تفسير الصراط المستقيم - ج ١

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٠

عليه‌السلام : بل اليوم قلت : كان أو اليوم؟ قال عليه‌السلام : بل اليوم والله يا بن النجاشي حتى قالها ثلثا (١).

وفيهما عن الحرث بن المغيرة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما علم عالمكم جملة يقذف في قلبه أو ينكت في اذنه؟ قال : فقال عليه‌السلام : وحي كوحي أمّ موسى (٢).

وفي «البصائر» عن محمّد بن الفضيل ، قال قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : روينا عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : إنّ علمنا غابر ومزبور ونكت في القلوب ، ونقر في الأسماع قال : عليه‌السلام : أمّا الغابر فما تقدّم من علمنا ، وأمّا المزبور فما يأتينا ، وأمّا النكت في القلوب فإلهام ، أو النقر في الأسماع فإنّه من الملك (٣).

وروي زرارة مثل ذلك عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت : كيف يعلم إنّه كان من الملك ولا يخاف أن يكون من الشيطان إذا كان لا يرى الشخص؟ قال عليه‌السلام : إنّه يلقى عليه السكينة فيعلم أنّه من الملك ولو كان من الشيطان اعتراه فزع ، وإن كان الشيطان يا زرارة لا يتعرّض لصاحب هذا الأمر (٤).

أقول : ومع عدم تعرّض الخبيث للإمام عليه‌السلام إنّما تعرّض عليه‌السلام لبيان الفرق تنبيها على بيان الفرق بين الخواطر الملكية والشيطانية الواردة على قلوب سائر الناس حسبما تأتي إليها الإشارة.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٨٩ ط. القديم عن بصاير الدرجات.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٨٩ ط. القديم عن بصائر الدرجات.

(٤) نفس المصدر السابق.

٤٠١

وفي «الأمالي» و «البصائر» عن الصّادق عليه‌السلام : كان علي عليه‌السلام محدّثا وكان سلمان محدّثا ، قال : قلت : فما آية المحدّث؟ قال عليه‌السلام يأتيه ملك فينكت في قلبه كيت وكيت (١).

وفي «البصائر» عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : الاثنى عشر الأئمّة من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّهم محدّث قيل ومن يحدّثهم؟ قال عليه‌السلام : ملك ، قيل وما منزلتهم أأنبياءهم؟ قال عليه‌السلام : لا ولكنّهم علماء كمنزلة ذي القرنين وصاحب موسى وصاحب سليمان (٢).

والمراد بصاحب موسى يوشع أو الخضر ، وقد ورد التصريح بكلّ منهما في بعض الأخبار ، والتشبيه لمجرد متابعة نبيّ آخر مع سماع الوحي ، فلا ينافي ذلك في فضل رتبة الأئمة عليهم‌السلام ، عليهم ولا لحوق النبوّة وسبقها في صاحبي موسى.

وفيه سئل بريد العجلي مولينا الصادق عليه‌السلام عن الفرق بين الرسول والنبيّ والمحدّث قال (عليه‌السلام) : الرسول الذي تأتيه الملئكة ويعاينهم وتبلّغه عن الله تبارك وتعالى ، والنبيّ الذي يرى في منامه فما رأى فهو كما راى والمحدّث الذي يسمع كلام الملك ، وينقر في اذنه وينكت في قلبه (٣).

وفيه عن الأحول قال : سمعت زرارة يسئل أبا جعفر عليه‌السلام عن الرسول والنبيّ والمحدّث فقال عليه‌السلام : الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلا فيراه

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٩١ ط. القديم عن أمالي ابن الشيخ والبصائر.

(٢) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٩٢ وص ٢٩٣ عن البصائر ، ولا يخفى أن الحديث مركّب من حديثين صدره كما في البحار مرويّ عن الباقر (عليه‌السلام) وذيله عن الصادق (عليه‌السلام).

(٣) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٩٣ ط. القديم عن بصاير الدرجات.

٤٠٢

يكلّمه فهذا الرسول ، وأمّا النبيّ فإنّه يرى في منامه على نحو ما رأى إبراهيم عليه‌السلام ونحو ما كان رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أسباب النبوّة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل عليه‌السلام من عند الله بالرسالة وكان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين جمع له النبوّة وجائته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرئيل ويكلّمه بها قبلا ، ومن الأنبياء من جمع له النبوّة ويرى في منامه يأتيه الروح فيكلّمه ويحدّثه من غير أن يكون رأه في اليقظة وأمّا المحدّث فهو الذي يحدّث فيسمع ولا يعاين ولا يرى في منامه (١).

