تفسير الصراط المستقيم - ج ١

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٠

وعنه عليه‌السلام : «من قرء القرآن حتى يستظهره ويحفظه أدخله الله الجنة وشفّعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار» (١).

وعنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): «حملة القرآن في الدنيا عرفاء أهل الجنة يوم القيامة» (٢).

وفي «الكافي» و «ثواب الأعمال» عن الصادق عليه‌السلام : «من شدّد عليه القرآن كان له أجران ، ومن يسّر عليه كان مع الأولين» (٣).

وفي رواية : «كان مع الأبرار» (٤).

وفي «الكافي» و «ثواب الأعمال» عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من قرء القرآن وهو شابّ مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه ، وجعله الله مع السفرة الكرام البررة ، وكان القرآن حجيزا عنه يوم القيامة يقول : يا ربّ إنّ كل عامل قد أصاب أجر عمله غير عاملي فبلّغ به أكرم عطاياك ، قال : فيكسوه الله العزيز الجبّار حلّتين من حلل الجنة ويوضع على رأسه تاج الكرامة ثم يقال له : هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن : يا ربّ قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذا قال : فيعطى الأمن بيمينه والخلد بيساره ، ثم يدخل الجنة فيقال له : اقرأ آية فاصعد درجة ثم يقال له : «هل بلغنا به وأرضيناك؟ فيقول : نعم قال : ومن قرأه كثيرا وتعاهده بمشقّة من شدّة حفظه أعطاه الله أجر هذا مرتين» (٥).

وعنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة

__________________

(١) مجمع البيان ص ١٦.

(٢) بحار الأنوار ج ٩٢ ص ١٧٧.

(٣) الأصول من الكافي ج ٢ ص ٦٠٧.

(٤) ثواب الأعمال ص ٩١.

(٥) الأصول من الكافي ج ٢ ص ٦٠٣.

٢٤١

الكرام البررة (١).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي يستفاد منها مضافا إلى الحثّ البليغ والتأكيد الشديد على حفظه وحمله وقراءته.

والمراد بحفظه ليس مجرّد حفظ المصحف عن الضياع وعن وقوع السقط والتحريف والتغيير فيه بالزيادة والنقصان ، أو حفظ قراءته بمراعات الترتيل وحفظ الوقوف وأداء الحروف أو حفظه عن ظهر القلب ، وإن كان كلّ ذلك من أقسام الحفظ المطلوب شرعا المأمور به في بعض الأخبار أيضا ، بل المراد به في كثير من هذه الأخبار وغيرها مضافا الى المعاني المتقدّمة التي هي من مراتبه أن يحفظ حدود معانيه وفحاويه ، ومطاويه ، وظهوره وبطونه بالتحقّق بحقائقه والتخلّق بأخلاقه ، وامتثال أوامره ونواهيه ، والاتّعاظ بمواعظه ، وإتّباع سننه ، والتدبير في أمثاله المضروبة للأنام والتفكر في حقائقه المحجوبة عن ظواهر الأفهام ، المكشوفة للمقتبسين من مشكوة الوحي والإلهام.

وكذا ليس المراد من حمله حمل صورة المصحف أو تحمل ظاهر ألفاظه أو انتقاش صور معانيه ، وترجمة ألفاظه في الذهن مع قطع النظر عن العمل به إلى غير من المراتب التي لا ينبغي الاقتصار والجمود عليها ، بل ينبغي الترقّي منها الى ما سواها ، فإنّ مثل الدين حمّلوا التورية بل القرآن وغيره أيضا كما لا يخفى بشيء من هذه المراتب والمعاني ثمّ لم يحملوها بالعمل بها والتحقّق بحقايقها ، والتخلّق بأخلاقها ، وغير ذلك مما سمعت كمثل الحمار يحمل أسفارا فإنّه أيضا حامل للنقوش والأوراق المشتملة على الكتابة ، فينبغي رسم العلوم الحقيقية الإلهية وكتابتها على

__________________

(١) ثواب الأعمال ص ٩٢ وأمالي الصدوق ص ٣٦.

٢٤٢

الضمائر والصدور لا الدفاتر والسّطور ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

ولذا قال الامام الهمام (عليه الصلاة والسلام) ، رواية عن جده رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أنه قال : «حملة القرآن المخصوصون برحمة الله الملبّسون نور الله ، المعلّمون كلام الله ، المقرّبون من الله من والاهم فقد والى الله ، ومن عاداهم فقد عادى الله ، يدفع الله عن مستمع القرآن بلوى الدنيا ، وعن قاريه بلوى الآخرة ، والذي نفس محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بيده لسامع آية من كتاب الله ـ عزوجل ـ وهو معتقد أنّ المورد له من الله تعالى محمد الصادق في كل أقواله الحكيم في كل أفعاله ، المودع ما أودعه الله تعالى من علومه أمير المؤمنين عليا المعتقد للانقياد له فيما يأمر ، ويرسم أعظم أجرا من ثبير ذهب يتصدّق به من لا يعتقد هذه الأمور بل صدقته وبال عليه ، ولقارئ آية من كتاب الله معتقدا لهذه الأمور أفضل مما دون العرش الى أسفل التخوم يكون لمن لا يعتقد هذا الاعتقاد فيتصدّق به ، بل ذلك كله وبال على هذا المتصدق به».

