الرسائل التسع

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]

الرسائل التسع

المؤلف:

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٩

يطهّر ولا يطهّر. قلنا : الرواية ضعيفة ، فإنّ الراوي لها السكوني وهو عامي (١٣) ولو صحّت روايته لكانت منافية لمسائل كثيرة اتّفق عليها فيجب إطراحها أو تخصيصها ، ومع تطرّق التخصيص يسوغ لنا أيضا التخصيص. وبيان ذلك بصور :

الأولى : الماء القليل إذا اتّصل بالجاري فاستهلكه طهر. الثانية : الماء القليل إذا القي عليه كرّ من ماء طهر. الثالثة : مياه الآبار تطهر بالنزح.

ثمّ نقول : الرواية متناقضة ، لأنّه يلزم من كون الماء مطهّرا أن يطهّر نفسه ومن كونه لا يطهّر أن لا يطهّر.

ثمّ نقول : ما ذكرتموه من الحجج يرجع حاصلها إلى التمسّك باستصحاب الواقع ما لم يثبت المعارض ، والمعارض موجود ، وبيانه بالإجماع والنصّ والأثر والمعقول.

أما الإجماع فتقريره من وجهين :

أحدهما استقراء كتب الأصحاب ، فإنّهم بين مفت بالطهارة ، وساكت ومتردد (١٤) ، وعلى الأحوال تسلم دعوى المطهّر من المخالف ، إذ المتردّد لا فتوى

__________________

(١٣) قال الشيخ الطوسي رحمه‌الله في عدة الأصول : إذا كان ( الراوي ) مخالفا في الاعتقاد لأصل المذهب وروى مع ذلك عن الأئمة عليهم‌السلام نظر فيما يرويه فان كان هناك من طرق الموثوق بهم ما يخالفه وجب اطراح خبره وان لم يكن هناك ما يوجب اطراح خبره ويكون هناك ما يوافقه وجب العمل به ، وان لم يكن هناك من الفرقة المحقة خبر يوافق ذلك ولا يخالفه ولا يعرف لهم قول فيه وجب أيضا العمل به لما روي عن الصادق عليه‌السلام انه قال : إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنا فانظروا الى ما رووه عن علي عليه‌السلام فاعملوا به. ولا جل ما قلنا عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث بن كلوب ونوح بن دراج والسكوني وغيرهم من العامّة عن أئمتنا عليهم‌السلام فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه.

عدة الأصول ١ ـ ٣٧٩ الطبع الحديث.

أقول : اسم السكوني إسماعيل وأبوه أبو زياد والسكوني حيّ من اليمين.

(١٤) قد مرّ القول بعدم التطهير من خلاف الشيخ وغيره فراجع.

٦١

له ، والقول في طرف الساكت أظهر.

وربما قرّر بعضهم الإجماع بحكاية كلام السيّد ونقل كلام ابن البرّاج وإيراد كلام سلّار ، ثمّ يقول : وهؤلاء فضلاء الأصحاب ، ومن خالف معروف فيكون الحقّ في خلافه (١٥).

التقرير الثاني : أن نقول : الأمة بين قائلين : قائل يقدّر الماء بحدّ لا ينجس معه وقائل ينفي التقدير ، وكلّ مقدّر له بحدّ لا يفرق بين سبق النجاسة وتأخرها ، فيكون الفرق على خلاف الإجماع.

وأمّا النصّ فقوله تعالى ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) (١٦). وقوله ( عليه‌السلام ) : خلق الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء إلا ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته (١٧). وقوله ( عليه‌السلام ) : إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا (١٨). وهذا الخبر متواتر متلقّى بالقبول ، والاستدلال به من وجهين : أحدهما : أنّ الماء جنس معرّف باللام وليس هنا معهودا فهو إذا لاستغراق الجنس لما عرف. الثاني : الماء المذكور إمّا أن يراد به الطاهر والنجس ، أو الماء لا باعتبار أحد القسمين ، لأنّ كلّ واحد من القسمين لا إشعار في المطلق به ، وأيّهما كان لزم تناوله لصورة النزاع ، أمّا بتقدير إرادة الأمرين فظاهر ، وأمّا بتقدير إرادة الماء من حيث هو ، فلانّ معناه موجود في النجس فيجب ثبوت الحكم معه. لا يقال : الظاهر أنّ

__________________

(١٥) راجع رسائل السيد المرتضى ٢ ـ ٣٦١ والمهذّب لابن البراج ١ ـ ٢٣ والمراسم لسلّار ص ٣٦.

(١٦) سورة الأنفال ، الآية : ١١.

(١٧) قال في الوسائل ١ ـ ١٠١ : في المعتبر للمحقق الحلّي : قال : قال عليه‌السلام : خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه. قال ورواه ابن إدريس مرسلا في أوّل السرائر ونقل انّه متّفق على روايته.

أقول : ولم أجده بهذا اللفظ في الكتب الروائية للعامّة فراجع.

(١٨) رواه الشيخ في الخلاف ١ ـ ١٧٤ ونسبه الى الأئمة الأطهار عليهم‌السلام.

٦٢

البلوغ شرط لنفي الحمل ، والمشروط موقوف على الشرط ، فإذا حصل البلوغ انتفي أن يحمل فلا يتناول نفي ما حمل ، لأنّا نقول : لا ريب أنّ البلوغ شرط لنفي الحمل ، ويلزم انتفاء السابق والّا لكان الحمل ثابتا.

واما الأثر فما روي عن أبي عبد الله ( عليه‌السلام ) من طرق عدّة : إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء (١٩).

واما المعقول فوجوه : الأول : لو لم تكن الكثرة رافعة للخبث السابق لما جاز استعمال الراكد مع وجود عين النجاسة فيه حتّى يعلم سبق الطهارة ، لكن هذا اللازم باطل بالإجماع.

الثاني : لو لم يكن الكرّ المجتمع من المياه النجسة طاهرا عند البلوغ لزم تخصيص شرط آية التيمّم (٢٠) ، والتخصيص على خلاف الأصل. الثالث : لو لم يكن طاهرا عند البلوغ لكانت الكثرة غير ناهضة بدفع الخبث الوارد ، فلا تكون الطهارة معلّقة على البلوغ ، بل وعلى ذلك السبب ، وهو خلاف مدلول الأحاديث. الرابع : الحكم بنجاسة هذا الماء عسر ، والحكم بطهارته يسر ، فيترجّح جانب اليسر لقوله تعالى ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ) (٢١).

