا سبيل له عليها. بل يختصّ بها أربابها ، وأمّا ما كانت ملكا للمسلمين أو كانت لغير (٥) مالك فهي للإمام وليس فيها خمس لخروجها عن الأقسام التي يتعلّق بها الخمس. وإن كانت من أرض أهل الحرب التي فتحت عنوة فهي له وفيها الخمس.

المسألة الخامسة

في شخص ادّعي عليه أنّه قتل رجلا وتعذّرت البيّنة وثبت اللوث وأحلف

__________________

(٤) ويثبت الأرش كما هو واضح.

(٥) كذا في الأصل ولعلّ الصحيح : بغير مالك.

٢٣٧

المدّعي خمسين يمينا فلّما تكمّلت الأيمان أقرّ شخص آخر بأنّه الذي قتله. فما الحكم في ذلك؟.

الجواب

وليّ الدم بالخيار إن شاء أقام على مطالبة المدّعي عليه ، وإن شاء طالب المقرّ ، لثبوت الحقّ على كلّ واحد منهما هذا بالأيمان والآخر بالإقرار (٦).

المسألة السادسة

في رجل قتله خمسة أنفس عمدا فاختار وليّ الدم قتل ثلاثة أنفس منهم فكيف حكم الردّ على ورثة المقتولين وما الحكم فيه؟.

الجواب

يردّ الأولياء دية اثنين إذا كانوا متكافئين (٧) ويردّ الباقيان خمسي الدية ، لأنّ على كلّ واحد خمس دية المقتول أوّلا فيقسم أولياء المقتولين ذلك بينهم لورثة كلّ مقتول ثمانمائة دينار (٨).

المسألة السابعة

في رجل له على رجل دين إلى أجل معلوم فجاء شخص وضمن ما عليه لربّ الدين بإذن من عليه المال ، فهل يكون للمضمون له مطالبة الضامن بالمال قبل حلول الأجل أم لا؟ وهل إذا صانع المضمون له بأقلّ ممّا ضمن يكون له الرجوع على المضمون عنه بما ضمنه أم لا أو (٩) بما صانع المضمون له.

__________________

(٦) قال المصنف في الشرائع ٤ ـ ٢٢٧ في بحث القسامة : الثالثة : لو استوفي بالقسامة فقال آخر :

انا قتلته منفردا ، قال في الخلاف : كان الوليّ بالخيار. وفي المبسوط : ليس له ذلك لأنّه لا يقسم إلّا مع العلم ، فهو مكذّب للمقرّ.

(٧) المراد بالتكافؤ كون القائل والمقتول متساويين في الإسلام والحرّية وغيرهما من الاعتبارات.

كذا في المسالك.

(٨) هذا إذا اختار الأولياء والباقيان في الدية ألف دينار لا سائر أقسام الدية فراجع

(٩) كذا.

٢٣٨

الجواب

ليس لصاحب المال مطالبة الضامن قبل حلول الأجل لأنّه ضمن المال الثابت في ذمّة المضمون عنه والتأجيل صفة للمال المضمون فثبت في ذمّة الضامن مؤجّلا كما كان في ذمّة المضمون عنه. وإذا صانع الضامن المضمون له بأقل ممّا ضمن لم يرجع على المضمون عنه بأزيد مما أدّاه لأنّ الضمان إرفاق ومساعدة والرجوع بالزيادة مناف له.

المسألة الثامنة

قوله في النهاية : « ولا يجوز أن يبيع الإنسان متاعا مرابحة بالنسبة إلى أصل المال بأن يقول : أبيعك هذا المتاع بربح عشرة واحدا أو اثنين بل يقول بدلا من ذلك : هذا المتاع عليّ بكذا وأبيعك إيّاه بكذا بما أراد » (١٠) فما الفرق؟ وهل قوله : « لا يجوز » على التحريم أو الكراهية وما العلّة في كراهية ذلك إن كان مكروها أو محرّما؟.

الجواب

منع الشيخ من ذلك على الكراهية لا التحريم وقد بيّن ذلك في غير هذا الكتاب (١١) والفرق بين نسبة الربح إلى المال ونسبته إلى السلعة أنّ في نسبته إلى المال شبه الربا كأنّه باع عشرة باثني عشر ، ولا كذا لو نسبه إلى السلعة بأنّه يبعد عن شبه الربا. وإنّما كره ليعظم حال الربا في النفس عند تحقّق النهي عمّا يشابهه وإن لم يكن هو. ودلّ على الكراهية ما روي من طرق عن الصادق عليه‌السلام منها رواية جرّاح المدائني أنّه قال : أكره ده يازده وده ودوازده ولكن أبيعك

__________________

(١٠) النهاية ص ٣٨٩.

(١١) قال الشيخ في المبسوط : يكره بيع المرابحة بالنسبة إلى أصل المال وليس بحرام ، فان باع كذلك كان البيع صحيحا ، وكذا قال في الخلاف ، وبه قال ابن إدريس وهو المعتمد. كذا في المختلف ٣٦٨.

٢٣٩

بكذا وكذا (١٢).

المسألة التاسعة

ما ذكره الشيخ سلّار رحمه‌الله لمّا ذكر المحرّمات في النكاح قال : « وأن لا تكون صمّاء ولا خرساء وقد قذفها في عقد أوّل » (١٣) ما معنى عقد أوّل؟.

الجواب

أراد بالعقد الأوّل العقد الذي وقع فيه القذف ، وجعل العقد الذي تناوله النهي (١٤) هو العقد الثاني وهو وإن لم يكن واقعا لكن لما جعله منهيا عنه فرضه ثانيا ، أو أنّ العقد الذي وقع القذف فيه كان سابقا فسمّاه أوّلا بمعنى أنّه سابق ولا يلزم من سبقه على العقد المحرّم أن يكون المحرّم عقدا واقعا.

المسألة العاشرة

قوله في النهاية : « وإذا ذبح شاة أو غيرها ثمّ وجد في بطنها جنين فإن كان قد أشعر أو أوبر ولم تلجه الروح فذكاته ذكاة امه ، وأن لم يكن تاما لم يجز أكله على حال ، وإن كان فيه روح وجبت تذكيته ، وإلّا فلا يجوز أكله » (١٥) فما الفرق بينهما وما العلّة في تحريم أحدهما وإباحة الآخر؟

الجواب

لا ريب أنّ في كلام الشيخ رحمه‌الله إشكالا لأنّ العادة قاضية بأن ولوج

__________________

(١٢) الوسائل ١٢ ـ ٣٨٥ ـ الكافي ٥ ـ ١٩٧ ـ التهذيب ٧ ـ ٥٥ وأيضا رويت هذه الرواية بطرق أخر عن الصادق عليه‌السلام. راجع الباب ١٤ من أبواب أحكام العقود من كتاب التجارة من الوسائل.

(١٣) المراسم ص ١٤٩ الطبع الحديث.

(١٤) قال في المراسم : وأن لا تكون صمّاء ولا خرساء وقد قذفها في عقد أوّل لأنّ هذه لا تحلّ له أبدا. فالمراد بالنهي عن العقد الثاني عدم صحّته شرعا.

(١٥) النهاية ٥٨٥.

٢٤٠