ثم قال : «أتدرون متى يتوفر على هذا المستمع وهذا القارئ هذه المثوبات العظيمات؟ إذا لم يغل في القرآن ولم يجف عليه ولم يستأكل به ولم يراء به» (١).

ومن هذا كله يظهر اختلاف المراتب والدرجات في قراءته بحسب اختلاف الأحوال والأشخاص والقوابل والاستعدادات والتأثر والعمل والاتعاظ والتخلّق ، بل قد سمعت عن مولينا الباقر عليه‌السلام ، فيما مرّ بروايته عن «الكافي» وغيره إنّ قرّاء القرآن ثلاثة (٢) ولا يخفى أنّه بحسب الاختلاف في الجنس وإلّا فبحسب

__________________

(١) تفسير الامام ص ٤ و ٥ ـ بحار الأنوار ج ٩٢ ص ١٨٢ ـ.

(٢) أمالي الصدوق ص ١٢٢.

٢٤٣

الأنواع والأصناف لا تكاد تنضبط وتتناهى لاختلاف مراتب القراءة بحسب اختلاف الأشخاص للاختلاف في الأحوال وغيرها من المشخصات بل يختلف فضل القراءة لشخص واحد في زمانين وإن كانت مطلوبة على كل حال.

ولذا قال النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في وصيّه لعلي عليه‌السلام : «وعليك بتلاوة القرآن على كل حال».

وفي «المجمع» عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): «أفضل العبادة قراءة القرآن (١).

وفيه عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : إنّ هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلّموا من مأدبته ما استطعتم ، إنّ هذا القرآن حبل الله ، وهو النور المبين والشفاء النافع ، عصمة لمن تمسّك به ، ونجاة لمن تبعه ، لا يعوجّ فيقّوم ، ولا يزيغ فيستعتب ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الرّد ، فاتلوه فإنّ الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات ، أما إنّي لا أقول : الم عشر ولكن ألف عشر ولام عشر وميم عشر» (٢).

وفيه عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أنه : «يقال لصاحب القرآن : اقرأ وارق ، ورتّل كما كنت ترتّل في الدنيا فإنّ منزلك عند آخر آية تقرؤها» (٣).

وعنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): «من قرء القرآن فرأى أنّ أحدا أعطى أفضل مما أعطي فقد حقّر ما عظّم الله وعظّم ما حقّر الله» (٤).

وفي الكافي عن مولينا الصادق (عليه‌السلام): «ما من عبد من شيعتنا يتلو

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ١٥.

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ١٦.

(٣) مجمع البيان ج ١ ص ١٦.

(٤) مجمع البيان ج ١ ص ١٦.

٢٤٤

القرآن في صلوته قائما إلّا وله بكل حرف مأة حسنة ، ولا قرء في صلوته جالسا إلّا وله بكل حرف خمسون حسنة ، ولا في غير صلوته إلّا وله بكل حرف عشر حسنات» (١).

وفيه عنه وعن السجاد عليهما‌السلام بالإسناد قال : «من استمع حرفا من كتاب الله من غير قراءة كتب الله له حسنة ، ومحى عنه سيئة ، ورفع له درجة ومن قرء نظرا من غير صلاة (صوت خ ل) كتب الله له بكل حرف حسنة ، ومحى عنه سيئة ورفع له درجة ، ومن تعلّم منه حرفا ظاهرا كتب الله له عشر حسنات ومحى عنه عشر سيئات ، ورفع له عشر درجات ، قال : لا أقول بكل آية ، ولكن بكل حرف باء أو تاء أو شبههما ، قال : ومن قرء حرفا وهو جالس في صلاة كتب الله له به خمسين حسنة ومحى عنه خمسين سيئة ، ورفع له خمسين درجة ، ومن قرء حرفا وهو قائم في صلاته كتب الله له مأة حسنة ومحى عنه مأة سيئة ورفع له مأة درجة ومن ختمه كانت له دعوة مستجابة مؤخّرة ، أو معجلة قال قلت : جعلت فداك ختمه كله قال : قال ختمه كله» (٢).

وفيه بالإسناد عن الزهري قال : قلت لعلي بن الحسين عليه‌السلام : «ايّ الأعمال أفضل؟ قال عليه‌السلام : الحالّ المرتحل ، قلت : وما الحالّ المرتحل قال عليه‌السلام : فتح القرآن وختمه كلما جاء بأوله ارتحل بآخره (٣).

أقول : وستسمع سائر أخبار الحلّ والارتحال في باب آداب القراءة

__________________

(١) روى هذا الحديث في الكافي وثواب الأعمال عن أبي جعفر (عليه‌السلام) وأوله : من قرأ القرآن قائما في صلوته إلخ ـ كافي ج ٤ ص ٦١١ ثواب الأعمال ص ٩١ ـ.