والجواب : قوله : لا نسلّم الحصر ، فانّ هنا أقساما أخر. قلنا : قد بيّنا انتفاء تلك الأقسام ، فإنّه لو لا أحد الأمرين لزم بقاء النجاسة عملا بالمقتضى السالم عن مصادمة المعارض.

فإن قال : المعارض ممكن. قلنا : لا يجوز الوقوف مع الاحتمال ، وإلّا لزم نفي الحكم الثابت بالفرض الموهوم. أو نقول : هذا الاحتمال منفيّ ، أمّا عندنا

__________________

(١٩) راجع الوسائل ١ ـ ١١٧ وفي الروايات : « إذا كان » مكان « إذا بلغ » الفقيه ١ ـ ٩ طبع مكتبة الصدوق ـ التهذيب ١ ـ ٤٠ ـ الإستبصار ١ ـ ٤ ـ الكافي ٣ ـ ٢.

(٢٠) سورة النساء : ٤٣ وسورة المائدة : ٦.

(٢١) سورة البقرة : ١٨٥.

٦٣

فلتحقّق النجاسة ، وأمّا عند الخصم ، فلأنّ الطهارة معلّلة بأحدهما ، فيكون ثبوته لا بأحدهما منفيا بالإجماع.

قوله : لا نسلّم انتفاء الاستهلاك. قلنا : قد بيّنّاه.

قوله : لم لا يجوز أن تكون قوّة الماء على دفع الخبث مشروطة بالبلوغ فالحكم يثبت معه لا قبله. قلنا : الغرض يتمّ ، فإنّه إذا لم يكن الشرط حاصلا فقد قويت النجاسة على الماء ، فلم يتحقّق الاستهلاك هناك وإذا كان الاستهلاك بالمكاثرة ولم يحصل بعد الاجتماع لم تحصل الغلبة.

قوله : ما المانع أن تحصل الطهارة هنا منهما. قلنا : قد بيّنّا ذلك.

قوله : متى يلزم الدور إذا حصلت طهارتهما في وقت واحد أم إذا سبقت إحداها؟ قلنا : كيف كان ، فإنّ المؤثّر متقدّم على الأثر تقدّما ذاتيّا ، فلو كانت طهارتهما منهما وقف حصول كلّ واحد منهما على الأخرى ، أو يقال : أحدهما يطهّر الآخر وهو نجس ، لكن هذا باطل.

قوله : ما المانع أن تكون الطهارة بالبلوغ. قلنا : البلوغ إمّا أن يكون شيئا زائدا على الماء وإمّا أن يكون أمرا إضافيّا عرض له. ويلزم من الأوّل طهارة الماء بغير الماء. ومن الثاني طهارة كلّ واحد من الماءين بالآخر ، أو طهارة أحدهما بالآخر وقد بيّنّا بطلانه.

قوله : الرواية مستندة إلى السكوني ، وهو عامّي. قلنا : هو وان كان عاميّا فهو من ثقات الرواة. وقال شيخنا أبو جعفر رحمه‌الله في مواضع من كتبه (٢٢) : إنّ

__________________

(٢٢) الذي يظهر من هذه العبارة أن الشيخ الطوسي ره صرّح بقبول رواية السكوني في غير عدّة الأصول أيضا ولكن لم نقف إلى الآن إلّا على عبارته في العدّة وقد نقلناها في بعض التعاليق الماضية فراجع. واستدلّ بعض أهل الرجال بهذه العبارة من هذه الرسالة أي : قول المحقق في المسائل العزّية : « هو وإن كان عاميا فهو من ثقات الرواة » على وثاقة السكوني. راجع تنقيح المقال ١ ـ ١٢٨.

٦٤

الإماميّة مجمعة على العمل بما يرويه السكوني وعمّار ومن ماثلهما من الثقات ، ولم يقدح بالمذهب في الرواية مع اشتهار الصدق ، وكتب جماعتنا مملوّة من الفتاوى المستندة إلى نقله ، فلتكن هذه كذلك. ثمّ الخصم يحتجّ بما هو أضعف منها.

قوله : هي منافية لمسائل كثيرة. قلنا : لا نسلّم فإنّه لا شي‌ء من تلك المسائل إلّا ولها وجه تخرج به عن معارضة الرواية.

أمّا طهارة القليل بالجاري ، فلأنّ الاستهلاك يجري مجرى الإعدام ، فلا نقول إنه يطهّر ، ولكن إذا استهلك في الطاهر لم يبق له حكم ، فكان كالبول الذي يستهلكه الماء الجاري.

وأمّا الراكد ، فيقع عليه كرّ ، فإنّ الكرّ الواقع لا ينجس بملاقاة النجاسة فإذا لم يتغيّر بما يقع عليه لم ينجس. والقليل إن بقي ممتازا فهو نجس ، وإذا استهلكه الطاهر كان الحكم للطاهر دونه.

وأمّا ماء البئر قلنا عنه جوابان : أحدهما : أنّا لا نسلّم نجاسته ، فإنّ من الأصحاب (٢٣) من يوجب نزحه تعبّدا لا تطهيرا ، فعلى هذا لا يلزم تطهير النجس. الثاني : أنّا نلزم التنجس ، ونقول : ما المانع أن يكون تنجسه لشبهه بالراكد ، فإذا نزح ، خرج بالنزح إلى حيّز الجاري ، فاستهلك النجاسة بجريته ، فإن قال : لو كان كذلك لما اختلف مقادير النزح. قلنا : لمّا كان المراد قوّة الجرية على النجاسة ، وكانت الأذهان تقصر عن تحقيق ذلك قرّر الشرع من النزح ما يعلم حصول الغرض به بحسب اختلاف تأثير النجاسات.

قوله : الرواية متناقضة. قلنا : لا نسلّم.

__________________

(٢٣) قال في مفتاح الكرامة : في المسألة أقوال : القول الثالث : البقاء على الطهارة ووجوب النزح تعبّد .. وقد نسب هذا القول الى الشيخ في التهذيب في المهذّب البارع .. واستندوا في هذه النسبة الى حكمه بعدم جواز الاستعمال وبعدم وجوب اعادة ما استعمل فيه من الوضوء وغسل الثياب .. انتهى ملخّصا. راجع مفتاح الكرامة ١ ـ ٨١.