وعنه عن الصادق عليه‌السلام قال عليه‌السلام : الرسول الذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربّه يقول : يأمرك بكذا وكذا والرسول يكون نبيّا مع الرسالة ، والنبيّ لا يعاين الملك ينزل عليه النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه قلت : فما علّمه أنّ الذي راى في منامه حق؟ قال عليه‌السلام : يبينه الله حتى يعلم أنّ ذلك حق ولا يعاين الملك ، والمحدّث الذي يسمع الصوت ولا يرى شاهدا (٢).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي ستسمع كثيرا منها عند التعرّض لتفسير بعض الآيات ، نعم في المقام مباحث لا بدّ من التنبيه عليها :

أحدها قد سمعت أنّ الوحي يطلق لغة بل وعرفا عاما وخاصّا في الكتاب والسنّة على الكلام الخفي بل مطلق ما أريد به إفهام الغير وإعلامه مما يتعلّق به أو بغيره سترا له عن غيره ، وتخصيصا له به دون من سواه لكن ذكر المفيد في شرح «عقائد الصدوق» بعد الإشارة إلى ذلك أنّه إذا أضيف إلى الله تعالى كان فيما يخص

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٩٣ ط. القديم عن البصائر.

(٢) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٩٤ ط. القديم عن البصائر.

٤٠٣

به الرّسل صلوات الله عليهم خاصّة دون من سويهم على عرف الإسلام وشريعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال الله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) (١).

فاتّفق أهل الإسلام على أنّ الوحي كان رويا مناما وكلاما سمعته امّ موسى على الإختصاص ، وقال تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) (٢) ، يريد به الإلهام الخفي إذ كان خالصا لمن أفرده دون ما سواه فكان علمه حاصلا للنحل بغير كلام جهر به المتكلّم فأسمعه غيره (٣) ، وقال تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) (٤) ، بمعنى يوسوسون إلى أوليائهم بما يلقونه من الكلام في أقصى أسماعهم فيخصّون بعلمهم دون من سواهم ، وقال تعالى : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) (٥) ، يريد به إشارة إليهم من غير إفصاح الكلام شبّه ذلك بالوحي لخفائه عن سوى المخاطبين ولستره عن سواهم ، وقد يري الله تعالى في المنام خلقا كثيرا ما يصحّ تأويله ويثبت حقّه لكنّه لا يطلق بعد استقرار الشريعة عليه اسم الوحي ، ولا يقال في هذا الوقت لمن اطلعه الله على علمهم شيء أنّه يوحي اليه.

وعندنا أنّ الله تعالى يسمع الحجج بعد نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلاما يلقيه إليهم أي الأوصياء في علم ما يكون ، لكنّه لا يطلق عليه اسم الوحي لما قدّمناه من إجماع المسلمين على أنّه لأوحى لأحد بعد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنه لا يقال في شيء مما ذكرناه أنّه أوحي إلى أحد ، ولله تعالى أن يبيح إطلاق الكلام

__________________

(١) القصص : ٧.

(٢) النحل : ٦٨.

(٣) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٩٥ عن شرح عقائد الصدوق للمفيد.

(٤) الانعام : ١٢١.

(٥) مريم : ١١.

٤٠٤

أحيانا ويخطره أحيانا ، ويمنع التسمية بشيء حينا ويطلقها حينا فأمّا المعاني فإنّها لا تغيير عن حقائقها (١).

وعنه في «كتاب المقالات» (٢) ، أن العقل لا يمنع من نزول الوحي إليهم عليهم‌السلام وإن كانوا أئمه غير أنبياء الله تعالى فقد أوحي الله (عزوجل) إلى أمّ موسى أن أرضعيه الآية ، فعرفت صحة ذلك بالوحي وعملت عليه ولم تكن نبيا ولا رسولا ولا إماما ولكنّها كانت من عباد الله الصالحين وإنّما منعت نزول الوحي والإيحاء بالأشياء إليهم للإجماع على المنع من ذلك والاتّفاق على أنه من زعم أن أحدا بعد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوحى إليه فقد أخطأ وكفر ، ولحصول العلم بذلك من دين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنّ العقل لم يمنع من بعثة نبيّ بعد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ونسخ شرعنا كما نسخ ما قبله من شرايع الأنبياء عليهم‌السلام ، وإنّما منع ذلك الإجماع والعلم بأنّه خلاف دين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة اليقين وما يقارب الاضطرار ، والإمامية جميعا على ما ذكرت ليس بينها فيها على ما وصفت خلاف (٣).

أقول : وكانّه رحمة الله عليه أراد بما تكلّفه من الكلام التقصّي عمّا ربما يورد في المقام من الإشكال الذي حاصله أنّه إن كان المراد بالوحي الذي يتحقّق به النبوة لصاحبه خصوص الوحي التأسيسى الشرعي الذي يكون بمشاهدة الملك ومشافهته في اليقظة كما كان يحصل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحيانا فقضية ذلك

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٩٥ ط. القديم عن شرح عقائد الصدوق للمفيد.

(٢) أوائل المقالات في المذاهب المختارات للمفيد فيه مباحث مختلفة كلامية.

(٣) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٩٥ عن أوائل المقالات للمفيد.

٤٠٥

عدم ثبوت النبوّة لكثير من الأنبياء بل لأكثرهم فإنّ الوحي إلى أكثر الأنبياء لم يكن على وجه التأسيس بل لإظهار الشريعة السالفة وتقويتها ، وتبيينها لا لنسخها مع أنّ الوحي إلى كثير منهم بل أكثرهم لم يكن برؤية الشخص بل ربما كانوا لا يرون شخص الملك وإنّما يسمعون الصوت ، وربما لم يكن هناك سماع وإنّما هو مجرد القذف والنكت والإلهام أو الرؤية في المنام ، وإن كان المراد به مطلق الإنباء عن الله سبحانه بأيّ وجه حصل فقضيّة ذلك إثبات النبوة للائمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين إذ المستفاد من الأخبار الكثيرة المتقدمة التي لا يخفى استفاضتها بل تواترها حصول العلم لهم عليهم‌السلام بضروب من الوحي والإلهام كالنكت في القلوب ، والنقر في الأسماع ، وسماع صوت الملك ومشاهدته.

