تفسير الصّافي - ج ١

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

تفسير الصّافي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مكتبة الصدر
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٣
ISBN الدورة:
964-6847-51-X

الصفحات: ٥٢٨

الوجه الثاني يتعلق باعْبُدُوا ويراد بالتقوى الحذر ، نبّه عليه السلام بقوله : لها وجهان على أن القرآن ذو وجوه وان حمله على الجمع صحيح ويأتي نظائره في كلامهم عليهم السلام وكون الكلام ذا وجوه ممّا يزيد في بلاغته ولطافته.

(٢٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً جعلها ملائمة لطبائعكم موافقة لأجسادكم مطاوعة لحرثكم وأبنيتكم ودفن موتاكم لم يجعلها شديدة الحمى والحرارة فتحرقكم ولا شديدة البرودة فتجمدكم ولا شديدة طيّب الرّيح فتصدع هاماتكم ولا شديدة النتن فتعطبكم ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في حرثكم وأبنيتكم ودفن موتاكم ولكنه جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به وتتماسكون وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم وجعل فيها من اللين ما تنقاد به لدوركم وقبوركم وكثير من منافعكم. وَالسَّماءَ بِناءً سقفاً من فوقكم محفوظاً يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً : يعني المطر ينزله من علىً ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم (١) وأوهادكم ثمّ فرّقه رذاذاً ووابلاً وهطلاً وطلًّا لتنشفه أرضوكم ولم يجعل نازلاً عليكم قطعة واحدة فيفسد أراضيكم وأشجاركم وزروعكم وثماركم ، وعن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : (ينزل مع كل قطرة ملك يضعها في موضعها الذي أمره به ربّه عزّ وجلّ). فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ.

أقول : لمطعمكم ومشربكم وملبسكم وسائر منافعكم : فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أشباهاً وأمثالاً من الأصنام التي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تقدر على شيء. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢) أنّها لا تقدر على شيء من هذه النّعَمْ الجليلة التي أنعمها عليكم ربّكم.

(٢٣) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا : حتّى تجحدوا أن يكون محمّد رسول الله صلّى الله عليه وآله وأن يكون هذا المنزّل عليه كلامي مع إظهاري عليه

__________________

(١) الهضبة ما يقابل الوهدة ، والرذاذ المطر الضعيف ، والوابل المطر الشديد ، والهطل تتابع المطر ، والطل : أضعف المطر ، منه قدّس سرّه.

(٢) قيل والمعنى وأنتم من أهل العلم والنظر. منه قدّس سرّه.

١٠١

بمكّة من الآيات الباهرة كالغمامة المظلّة عليه والجمادات المسلّمة عليه وغير ذلك فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ من مثل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم رجل منكم لا يقرأ ولا يكتب ولا يدرس كتاباً ولا اختلف إلى عالم ولا تعلم من أحد وأنتم تعرفونه في أسفاره وحضره بقي كذلك أربعين سنة ثمّ أُوتي جوامع العلم حتّى عَلِم عِلم الأوّلين والآخرين. أو من مثل (١) هذا القرآن من الكتب السّالفة في البلاغة والنّظم.

في الكافي عن الكاظم عليه السلام ما معناه : أنه لما كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام أتاهم الله من مواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم وأثبت به الحجّة عليهم كما أتى قوم موسى عليه السلام ما أبطل به سحرهم إذ كان الغالب عليهم السحر وقوم عيسى عليه السلام الطّبّ وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص إذ كان الغالب عليهم الزّمانات وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أصنامكم التي تعبدونها أيها المشركون وشياطينكم أيها اليهود والنّصارى وقرناءكم (٢) الملحدين يا منافقي المسلمين من النصَّاب لآل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم الطّيبين. الذين يشهدون بزعمكم أنّكم محقّون وتزعمون أنّهم شهداؤكم عند ربّ العالمين بعبادتكم ويشفعون لكم إليه ليشهدوا لكم أنّ ما أتيتم مثله قيل أو لينصروكم على معارضته كما في قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) فانّ الشهيد جاء بمعنى الامام والنّاصر والقائم بالشهادة والتركيب للحضور حسّاً أو خيالاً إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأنّ محمّداً صلّى الله عليه وآله تقوّله من تلقاء نفسه لم ينزله الله عليه.

(٢٤) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا هذا الذي تَحَدَّيْتُكُمْ بِهِ. أيّها المقرّعون بحجّة ربّ العالمين وَلَنْ تَفْعَلُوا ولا يكون هذا منكم أبداً ولن تقدروا عليه فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا حطبها النَّاسُ وَالْحِجارَةُ حجارة الكبريت لأنّها أشدّ الأشياء حرّاً.

وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام : لقد مررنا مع رسول الله

__________________

(١) هذا الترديد في التفسير أيضاً ممّا ينبه على أن القرآن ذو وجوه وان حمله على جميع الوجوه صحيح حقّ وليس من قبيل التردد كما يقع في كلام سائر المفسرين ، حاشاهم عن ذلك. منه قدّس سرّه.

(٢) هذا ممّا لفق من موضعين من تفسير الإمام عليه السلام. منه قدّس سرّه.

١٠٢

صلّى الله عليه وآله بجبل وإذ الدموع تسيل من بعضه فقال : ما يبكيك يا جبل؟

قال : يا رسول الله كان المسيح مرّ بي وهو يخوّف الناس بنار وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ فانا أخاف أن أكون من تلك الحجارة. قال (ص) : (لا تخف تلك حجارة الكبريت) فقرّ الجبل وسكن وهَدَءَ. وقيل المراد بها الأصنام التي نحتوها وقرنوا بها أنفسهم وعبدوها طمعاً في شفاعتها ، كما في قوله تعالى : إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ.

القمّيّ عن الصادق (ع) قال : إن ناركم هذه جزء من سبعين جزء من نار جهنّم وقد أطفئت سبعين مرّة بالماء ثمّ التهبت ولو لا ذلك ما استطاع آدمي أن يطفأها وإنّها ليؤتى بها يوم القيامة حتّى توضع على النار فتصرخ صرخة لا يبقى ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل الا جَثَا على ركبتيه فزعاً من صرختها. أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ المكذّبين بكلامه ونبيّه.

(٢٥) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا : من تحت أشجارها ومساكنها. الْأَنْهارُ رُوي : أنّها نزلت في عليّ وحمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب.