٦٥

قوله : عموم كونه مطهّرا يقتضي أن يطهّر نفسه ، ولا يطهّر. قلنا : يفهم من هذا كونه مطهّرا لغيره ، كما فهم ذلك من قوله تعالى ( خالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ ) (٢٤) في أنه لا يتناول ذاته تعالى.

والجواب عن المعارضات : قوله : الأصحاب بين مفت بالتطهير ، وساكت ، ومتردّد ، قلنا : لا نسلّم الحصر ، فما المانع أن يكون من الأصحاب مانع لم نقف على قوله ، فإن قال : عدم الوقوف بعد الفحص يدلّ على عدم المخالف. قلنا : قد ثبت في العقل أنّ عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.

قوله : ويلزم من انقسام الأصحاب هذا الانقسام سلامة قول المفتي عن المعارض. قلنا : لا نسلّم بل المتردّد مانع في أحد قوليه.

قوله : المتردّد لا فتوى له. قلنا : صحيح لكن كما ليس له فتوى بالمخالفة ليس له فتوى بالموافقة.

قوله : مع سلامة قول المفتي عن المانع يكون إجماعا. قلنا : لا نسلّم ، وانّما يتحقّق الإجماع حيث يعلم اتّفاق من الإمام في جملتهم ، فمن أين أن الإمام مفت بالتطهير ، أو في أحد الأقسام الثلاثة (٢٥). وربما يقول : المخالف معروف باسمه ، وهو هوس لا يستحق الجواب. فليس الوقوف على قول المخالف والجهل بقول الباقين دليلا على المخالفة أو الموافقة. وأمّا تعداد الفتاوى فتمسّك الضعيف ، إذ الحجّة ليست في قول الواحد والعشرة ، بل في قول من يعلم دخول الإمام في جملتهم ، وذاك لا يتحقّق بالواحد ولا الخمسة ولا الخمسين ، بل يكون التعداد أضرّ إذ ينقلب (٢٦) أنّ هؤلاء هم القائلون دون غيرهم ، أو يحتمل ، وعلى التقديرين

__________________

(٢٤) سورة الانعام : ١٠٢ والرعد : ١٦ والزمر : ٦٢ وغافر : ٦٢.

(٢٥) كون الامام عليه‌السلام في المترددين ممّا لا يحتمل كما لا يخفى على العارفين بمقاماتهم.

(٢٦) كذا.

٦٦

لا يكون إجماعا.

قوله في التقرير الثاني : الأمّة بين قائلين ، وكلّ من قال بالتحديد لم يفرّق بين سبق النجاسة وتأخّرها عن البلوغ. قلنا : هذا غفول ، فإنّ كثيرا من الجمهور يفرّق بين الحالين كأحمد بن حنبل ومن تابعه ، وكذا اختلاف فرقتنا ، وإلّا فالمناظرة على ما ذا؟ وان ادّعى ذلك علينا فهو إذن غنيّ بهذا الإجماع عن هذا النزاع.

وأمّا الاستدلال بالآية فالاعتراض من وجوه : أحدها : أنّ لفظة « ما » نكرة في سياق الإثبات ، فلا تعمّ فهي تصدق ولو بصورة واحدة. الثاني : لو سلّمنا عمومها لدلّت على الغرض بإنزال الماء ، أمّا على انقلاب ما حكم بنجاسته إلى الطهارة فلا. الثالث : أنّ العموم معارض بالعمومات المانعة من استعمال الماء ، الذي لاقته النجاسة ، كقول الصادق ( عليه‌السلام ) في سؤر الكلب : لا تتوضّأ بفضله (٢٧) ، وكنهيه عن سؤر اليهوديّ والنصرانيّ (٢٨) ، وعن الجرّة التي وقع فيها الدم (٢٩) ، وغير ذلك من الأحاديث التي اتّفق الفقهاء على قبولها.

وأمّا الرواية (٣٠) المتضمّنة لكون الماء طهورا لا ينجّسه إلا ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته ، فغير دالّة على موضع النزاع ، لأنّا نتكلم على تقدير كون

__________________

(٢٧) قد مرّت هذه الرواية في بعض التعاليق الماضية عن التهذيب ١ ـ ٢٢٥ والاستبصار ١ ـ ١٩ والوسائل ١ ـ ١٦٣.

(٢٨) رواه في الكافي ٣ ـ ١١ والتهذيب ١ ـ ٢٢٣ والاستبصار ١ ـ ١٨ والوسائل ١ ـ ١٦٥ : محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن عبد الله بن المغيرة عن سعيد الأعرج قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن سؤر اليهودي والنصراني ، فقال : لا.

(٢٩) التهذيب ١ ـ ٤١٨ والاستبصار ١ ـ ٢٣ والوسائل ١ ـ ١١٤ وقد مرّت الرواية في بعض التعاليق الماضية.

(٣٠) أي رواية خلق الله الماء طهورا.

٦٧

الماء ينجس بملاقاة النجاسة إذا كان قليلا ولو لم يتغيّر أحد أوصافه. ثمّ نبحث هل يطهر بالبلوغ أم لا؟ وليس بحثنا في هل هو طاهر على الأصل أم لا. فإن قال : فمع تعارض العمومين يكون الترجيح لجانب الطهارة. قلنا : إذا حكم بتحقّق النجاسة كفانا تطريق الاحتمال إلى الأدلّة المدّعي زوالها.

وأمّا الخبر الذي ادّعاه عن النبي ( عليه‌السلام ) فنمنعه ، لأنّا لا نعرف له أصلا ولا وقف عليه في كتاب من كتبنا مسندا ، وغايته أن يرويه الشيخ مرسلا فتارة يقول : لقوله ( عليه‌السلام ) ، وتارة : لقولهم عليهم‌السلام ، وتارة لم يحمل خبثا ، وأخرى لم يحمل نجاسة (٣١) ، فلا يدّعي تواتره مع هذا الاختلاف إلّا غبيّ. والجمهور معرضون عنه لا يعمل منهم به إلّا شاذّ ، ومعتمد أكثرهم على خبر القلّتين (٣٢).

قوله : هو مقبول. قلنا : لم نعرف من أصحابنا من احتجّ به إلّا الشيخ رحمه‌الله والمرتضى قدّس الله روحه وبعض من تأخر عنه (٣٣) ، فإن كان هو يعرف قبوله فشأنه وما يعرفه ، وأمّا نحن فلا ، ثمّ نقول : لا نسلّم دلالته على موضع النزاع.