ولذا قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) على ما روتها الخاصّة والعامة وهو بعينه مذكور في القاصعة من «نهج البلاغة» : يا علي إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلّا أنّك لست بنبيّ ، ولكنك لوزير وإنّك لعلى خير (١).

وروي الحسن بن سليمان في كتاب «المختصر» مسندا عن الرّضا عليه‌السلام في حديث طويل قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في كلام له : وإن شئتم أخبرتكم بما هو أعظم من ذلك ، قالوا فافعل ، قال عليه‌السلام : كنت ذات ليلة تحت سقيفة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإني لا حصي ستّا وستّين وطئة من الملئكة كلّ وطئة من الملئكة أعرفهم بلغاتهم وصفاتهم وأسمائهم ووطئهم (٢).

إلى غير ذلك مما يدلّ على أنّهم محدّثون ملهمون ، بل قد دلّ بعض الأخبار

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ٢٣٤.

(٢) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٩٦ ط. القديم.

٤٠٦

على أنّ بعض شيعتهم كسلمان من المحدّثين أيضا.

وحاصل ما أفاده المفيد (رحمه‌الله) في الجواب أنّ النبوة إنّما هو بمطلق الوحي كان يطلق أوّلا على مجرد الاعلام والإفهام من الله سبحانه على أحد من الوجوه إلّا أنه قد ورد النهي عن إطلاقه على غير الوحي التأسيسى المختصّ بالأنبياء صلّى الله عليهم أجمعين ، وهو كما سمعت في ظاهر كلامه هّين لا يعود الى محصّل سوى البحث اللفظي الّذي مرجعه إلى منع إطلاق اللفظ عند الشارع على معنى في وقت آخر وهو كما ترى.

وشيخنا المجلسي رحمه‌الله بعد ما ذكر استنباط الفرق بين النبيّ والإمام من الأخبار المتقدمة لا يخلو من إشكال قال : والذي يظهر من أكثرها هو أنّ الامام لا يرى الحكم الشرعي في المنام والنبيّ قد يراه فيه ، وأمّا الفرق بين الإمام والنبيّ وبين الرسول هو أنّ الرسول يرى الملك عند إلقاء الحكم والنبيّ غير الرسول ، والإمام لا يريانه في تلك الحال ، وإن رأياه في سائر الأحوال ويمكن أن يختصّ الملك الذي لا يريانه بجبرئيل عليه‌السلام ويعمّ الأحوال ، لكن فيه أيضا منافاة لبعض الأخبار.

ومع قطع النظر من الأخبار لعلّ الفرق بين الأئمّة عليه‌السلام وغير أولى العزم من الأنبياء أنّ الأئمة عليهم‌السلام نوّاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يبلّغون إلا بالنيابة ، وأمّا الأنبياء وإن كانوا تابعين لشريعة غيرهم لكنهم مبعوثون بالأصالة ، وإن كانت تلك النيابة أشرف من تلك الأصالة ، وبالجملة لا بد لنا من الإذعان بعدم كونهم عليهم‌السلام أنبياء وبأنهم أفضل وأشرف من غير نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأنبياء والأوصياء ولا نعرف جهة لعدم اتّصافهم بالنبوة إلّا رعاية جلالة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يصل عقولنا إلى

٤٠٧

فرق بين النبوّة والإمامة (١).

أقول : ما ذكره في الفرق بين الرّسول وبين غيره من النبيّ والامام وإن سبقه فيه غيره ، بل ولحقه الأحسائي في شرح الزيارة (٢) ، حيث ذكر أنّ الائمة عليهم‌السلام يسمعون صوت الوحي من الملك ولا يرون شخصه من حين ينزل بالوحي ، وفي غير هذه الحال يرونهم ويقعدون معهم ، ويخبرونهم بكل ما يسألونهم ويرونهم حتى يأتون بأحكام القضاء والإمضاء الذي هو بيان ما تنزل به الوحي على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا إنّهم يسمعون الصوت ولا يرون الشخص فالمراد أنّهم إذا نزل الوحي على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من الأمور فإنّهم يسمعون ما يسمع ولا يرون شخص الملك الذي ينزل بالوحي التأسيسي على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ السماع والرؤيا معا أعظم مظاهر الحق وأظهر لا تصلح إلّا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه بإطلاقه غير صحيح وإن صحّ في الجملة بالنسبة إلى بعض

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٩٥ ط. القديم.

(٢) الاحسائي الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي البحراني ، قال الخوانساري في حقّه : ترجمان الحكماء والمتألهين ، ولسان العرفاء والمتكلّمين ، اختلفوا في حقّه بعضهم أثنوا عليه وأفرطوا وبعضهم طعنوا عليه وفرّطوا ، له تأليفات منه شرح الزيارة الجامعة.