(٢) الأصول من الكافي ج ٢ ص ٦١٢.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٦٠٥.

٢٤٥

وأحكامها إن شاء الله.

وفيه وفي «معاني الأخبار» للصدوق عن النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): «من أعطاه الله القرآن فرأى أنّ رجلا أعطي أفضل مما أعطي فقد صغّر عظيما وعظّم صغيرا» (١).

وفيه عن مولينا الكاظم عليه‌السلام : «إنّ درجات الجنة على قدر آيات القرآن يقال للقارئ : اقرأ وارق فيقرأ ثم يرقى» (٢).

وفي «معاني الأخبار» عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «من قرء مأة آية يصلّي بها في ليلة كتب الله له بها قنوت ليلته ، ومن قرء مأتي آية في غير صلاة الليل كتب الله له في اللوح المحفوظ قنطارا من الحسنات ، والقنطار ألف ومأتا أوقيّة والاوقيّة أعظم من جبل أحد (٣).

وفيه عن النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): «من قرء مائة آية لم يكتب من الغافلين ، ومن قرء مأتي آية كتب من القانتين ، ومن قرء ثلاثمائة آية لم يحاجّه القرآن ، يعني من حفظ قدر ذلك من القرآن يقال : قرء الغلام القرآن إذا حفظه (٤).

قلت : والظاهر أنّه من كلام الصدوق ولعلّه وجد عليه بعض الشواهد والّا فلا داعي للصرف عن الظاهر.

ينبغي لمن تعلم القرآن أو حفظه أن يواظب على قراءته في آناء الليل وأطراف النهار ، وأن لا يتركه ، ولا يهجره تركا يودّي الى النسيان بل ينبغي ان لا يترك العمل به ، وأن يتأدّب بآدابه ، ويتخلّق بأخلاقه كي يكون القرآن له شفيعا

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٦٠٥.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٦٠٦.

(٣) معاني الاخبار ص ١٤٧.

(٤) معاني الاخبار ص ٤١٠.

٢٤٦

مشفّعا ، وطريقا إلى رضوان الله مهيعا ، وصديقا له سلما ، ولا يكون له عدوّا خصما.

ففي «الكافي» عن ابن أبي يعفور قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام : «أن الرجل إذا كان يعلم السورة ثم نسيها أو تركها ودخل الجنة أشرفت عليه من فوق في أحسن صوره فيقول : تعرفني؟ فيقول : لا فتقول : أنا سورة كذا لم تعمل بي وتركتني أما والله لو عملت بي لبلغت بك هذه الدرجة ، وأشارت بيدها الى فوقها» (١).

وفيه عن يعقوب الأحمر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك إنّه أصابتني هموم وأشياء لم يبق شيء من الخبر إلّا وقد تفلّت مني منه طائفة حتى القرآن لقد تفلّت مني طائفة منه قال : ففزع عند ذلك حين ذكرت القرآن ثم قال عليه‌السلام : «إنّ الرجل لينسى للسورة من القرآن فتأتيه يوم القيامة حتى تشرف عليه من درجة من بعض الدرجات ، فتقول : السلام عليك فيقول : وعليك السلام من أنت؟ فتقول : أنا سورة كذا وكذا ضيّعتني وتركتني أما لو تمسّكت بي لبلغت بك هذا الدرجة».

ثمّ أشار بإصبعه ثم قال : «عليكم بالقرآن فتعلّموه فإنّ من الناس من يتعلّم القرآن ليقال له فلان قارئ ، ومنهم من يتعلّمه فيطلب به الصوت فيقال فلان حسن الصوت وليس في ذلك خير ، ومنهم من يتعلّمه فيقوم به في ليلة ونهاره لا يبالي من علم ذلك ومن لم يعلمه» (٢).

وعن يعقوب في خبر آخر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ علي دينا

__________________

(١) أصول من الكافي ج ٢ ص ٦٠٨.

(٢) الأصول من الكافي ج ٢ ص ٦٠٩.

٢٤٧

كثيرا فقد دخلني ما كاد القرآن يتفلّت مني فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّ الآية من القرآن والسورة لتجيء يوم القيامة حتى تصعد ألف درجة يعني في الجنة فتقول : لو حفطتني لبلغت بك هاهنا» (١).

إلى غير ذلك من الأخبار المشتملة على الحثّ والتأكيد الشديد في المحافظة على قراءته والمداومة عليها ، بل قد سمعت أنّ المراد بذلك كلّه هو العمل به والمحافظة على أوامره ونواهيه كما صرح به في الخبر الأول وغيره.

وعلى هذا ينزّل أيضا ما ورد من التهديد والوعيد على النسيان الظاهر ولو بقرينة ما تقدّم وغيره في ترك العمل به أو الترك الناشئ من التهاون والاستخفاف كما يحمل على شيء منها النبويّ المرويّ في «الفقيه».

وفي «عقاب الأعمال» : «ألا ومن تعلّم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة مغلولا يسلّط الله عليه بكل آية نسيها حيّة تكون قرينه إلى النار وإلّا أن يغفر له (٢).