قوله : اللام فيه لاستغراق الجنس. قلنا : نمنع ذلك كما هو مذهب كثير من أهل الأدب وأصحاب الأصول. ثمّ نقول : ما المانع أن يكون معرّفا للجنس

__________________

(٣١) قال الشيخ في الخلاف : لقولهم عليهم‌السلام : إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا. الخلاف ١ ـ ١٧٤ وقال في المبسوط ١ ـ ٧ : لقولهم عليهم‌السلام : إذا بلغ الماء كرا لم يحمل نجاسة.

(٣٢) رواه في الوسائل ١ ـ ١٢٣ نقلا عن التهذيب والاستبصار والفقيه : عن محمد بن علي بن محبوب عن العباس عن عبد الله بن المغيرة عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا كان الماء قدر قلتين لم ينجّسه شي‌ء. والقلتان جرتان. التهذيب ١ ـ ٤١٥ والاستبصار ١ ـ ٧ والفقيه ١ ـ ٦. أقول : ورواه الترمذي في سننه ١ ـ ٤٦ وغيره من الجمهور فراجع.

(٣٣) احتجّ به الشيخ في الخلاف والمبسوط كما مرّ والسيّد في الانتصار ص ٨ وابن البراج في المهذب ١ ـ ٢٣.

٦٨

الذي يحتمل إرادة الكلّ وإرادة البعض ، فإن تمسّك بحسن الاستفهام والاستثناء ، لم يكن فيه دلالة على ارتفاع الاحتمال فإنّ الاستثناء قد يكفي فيه احتمال التناول فمن أين وجوب التناول.

ولو سلّمنا أنّ الاستثناء يدلّ على وجوب التناول ، لما كان دالا على وجوب التناول ، وإن تجرّد عن الاستثناء ، وهذا لأنّ الجنس يحتمل أن يراد به كلّ أنواعه والمعظم والأقل. فإن انضمّ الاستثناء دلّ على إرادة ما يجب دخول الاستثناء تحته ، وكذا إذا وصف بالجمع ، ولو وصف بالواحد دلّ على إرادة الفرد ، فيكون في كلّ واحدة من الحالتين حقيقة ، فإذا جرّده بقي دالا على الجنسية المحضة المجرّدة عن الإشعار بالقلّة أو الكثرة.

سلّمنا أنّ المراد به استغراق الجنس ، لكن لفظ الجنس إذا استغرق استوعب الأفراد التي يقوّمها الجنس ، ولا يدلّ على العوارض ، والتنجيس مستندا إلى سببه الخارج عن حقيقة الماء ، فلفظة « الماء » حينئذ تتناوله باعتبار كونه ماء لا باعتبار كونه نجسا ، والدليل المانع يتناوله باعتبار كونه نجسا ، فيكون الدليل المانع من استعماله دالّا على المنع باعتبار ذلك القيد ، والعموم الدالّ على عدم احتمال النجاسة دالّا عليه مطلقا ، فيكون الترجيح لجانب الدليل المقيّد أو تساوي الاحتمالان فتبطل دلالة الحديث.

وأما الأثر فهو غير دالّ على موضع النزاع لأنّ مضمونه منع التنجيس ، وهو جعله نجسا ، والحكم المستدام ليس تنجيسا ، لأنّ « فعّل » هذا فائدته هنا ، كقولك عمّمت زيدا أي جعلته معتمّا ، وكذا سقّفت البيت ، فلو حلف لا سقّفت بيتا إن قدم زيد ، لم يحنث لو سقّفه قبل قدومه واستبقاه بعد قدومه. وينبغي أن يكون البحث عن مدلول هذه الرواية ، فإن دلّت على رفع النجاسة السابقة جزما كانت حجّة كافية ، وإلّا وجب البقاء على أصل النجاسة ، لكنّها غير دالّة ، إذ أحسن أحوالها أن تكون محتملة لا قاطعة.

٦٩

وأمّا المعقول فنقول قوله : لو كانت النجاسة المتقدّمة مانعة من الاستعمال لم يجز استعمال ما يشاهد فيه نجاسة ولو كان كثيرا إلّا بعد العلم بسبق الطهارة على ورودها عليه. قلنا : لا نسلّم الملازمة ، وهذا لأنّ الماء في الأصل على الطهارة فلا يعدل عن الأصل إلّا مع يقين النجاسة بناء على اليقين السابق. ولمّا كان وقوعها سابقا ولا حقا محتملا ، كان التنجيس غير متيقّن وسبق الطهارة متيقّنا.

وأما قوله : لو لم يطهّر الكرّ المجتمع من النجاسات لما كانت الكرّية مطهّرة. قلنا : والأمر كذلك.

قوله : فلا تكون مانعة للنجاسة مع تقدّم الطهارة. قلنا : لا نسلّم وهذا لأنّ الشرط في دفعه للنجاسة بقاء قوّته سليمة عن الانقهار بالنجاسة ، ولعلّ ذلك مملوح في قوله ( عليه‌السلام ) : إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء (٣٤).

قوله : الحكم بالطهارة يسر ، وبالنجاسة عسر. قلنا : هو مخصوص بالعموم المتّفق عليه الدالّ على وجوب الامتناع من الماء النجس ، ونحن نتكلّم على تقدير كونه نجسا. ثمّ نقول : هذا العموم معارض بقوله ( عليه‌السلام ) : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (٣٥).

__________________

(٣٤) رواه في الوسائل ١ ـ ١١٧ عن الكتب الأربعة الكافي ٣ ـ ٢ والفقيه ١ ـ ٩ والتهذيب ١ ـ ٤٠ والاستبصار ١ ـ ٦ وفيها « إذا كان » مكان « إذا بلغ ».

(٣٥) نقله الشيخ الحرّ في الوسائل ١٨ ـ ١٢٢ عن جوامع الجامع للشيخ الطبرسي ره ورواه العلامة المجلسي عن غوالي اللئالي في أحاديث رواها الشهيد الأول راجع البحار ٢ ـ ٢٥٩ وأيضا نقله السيّد المرتضى في الناصريات في المسألة ٣٨.

وقال الطبرسي في جوامع الجامع ج ـ ١ ص ١٣ الطبع الحديث : وفي الحديث : دع ما يريبك الى ما لا يريبك.

٧٠

المسألة الثانية في اعتبار النيّة في الطهارة.