ولد سنة ١١٦٦ وتوفي بالمدينة سنة ١٢٤٢ ودفن بالبقيع ، قال صاحب الصراط المستقيم في نحبة المقال في ترجمته :

الشيخ أحمد بن زين الدين

ذو العلم والشهود واليقين

فوّارة النور جليل أمجد

بعد دعاء رحم الشيخ أحمد

٤٠٨

الأنبياء وأوصيائهم لكنّه لا يصحّ بالنسبة إلى نبيّنا ووصيه الذي هو مصبّ كلامه ، فإنّ الشرافة والفضلية لهما ليست بسماع صوت الملك كي يفرّق بينهما باختصاص الأوّل بشرف الرؤية حفظا للمرتبة ، بل قد سمعت أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قد تلقّى القرآن من لدن حكيم عليم من دون توسط أحد من الملائكة والروحانيين ، وكيف يتوسط الأدنى للأعلى والرعية للسلطان ، والخادم للمخدوم ، بل كيف تستنير الشمس من الأرض التي أشرقت عليها.

وما ذكرناه لائح لا ستر فيه لمن تأمّل في الأخبار والآثار المأثورة عنهم ، بل ذكر الصدوق في اعتقاداته موافقا لما حكينا روايته عنه سابقا عن «إكمال الدين» أنّ الغشوة التي كانت تأخذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّها كانت عند مخاطبة الله (عزوجل) إيّاه حتى يثقل ويعرق وأمّا جبرئيل فإنّه كان لا يدخل عليه حتى يستأذنه إكراما له ، وكان يقعد بين يديه قعدة العبد (١).

وفي التوحيد عن زرارة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك الغشية التي كانت تصيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نزل عليه الوحي؟ فقال عليه‌السلام : ذلك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد ذاك إذا تجلّى الله له ، ثم قال عليه‌السلام : تلك النبوّة يا زرارة وأقبل بتخشّع (٢).

وفي المحاسن عن هشام بن سالم قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أتاه الوحي من الله وبينهما جبرئيل يقول : هو ذا

__________________

(١) كمال الدين : ٥١ ـ وبحار الأنوار ج ١٨ ص ٢٦٠ ط. الاخوندي بطهران.

(٢) بحار الأنوار ج ١٨ ص ٢٥٦ ط. الاخوندي بطهران.

٤٠٩

جبرئيل وقال لي جبرئيل ، وإذا أتاه الوحي وليس بينهما جبرئيل تصيبه سبتة (١) ويغشاه منه ما يغشاه لثقل الوحي عليه من الله (عزوجل) (٢).

وفي «الأمالي» عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله قال : قال بعض أصحابنا : أصلحك الله أكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : قال جبرئيل وهذا جبرئيل يأمرني ثم يكون في حال اخرى يغمى عليه؟ قال : فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّه إذا كان الوحي من الله إليه ليس بينهما جبرئيل أصابه ذلك لثقل الوحي من الله ، وإذا كان بينهما جبرئيل لم يصبه ذلك فقال : قال لي جبرئيل وهذا جبرئيل (٣).

بل الظاهر من النبويّ المتقدّم : (يا علي إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، إلّا أنّك لست بنبي ولكنّك لوزير) (٤) ، أنّه عليه‌السلام يسمعه ويراه في زمان سماع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورؤيته.

ولعلّه الظاهر أيضا مما رواه ابن أبي الحديد في «شرح النهج» عن مولينا الصادق عليه‌السلام أنّه قال : كان علي عليه‌السلام يرى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الرسالة الضوء ويسمع الصوت ، وقال عليه‌السلام له عليه‌السلام : لو لا أنّي خاتم الأنبياء لكنت شريكا في النبوّة ، فإن لا تكن نبيا فإنّك وصيّ نبيّ ووارثه ، بل أنت سيّد الأوصياء ، وإمام الأتقياء (٥).

__________________

(١) سبت يسبت من باب قتل وسبت بالبناء للمفعول غشي عليه.

(٢) المحاسن : ٣٣٨ وبحار الأنوار ج ١٨ ص ٢٧١ ط. الاخوندي بطهران.

(٣) أمالي الشيخ : ٤٩ ـ وبحار الأنوار ج ١٨ ص ٢٦٨ الاخوندي بطهران.

(٤) نهج البلاغة الخطبة ٢٣٤.

(٥) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٣ ص ٢٥٤.

٤١٠

وفي «البصائر» عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كان جبرئيل يملي على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يملي على علي عليه‌السلام ، فنام نومة ونعس نعسة فلمّا رجع نظر إلى الكتاب فمدّ يده قال من أملى هذا عليك؟ قال : أنت قال : لا بل جبرئيل عليه‌السلام (١).

وبالجملة فالتحقيق الفرق بالأصالة والتبعية في الأمرين معا ، أمّا في المتلقّيات اللدنيّة فلأنّ الوصيّ يستمدّ من مشكوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استمداد المرآة المحاذية للشمس ، ولذا كان عليه‌السلام يقول : أنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كالصنو من الصنو ، وكالذراع من العضد (٢).