كما أنه ينزّل على نسيان مجرّد العبارة مطلقا أو للاضطرار وغيره من الأعذار ما ورد من نفي البأس عنه في الأخبار كخبر الهيثم بن عبيد قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل قرء القرآن ثمّ نسيه فرددت عليه ثلاثا ، أعليه فيه حرج؟ فقال عليه‌السلام : لا (٣).

__________________

(١) الأصول من الكافي ج ٢ ص ٦٠٨.

(٢) بحار الأنوار ج ٩٢ ص ١٨٧ نقلا عن أمالي الصدوق ص ٢٥٦.

(٣) الأصول من الكافي ج ٢ ص ٦٠٨ قال الفيض الكاشاني في الوافي : أريد بنفي الحرج عدم ترتب العقاب عليه فلا ينافي الحرمان به عن الدرجة الرفيعة في الجنة على أنّ النسيان قسمان فنسيان لا سبيل معه إلى القرائة إلّا بتعلّم جديد ، ونسيان لا يقدر معه على القرائة على ظهر القلب وو إن امكنه القرائة في المصحف فيحتمل أن يكون الأخير مما لا حرج فيه دون الأوّل إلّا أن

٢٤٨

وسئل سعيد بن عبد الله الأعرج أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يقرأ القرآن ثم ينساه ثم يقرأه ثم ينساه أعليه فيه حرج؟ فقال : لا (١).

بل مجرّد ترك العمل بالقرآن ، وعدم الايتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه يوجب شدّة العقوبة على من كان عالما به فإنّه يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد ، وذلك أنّ الحجّة عليه ألزم وجرمه لعلمه أفظع وأعظم وهو عند الله ألوم.

ولذا ورد في النبوي المتقدم : «إنّ في جهنّم واديا يستغيث أهل النار كل يوم سبعين ألف مرّة منه إلى الله وذلك لشارب الخمر من أهل القرآن (٢).

بل روى هاشم بن سالم عن مولينا أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ قراّء القرآن ثلاثة : قارئ قرء القرآن فحفظ حروفه ، وضيّع حدوده فذلك من أهل النار وقارئ قرء القرآن فاستتر به تحت برنسه ، فهو يعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه ويقيم فرائضه ويحلّ حلاله ، ويحرّم حرامه ، فهذا ممن ينقذه الله من مضلّات الفتن ، وهو من أهل الجنة ويشفع فيمن يشاء» (٣).

ولا يخفى أنّ هؤلاء الفرقة الثالثة هم أهل القرآن الذين يجب تعظيمهم وتكريمهم ، ويحرم استضعافهم وإهانتهم كما في «الكافي» عن النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): «إنّ أهل القرآن في أعلى درجة من الآدميين ما خلا النبيين والمرسلين

__________________

يتركه صاحب الأخير فيكون حكمه حكم الأوّل كما وقع التصريح به في الاخبار السابقة ـ الوافي ج ٢ ص ٢٦٣.

(١) الأصول في الكافي ج ٢ ص ٦٣٣.

(٢) بحار الأنوار ج ٧٩ ص ١٤٨.

(٣) بحار الأنوار ج ٩٢ ص ١٧٩ نقلا عن الخصال ج ١ ص ٧٠.

٢٤٩

فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم فإنّ لهم من الله العزيز الجبّار لمكانا عليّا» (١) ، وقد تقدّم أنّهم أشراف الامة وعرفاء أهل الجنة ، وأنّهم المخصوصون بالرحمة ، والملبّسون أنوار الكرامة ، الشافعون لغيرهم يوم القيامة ، إلى غير ذلك مما تقدمت الاشارة اليه.

ثم إنّ الأخبار المتعلقة بمقاصد هذا الباب كثيرة جدا وستسمع منها عند التعرّض لآداب القرائة وأحكامها وجملة منها عند تفسير بعض الآيات المتعلقة بها.

__________________

(١) الأصول من الكافي ج ٢ ص ٦٠٣.

٢٥٠

الباب الثالث

في بيان حقيقة القرآن ومراتبه في الكون وظهوره عند التنزل في الحروف والكلمات وتقسيم الكتاب إلى الصامت والناطق الذين هما الثقلان اللذان لا يفترقان

اعلم أنّ الله سبحانه وتعالى كان في أزليته ودوام سر مديّته ولم يكن معه شيء من الأشياء لا من المجرّدات ولا من الماديات ولا من الحقائق والطبائع والوجود والماهية وغيرها مما يطلق عليه اسم الشيء فأوّل ما خلقه هو المشيّة الإمكانية ثم الكونية حسبما تأتي إليهما الإشارة وهذه المشيّة هي التي يقال لها : الإبداع والارادة والفعل ، والعقل ، والقلم ، والصنع والوجود المطلق ، وعالم المحبة ، وغيرها من الألقاب الشريفة التي ربما أشير إليها في آثار الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ، بل في بعضها بالنسبة إلى بعض هذه الألقاب إنّه أوّل ما خلق الله (١).