لم أقف على قول لقدماء الأصحاب ، ولا على نصّ من الأئمة عليهم‌السلام دالّ بالتعيين على اعتبار النيّة في صحّة الطهارة ، لكن السيّد المرتضى وشيخنا أبو جعفر ومن تابعهما رضوان الله عليهم اعتبروا ذلك وعليه أعمل (١).

ويدلّ على ذلك النصّ والأثر والمعقول.

أما النصّ فوجهان :

الأول : قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) (٢). وتقدير الكلام : فاغسلوا هذه الأعضاء للصلاة ، لأنّ هذا هو المعروف من قولك : إذا لقيت العدوّ فخذ سلاحك ، وإذا لقيت الأمير فخذ أهبتك ، بمعنى خذ السلاح للعدوّ والأهبة للأمير ، فيكون حقيقة في هذا المعنى دفعا للاشتراك والتجوّز.

الثاني : قوله تعالى ( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (٣). والطهارة من الدين ، أمّا أوّلا : فلقوله ( عليه‌السلام ) : الوضوء شرط الإيمان (٤) ، وقوله ( عليه‌السلام ) : وضوءك من صلاتك فلا تشرك فيه أحدا غيرك. وأما ثانيا :

__________________

(١) قال الشيخ الطوسي في الجمل والعقود ص ١٥٨ : الوضوء يشتمل على أمرين أفعال وكيفياتها فالأفعال على ثلاثة أضرب : واجب ، ومندوب ، وأدب ، فالواجب خمسة أشياء : النيّة وغسل الوجه و .. وقال في فصل آخر : فإذا أراد الغسل وجب عليه أفعال هيئات ثمّ قال : هيئات ثلاثة مقارنة النيّة لحال الغسل والاستمرار عليها حكما.

وقال السيد المرتضى في الناصريات المسألة ٢٤ : النيّة شرط في صحة الوضوء عندنا أنّ الطهارة تفتقر إلى نيّة وضوءا كانت أو تيمّما أو غسلا من جنابة أو حيض وهو مذهب مالك والشافعي و ..

(٢) سورة المائدة : ٦.

(٣) سورة البيّنة : ٥.

(٤) الكافي ٣ ـ ٧٢ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : الوضوء شطر الإيمان.

٧١

فلأنّ الدين هو إمّا من الشأن والعادة. ولا ريب أنّ الوضوء ليس من عادة العرف ، بل هو من عادة الشرع وشأنه ، وإمّا من دانه يدينه أي أذلّه وأستعبده (٥) ، والوضوء بهذه الصفة فيكون داخلا في الاسم.

وأمّا الأثر فما روي عن أمير المؤمنين ( عليه‌السلام ) : أنّه سئل عن رجل اغتسل للجنابة ولم ينو ، قال : يعيد الغسل (٦).

وأما المعقول فوجهان :

الأول : أن الوضوء عبادة لا يتعيّن للمقصود بها بنفسها ، فوجب تعينها بالنيّة. أمّا أنه عبادة فلوجهين : أحدهما : ما رواه الوشاء قال : دنوت لأصبّ على يد الرضا ( عليه‌السلام ) فنهاني وقال ها أنا ذا أتوضأ للصلاة وهي العبادة واكره أن يشركني فيها أحد (٧). والثاني : أنّ العبادة مشتقّة من التعبّد وهو التذلّل ، لوجود هذا المعنى في جملة موارد استعمال هذه اللفظة (٨) ، والطهارة كذلك فتجعل حقيقة فيها. وأمّا أنّها لا تتعيّن للمقصود بنفسها ، فلأنّ المقصود بها الصلاة والقربة ، وصورة الطهارة كما تحمل إرادة ذلك تحمل إرادة التبرّد وإزالة الخبث وأماله الدرن ، فلا تختصّ بإزالة الحدث إلّا بالنيّة.

والوجه الثاني : أن نقول : لو صحّ الوضوء من غير نيّة لزم أحد الأمرين :

__________________

(٥) في لسان العرب : الدين : العادة : والشّأن ، تقول العرب : ما زال ذلك ديني وديدني أي عادتي. وفيه أيضا : في الحديث : الكيّس من دان نفسه وعمل لم بعد الموت .. قال أبو عبيد : قوله : دان نفسه أي أذلّها واستعبدها .. ١٣ ـ ١٦٩.

(٦) في دعائم الإسلام للقاضي نعمان ١ ـ ١١٣ : روينا عن علي عليه‌السلام إنّه قال : إذا اغتسل الجنب ولم ينو بغسله الغسل من الجنابة لم يجزه وإن اغتسل عشر مرّات. راجع المستدرك للنوري ١ ـ ٤٧١.

(٧) رواه الكليني في الكافي ٣ ـ ٦٩ والشيخ في التهذيب ١ ـ ٣٦٥ وأورده في الوسائل ١ ـ ٣٣٥.

(٨) راجع لسان العرب ١٣ ـ ١٦٩.

٧٢

إمّا تخصيص العموم أو حصول الأجر من غير نيّة والقسمان باطلان.

أمّا الملازمة فلأنّ بتقدير أن لا ينوي فإمّا أن يؤجر وإمّا أن لا يؤجر ، فإن أجر لزم حصول الأجر من غير نيّة. وإن لم يؤجر ، لزم تخصيص قوله ( عليه‌السلام ) : من توضّأ مرّة آتاه الله الأجر مرّة ، ومن توضّأ مرّتين آتاه الله الأجر مرّتين (٩) ، وقوله ( عليه‌السلام ) : أمّتي الغرّ المحجّلون من آثار الوضوء (١٠).

وأما بطلان القسمين ، فلأنّ الأجر من غير نيّة منفيّ بالاتّفاق ، ولقوله ( عليه‌السلام ) : إنما الأعمال بالنيّات (١١) ، وأمّا التخصيص فلأنّه خلاف الأصل ، وأنّ ارتكابه تكثير لمخالفة الدليل.

فإن قيل : لا نسلّم أنّ المراد افعلوا هذه الأفعال للصلاة. بل لم لا يجوز أن يكون المعنى : افعلوا هذه الأفعال على وجه يصحّ الدخول في الصلاة ، كما أنّ التأهّب للعدوّ أن يفعل ما يصحّ معه لقاء العدوّ ولا يلزم أن يقصد إلى فعله لذلك.