وأمّا جبرئيل وإسرافيل وروح القدس وغيرهم من الروحانيّين والمقّربين الحاملين لوحي ربّ العالمين فإنّهم يتلقّون أنوار العلم والوحي في هذه السلسلة من مشكوة آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ورد في الأخبار الكثيرة الدالّة على تقدّم أنوارهم وأرواحهم واستضائة سائر الأرواح من أنوارهم وأشباحهم.

ورأيت بخط القاضي سعيد القمي تلميذ المحدث الفيض الكاشاني أنه وجد مكتوبا بخط الإمام أبي محمد العسكري عليه‌السلام : قد صعدنا ذرى الحقائق بأقدام النبوّة والولاية ، ونوّرنا سبع طرائق بأعلام الفتوّة والهداية.

إلى قوله عليه‌السلام فالكليم ألبس حلّة الاصطفاء لما عهدنا منه الوفاء وروح القدس في جنان الصاغورة ذاق من حدائقنا الباكورة (٣) وأمّا في التّلقّيات

__________________

(١) بصائر الدرجات : ٩٣ ، وبحار الأنوار ج ١٨ ص ٢٧٠.

(٢) نهج البلاغة : كتاب إلى عثمان بن حنيف الانصاري ، وهو عامله على البصرة.

(٣) بحار الأنوار : ج ١٧ ص ٢٩٨ ط القديم عن الدرة الباهرة عن بعض الثقات.

٤١١

الإيحائية الملكية الظاهرية فلأنّ الخطاب فيها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان وصيّه أيضا يرى الملك ويسمعه عند نزوله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضلا عن سائر الأوقات أيضا ، وفضل النبوة حينئذ للأصيل المخاطب لا التابع المستمع ، ثمّ لا يخفى أنّ التابع المتّصل المستنير من مشكوة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل بكثير من ساير الأنبياء والمرسلين المتشرّفين بشرف الوحي التأصّلي الابتدائي كما هو المستفاد من الأخبار المتواترة التي مرت الى بعضها

__________________

قال الخوئي إبراهيم بن الحسن بن الغفار في كتابه (الأربعين) : الحديث السابع والثلاثون ما نقل عن «الدرة الباهرة من الاصداف الطاهرة» في كلام أبي محمد العسكري :

وأسباطنا خلفاء الدين ، وخلفاء اليقين ، ومصابيح الأمم ، ومفاتيح الكرم ، والكليم البس حلّة الاصطفاء ، لما عهدنا منه الوفاء ، وروح القدس في الجنان الصاغورة ذاق من حدائقنا الباكورة.

(اللغة) الباكورة أوّل كلّ شيء وأوّل الفاكهة ، قال بعض الأفاضل : قوله عليه‌السلام : مفاتيح الكرم يراد به كونهم محاّل ذلك الكرم فعنهم يصل إلى غيرهم فلذلك كانوا مفاتيح الكرم ، وكذا قوله عليه‌السلام الكليم البس حلّة الاصطفاء يعني أنّ موسى لما عهدنا اليه بولايتنا والتسليم لنا والرد إلينا فأجاب ووفى لنا وعهدنا ذلك منه وجعلناه من المصطفين الأخيار وروح القدس المعبّر عنه بالعقل الأول عند الحكماء وبالعقل والقلم والحجاب الأبيض وما أشبه ذلك عند أهل الشرع أوّل باكورة من ثمار الجنان التي غرسنا بأيدينا فإن تلك الحدائق التي في الجنان الصاغورة غرس فيها من كل شيء فأوّل ما نبت روح القدس ، ومعناه ظاهر أنه لما أفاض الوجود على أرض القابليات كان أوّل من وجد هو العقل الأول المسمى بروح القدس ، ومعنى قوله عليه‌السلام : في الجنان الصاغورة أي في أعلى عليين في الجنان والمراد بها هنا العرش لأنه هو سقف الجنان وهو من الوجود كالقحف من الدماغ وكان روح القدس أوّل من وجد في الجنة والجنة أول الموجودات والباكورة أوّل الثمرات ، والمراد أن أوّل من قبل الإيجاد روح القدس وهو ذوقة الباكورة.

٤١٢

الاشارة ، واليه الإشارة بقول شيخنا المجلسي في كلامه المتقدّم أن تلك النيابة أشرف من تلك الأصالة.

وأمّا تحقيق مقام النبوة والولاية والوصاية وتقسيمها إلى الظاهرية والباطنية وإلى مقام التشريع والتكوين ، وإلى المطلقة والمقيّدة ، وبيان الفضل والفرق بين تلك المراتب فمما لا يسعها المقام ولعلّنا نتكلّم فيها إنشاء الله في مقام أليق.