وفي النبوي أوّل ما خلق الله نور نبيك يا جابر وفي معناه أخبار كثيرة تدلّ على كونهم عليهم‌السلام أوّل ما خلق الله وأن من سواهم حتى الأنبياء والملائكة والجنة وغيرها ، إنّما خلقوا من أشعّة أنوارهم ، بل يستفاد من قوله عليه‌السلام : خلق الله المشيّة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيّة (٢) منضمّا إلى العلوي نحن صنائع الله

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٥ ص ٢٤.

(٢) بحار الأنوار ج ٤ ص ١٤٥ نقلا عن التوحيد للصدوق واحتمل في بيان هذا الخبر الذي هو من

٢٥١

والخلق بعد صنائع لنا كما في «نهج البلاغة» (١) أو صنائعنا كما في «الاحتجاج» عن الحجة ـ عجل الله فرجه ـ (٢) أنّهم نفس المشيّة بناء على أن نورهم عليهم‌السلام في أصل الخلقة ان كان هو المشية فهو المطلوب والّا يلزم ارتكاب التخصيص في أحد الخبرين ، إلّا أن فيه بعد الغضّ عن ضعف الدليل سندا (٣) ودلالة أنّ إثبات تلك المقاصد بمثله مشكل جدا ، سيّما بعد ظهور أنّهم أيضا عباد مخلوقون مربوبون ، لا بدّ في خلقهم من تعلّق المشيّة بخلقهم ، وسبقها عليهم وعلى كلّ حال فالنبي والأئمة عليهم‌السلام وإن اشتركوا جميعهم ـ صلوات الله عليهم ـ في عالم الأنوار لاتّحاد حقائقهم ونورانيتهم إلّا أنه روي في النبوي : أوّل ما خلق الله نوري ثم فتق منه نور علي عليه‌السلام فلم نزل نتردّد في النور حتى وصلنا إلى حجاب العظمة في ثمانين ألف سنة ثم خلق الخلايق من نورنا فنحن صنائع الله والخلق بعد صنائع لنا (٤).

__________________

غوامض الاخبار وجوها : منها أن لا يكون المراد بالمشيّة الإرادة بل إحدى مراتب التقديرات التي اقتضت الحكمة جعلها من أسباب وجود الشيء كالتقدير في اللوح مثلا والإثبات فيه.

ومنها : أن يكون خلق المشيّة بنفسها كناية عن كونها لازمة لذاته تعالى غير متوقفة على ارادة اخرى فيكون نسبة الخلق إليها مجازا عن تحقّقها بنفسها منتزعة عن ذاته تعالى.

ومنها ان المراد بالمشية مشية العباد وبالأشياء أفاعيلهم.

ومنها أن للمشية معنيين أحدهما متعلق بالشائي وهي كون ذاته سبحانه بحيث يختار ما هو الخير والصلاح والآخر متعلق بالمشيء وهو حادث بحدوث المخلوقات وهو إيجاده سبحانه إياه بحسب اختياره إلخ.

ومنها غير ذلك ومن أراد التفصيل فليراجع إلى البحار.

(١) في جملة ما كتبه عليه‌السلام إلى معاوية : فإن صنائع ربنا والخلق بعد صنائع لنا إلخ.

(٢) الاحتجاج طبع النجف ج ٢ ص ٢٧٨.

(٣) لإرسال ما نقل عن نهج البلاغة والاحتجاج.

(٤) لم اعثر إلى الآن على مأخذه.

٢٥٢

روى عن جابر بن عبد الله في تفسير قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (١) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : أوّل ما خلق الله نوري ابتدعه من نوره واشتقه من جلال عظمته ، فاقبل يطوف بالقدرة حتى وصل إلى جلال العظمة في ثمانين ألف سنة ، ثم سجد لله تعظيما ، ففتق منه نور علي عليه‌السلام فكان نوري محيطا بالعظمة ونور علي محيطا بالقدرة ، ثم خلق العرش واللوح والشمس والقمر والنجوم وضوء النهار ، وضوء الأبصار والعقل ، والمعرفة ، وأبصار العباد ، وأسماعهم ، وقلوبهم من نوري ، ونوري مشتق من نوره (٢).

ولا يخفى أن قضيّة الجمع بين الخبرين تقدّم نور النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على نور علي عليه‌السلام ، بثمانين ألف سنة ، وتقدّم نورهما معا على سائر الخلق بتلك المدّة أيضا ، فيكون تقدّم النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بضعفها.

وعن ابن بابويه عن مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ الله خلق نور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل خلق المخلوقات كلّها بأربعماة ألف سنة وأربعة وعشرين ألف سنة وخلق منه اثنى عشر حجابا (٣).

والمراد بالسنين مراتب تقدمه عليه‌السلام على الأنبياء وبالحجب الأئمة عليهم‌السلام فيستفاد منه ومن غيره مما مرّ تقدم نوره (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على غيره حتى أنوار الأئمة عليهم‌السلام في عالم الأنوار ، مع اتحادهم حقيقة في النورانية ، فإنّ أنوارهم مشتقّة من نوره (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد وصوله إلى جلال العظمة في مدّة ثمانين ألف سنة كما في الخبر المتقدم.