سلّمنا أنّه يدلّ على الأمر بفعل هذه الأفعال للصلاة ، لكن لا نسلّم أنّ ذلك يقتضي إحضار النيّة عند فعلها ، ويجري ذلك مجرى أن يقول : أعط الحاجب درهما ليأذن لك ، فإنّه يكفي إعطاؤه في التوسّل إلى الإذن ، ولا يشترط إحضار النيّة وقت العطيّة ، فما المانع أن تكون الطهارة كذلك.

قوله في تقرير النصّ : الثاني : الطهارة من الدين. قلنا : لا نسلّم ،

__________________

(٩) لم أجده بلفظه فراجع. في سنن البيهقي ١ ـ ٨٠ : عن ابن عمر قال : توضّأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة مرّة ثم قال : هذا وضوء من لا تقبل له صلاة إلّا به ثمّ توضّأ مرّتين مرتين ثم قال : هذا وضوء من يضاعف له الأجر مرّتين ..

(١٠) روى القطب الراوندي في لبّ اللباب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال : تأتي أمّتي يوم القيامة غرّا محجلين من آثار الوضوء. وروي أيضا في الكتب الروائية للعامّة.

(١١) رواه في التهذيب ١ ـ ٨٣ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال السيّد الخرسان في ذيله : أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن عمر بن الخطاب وأبو نعيم عن أبي سعيد جميعا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٧٣

واستدلاله بالرواية ضعيف ، إذ ليست أزيد من كونها خبر واحد ، وهو غير مفيد لليقين. ولو سلّمناه لكان غايته أنّ الطهارة جزء من الإيمان ، ولا يلزم أن يكون جزء الدين دينا. سلّمنا أنّ الطهارة من الدين ، ولكن الإخلاص يلزم في الدين كلّه بما هو دين ، أو في كلّ جزء؟. الأوّل مسلّم ، والثاني ممنوع فما الدليل عليه؟ سلّمنا أنّ الإخلاص واجب في كلّ جزء ، لكنّ الإخلاص ضدّ الإشراك ، والشرك هو أن توجّه العبادة إلى اثنين بحيث تشركهما فيها ، فيكون الأمر بالإخلاص أمرا بإطراح الشرك ، فيكفي أن لا يشرك غيره سبحانه في فعلها. سلّمنا أنّه يجب توجيه الطهارة إلى الله سبحانه ، لكن لا نسلّم وجوب نيّة فعلها للصلاة ، فإنّ الإخلاص يتحقّق من دون ذلك. سلّمنا أنّ الإخلاص واجب في الطهارة ، لكن لا نسلّم أنّ الإخلال به مبطل لها ، فلا بد لهذا من دليل.

وأما الأثر فنحن ننكر ثبوت هذه الرواية ، غاية ما في الباب أن يوردها بعض الأصحاب مرسلة ، والخبر المسند غير حجّة فما ظنّك بالمرسل.

وأمّا الاعتراض على الوجه الأوّل من المعقول فهو أن نقول : لا نسلّم أنّ الوضوء عبادة بمعنى أنّه لا يقع إلّا عبادة ، أمّا بمعنى أنّه يصحّ أن يقع عبادة إذا نوى التقرّب وغير عبادة إذا لم ينو فمسلّم ، لكن هذا لا ينفع المستدلّ. والرواية التي ذكرها يحتمل رجوع الضمير فيها إلى الصلاة ، لأنّه أقرب المذكورين.

قوله : العبادة مشتقّة من التعبّد وهو التذلّل ، والوضوء كذلك. قلنا : لا نسلّم إذا الوضوء قد يكون تذلّلا كما إذا نوى التقرّب ، وقد لا يكون كذلك إذا فعل للتبرّد أو اتفاقا أو لا لنيّة الامتثال ، ونحن نتكلّم على هذا التقدير.

قوله : لا تتعيّن الطهارة للمقصود بنفسها. قلنا : لا نسلّم ، فإنّ القصد بها جواز الدخول في الصلاة وكيف وقعت حصل الجواز ، فإن منع فهو أوّل المسألة.

قوله في الوجه الثاني : بتقدير أن لا ينوي فإمّا أن يؤجر وإمّا أن لا يؤجر.

٧٤

قلنا : ما المانع أن يؤجر.

قوله : منفيّ بالاتّفاق. قلنا : نحن نمنع ، لأنّ الأجر أعمّ من الثواب ، فلئن امتنع حصول الثواب مع التجرّد عن النيّة ، فإنّا لا نمنع حصول عوض ومجازاة مجرّدة عن التعظيم (١٢) ، يسمّى أجرا ، فما المانع منه؟.

وأما الاستدلال بقوله : إنّما الأعمال بالنيّات ، فجوابه المطالبة بتصحيح الرواية ، فإنّا لم نقف عليها إلّا مرسلة أو مسندة إلى مخالف في العقيدة (١٣)

ولو سلّمناها فإنّا نمنع دلالتها ، فإن قال : « إنّما » حاصرة ، فلا يثبت عمل من دون نيّة ، لأنّ الصحابة عرفت معناها من قوله ( عليه‌السلام ) : إنّما الماء من الماء (١٤) وعرفه ابن عبّاس من قوله ( عليه‌السلام ) : إنّما الربا في النسيئة (١٥). قلنا : هذا معارض بقوله تعالى ( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) (١٦). وبقول العرف : إنّما السخاء لحاتم ، وليس مجازا ، لأنّ الأصل عدم التجوّز ، فيكون حقيقة. سلّمنا أنّها للحصر ، ولكن لا نسلّم دلالتها على موضع النزاع ، لأنّه غاية ما يدلّ

__________________

(١٢) الثواب هو العوض المقارن للتعظيم. راجع الكتب الكلامية باب الثواب والعقاب.

(١٣) قال الشهيد الثاني في كتابه الدراية في علم مصطلح الحديث ص ١٥ : وحديث إنّما الأعمال بالنيّات ليس من المتواتر وإن نقله الآن عدد التواتر وأكثر فإنّ جميع علماء الإسلام ورواة الحديث الآن يروونه وهم يزيدون عن عدد التواتر أضعافا مضاعفة لأنّ ذلك التواتر المدّعى قد طرأ في وسط إسناده الآن دون أوّله فقد انفرد به جماعة مترتّبون أو شاركهم من لا يخرج بهم عن الآحاد.

(١٤) رواه مسلم في صحيحة ١ ـ ١٨٥ وقيل في شرحه : إنّما وجوب الاغتسال من نزول المني.