في أقسام الوحي

ثانيها في أقسام الوحي ومراتبه ، اعلم أنّه إذا تجرّدت النفس الانسانية من العلايق البدنية والشهوات النفسانية ، وأعرضت عن الإشتغال بدواعي البدن من الشهوة والغضب والحس والتخيل ، وتوجّهت كليا اتصاليا ، إراديا ، طبيعا ، أو تطبيقيا تلقاء عالم الملكوت الأعلى ، اتّصلت بالمبادي العالية النورانية الجوّالة في أفق القدس وسرادق الأنس ، ففازت بالسعادة القصوى ورأت من عجائب الملكوت الأعلى التي هي آيات ربّه الكبرى ، فاذا كانت النفس قدسية ، شديدة القوة والاستعداد ، قويّة الانسلاخ من مقتضيات المواد ، وساعدتها المشية الربانية في نيل المراد ، واستنارت بالتجلّيات الإلهية ، والفيوض القدسية ، واستعدّت للاشراق على ما دونها من المراتب السفلية فبقوّتها تضبط الطرفين ، وتسقي الجانبين ، وتتمكن في الحد المشترك بين الأمرين ، فلا يشغلها شأن من شأن ، ولا تصرفها نشأة من نشأه ، فتستعدّ حينئذ لمقام النبوة والرسالة التي هي السفارة الكبرى من الحق الى الخلق ، والخلافة العظمى للخلق من الحقّ ، فأوّل ما يبدو حينئذ من التجليّات ، ويتنسّم عليه من طيب النفحات ، وهو ما سميّ في لسان الشارع المبشّرات.

ولذا ورد أنّه أوّل ما بدء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الوحي

٤١٣

الرؤيا فكان لا يرى إلا خرجت مثل فلق الصبح (١) وحيث إنّه عليه‌السلام خصّه الله تعالى بالكمال في كلّ فضيلة فله من الوحي أنواعه وضروبه ، لأنّه قد أوتي جوامع الكلم وكان في الرتبة الأعلى من الإمكان ، ولما بديء في وحيه عليه‌السلام بالرؤيا ستة أشهر علمنا أنّ بديء الوحي الرؤيا وأنّها جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة لكونها ستة أشهر ، وكانت نبوته ثلثا وعشرين ، فستة أشهر جزء من ستة وأربعين ، كذا فسّر الخبر المشهور.

وفيه تكلّف ظاهر ، لأنّه بانضمام هذا الجزء يكون من سبعة وأربعين إلا ان يقال : إنّ الأخيرة لم تكن سنة تامة بل نصف سنة.

ولذا ورد أيضا في خبر آخر أنهّا جزء من خمسة وأربعين جزء من النبوة ، لكنّه لا يخفى عليك أنّه تكلّف من تكلّف بل مخالف لما هو المنساق من ظواهر الأخبار الدالّة على أنّ رأى المؤمن ورؤياه في آخر الزمان جزء من سبعين جزء من النبوة.

وفي بعض الأخبار أنّها على الثلث حيث ظاهرها إنّما هو القرب منها في الإصابة لا في المدّة وأنّه كذلك بالنسبة إلى كلّ مؤمن لا بالنسبة اليه خاصة إلى غير ذلك مما سنشير اليه في آية البشرى (٢) ، ثم لا يخفى أنّه لا يلزم أنّ بدأ الوحي لكل نبي كذلك إذ قد أوحى إلى بعض الأنبياء ابتداء من غير تقدّم الرؤيا ، لكنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما بديء بالرويا قلنا : إنّها بدؤ الوحي لأنّه مقتضى كما له الذي يقتضيه مقامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي الباقية من أجزاء النبوة في آخر الزمان بعد انقطاع الوحي واختتام النبوّة.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٨ ص ١٩٤ ، ط. الاخوندي بطهران ، عن المناقب لابن شهر آشوب.

(٢) لهم البشرى في الحيوة الدنيا وفي الآخرة : يونس : ٦٤.

٤١٤

ثم إنّه إذا انفتح باب النبوّة فقد تكون أيضا بالرؤيا الصادقة التي معها برهان من الله تعالى على صدقها ، والفرق أنّها حينئذ قد تكون على وجه الشرائع دون ما كانت قبلها فإنّها من مبادئ النبوّة وأجزائها ، وتكون بالقذف في القلب من غير سماع ولا مشاهدة ، وأمّا العلم بأنّ الوارد القلبي إنّما هو من الله سبحانه وأنّه يجب العمل بمقتضاه على فرض كونه من التشريعات فإنّما يحصل لأهله من الأنبياء والمحدّثين بعلم ضروري يقذفه الله تعالى في قلوبهم.

واليه الإشارة بما رواه في التوحيد عن الصادق عليه‌السلام قال : ما علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ جبرئيل من قبل الله إلّا بالتوفيق (١).

وفي «تفسير العياشي» عن زرارة قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : كيف لم يخف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يأتيه من قبل الله أن يكون ذلك مما ينزغ الشيطان به؟ فقال عليه‌السلام : إنّ الله تعالى إذا اتخذ عبدا رسولا أنزل عليه السكينة والوقار ، فكان يأتيه من قبل الله مثل الذي يراه بعينه (٢).

أقول : وهو المراد بفلق الصبح في الخبر المتقدم (٣) ، وربما تسمع الفرق بين الخواطر الرحمانية والشيطانية فيما يأتي من المكاشفات العرفانية.