أقول : وهذا لا ينافي عموم حكمها كما دريت كُلَّما رُزِقُوا مِنْها من تلك الجنّات مِنْ ثَمَرَةٍ من ثمارها رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ في الدنيا فأسماؤه كأسمائه ولكنها في غاية الطيب غير مستحيل إلى ما يستحيل إليه ثمار الدنيا من العذرة والصفراء والسوداء والدم إلّا العرق الذي يجري في أعراضهم أطيب ريحاً من المسك.

أقول : العِرض بالكسر الجسد.

وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً يشبه بعضه بعضاً بأنها كلها خيار لا رذل فيها وبأنّ كل صنف منها في غاية الطيب واللذة ليست كثمار الدنيا التي بعضها نيّ وبعضها متجاوز لحدّ النّضج والإدراك إلى حدّ الفساد من حموضة ومرارة وسائر صنوف المكاره ومتشابهات أيضاً متفقات الألوان مختلفات الطعوم.

١٠٣

أقول : لما كَان المعرفة في الدنيا بذر المشاهدة في الآخرة جاز أن يكون أشير هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ لأهل المعرفة إلى ثمرة علومهم ومعارفهم التي صارت عيناً وعياناً.

وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ من الحيض والنّفاس وسائر أنواع الأقذار والفواحش لا ولّاجات ولا خرّاجات ولا دخّالات ولا ختّالات ولا متغايرات ولا لأزواجهن فركات ولا صخّابات (١) ولا عيابات ولا نخّاسات ومن كل العيوب والمكاره بريئات.

أقول : الولّاجات الخرّاجات اللواتي يكثرن الظّرف والاختيار والدخّالات الغاشّات والختّالات الخداعات والمتغايرات من الغيرة وفركات مبغضات والصّخابات الصيّاحات والعيّابات من العيب والنّخاسات الدفّاعات.

وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام : لا يحضن ولا يحدثن.

وَهُمْ فِيها خالِدُونَ : لأنّ نيّاتهم في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً فبالنيّات خلّدوا كذا في العلل عن الصادق عليه السلام ..

(٢٦) إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً : للحقّ يوضحه به لعباده المؤمنين ، ما ما هو المثل.

أقول : يعني أي مثل كان فان ما لزيادة الإبهام والشيوع في النّكرة بَعُوضَةً فَما فَوْقَها وهو الذّباب. ردّ بذلك على من طعن في ضربه الأمثالَ بالذّباب والعنكبوت وبمستوقد النّار والصّيّب في كتابه.

وفي المجمع عن الصادق عليه السلام : إنَّما ضرب الله المثل بالبعوضة لأنّها على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق الله في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين فأراد الله أن ينبّه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعه.

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ إنّه المثل المضروب الحقّ من

__________________

(١) بالمهملة ثمّ المعجمة ثمّ الموحدة. منه قدّس سرّه.

١٠٤

ربهم أراد به الحق وإبانته والكشف عنه وإيضاحه.

أقول : يعني يعلمون أنّ المعتبر في المثل أن يكون على وفق الممثل له في الصغر والعظم والخسّة والشّرف ليبيّنه ويوضحه حتّى يصير في صورة المشاهد المحسوس دون الممثل.

وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً أيّ شيء أراد به من جهة المثل يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً قيل هو جواب ما ذا أي إضلال كثير بسبب إنكاره وهداية كثير من جهة قبوله فهو يجري مجرى البيان للجملتين المتقدمتين يعني أنّ كلا الفريقين موصوف بالكثرة ولسببيّته لهما نسبا إليه.

وفي تفسير الإمام عليه السلام : يعني يقول الذين كفروا لا معنى للمثل لأنه وإن نفع به من يهديه فهو يضرّ به من يضل به فردّ الله عليهم قولهم فقال : وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الخارجين عن دين الله الجانين على أنفسهم بترك تأمله وبوضعه على خلاف ما أمر الله بوضعه عليه.

(٢٧) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ : المأخوذ عليهم لله بالرّبوبيّة ولمحمّد صلّى الله عليه وآله بالنبوة ولعليّ عليه السلام بالإمامة ولشيعتهما بالكرامة مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ إحكامه وتغليظه وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الأرحام والقرابات أن يتعاهدوهم ويقضوا حقوقهم وأفضل رحم وأوجبهم حقاً رحم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم فان حقهم بمحمّد صلّى الله عليه وآله كما أن حقّ قرابات الإنسان بأبيه وأمّه ومحمّد أعظم حقّاً من أبويه وكذلك حقّ رحمه أعظم وقطيعته أقطع وأفضح.

أقول : ويدخل في الآية التفريق بين الأنبياء والكتب في التصديق وترك موالاة المؤمنين وترك الجمعة والجماعات المفروضة وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شرّ فانّه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد التي هي المقصودة بالذّات من كل وصل وفصل. وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بسبب قطع ما في وصله نظام العالم وصلاحه أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم بما صاروا إلى النيران وحرموا الجنان فيا لها من خسارة ألزمتهم عذاب الأبد وحرمتهم نعيم الأبد.

١٠٥

(٢٨) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ الخطاب لكفّار قريش واليهود وَكُنْتُمْ أَمْواتاً في أصلاب آبائكم وأرحام أمهاتكم فَأَحْياكُمْ أجرى فيكم الروح وأخرجكم أحياء ثُمَّ يُمِيتُكُمْ في هذه الدنيا ويقبركم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ في القبور وينعّم فيها المؤمنين ويعذّب الكافرين ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة بأن تموتوا في القبور بعد الأحياء ثمّ تحيوا للبعث يوم القيامة ترجعون إلى ما وعدكم من الثواب على الطاعات إن كنتم فاعليها ومن العقاب على المعاصي إن كنتم مقارفيها.

(٢٩) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً : قال أمير المؤمنين عليه السلام : خلق لكم لتعتبروا به وتتوصّلوا به إلى رضوانه وتتقّوا من عذاب نيرانه. ثُمَّ اسْتَوى (١) إِلَى السَّماءِ أخذ في خلقها وإتقانها. فَسَوَّاهُنَ وقيل عدّلهن مصونة عن العوج والفتور والضمير مبهم يفسره ما بعده سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ولهذا خلق ما خلق كما خلق لصالحكم على حسَب ما اقتضته الحكمة.

(٣٠) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ الذين كانوا في الأرض مع إبليس وقد طردوا عنها الجنّ بنيّ الجان وخفّفت العبادة (٢).