__________________

(١) آل عمران : ١١٠.

(٢) بحار الأنوار ج ٧ ط. القديم ص ١٨٥.

(٣) الخصال ج ١ : ٨٢ ، معاني الاخبار : ٨٨ ، بحار الأنوار ج ١٥ : ٤.

٢٥٣

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ من جملة العوالم المتطابقة المتساوية في جهة العرض المتفقة في مراتب الطول عالمي التكوين والتدوين ، فإنهما واقعان في عرض واحد لا بفصل أحدهما عن الآخر بشيء أصلا إلّا أنّ الثاني ظلّ الأوّل ومرآته ، وهو مشتمل على جميع المراتب الكلية والحقائق الإلهية ، واللوامع النورانية المطوية في كينونة الأول.

وإن شئت فتح الباب وكشف الحجاب فاعلم ، أنّ للصادر الأول تجليّا وظهورا في عالم التكوين ، وهو المعبّر عنه بالمشيّة الفعلية التي خلق الله تعالى بها جميع الكينونات وهو الوجود المطلق ووجه الحق وأنّ له تجليا وظهورا في عالم التدوين ، وأوّل ظهوره فيه هو الحروف النورانية العلميّة السارية في جميع الحقائق في عالم الأنوار ، ثم في عالم العقول ، ثم في عالم العقول ، ثم في عالم الأرواح ، ثم في عالم النفوس ، ثم في عالم المعاني الكلية ، ثم في عالم المعاني الجزئية ، ثم في عالم الحروف النفسية ، ثم في عالم الحروف اللفظية ، ثم في عالم الحروف النقشية ، وهذه الحروف أصل القرآن وحقيقته وبسائطه ، بل أصل الأشياء كلها في صقع التدوين ، ولذا قال مولينا الرضا عليه‌السلام عليه والتحية والثناء في خبر عمران الصابي (١) :

اعلم أن الإبداع والمشية والإرادة معناها واحد وأسمائها ثلاثة وكان أوّل إبداعه وإرادته ومشيته الحروف التي جعلها أصلا لكل شيء ودليلا على كل مدرك ، وفاصلا لكل مشكل ، وبتلك الحروف تفريق كل شيء من اسم حق أو باطل ،

__________________

(١) عمران الصابي كان من المتكلمين في عصر المأمون ، وكان منحرفا ولكن هداه الله بنور السّلام لمّا باحث مع الامام الرضا عليه‌السلام ، وظهر له الحق فخرّ ساجدا ، وأسلّم وولاه الرضا عليه‌السلام صدقات بلخ.

٢٥٤

أو فعل أو مفعول ، أو معنى أو غير معنى ، وعليها اجتمعت الأمور كلها ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها يتناهى ولا وجود لها لأنها مبدعة بالإبداع والنور في هذا الموضع أوّل فعل الله تعالى الذي هو نور السموات والأرض والحروف هو المفعول بذلك الفعل وهي الحروف التي عليها الكلام (١).

وقد روي عن أبي ذر الغفاري عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : قلت : يا رسول الله كل نبي مرسل بم يرسل؟ قال عليه‌السلام : بكتاب منزل ، قلت : يا رسول الله أيّ كتاب أنزل الله على آدم (عليه‌السلام)؟ قال (عليه‌السلام): كتاب المعجم ، قلت : أيّ كتاب المعجم؟ قال عليه‌السلام : أب ت ث ، وعدها إلى آخرها.

فالحروف البسيطة إشارة إلى بسائط العوالم ومجرّداتها والمركبة إشارة إلى كلياتها ومركباتها ، والحقائق ، والروابط والإضافات والنسب المتصلة أو المعتبرة بينها ، فهذه الحروف المعدودة مع قلّتها وتناهيها أو عية لجميع الحقائق النورية وشبكة ومصيدة لاصطياد المعارف والحقائق والعلوم الكلية والجزئية ولذا ليس مطلب من المطالب ولا حقيقة من الحقائق ولا شيء ممّا في صقع الإمكان أو في عرصة الأكوان الّا ويمكن التعبير عنه بجملة من تلك الحروف المؤلفة على نسبة من التأليف المستعدّة بحسب الاستعداد أو الشخصي لاقتناص تلك المعاني ، وافاضتها عليها حيث إنّ نسبتها منها كنسبة الأرواح إلى الأجساد.

ولذا ورد عن الإمام عليه‌السلام إن المعنى من اللفظ كالروح في الجسد (٢).

__________________

(١) التوحيد : ص ٤٢٨ ـ ٤٥٧ ، عيون الاخبار : ص ٨٧ ـ ١٠٠.