ولعلّ الوجه في القذف أنّ مرآة القلب إذا حوذي بها شطر الحق بالشروط العديدة المتقدّمة انطبع فيها ما هو المقرّر في الواقع أو الثابت في الألواح الملكوتية بالأقلام الالهية من الأمور التشريعية ، والأسرار الحقيقية فكما أنّك إذا رأيت زيدا

__________________

(١) التوحيد للصدوق : ٢٤٦ ـ وبحار الأنوار ج ١٨ ص ٢٥٧ ط. الاخوندي.

(٢) بحار الأنوار ج ١٨ ص ٢٦٢ ط. الاخوندي بطهران.

(٣) نفس المصدر السابق.

٤١٥

بعينه وشخصه رؤية حسيّة لا تشك في أنّك رأيته بشخصه بل لا تلتفت إلى الشك في ذلك لمبادرة اليقين ، ومسارعته إلى قلبك ، وكذلك إذا رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا بنظره الفؤادي فإنما رأى الحقيقية كما قال سبحانه : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (١).

ولعله إليه الإشارة فيما ورد من أنّ الروح عمود من نور بين السماء والأرض يرى الإمام فيه أعمال العباد (٢).

إلّا أنّ هذا في غير التشريع ومن جهة الإحاطة والهيمنة التي تقتضيها الولاية حسبما تأتي إليها الإشارة ، وتكون أيضا بالنقر في الأسماع على الوجوه المختلفة التي منها المشيّة في الخبر بوقع السلسلة على الطست ، وغير ذلك مما يرجع إلى المشاهدة الغيبيّة والإدراكات اليقينية.

نعم روى العيّاشي عن الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) (٣) ، مخففة أنّه قال : ظنّت الرسل أنّ الشياطين تمثّل لهم على صورة الملائكة (٤).

قال : وعن أبي شعيب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : وكلهم الله الى أنفسهم أقلّ من طرفة عين (٥).

قال شيخنا المجلسي طاب ثراه بعد نقل الخبرين : لعلّ المراد أنّ الله تعالى

__________________

(١) النجم : ١١.

(٢) بحار الأنوار ج ٧ ص ٣٠٧ ط. القديم.

(٣) يوسف : ١١٠.

(٤) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٦١ ط. الاخوندي بطهران عن العياشي.

(٥) بحار الأنوار ج ١٧ ص ٢٦٢ ط. الاخوندي بطهران عن العياشي.

٤١٦

وكلهم إلى أنفسهم ليزيد يقينهم بأنّهم معصومون بعصمة الله فخطر ببالهم أنّ ما وعدوا من عذاب الأمم لعلّه يكون من الشياطين ، فصرف الله عنهم ذلك ، وعصمهم وثبّتهم على اليقين بأن ما أوحى إليهم ليس للشيطان فيه سبيل (١).

أقول : ولعل الأولى ردّ علمه إليهم عليهم‌السلام فإنّ المعلوم ممّا دلّ على عصمتهم من الكتاب والسنّة بل ضرورة المذهب أنّه ليس للشيطان سبيل عليهم أصلا حتى في مثل تلك الخطرة.

وبالجملة فجميع ضروب الوحي مشتركة في حصول العلم الضروريّ معه بكونه حقا منه سبحانه على ما مّرت إليه الإشارة وإن كانت مختلفة في كيفية نزوله.

قال في «المناقب» وأمّا كيفية نزول الوحي فقد سأله الحارث بن هشام كيف يأتيك الوحي؟ فقال عليه‌السلام : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه علىّ فيفصم عنّي وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول.

وروي أنّه كان إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دويّ كدويّ النحل.

وروي أنّه كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه لينفصد عرقا.

وروي أنّه كان إذا نزل عليه كرب لذلك ويربدّ وجهه ونكس رأسه ونكس أصحابه رؤسهم منه ، ومنه يقال : برحاء الوحي أي شدّة الكرب من ثقله (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٧ ص ٢٦٢ ط. الاخوندي بطهران عن العياشي.

(٢) مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٤١ وبحار الأنوار ج ١٨ ص ٢٦١ ط. الاخوندي.

قال المجلسي بعد ذكر الأحاديث عن المناقب : بيان قال «في النهاية» : في صفة الوحي :

٤١٧

قال ابن عباس : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نزل عليه القرآن تلقّاه بلسانه وشفتيه كان يعالج من ذلك شدة فنزل : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) (١) ، وكان إذا نزل عليه الوحي وجد منه ألما شديدا ، أو يتصدّع رأسه ويجد ثقلا وذلك قوله : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (٢) ، قال : وسمعت أنّه نزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستّين ألف مرة (٣).

وفي تفسير العياشي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه كان من آخر ما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سورة المائدة نسخت ما قبلها ولم ينسخها شي فلقد نزلت عليه وهو على بغلته الشهباء وثقل عليها الوحي حتى وقفت وتدلى بطنها حتى رأيت سرّتها تكاد تمسّ الأرض وأغمي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى وضع يده على ذؤابة منبّه بن وهب الجمحي ثم رفع ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقرأ علينا سورة المائدة.