والقمّيّ عن الصادق عليه السلام : إن إبليس كان بين الملائكة يعبد الله في السماء وكانت الملائكة تظنّه منهم ولم يكن منهم وذلك ان الله خلق خلقاً قبل آدم وكان إبليس حاكماً فيهم فأفسدوا في الأرض وعَتَوْا وسفكوا بغير حقّ فبعث الله عليهم الملائكة فقتلوهم وأسروا إبليس ورفعوه معهم إلى السماء فكان مع الملائكة يعبد الله إلى أن خلق الله آدم فلمّا أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وظهر ما كان من حَسَد إبليس له واستكباره علمت الملائكة أنّه لم يكن منهم ، وقال إنّما دخل في الأمر لكونه منهم بالولاء ولم يكن من جنسهم.

__________________

(١) من قولهم استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء. منه قدّس سرّه.

(٢) يحتمل كون البناء للفاعل والعبادة مفعولاً والضمير المستتر للجان بني الجان يعني قد طردهم الملائكة في حال إفسادهم في الأرض وتخفيفهم وتحقيرهم للعبادة وعدم اعتنائهم بها أو تقليلهم للعبادة بالنسبة إلى سابق الزمان وللمفعول والعبادة نائب الفاعل والفاعل الحقيقي أيضاً الجن بني الجان بأحد المعنيين أو للمفعول ونائب الفاعل مستتر يرجع إلى الملائكة والعبادة منصوب على أنّه مفعول ثان أي وقد خفف الله على الملائكة العبادة بالنسبة إلى عبادتهم في عالم الملكوت. منه قدّس سرّه.

١٠٦

والعيّاشي عنه عليه السلام : أنه سئل عن إبليس أكان من الملائكة أو هل يلي شيئاً من أمر السماء؟ قال : لم يكن من الملائكة ولم يكن يلي شيئاً من أمر السماء وكان من الجنّ وكان مع الملائكة وكانت الملائكة ترى أنّه منها وكان الله يعلم أنّه ليس منها فلمّا أمر بالسّجود كان منه الذي كان.

وفي الكافي : عنه عليه السلام : مثله إلى قوله : ولم يكن يلي شيئاً من أمر السماء وزاد بعده : ولا كرامة. إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً بَدَلاً منكم ورافعكم منها فاشتد ذلك عليهم لأن العبادة عند رجوعهم إلى السماء تكون أثقل عليهم.

وفي رواية : خَلِيفَةً تكون حجّة لي في أرضي على خلقي. كما يأتي : قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ كما فعلته الجنّ بني الجان الذين قد طردناهم عن هذه الأرض وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ننزّهك عمّا لا يليق بك من الصفات وَنُقَدِّسُ لَكَ نطهّر أرضك ممّن يعصيك. قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ من الصلاح الكامن فيه ومن الكفر الباطن في من هو فيكم وهو إبليس لعنه الله.

القمّيّ عن الباقر عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام ، ورواه في العلل أيضاً عنه عليه السلام على اختلاف في ألفاظه قال : إنّ الله لما أراد أن يخلق خلقاً بيده وذلك بعد ما مضى عن الجنّ والنّسناس في الأرض سبعة آلاف سنة فرفع سبحانه حجاب السماوات وأمر الملائكة أن انظروا إلى أهل الأرض من الجنّ والنّسناس فلمّا رأوا ما يعملون فيها من المعاصي وسفك الدماء والفساد في الأرض بغير الحقّ عظم ذلك عليهم وغضبوا الله تعالى وتأسفوا على الأرض ولم يملكوا غضبهم وقالوا ربّنا أنت العزيز القادر العظيم الشأن وهذا خلقك الذّليل الحقير المتقلّب في نعمتك المتمتّع بعافيتك المرتهن في قبضتك وهم يعصونك بمثل هذه الذنوب ويفسدون في الأرض ولا تغضب ولا تنتقم لنفسك وأنت تسمع وترى وقد عظم ذلك علينا وأكبرناه لك ، فقال جلّ جلاله : إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً تكون حجّة لي في أرضي على خلقي. قالت الملائكة أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها كما أفسد هؤلاء وَيَسْفِكُ الدِّماءَ كما فعل هؤلاء ويتحاسدون ويتباغضون فاجعل ذلك الخليفة منّا فانّا لا نتحاسد ولا نتباغض ولا نسفك الدماء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ

١٠٧

وَنُقَدِّسُ لَكَ ، قالَ تبارك وتعالى : إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ إنِّي أُريد أن أخلق خلقاً بيدي واجعل من ذرّيته الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصَّالحين وأئمّة مهديّين واجعلهم خلفائي على خلقي في أرضي يهدونهم إلى طاعتي وينهونهم عن معصيتي واجعلهم حجّة لي عليهم عذراً ونذراً وأبين النّسناس عن أرضي واطهّرها منهم وأنقل الجنّ المردة العصاة عن بريّتي وخيرتي من خلقي وأسكنهم في الهواء وفي اقفار الأرض فلا يجاورون خلقي واجعل بين الجنّ وبين نسل خلقي حجاباً ومن عصاني من نسل خلقي الذين اصطفيتهم أسكنتهم مسكن العصاة وأوردتهم مواردهم فقالت الملائكة : سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا قال : فباعدهم الله عز وجل من العرش مسيرة خمسمائة عام فلاذوا بالعرش وأشاروا بالأصابع فنظر الربّ جلّ جلاله إليهم ونزلت الرّحمة فوضع لهم البيت المعمور فقال : طوفوا به ودعوا العرش فانّه لي رضاً. فطافوا به وهو البيت الذي يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبداً ووضع الله البيت المعمور توبة لأَهل السماء والكعبة توبة لأهل الأرض فقال الله تبارك وتعالى : إِنِّي خالِقٌ (١) بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ قال وكان ذلك من الله تعالى تقدمة في آدم قبل أن يخلقه واحتجاجاً منه عليهم قال فاغترف جلّ جلاله من الماء العذب الفرات غرفة بيمينه وكلتا يديه يمين فَصَلْصَلَهَا فجمدت ، وقال الله جلّ جلاله : (منك أخلق النّبيين والمرسلين وعبادي الصَّالحين والأئمّة المهديّين الدّعاة إلى الجنّة واتباعهم إلى يوم القيامة ولا أُسئلُ عمّا أفعل وهم يسألون). ثم اغترف من الماء المالح الأجاج غرفة فَصَلْصَلَهَا فجمدت فقال تعالى : ومنك أخلق الفراعنة والجبابرة واخوان الشياطين والعتاة والدعاة إلى النار وأشياعهم إلى يوم القيامة (ولا أُسْئَلُ عمّا أفعل وهم يسألون) قال وشرط في ذلك البدَاء فيهم ولم يشرط في أصحاب اليمين ثمّ خلط الماءين جميعاً في كفّه فَصَلْصَلَهَما ، ثمّ كفاهما قدّام عرشه وهما سلالة من طين ثمّ أمر ملائكة الجهات الشّمال والجنوب والصّبا والدّبور أن يجُولوا على هذه السلالة من الطّين

__________________

(١) روى العيّاشيّ هذه الرواية في سورة الحجر من قوله : قال الله تعالى : إِنِّي خالِقٌ بَشَراً إلى قوله سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. منه قدس الله سره.