(١٥) قال الشيخ في التهذيب ١ ـ ٨٤ إنّ ابن عباس رحمه‌الله كان يرى جواز بيع الدرهم بالدرهمين نقدا وناظرة على ذلك وجوه الصحابة واحتجوا عليه بنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بيع الذهب بالذهب والفضّة بالفضة فعارضهم بقوله عليه‌السلام إنّما الربا في النسيئة فرأى ابن عباس هذا الخبر دليلا على أنّه لا ربا إلّا في النسيئة.

(١٦) سورة فاطر : ٢٨.

٧٥

على انحصار الأعمال في النيّات ، بحيث لو تجرّدت لم يكن عملا ، لكن هذا محال ، وإذا لم يكن الظاهر مرادا والمجاز متعدّد ، فليس بعضه بالإرادة أولى من بعض ، فيصير في حيّز المجمل. سلّمنا أنّه يدلّ على وجوب النيّة ، لكن ليس في الحديث ما يدلّ على النيّة المطلوبة ، فما المانع أن ينوي التبرّد فيقع له ، وتستباح به الصلاة ، فلا يكون دالا على النيّة المطلوبة لكم ثمّ هو منقوض بغسل الثياب والأبدان من الأخباث وتطهير الأواني ، فإنّها أعمال ويحصل المراد مع غسلها وإن تجرّدت عن النيّة. ثمّ نقول : لو افتقرت الأعمال إلى النيّة لافتقرت النيّة إلى مثلها ، ضرورة كونها عملا. سلّمنا أنّه لا يؤجر ، قوله : يلزم تخصيص قوله ( عليه‌السلام ) : من توضّأ مرّة آتاه الله الأجر مرّة. قلنا : هذا حقّ ، لكن يلزم من عدم التخصيص إدخال النيّة في مسمّى الوضوء ، وهو غير معروف من اللغة ، فيكون أيضا تخصيصا أو نقلا.

ثمّ ما ذكرتموه من الحجج معارض باستقبال القبلة وستر العورة ، فإنّ حججكم تستمرّ ، ولا يشترط فيه ( فيهما ظ ) النيّة.

والجواب :

قوله : فلم لا يجوز أن يكون المعنى : افعلوا هذه الأفعال للصلاة ، بمعنى : افعلوها على وجه يصحّ الدخول في الصلاة ، لا بمعنى القصد بها للصلاة ، قلنا : لو صحّ ذلك من دون القصد اكتفاء بالصحّة ، لصحّ أن يقال : أكل للمرض ، وسافر للخسارة ، لأنّ كلّ ذلك صالح لكن لا يقال ذلك مع انفراد الصلاحيّة عن القصد.

قوله : سلّمنا أنّه أمر بالطهارة للصلاة ، لكن لا نسلّم أنّ ذلك يقتضي إحضار النيّة كقوله : أعط الحاجب ليدخلك ، فإنّ العطيّة تحصل كيف كان. قلنا : نمنع حصول الامتثال هنا مع تجرّد العطيّة عن النيّة.

٧٦

قوله على الوجه الثاني : لا نسلّم الوضوء من الدين. قلنا : قد بيّنا ذلك.

قوله : الرواية خبر واحد. قلنا : حقّ ، لكنّا نكتفي بمثله في الفتاوى الفقهيّة ، على أنّا قد بيّنا ذلك بوجه آخر.

قوله : لو صحّ الخبر دلّ على أنّ الوضوء من الإيمان ، ولا يلزم من كون الإيمان دينا أن يكون جزؤه دينا. قلنا : الإيمان جنس معناه التصديق ، فإذا كانت جملته دينا لما فيه من معنى التذلّل ، أو لكونه عادة للشرع وشأنا فالوضوء كذلك ، فجرى مجرى الماء والتراب في وقوعه على الجملة والجزء.

قوله : الإخلاص يلزم في كلّ الدين أو بعضه. قلنا : في كلّه وبعضه ، وذلك لأنّ الدين مجموع أجزاء ، فلا بدّ في قصد الإخلاص به من نيّة لمجموعه أو لكلّ جزء منه. وكيف ما كان افتقر الجزء إلى نيّة أمّا بانفراده أو بانضيافه.

قوله : الإخلاص ضدّ الإشراك ، فيكون الأمر به أمرا باطراح الإشراك. قلنا : لا نسلّم ، وهذا لأنّ بين الإخلاص والإشراك واسطة ، وهو التخلّي من كلّ واحد منهما ، فلا يكون مطرح الإخلاص مشركا.

قوله : سلّمنا وجوب توجيه الطهارة إلى الله تعالى ، فلم قلتم بوجوب فعلها للصلاة؟ قلنا : لأنّ المتقرّب بها إنّما يتقرّب بالوجه الذي لأجله وجبت ، وهو كون الطهارة وسيلة إلى الصلاة ، فالآتي بنيّة القرب لا ينفكّ عن نيّة الصلاة.

قوله : سلّمنا أنّ الإخلاص واجب ، لكن لا نسلّم أنّ الإخلاص به مبطل للطهارة. قلنا : يبرهن ذلك بالإجماع ، إذ لا قائل بالفرق.

قوله : في الاعتراض على الأثر : نحن ننكر ثبوت هذه الرواية. قلنا : قد رواها المرتضى والشيخ وجماعة من فقهائنا ، ونحن نحسن الظنّ بنقلهم ، لما عرف من أمانتهم وفضلهم ، خصوصا ولم نجد له منكرا من الأصحاب.

قوله : لا نسلّم أنّ الوضوء عبادة. بمعنى أن لا يقع إلّا عبادة ، بل يصحّ أن يقع عبادة وغير عبادة. قلنا : قد بيّنا ذلك بالرواية.

٧٧

قوله : الرواية (١٧) يحتمل رجوع الضمير فيها إلى الصلاة ، لأنّه أقرب المذكورين. قلنا : منعه أن يصبّ الماء وتعليله ذلك بكراهته أن يشركه في العبادة أحد ينفي هذا الاحتمال. وإنّما كنّي عن الوضوء بكناية التأنيث ، لأنّه سمّاه عبادة ، أو لأنّه في معنى الطهارة.

قوله : لا نسلّم كون الوضوء تذلّلا بتقدير أن لا ينوي التقرّب. قلنا : قصدنا أن نبيّن أنّ الشرع وضعه للتذلّل والامتثال ، والفاعل له يقصد ذلك ، وهذا يكفي في تسميته تذلّلا وعبادة.