(٢) في سفينة البحار ج ١ ص ٥٣٧ : نقل عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) انه قال : الروح في الجسد

٢٥٥

وعن آصف بن برخيا على نبينا وآله عليه‌السلام أنّ الاشكال مقناطيس الأرواح ، بناء على شمول كل الاشكال والأرواح للقسمين التكوينية والتدوينية بل يشمل القسم الثالث الذي هو التشريعية أيضا فالقرآن وان كان متنزلا في هذا العالم الناسوتي الظلماني بصورة الحروف والكلمات الملفوظة أو المنقوشة أو المتصورة الملحوظة لكنه في أصله وفي بدو خلقته وعظيم جبروته نور إلهي وتجليّ شعشعاني قد تنزّل من عوالم كثيرة إلى أن تنزّل إلى هذا العالم وحيث إنّ كتاب كل نبي من الأنبياء مبيّن لعلوم شريعته ، موضح لرسوم طريقته ، كافل لمراتب حقيقته ، كان مساوقا لرتبة وجوده ، ومقام شهوده فاعتبر الفضل بين الأنبياء ولذا كان القرآن مهيمنا على جميع الكتب السماوية كما أنّ نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خاتم النبيين لما سبق وفاتح لما انفلق ومهيمن على ذلك كله.

وحيث إنّ وجود نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مبدأ التكوين فكتابه ديباجة التدوين بل تمامه وكماله لاشتماله على تمام حقايق الكون وبسائطه ومركباته لأنه قد اعتبر في تأليفه من تلك الحروف المحصورة كما أنّ الاتفاق وجميع وجوه الدلالات بكلماته وحروفه على المعاني التي لا تكاد تتناهى.

ولذا قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في تفسير باء البسملة : لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير باء بسم الله الرحمن الرحيم (١).

__________________

كالمعنى في اللفظ ، قال الصفدي : وما رأيت مثالا أحسن من هذا.

(١) روى هذا الحديث جماعة من القوم مع تفاوت واختلاف :

منهم القندوزي في ينابيع المودة ص ٦٥ ط اسلامبول ، والهروي في شرح العين وزين الحلم ص ٩١ ، والكاكوردي في الروض الأزهر ص ٣٣ ط حيدرآباد الدكن ، وبهجت افندي في تاريخ آل محمّد ص ١٥٠ قالوا : قال علي كرم الله وجه : لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من

٢٥٦

وقال الباقر عليه‌السلام : لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله ـ عزوجل ـ حملة لنشرت التوحيد والإسلام والإيمان والشرائع من الصمد الخبر (١).

فاتّضح أنّ رتبة القرآن مساوق لرتبة نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إلّا ان الاختلاف من جهة التكوين والتدوين فهما في عرضين من طول واحد فالاختلاف عرضي لا طولي.

وأمّا مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فهو وإن ساوق رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في السلسلة الطولية التكوينية إلّا أنّه متأخر عنه في هذه السلسلة بحرف واحد طولها ثمانون ألف سنة حسبما سمعت فالقرآن جامع لجميع علوم النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مساوق معه في التدوين وإنّما كان (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مأمورا بتعليم علوم القرآن وتبليغ شرائعه وآدابه واحكامه وسننه ولطائفه وإشاراته وحقائقه.

ولمّا كان الناس يومئذ غير مستعدّين ولا متأهلين لا لاستماع ذلك كله لجمود طبائعهم على الجاهلية الجهلاء ، وخمود فطرتهم الأصليّة بالانحراف والشفاء فبعثه الله وليس أحد من العرب يقرء كتابا ولا يعرف علما حين فترة من الرسل وطول هجعة من الأمم واغترام من الفتن ، وانتشار من الأمور ، وتلظّ من الحروب ، والدنيا

__________________

تفسير فاتحة الكتاب.

ومنهم محمّد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤل ص ٢٦ ط. طهران قال : قال (عليه‌السلام) لو شئت لأوقرت بعيرا من تفسير بسم الله الرحمن الرحيم.

ومنهم الشعراني في لطائف المنن ج ١ ص ١٧١ ط مصر قال : وروينا عن علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) أنه كان يقول : لو شئت لأوقرت لكم ثمانين بعيرا من معنى الباء.

(١) بحار الأنوار ج ٣ ط. طهران الاخوندي.

٢٥٧

كاسفة النور ظاهرة والغرور على حين اصفرار من ورقها وإياس من ثمرها ، واغوار من مائها ، قد درست أعلام الهدى ، وظهرت أعلام الردى ، فقام هاديا مهديا ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادة الله سبحانه ومن طاعة الشيطان إلى طاعته بقرآن قد بيّنه وأحكمه ليعرف العباد ربهم إذ جهلوه وليقرّوا به بعد إذ جحدوه وليثبتوه بعد إذ أنكروا ، فتجلّى سبحانه لهم في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته وخوفهم من سطوته فبلغ إليهم أصول الشريعة والأحكام في مدة ثلاثة وعشرين سنة ، وبقي من علوم القرآن كثير من الحقائق والشرائع والأحكام مما يحتاج اليه الناس في أحكامهم الظاهرية والباطنة من لدن قبضه (عليه‌السلام) إلى يوم القيامة فاستودعه عند بابه وحجابه وأمينه في أمّته والمخلوق من طينته مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، كي يبلّغه بنفسه أو بواسطة ذريّته الطيبين وخلفائه الراشدين وشيعته المخلصين إلى كافة المسلمين والمؤمنين ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة فأكمل به الدين وأتمّ به النعمة ووعده العصمة ، وأكدّ الأمر بتبليغ ذلك حتى خاطبه بقوله : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) فيعلم منه أنه المقصود من الرسالة بحيث تنتفي بانتفائه.