١٠٨

فأبرءوها وأنشأوها ثمّ جزؤوها وفصّلوها وأجروا فيها الطّبَائع الأربع المرّتين (١) والدمّ والبلغم فجالت الملائكة عليها وأجروا فيها الطبائع الأربع فالدّم من ناحية الصّبَا والبلغم من ناحية الشمال والمرّة الصّفراء من ناحية الجنوب والمرّة السّوداء من ناحية الدّبور فاستقلّت النّسمة وكمل البدن فلزمه من جهة الرِّيح حبّ النِّساء وطول الأمل والحرص ومن جهة البلغم حبّ الطّعام والشّراب والبرّ والحلم والرّفق ومن جهة المرّة الغضَبَ والسّفه والشّيطنة والتجبّر والتمرّد والعجلة ومن جهة الدمّ حبّ الفساد واللّذات وركوب المحارم والشّهوات.

قال أبو جعفر عليه السلام : وجدنا هذا في كتاب أمير المؤمنين عليه السلام وزاد القمّيّ في روايته : فخلق الله آدم عليه السلام وبقي أربعين سنة مصوّراً وكان يمرّ به إبليس اللّعين فيقول : لأمرٍ ما خلقت قال العالم عليه السلام : فقال إبليس لئن أمرني الله بالسّجود لهذا عصيته قال ثمّ نفخ فيه الرّوح وبلغت دماغه عطسَ عطسةً وجلس منها مستوياً فقال الحمد لله فأجابه الله عزّ وجلّ يرحمك الله ربّك يا آدم فقال الإمام عليه السلام فَسَبَقت له من الله الرّحمة.

أقول : أكثر ما تضمنه هذا الحديث قد روي في أخبار كثيرة عنهم عليهم السلام.

وفي رواية العيّاشيّ : أن الملائكة منّوا على الله بعبادتهم إيّاه فأعرض عنهم وأنّهم قالوا في سجودهم في أنفسهم ما كنّا نظنّ أن يخلق الله خلقاً أكرم عليه منّا نحن خزّانُ الله وجيرانه وأقرب الخلق إليه فلمّا رفعوا رؤوسهم قال الله وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ من ردّكم عليّ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ من ظنّكم أنِّي لا أخلق خلقاً أكرم عليّ منكم فلمّا عرفت الملائكة أنّها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش وانّها كانت عصابة من الملائكة ولم يكن جميعهم. الحديث.

وعن الباقر عليه السلام : كان ذلك تعصّباً منهم فاحتجب عنهم سبع سنين

__________________

(١) والمرة إحدى الطبائع الأربع من الدم والسوداء والصفراء والبلغم والمرة : القوّة وشدة العقل أيضاً. صحاح اللغة.

١٠٩

فلاذوا بالعرش يقولون لبّيك ذا المعارج لبّيك حتّى تاب عليهم فلمّا أصاب آدم الذّنب طاف بالبيت حتّى قبل الله منه.

وفي الكافي والعيّاشي عنه عليه السلام : فغضب الله عليهم ثمّ سألوه التّوبة فأمرهم أن يطوفوا بالضّراح (١) وهو البيت المعمور فمكثوا يطوفون به سبع سنين يستغفرون الله ممّا قالوا ثمّ تاب الله عليهم من بعد ذلك ورضي عنهم فكان هذا أصل الطّواف ثمّ جعل الله البيت الحرام حذاء الضّراح توبةً لمن أذنب من بني آدم وطهوراً لهم.

وفي العِلل عن الصادق عليه السلام : فحَجَبَهم عن نوره سبعة (٢) آلاف عام فلاذوا بالعرش سبعة آلاف سنة فرحمهم وتاب عليهم وجعل لهم البيت المعمور الذي في السماء الرابعة فجعله مثابة لهم وأمناً ووضع البيت الحرام تحت البيت المعمور فجعله مثابةً للنّاسِ وأمناً فصار الطّواف سبعة أشواط أوجب على العباد لكلّ ألف سنة شوطاً.

أقول : لا منافاة بين السبع سنين وسبعة آلاف عام لأنّ مدّة السّنين والأيّام تختلف باختلاف النّشئات والعوالم ، قال الله تعالى : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) وقال (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) فيجوز أن يكون تارة عدّه بسنّي نشأة وأخرى بسنّي اخرى.

(٣١) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَ (٣) القمّيّ قال (ع) أ : سماء الجبال والبحار والأودية والنّبات والحيوان.

وفي المجمع والعيّاشيّ عن الصادق عليه السلام : أنّه سئل ما ذا علّمه قال الأرضين والجبال والشّعاب والأدوية ثمّ نظر إلى بساط تحته فقال وهذا البساط ممّا علّمه.

__________________

(١) الضراح بضم الضاد المعجمة ثمّ الراء ثمّ الحاء المهملتين. منه قدس الله سره.

(٢) لعل السبعة آلاف سنة كناية عن عمر الدنيا فإن في هذه المدة يتكامل هذا النوع وينال الملائكة المسخرون له قسطهم من الكمال ولعلّ البيت المعمور كناية عن ملكوت قلوب الأولياء وروحانيتها «منه».

(٣) في العلل عن الصادق عليه السلام : إنّما سمي آدم آدم لأنّه خلق من أديم الأرض. منه قدّس سرّه.

١١٠

وفي تفسير الإمام عن السجّاد عليه السلام : علّمه أسماء كلّ شيء ، وفيه أيضاً : أسماء أنبياء الله وأوليائه وعتاة أعدائه.