قوله : لا نسلّم أن لا يتعيّن للمقصود به إلّا بالنيّة. قلنا : هذا معلوم فإنّ صورة الوضوء عبادة مساو لصورته غير عبادة ، فلا يتعيّن عبادة إلّا بالنيّة.

قوله : ما المانع أن يؤجر. قلنا : قد بيّناه.

قوله : نحن نمنع ذلك ، فإنّ الأجر أعمّ من الثواب ، والمتّفق عليه منع الثواب لا غيره من الأجور. قلنا : هذا منفيّ بالإجماع ، فإنّ من قرنه بالنيّة جعل أجره الثواب ، ومن جرّده لم يجعل له أجرا ، أمّا عندنا فلعدم الصحّة ، وأمّا عندهم فلعدم النيّة.

قوله : لم تثبت رواية « إنّما الأعمال بالنيّات ». قلنا : قد ذكرها جماعة من أصحابنا (١٨) ، ولم أعرف من فقهائنا من ردّها ولا طعن فيها ، فجرت مجرى

__________________

(١٧) وإليك خبر الوشاء بتمامه : محمّد بن يعقوب ، عن علي بن محمد بن عبد الله عن إبراهيم بن إسحاق الأحمر عن الحسن بن علي بن علي الوشاء : قال : دخلت على الرضا عليه‌السلام وبين يديه إبريق يريد أن يتهيّأ منه للصلاة فدنوت منه لأصبّ عليه فأبى ذلك فقال : مه يا حسن فقلت له : وكيف ذلك؟ فقال : أما سمعت الله عزوجل يقول « فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً » وها أنا ذا أتوضأ للصلاة وهي العبادة فأكره أن يشركني فيها أحد. الكافي ٣ ـ ٦٩ والتهذيب ١ ـ ٣٦٥ والوسائل ١ ـ ٣٣٥ واللفظ للوسائل.

(١٨) كالشيخ الطوسي في التهذيب ١ ـ ٨٣ والسيد المرتضى في الناصريات المسألة ٢٤.

٧٨

الأخبار المقبولة. على أنّه يمكننا الاستغناء عنها بالاتّفاق على عدم الثواب مع عدم النيّة.

قوله : لا نسلّم كون « إنّما » للحصر. قلنا : قد بيّنا ذلك.

قوله : ما ذكرتموه معارض بقوله تعالى ( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) (١٩) وقول العرب : « إنّما السخاء لحاتم ». قلنا : هذا مبالغة وتجوّز ، لعدم الاطّراد في استعماله كذلك. ولكون معناه لا يفهم إلّا بالقرينة.

قوله : لو صحّت الرواية لدلّت على ارتفاع العمل ، ولم يرتفع ، فيكون المراد مجملا. قلنا : إذا تناول اللفظ رفع الذات ، ولم يرتفع ، ارتفع حكمها ، لأنّه أقرب المجازات.

قوله : ليس تقدير شي‌ء أولى من شي‌ء. قلنا : نمنع التساوي ، ونقول : الأولويّة ظاهرة ، وهو حمله على المجاز القريب ، وهو رفع الحكم أو القبول دفعا للإجمال.

قوله : لا نسلّم دلالته على النيّة المطلوبة. قلنا : إذا ثبت وجوب النيّة أوجبنا النيّة المتّفق عليها ، وهي نيّة القربة.

قوله : ما ذكرتموه من الحج منقوض بإزالة النجاسات عن الثياب والبدن وغسل الأواني ، فإنّه يحصل بدون النيّة. قلنا : عنه جوابان : أحدهما : التزام التسوية كما هو مذهب أبي الصلاح رحمه‌الله (٢٠). والثاني : إبداء الفارق ، وهو إنّ

__________________

(١٩) سورة فاطر : ٢٨.

(٢٠) في مفتاح الكرامة : هذا ( أي عدم اشتراط النية في الطهارة عن الخبث ) قول علمائنا كما في المنتهى وحكي عن ابن شريح انها تفتقر إلى النية وهو قول أبي سهل الصعلوكي من الشافعية كذا في المنتهى ، وفي التذكرة عن أحد وجهي الشافعي أنها تشترط قياسا على طهارة الحدث.

أقول : الذي يظهر من هذه العبارة أنّ صاحب مفتاح الكرامة لم يقف على هذا القول من أبي الصلاح الحلبي ( ره ) ويحتمل كون أبي الصلاح تصحيف أبي سهل فيحتاج الى مزيد تتبّع.

٧٩

إزالة النجاسات الحسّية يكفي في طهارة محلّها إزالتها ، والإزالة تحصل مع النيّة وعدمها ، والطهارات الحكمية يتوقّف رفعها على تدبير الشرع كما توقّف ثبوتها على تقريره.

قوله : لو افتقرت الأعمال إلى النيّة ، افتقرت النيّة إلى نيّة. قلنا : الظاهر في استعمال لفظة « الأعمال » إرادة الأفعال البدنيّة ، ولهذا فرّق النبيّ ( عليه‌السلام ) في قوله : نيّة المؤمن خير من عمله (٢١).

قوله : ما المانع أن لا يؤجر. قلنا : لعموم قوله ( عليه‌السلام ) : من توضّأ مرّة آتاه الله الأجر مرّة (٢٢).

قوله : لو اعتبرنا النيّة لزم التخصيص أيضا ، إذ هو في اللغة للوضاءة فلو اشترطنا النيّة لزم التخصيص أو النقل. قلنا : أمّا تخصيصه عن الإطلاق اللغوي بعرف الشرع فلا محيد عنه ، فإنّه كان لمطلق الوضاءة واختصّ بعرف الشرع بأفعال مخصوصة ، فقد حصل التخصيص بالوضع الشرعي اتّفاقا ، فليتوقّ التخصيص الآخر.

قوله : ما ذكرتموه منقوض باستقبال القبلة وستر العورة ، فإنّ الشرع أمر بهما لأجل الصلاة ، ولم يعتبر فيهما النيّة. قلنا : لا نسلّم ، بل لا بدّ فيهما من النيّة ، لكن لمّا كانا من أفعال الصلاة المقارنة كفت فيهما نيّة الصلاة ، إذ كانا كجزء منها.

__________________

(٢١) رواه في الكافي ٢ ـ ٨٤ وتمام الخبر : ونية الكافر شرّ من عمله وكل عامل يعمل على نيته.

(٢٢) راجع السنن الكبرى للبيهقي ١ ـ ٨٠.

٨٠