ثالثها في كيفية تلقّي الملك للوحي الالهي ، وقد وردت الإشارة إليها في جملة من الأخبار :

ففي الخبر : إنّ جبرئيل عليه‌السلام قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

كأنّه صلصلة على صفوان ، الصلصلة : صوت الحديث إذا حرّك ، وقال : فيفصم عني أي يقلع ، وأفصم المطر لله : إذا قلع ، وقال فيه : كان إذا نزل عليه الوحي تفصد عرقا اي سال عرقه ، تشبيها في كثرته بالفصاد وعرقا منصوب على التميز ، وقال فيه : إذا أصابه الوحي كرب له ، أي أصابه الكرب واربدّ وجهه ، أي تغير إلى الغبرة ، وقال : البرح : الشدة ، ومنه الحديث فأخذه البرحاء أي شدّة الكرب من ثقل الوحي.

(١) القيامة : ١٦.

(٢) المزمل : ٥.

(٣) مناقب آل أبي طالب ١ : ٤١ ـ وبحار الأنوار ج ١٨ ص ٢٦١ ط. الاخوندي.

٤١٨

في وصف إسرافيل : هذا حاجب الربّ وأقرب خلق الله منه واللوح بين عينيه من ياقوتة حمراء فإذا تكلّم الربّ تبارك وتعالى بالوحي ضرب اللوح جبينه فنظر فيه ثم ألقي إلينا نسعى به في السموات والأرض (١).

وروي أيضا أنّه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجبرئيل : من أين تأخذ الوحي؟ قال : آخذه من إسرافيل ، قال من أين يأخذه؟ قال : يأخذه من ملك فوقه من الروحانيّين ، قال من أين يأخذه ذلك الملك؟ قال يقذف في قلبه قذفا (٢).

وورد أيضا في كثير من الأسانيد من مولينا الصادق عليه‌السلام وغيره من الأئمة عليهم‌السلام روايتهم عن آبائهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جبرئيل ، عن ميكائيل ، عن إسرافيل ، عن اللوح ، عن القلم ، عن الله تبارك وتعالى قال : ولاية علي بن أبي طالب حصني ، من دخله أمن من عذابي (٣).

وقيل : وهذا الاختلاف منزّل على تعدّد الكيفيات ، وأنّ المراد باللوح والقلم في هذا السند الملكان إذ قد ورد لهما في الأخبار معان متعددة.

وقال الصدوق ـ ره ـ في اعتقاداته : اعتقادنا في كيفية نزول الوحي من عند الله أنّ بين عيني إسرافيل عليه‌السلام لوحا فإذا أراد الله عزوجل أن يتكلّم بالوحي ضرب اللوح جبين إسرافيل فينظر فيه فيقرأ ما فيه فيلقيه إلى ميكائيل ، ويلقيه

__________________

(١) تفسير القمي : ٣٨٩ وبحار الأنوار ج ١٨ ص ٢٥٨.

(٢) التوحيد : ٢٦٩ ـ والاحتجاج : ١٢٧ والبحار ج ١٨ : ٢٥٧.

(٣) بحار الأنوار : ج ٩ ص ٤٠١ ، ط. القديم عن أمالي ابن الشيخ.

٤١٩

ميكائيل إلى جبرئيل ، ويلقيه جبرئيل إلى الأنبياء عليهم‌السلام (١).

وقال الشيخ المفيد (قدس الله روحه) في شرح هذا الكلام : الذي ذكر أبو جعفر رحمه‌الله من اللوح والقلم وما يثبت فيه فقد جاء به حديث إلّا أنّا لا نعزم على القول به ولا نقطع على الله بصحته ، ولا نشهد منه إلّا بما علمناه ، وليس الخبر به متواترا يقطع العذر ، ولا عليه إجماع ولا نطق القرآن به ، ولا ثبت عن حجة الله تعالى فينقاد له ، والوجه أن نقف به ونجوزه ولا نردّه ونجعله في حّيز الممكن ، فأمّا قطع أبي جعفر به وعلمه على اعتقاده فهو مستند إلى ضرب من التقليد ولسنا من التقليد في شيء (٢).

أقول أمّا ذكر القلم فكأنّه سهو من القلم إذ لم يجر له ذكر في عبارة الصدوق ، وأمّا نسبته إلى التقليد فليست في محلّها فإنّ الصدوق أعرف بسند ما اختاره سيّما بعد نسبته إلى الامامية كما يستفاد من ظاهر كلامه ، وطريق إثبات هذه المسائل التي هي من فروع الأصول غير منحصرة في الطرق القطعيّة الغير المتخلفة عن الواقع بل قد يثبت أيضا بمثل الأخبار المصحّحة المشتهرة المتكرّرة في أصول الامامية.

وبالجملة فعدم وصول الحجّة إلى الشيخ المفيد طاب ثراه ليس حجة على صدوق الطائفة فيما ادعّاه ونسبه إلى اعتقاده الامامية هذا مضافا إلى جملة من الأخبار الدالّة عليه مضافا إلى ما مرّ.

ففي تفسير القمي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال جبرئيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في وصف إسرافيل هذا حاجب الربّ ، وأقرب خلق الله منه

__________________

(١) اعتقادات الصدوق : ص ١٠٠.

(٢) تصحيح الاعتقادات : ٥٧ ـ وبحار الأنوار ج ١٨ ص ٢٥٠ ط. الاخوندي.

٤٢٠