أقول : تحقيق المقام والتوفيق بين روايتي الامام يقتضي بسطاً من الكلام وذكر نبذ من الأسرار فنقول وبالله التوفيق ليس المراد بتعليم الأسماء تعليم الألفاظ والدّلالة على معانيها فحسب كيف وهو يرجع إلى تعليم اللّغة وليس هو علماً يصلح لأن يتفاخر به على الملائكة ويتفضّل به عليهم بل المراد بالأسماء حقائق المخلوقات الكائنة في عالم الجَبَروت المسمّاة عند طائفة بالكلمات وعند قوم بالأسماء وعند آخرين بالعقول.

وبالجملة : أسباب وجود الخلائق وأرباب أنواعها التي بها خلقت وبها قامت وبها رزقت فانّها أسماء الله تعالى لأنّها تدلّ على الله بظهورها في المظاهر دلالة الاسم على المسمّى فانّ الدلالة كما تكون بالألفاظ كذلك تكون بالذّوات من غير فرق بينهما فيما يؤول إلى المعنى وأسماء الله لا تشبه أسماء خلقه وإنّما أُضيفت في الحديث تارة إلى المخلوقات كلّها لأنّ كلّها مظاهرها التي فيها ظهرت صفاتها متفرّقة وأُخرى إلى الأولياء والأعداء لأنّهما مظاهرها التي فيها ظهرت صفاتها مجتمعة أي ظهرت صفات اللّطف كلّها في الأولياء وصفات القهر كلّها في الأعداء وإلى هذا أُشير في الحديث القدسيّ الّذي يأتي ذكره في تفسير آية سجود الملائكة لآدم عليه السلام من قوله سبحانه : يا آدم هذه أشباح أفضل خلائقي وبرّياتي هذا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم وأنا الحميد المحمود في فعالي شققت له اسماً من اسمي وهذا عليّ وأنا العلِيّ العظيم شققت له اسماً من اسمي ، إلى آخر ما ذكر من هذا القبيل فانّ معنى الاشتقاق في مثل هذا يرجع إلى ظهور الصّفات وانباء المظهر عن الظّاهر فيه أو هما سببان للاشتقاق أو مسبّبان عنه وإنّما يقول بالسّببيّة من لم يفهم العينيّة ، والمراد بتعليم آدم الأسماء كلّها خلقه من أجزاء مختلفة وقوىً متباينة حتى استعدّ لادراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات والمتخيّلات والموهومات والهامه معرفة ذوات الأشياء وخواصّها وأصول العلم وقوانين الصّناعات وكيفيّة آلاتها والتّمييز بين أولياء الله وأعدائه فتأتي له بمعرفة ذلك كلّه

١١١

مظهريّته لأسماء الله الحسنى كلّها وبلوغه مرتبة أحديّة الجمع الّتي فاق بها سائر أنواع الموجودات ورجوعه إلى مقامه الأصلي الذي جاء منه وصار منتخباً لكتاب الله الكبير الذي هو العالم الأكبر كما قال أمير المؤمنين عليه السلام : وفيك انطوى العالم الأكبر.

ان قلت : ما نفقه كثيراً ممّا نقول فهب أنّ المراد بالأسماء الحقائق فأيّ مناسبة بين تعليم آدم أسماء المخلوقات وبين خلقه مختلف القوى والأجزاء والهامه معرفة ذوات الأشياء والتمييز بين الأولياء والأعداء فهل لك من تبيان أو تستطيع الإتيان فيه بسلطان على أن ينحلّ به هذا اللّغز والمعمىّ أو ينجلي به عن البصائر العَمَهَ والعمى.

قلت : لعلّك نسيت ما حقّقناه في المقدّمة الرابعة في معنى المتشابه وتأويله أو لم تستطع إجراءه فيما نحن بسبيله فلنورد ذلك لك بتقرير آخر يكون أظهر لك فيما نحن فيه ممّا قرّرناه هنالك.

فنقول : وبالله التّوفيق انّ الاسم ما يدلّ على المسمّى ويكون علامة لفهمه فمنه ما يعتبر فيه صفة تكون في المسمى وبذلك الاعتبار يطلق عليه ومنه ما لا يعتبر فيه ذلك فالأوّل يدلّ على الذّات الموصوفة بصفة معيّنة كلفظ الرّحمن فانّه يدلّ على ذات متّصفة بالرّحمة ولفظ القهّار فانه يدلّ على ذات لها القهر إلى غير ذلك ، وقد يطلق الاسم بهذا المعنى على مظاهر صفة الذّات باعتبار اتّصافه بالصّفة كالنّبيّ الذي هو مظهر هداية الله سبحانه فانّه اسم الله الهادي لعباده والأسماء الملفوظة بهذا الاعتبار هي أسماء الأسماء.

وسئل مولانا الرضا عليه السلام عن الاسم ما هو؟ قال : صفة لموصوف وهذا اللّفظ يحتمل المعنيين اللّفظ والمظهر وإن كان في المظهر أظهر وقد يطلق الاسم على ما يفهم من اللّفظ أي المعنى الذّهني ، وعليه ورد قول الصّادق عليه السلام : مَنْ عَبَدَ الله بالتّوهّم فقد كفر ، ومن عبَدَ الاسم والمعنى فقد أشرك ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاتها التي وصف بها نفسه فعقد عليه قلبه ونطق

١١٢

به لسانه في سرائره وعلانيته فأولئك هم المؤمنون حقّاً. فانّ المراد بالاسم هاهنا ما يفهم من اللّفظ لا اللّفظ فانّ اللّفظ لا يعبد وبالمعنى ما يصدق عليه اللّفظ فالاسم معنى ذهنيّ والمعنى موجود عيني وهو المسمّى والاسم غير المسمّى لأنّ الإنسان مثلاً في الذِّهن ليس بإنسان ولا له جسميّة ولا حياة ولا حسّ ولا حركة ولا نطق ولا شيء من خواصّ الإنسانية فتدبّر فيه تفهم معنى الحديث ومن الله الإعانة إذا تمهّد هذا فاعلم أنّ لكلّ اسم من أسماء الله الإلهيّة مظهراً من الموجودات باعتبار غلبة ظهور الصّفة التي اشتمل عليها ذلك الاسم فيه وهو اسم باعتبار دلالته على الله من جهة اتّصافه بتلك الصّفة وذلك لأنّ الله سبحانه إنّما يخلق ويدبّر كلّ نوع من أنواع الخلائق باسمٍ من أسمائه وذلك الاسم هو ربّ ذلك النّوع والله سبحانه ربّ الأرباب.