ولذا قال (عليه‌السلام) في احتجاجه يوم الغدير على ما حكاه في «الوسائل» عن «الاحتجاج» للطبرسي : انّ عليا تفسير كتاب الله والداعي اليه ألا وانّ الحلال والحرام أكثر من أن أحصيهما وأعرّفهما فأمر بالحلال وأنهى عن الحرام في مقام واحد فأمرت أن آخذ البيعة عليكم الصفقة منكم بقبول ما جئت به عن الله (عزوجل) في علي أمير المؤمنين (عليه‌السلام) والأئمة من بعده معاشر الناس تدبّروا وافهموا آياته وانظروا في محكماته ولا تتبّعوا متشابهه فو الله لن يبيّن لكم زواجره ولا

٢٥٨

يوضح لكم عن تفسيره إلّا الذي أنا آخذ بيدي (١).

وفي النبوي أنه قال عليه‌السلام : يا علي أنت اخي ، وأنا أخوك وأنا المصطفى للنبوّة وأنت المجتبى للامامة ، وأنا صاحب التنزيل وأنت صاحب التأويل (٢).

وفي «الكافي» عن الصادق عليه‌السلام : إنّ الله علّم نبيّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) التنزيل والتأويل فعلّمه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا ثم قال (عليه‌السلام) : وعلّمنا والله ، الخبر (٣).

ومما سمعت من مساوقة القرآن في عالم الأنوار لنبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مع الاختلاف في التدوين وتأخّر مولانا أمير المؤمنين (عليه‌السلام) عنه في عالم التكوين يظهر كون القرآن أحد الثقلين ، بل وكونه الثقل الأكبر ، بل ويظهر منه سرّ عدم مفارقه كل منهما عن الآخر أبدا.

كما في «البصائر» عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): يا ايها الناس إني تارك فيكم الثقلين ، الثقل الأكبر والثقل الأصغر إن تمسكتم بهما لن تضلّوا ولا تتبدّلوا ، وإني سئلت اللطيف الخبير أن لا يفترقا حتى يردا علىّ الحوض فأعطيت ذلك ، قالوا : وما الثقل الأكبر وما الثقل الأصغر؟ قال (عليه‌السلام) الثقل الأكبر كتاب الله سبب طرفه بيد الله وسبب طرفه بأيديكم.

والثقل الأصغر عترتي وأهل بيتي (٤).

وفيه عنه (عليه‌السلام): إني تارك فيكم الثقلين ، فتمسّكوا بهما فإنّهما لن

__________________

(١) الاحتجاج : ص ٣٣ ـ ٤١ والبحار ج ٣٧ : ص ٢٠١ ـ ٢١٧ ط. الاخوندي.

(٢) ينابيع المودة ص ١٢٣ ط. اسلامبول.

(٣) بحار الأنوار ج ٧ ط. القديم ص ٣١٧.

(٤) بحار الأنوار ج ٧ ط. السابق ص ٢٩.

٢٥٩

يفترقا حتى يردا علي الحوض قال : فقال أبو جعفر (عليه‌السلام) : لا يزال كتاب الله والدليل منا يدل عليه حتى يردا علىّ الحوض (١).

وفي «أمالي» الشيخ عن أبي ثابت مولى أبي ذر قال : سمعت أم سلمة تقول : سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في مرضه الذي قبض فيه يقول وقد امتلأت الحجرة من أصحابه : أيّها الناس يوشك أن اقبض سريعا فينطلق بي وقد قدمت إليكم ، ألا إنّي مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله ربّي (عزوجل) وعترتي أهل بيتي ، ثم أخذ بيد علي (عليه‌السلام) فرفعها فقال : هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي ، خليفتان نصيران لا يفترقان حتى يردا علي الحوض فأسئلهما ماذا خلّفت فيهما (٢).

وروي العيّاشي أنّه خطب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يوم الجمعة بعد صلوة الظهر فكان من خطبته أنه قال : أيّها الناس إنّي فرطكم وأنتم واردون علي الحوض ، وحوضي عرضه ما بين بصرى وصنعاء ، فيه عدد النجوم قدحان من فضة ألا وانّي سائلكم حين تردون علي من الثقلين ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما حتى تلقوني ، قالوا : وما الثقلان يا رسول الله؟ قال (عليه‌السلام) : الثقل الأكبر كتاب الله سبب طرف بيد الله وطرف في أيديكم فاستمسكوا به لا تضلّوا ولا تذلّوا والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي فإنّه قد نبأني اللطيف الخبير أن لا يفترقا حتى يلقياني وسئلت الله تعالى لهما ذلك فأعطانيه فلا تسبقوهم فتهلكوا ولا تقصروا عنهم

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧ ط. السابق ص ٢٩.

(٢) بحار الأنوار ج ٦ ط. السابق ص ٧٩٢ رواه عن كشف الغمة.

٢٦٠