وإلى هذا أُشير في كلام أهل البيت عليهم السلام في أدعيتهم عليهم السلام بقولهم : وبالاسم الذي خلقت به العرش وبالاسم الذي خلقت به الكرسيّ وبالاسم الذي خلقت به الأرواح. إلى غير ذلك من هذا النّمط ، وعن مولانا الصادق عليه السلام : نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملاً إلّا بمعرفتنا. وذلك لأنّهم عليهم السلام وسائل معرفة ذاته ووسائط ظهور صفاته وأرباب أنواع مخلوقاته ولا يحصل لأحد العلم بالأسماء كلّها إلّا إذا كان مظهراً لها كلّها ولا يكون مظهراً لها كلّها إلّا إذا كان في جبلّته استعداد قبول ذلك كلّه وهو ما ذكرناه فافهم ترشد إن شاء الله.

ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ :

أقول : أي عرض أشباح المخلوقات فرداً فرداً في عالم الملكوت المسمّى عند قوم بعالم الرّوحانيّات المدلول عليها بذكر الأسماء إذ هي مظاهر الأسماء كلّها أو بعضها ولهذا أورد بضمير ذوي العقول لأنّهم كلّهم ذوو عقل ، وفي الرّواية الأخيرة أي عرض أشباحهم وهم أنوار في الأظلّة وهو صريح فيما قلناه.

فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ :

١١٣

أقول : يعني بأسماء الله التي بها خلقت هذه الأشباح فإنها بتمامها كانت مستورة على الملائكة الأرضيّة الّا نوعاً واحداً لكلّ صنف منهم كما أنّها مستورة على سائر المخلوقات سوى الأنبياء والأولياء.

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ : بأنّكم أحقّاء بالخلافة من آدم وأنّ جميعكم تسبِّحون وتقدّسون وأنّ ترككم هاهنا أصلح من إيراد من بعدكم أي فكما لم تعرفوا غيب من في خلالكم ممّن ترون أشخاصها فبالحريّ أن لا تعرفوا الغيب الذي لم يكن.

(٣٢) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ بكلّ شيءٍ الْحَكِيمُ المصيب بكلّ فعل.

أقول : وإنّما اعترفوا بالعجز والقصور لما قد بان لهم من فضل آدم ولاحت لهم الحكمة في خلقه فصغر حالهم عند أنفسهم وقلّ عملهم لديهم وانكسرت سفينة جبروتهم فغرقوا في بحر العجز وفوّضوا العلم والحكمة إلى الله وإنّما لم يعرفوا حقائق الأشياء كلّها لاختلافها وتباينها وكونهم وحدانيّة الصّفة إذ ليس في جبلّتهم خلط وتركيب ولهذا لا يفعل كلّ صنف منهم إلّا فعلاً واحداً فالرّاكع منهم راكع أبداً والسّاجد منهم ساجد أبداً والقائم منهم قائم أبداً كما حكى الله عنهم بقوله : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) ولهذا ليس لهم تنافس وتباغض بل مثالهم مثال الحواس فان البصر لا يزاحم السمع في إدراك الأصوات ولا الشم يزاحمهما ولا هما يزاحمان الشمَّ فلا جرم مجبولون على الطاعة ولا مجال للمعصية في حقّهم لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ فكل صنف منهم مظهر لاسم واحد من الأسماء الإلهية لا يتعداه ففاقهم آدم بمعرفته الكاملة ومظهريته الشاملة.

(٣٣) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ.

أقول : يعني أخبرهم بالحقائق المكنونة عنهم والمعارف المستورة عليهم ليعرفوا جامعيّتك لها وقدرة الله تعالى على الجمع بين الصفات المتباينة والأسماء المتناقضة ومظاهرها بما فيها من التضاد في مخلوق واحد كما قيل : ليس على الله

١١٤

بمستنكر أن يجمع العالم في واحد.

فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فعرفوها أخذ عليهم العهود والمواثيق للأنبياء والأولياء بالإيمان بهم والتفضيل لهم على أنفسهم فعند ذلك قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ سرّهما وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ من ردكم عليّ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ من اعتقادكم أنّه لا يأتي أحد يكون أفضل منكم وعزم إبليس على الاباء على آدم أن أمر بطاعته فجعل آدم حجّة عليهم.

(٣٤) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وذلك لما كان في صلبه من أنوار نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته المعصومين عليهم السلام وكانوا قد فُضِّلوا على الملائكة باحتمالهم الأذى في جنب الله فكان السجود لهم تعظيماً وإكراماً ولله سبحانه عبودية ولآدم عليه السلام طاعة.

قال عليّ بن الحسين حدّثني أبي عن أبيه عليهم السلام عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال : يا عباد الله إن آدم عليه السلام لما رأى النور ساطعاً من صلبه إذ كان الله قد نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره رأى النور ولم يتبيّن الأشباح فقال : يا ربّ ما هذه الأنوار فقال عزّ وجلّ : (أنوار وأشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلى ظهرك ولذلك أمرت الملائكة بالسجود لك إذ كنت وعاءً لتلك الأشباح فقال آدم يا ربّ لو بنيتها لي فقال الله عزّ وجلّ : انظر يا آدم إلى ذروة العرش فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا التي في ظهره كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية فرأى أشباحنا فقال ما هذه الأشباح يا ربّ قال الله : يا آدم هذه أشباح أفضل خلائقي وبريّاتي هذا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم وانا الحميد المحمود في فعالي شققت له اسماً من اسمي وهذا عليّ وأنا العليّ العظيم شققت له اسماً من اسمي وهذه فاطمة وأنا فاطر السماوات والأرض فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي وفاطم أوليائي عمّا يعيّرهم ويشينهم فشققت لها اسماً من اسمي وهذا الحسن وهذا الحسين وأنا المحسن المجمل شققت اسميهما من اسمي هؤلاء خيار خليقتي وكرام بريّتي بهم آخذ وبهم أُعطي وبهم أُعاقب وبهم أُثيب فتوسّل بهم إليّ يا آدم إذا دهتك داهية فاجعلهم إليّ شفعاءك فاني آليت على

١١٥

نفسي قسماً حقاً أن لا أُخيب بهم أملاً ولا أرد بهم سائلاً فلذلك حين زلت منه الخطيئة دعا الله عزّ وجلّ بهم فتيب عليه وغفرت له. فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ في المعاني عن الرضا عليه السلام : كان اسمه الحارث سمي إبليس لأنّه أبلس من رحمة الله. أَبى وَاسْتَكْبَرَ أخرج ما كان في قلبه من الحسدِ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ. في العيون عن أمير المؤمنين عليه السلام : أنه أول من كفر وأنشأ الكفر.

والعيّاشي عن الصادق عليه السلام : مثله. والقمّيّ عنه عليه السلام : الاستكبار هو أول معصية عُصِيَ الله بها. قال عليه السلام : فقال إبليس ربّ اعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل فقال جل جلاله لا حاجة لي في عبادتك إنّما عبادتي من حيث أُريد لا من حيث تريد.

(٣٥) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ في الكافي والعلل والقمّيّ عن الصادق عليه السلام : أنّها كانت من جنان الدنيا يطلع فيها الشمس والقمر ولو كانت من جنان الخلد ما خرج منها أبداً ، وزاد القمّيّ : ولم يدخلها إبليس. وَكُلا مِنْها رَغَداً واسعاً حَيْثُ شِئْتُما بلا تعب. وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ العيّاشي عن الباقر عليه السلام : يعني لا تأكلا منها قيل وإنّما علّق النّهي بالقرب الذي هو من مقدمات التناول مبالغة في تحريمه ، ووجوب الاجتناب عنه وتنبيهاً على أن القرب من الشيء يورث داعية وميلاناً يأخذ بمجامع القلب ويلهيه عمّا هو مقتضى العقل والشرع.

وفي تفسير الإمام : أنّها شجرة علم محمّد وآل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم آثرهم الله تعالى بها دون سائر خلقه لا يتناول منها بأمر الله الا هم ومنها ما كان يتناوله النبيّ صلّى الله عليه وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام بعد إطعامهم المسكين واليتيم والأسير حتّى لم يحسوا بعد بجوع ولا عطش ولا تعب ولا نصب وهي شجرة تميّزت من بين سائر الأشجار بأنّ كلّا منها إنّما يحمل نوعاً من الثمار وكانت هذه الشجرة وجنسها تحمل البرّ والعنب والتين والعنّاب وسائر أنواع الثمار والفواكه والأطعمة فلذلك اختلف الحاكون بذكرها ، فقال بعضهم : برّة ، وقال آخرون : هي عنبة ، وقال آخرون : هي عنّابة وهي الشجرة التي من

١١٦

تناول منها بإذن الله ألهم علم الأولين والآخرين من غير تعلم ومن تناول بغير إذن الله خاب من مراده وعصى ربّه.

أقول : وفي رواية : أنّها شجرة الحسد ، وفي رواية أخرى : أنها شجرة الكافور.

وفي العيون بإسناده إلى عبد السلام بن صالح الهروي قال : قلت للرضا عليه السلام يا ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ما كانت فقد اختلف الناس فيها فمنهم من يروي أنّها الحنطة ومنهم من يروي أنّها العنب ومنهم من يروي أنّها شجرة الحسد فقال كل ذلك حقّ قلت فما معنى هذه الوجوه على اختلافها فقال يا أبا الصّلت انّ شجرة الجنّة تحمل أنواعاً وكانت شجرة الحنطة وفيها عنب ليست كشجرة الدنيا وإن آدم لما أكرمه الله تعالى ذكره بإسجاده ملائكته له وبإدخاله الجنّة قال في نفسه هل خلق الله بشراً أفضل منّي فعلم الله عزّ وجلّ ما وقع في نفسه فناداه ارفع رأسك يا آدم وانظر إلى ساق عرشي فرفع آدم رأسه فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوباً لا إله إلّا الله محمّد رسول الله صلّى الله عليه وآله وعليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة فقال آدم يا ربّ من هؤلاء فقال عزّ وجلّ : هؤلاء من ذرّيتك وهم خير منك ومن جميع خلقي ولولاهم ما خلقتك ولا خلقت الجنّة والنار ولا السماء والأرض فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري فنظر إليهم بعين الحسد وتمنّى منزلتهم فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها وتسلط على حواء لنظرها إلى فاطمة بعين الحسد حتّى أكلت من الشجرة كما أكل آدم فأخرجهما الله تعالى عن جنّته وأهبطهما عن جواره إلى الأرض.

أقول : كما أن لبَدَن الإنسان غذاء من الحبوب والفواكه كذلك لروحه غذاء من العلوم والمعارف وكما أن لغذاء بدنه أشجاراً تثمرها فكذلك لروحه أشجار تثمرها ولكل صنف منه ما يليق به من الغذاء فان من الإنسان من يغلب فيه حكم

١١٧

البدن على حكم الروح ومنه من هو بالعكس ولهم في ذلك درجات يتفاضل بها بعضهم على بعض ولأهل الدرجة العليا كل ما لأهل الدرجة السفلى وزيادة ولكل فاكهة في العالم الجسماني مثال في العالم الروحاني مناسب لها كما مرت الإشارة إليه في المقدّمة الرابعة.

ولهذا فسرت الشَّجَرَةَ تارة بشجرة الفواكه وأخرى بشجرة العلوم وكان شجرة علم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم إشارة إلى المحبوبية الكاملة المثمرة لجميع الكمالات الإنسانية المقتضية للتوحيد المحمدي الذي هو الفناء في الله والبقاء بالله المشار إليه بقوله عليه السلام : لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل. فانّ فيها من ثمار المعارف كلها وشجرة الكافور إشارة إلى برد اليقين الموجب للطمأنينة الكاملة المستلزمة للخلق العظيم الذي كان لنبيّنا (ص) ودونه لأهل بيته عليهم السلام فلا منافاة بين الروايات ولا بينها وبين ما قاله أهل التأويل انها شجرة الهوى والطبيعة لأن قربها إنّما يكون بالهوى والشهوة الطبيعية وهذا معنى ما ورد : أنّها شجرة الحسد فان الحسد إنّما ينشأ منها : فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ بمعصيتكما والتماسكما درجة قد أوثر بها غيركما إذا رمتما بغير حكم الله.

(٣٦) فَأَزَلَّهُمَا وقرئ فأزالهما : الشَّيْطانُ عَنْها بوسوسته وخديعته وإيهامه وعداوته وغروره بأن بدأ بآدم وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ ان تناولتما منها تعلمان الغيب وتقدران على ما يقدر عليه من خصّه الله تعالى بالقدرة أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ لا تموتان أبداً وَقاسَمَهُما حلف لهما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ وكان إبليس بين لحيي الحيّة أدخلته الجنّة وكان آدم يظنّ أن الحيّة هي التي تخاطبه ولم يعلم أن إبليس قد اختبى بين لحييها فرد آدم على الحيّة أيّتها الحية هذا من غرور إبليس كيف يخوننا ربّنا أم كيف تعظّمين الله بالقسم به وأنت تنسبينه إلى الخيانة وسوء النظر وهو أكرم الأكرمين أم كيف أروم التوصل إلى ما منعني منه ربي وأتعاطاه بغير حكمه فلما أيس إبليس من قبول آدم (ع) منه عاد ثانية بين لحيي الحية فخاطب حواء من حيث يوهمها أن الحية هي التي تخاطبها وقال يا حواء أرأيت هذه الشجرة التي كان الله عزّ وجلّ حرّمها عليكما فقد أحلها لكما بعد

١١٨

تحريمها لما عرف من حسن طاعتكما له وتوقيركما إياه وذلك أن الملائكة الموكلين بالشجرة التي معها الحراب يدفعون عنها سائر حيوانات الجنة لا تدفعك عنها إن رمتها فاعلمي بذلك أنّه قد أحل لك وابشري بأنّك إن تناولتها قبل آدم (ع) كنت أنت المسلّطة عليه الآمرة الناهية فوقه فقالت حواء : سوف أُجرب هذا فرامت الشجرة فأرادت الملائكة أن يدفعوها عنها بحرابها فأوحى الله إليها إنّما تدفعون بحرابكم من لا عقل له يزجره فامّا من جعلته متمكّناً مميّزاً مختاراً فكلوه إلى عقله الذي جعلته حجّة عليه فان أطاع استحق ثوابي وإن عصى وخالف أمري استحق عقابي وجزائي فتركوها ولم يتعرضوا لها بعد ما همّوا بمنعها بحرابهم فظنت أن الله نهاهم عن منعها لأنّه قد أحلّها بعد ما حرّمها فقالت صدقت الحيّة وظنت أن المخاطب لها هي الحية فتناولت منها ولم تنكر من نفسها شيئاً فقالت لآدم عليه السلام ألم تعلم أن الشجرة المحرّمة علينا قد أُبيحت لنا تناولت منها ولم يمنعني أملاكها ولم أنكر شيئاً من حالي فلذلك اغتر آدم عليه السلام وغلط فتناول فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ من النعم وَقُلْنا يا آدم ويا حواء ويا أيّتها الحيّة ويا إبليس اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فآدم وحواء وولدهما عدوّ للحيّة وإبليس ، وإبليس والحية وأولادهما أعداؤهم وكان هبوط آدم وحواء والحية من الجنة فان الحية كانت من أحسن دوابّها وهبوط إبليس من حواليها فانه كان يحرم عليه دخول الجنة.

أقول : لعله إنّما يحرم عليه دخول الجنة بارزاً بحيث يعرف وذلك لأنّه قد : دخلها مختفياً في فم الحية ليدلّيهما بغرور كما ورد في حديث آخر. وبهذا يرتفع التّنافي بين هذا الحديث وبين الحديث الذي مرّ : انّها لو كانت من جنان الخلد لم يدخلها إبليس. أراد به دخولها وهو في فم الحية فليتدبر.

وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ منزل ومقرّ للمعاش وَمَتاعٌ منفعة إِلى حِينٍ حين الموت يخرج الله منها زروعكم وثماركم وبها ينزّهكم وينعِّمكم وفيها بالبلايا يمتحنكم يلذّذكم بنعيم الدنيا تارة لتذكروا به نعيم الآخرة الخالص ممّا ينغّص نعيم الدنيا ويبطله ويزهد فيه ويصغره ويمتحنكم تارة ببلايا الدنيا التي تكون في خلالها الزّحمات وفي تضاعيفها النّقمات ليحذّركم بذلك عذاب الأبد الذي لا يشوبه عافية ،

١١٩

وفي رواية القمّيّ : إِلى حِينٍ يعني إلى يوم القيامة.

أقول : لا منافاة بين الروايتين لأن الموت هو القيامة الصغرى للأكثرين والكبرى للآخرين ، ولذا ورد من مات فقد قامت قيامته.

(٣٧) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ يقولها فقالها. وقرئ بنصب آدم ورفع كلمات : فَتابَ عَلَيْهِ بها إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الكثير القبول للتوبة الرَّحِيمُ بالتائبين.

أقول : التوبة بمعنى الرجوع والإنابة فإذا نسبت إلى الله تعالى تعدت بعلى وإذا نسبت إلى العبد تعدت بإلى ولعلّ الأول لتضمين معنى الإشفاق والعطف ومعنى التوبة من العبد رجوعه إلى الله بالطاعة والانقياد بعد ما عصى وعتا ومعناها من الله رجوعه بالعطف على عبده بإلهامه التوبة أولاً ثمّ قبوله إيّاها منه آخراً فلله توبتان وللعبد واحدة بينهما قال الله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) أي ألهمهم التوبة ليرجعوا ثمّ إذا رجعوا قبل توبتهم لأنّه هو التواب الرحيم ولهذه الآية معنى آخر يأتي في سورة التوبة إن شاء الله.

وفي الكافي عن أحدهما عليهما السلام : أن الكلمات (لا إلهَ إلّا أنْتَ سُبْحانَكَ اللهُمّ وَبِحَمْدِك عملت سوءً وظلمت نفسي فاغفر لي وأنت خير الغافرين لا إله إلّا أنت سبحانك اللهمّ وبحمدك عملت سوءً وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني إنك أنت أرحم الراحمين لا إله إلّا أنت سبحانك اللهمّ وبحمدك عملت سوءً وظلمت نفسي فتب عليّ إنّك التواب الرحيم) وفي رواية : (بحق محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين) ، وفي أخرى : بحق محمّد وآل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم.

وفي تفسير الإمام «ع» : لما زلت من آدم الخطيئة واعتذر إلى ربّه عزّ وجلّ قال : يا ربّ تب عليّ واقبل معذرتي واعدني إلى مرتبتي وارفع لديك درجتي فلقد تبين نقص الخطيئة وذلها بأعضائي وسائر بدني قال الله تعالى : يا آدم أما تذكر أمري إيّاك بأن تدعوني بمحمّد وآله الطيّبين عند شدائدك ودواهيك وفي النّوازل التي تبهظك. قال آدم : يا ربّ بلى ، قال الله عزّ وجلّ : فبهم بمحمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين خصوصاً فادعني أجبك إلى ملتمسك وأزدك فوق مرادك. فقال آدم : يا

١٢٠