موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

أو هو شرّ من شاربها أنتم إلى بيعته سراع (١) فهل هو بايع كرها؟! بل نصّ عليه الدينوري (٢) والطبري عن الواقدي (٣) والله أعلم بحقيقة الحال.

أمر عمر ، وابن عمر :

في أواخر عصر أبي بكر لمّا تجمّع الروم لأبي عبيدة فاستغاث بأبي بكر فأمر أبو بكر خالد بن الوليد من العراق بإغاثة أبي عبيدة في الشام ، مرّ خالد على عين التمر وواجهه بنو تغلب فقتل منهم وسبى ، كان في السبي الصهباء بنت ربيعة التغلبيّة ، وأرسل السبي إلى أبي بكر ، فأهداها إلى علي عليه‌السلام ، فرزق منها ولدا ذكرا على عهد عمر ، وبشر به الإمام وعمر يسمع فطلب من الإمام أن يترك له تسميته فسمّاه باسمه : عمر (٤) ، ولقّب بالأطرف ، وكان في العمر بعد ابن الحنفيّة.

ونصّ نسّابة آل أبي طالب في «عمدة الطالب» قال : كان الحسين عليه‌السلام قد دعا أخاه عمر إلى الخروج معه فتخلّف عنه ولم يسر معه (٥) وقال له : حدّثني أبو محمّد الحسن عن أبينا أمير المؤمنين : أنّك مقتول! فلو بايعت لكان خيرا لك!

فقال له الحسين عليه‌السلام : وإنّ أبي حدّثني أنّ رسول الله أخبره بقتله وقتلي ، وأنّ تربتي تكون بقرب تربته (كربلاء من النجف) أفتظنّ أنّك علمت ما لم أعلمه؟

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣ وظاهره أنّه بايع ليزيد ، ولكن يأتي ما يأبي ذلك.

(٢) المصدر السابق.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٣٤٣.

(٤) انظر تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٣ ، والطبري ٥ : ١٥٤ ، ومقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ١٢٠ ، الحديث ١١٥.

(٥) عمدة الطالب : ٣٦١ ، وانظر قاموس الرجال ٨ : ٢١٤ برقم ٥٦٣٠.

٦١

(ولكنّي) لا اعطي الدنيّة (البيعة) من نفسي أبدا! ولتلقينّ فاطمة أباها شاكية ممّا لقيت ذريتها من امّته! ولا يدخل الجنة من آذاها في ذريّتها (١) وطبيعي أن يكون عمر قد بايع.

ونحوه عبد الله بن عمر ؛ ولذا لا نرى تشديدا عليه ، بل لعلّه مثل عمر الأطرف اقترح على الحسين عليه‌السلام أن يبايع فيبقى في المدينة ولا يخرج منها ، فقال له الحسين عليه‌السلام : يا عبد الله ، أما علمت أنّ بني إسرائيل كانوا ما بين طلوع (الفجر) إلى طلوع الشمس يقتلون سبعين نبيّا! ثم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئا! وإنّ من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا اهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل ، وإنّ رأسي يهدى إلى بغيّ من بني امية (٢)!

خروجه عليه‌السلام إلى مكّة :

انشغل الوليد اليومين الأوّلين من الأسبوع : السبت والأحد : السابع والثامن والعشرين من شهر رجب ، بطلب ابن الزبير ، ولما يئس الثمانون الذين تعقّبوه فرجعوا عشاء أو مساء إلى الوليد ، بعث رجالا عند المساء إلى الحسين عليه‌السلام ، فقال لهم : أصبحوا ثمّ ترون ونرى ، فكفّوا عنه تلك الليلة ، فخرج فيها ليومين بقيا من رجب : التاسع والعشرين والآخر منه سنة (٦٠ ه‍) ، ببنيه وإخوته وبني أخيه

__________________

(١) كتاب الملهوف : ١٥ مرسلا.

(٢) كتاب الملهوف : ١٧ مرسلا. وأرسل الراوندي في الخرائج والجرائح ١ : ٢٥٣ : عن امّ سلمة قالت للحسين عليه‌السلام : يا بني ، لا تخرج إلى العراق (كذا) فقد سمعت رسول الله يقول : يقتل ابني الحسين بأرض العراق. وقبله في إثبات الوصية : ٢٦٢ وقبله في الهداية الكبرى للخصيبي الغالي : ٢٠٢ وهو أصل الخبر ، وسيأتي ما ينافيه.

٦٢

وجلّ أهل بيته إلّا أخويه محمد ابن الحنفية (وعمر ابن التغلبية) وابن عمّه عبد الله بن جعفر خرج وهو يتلو هذه الآية : (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(١).

وكان قد بلغهم خروج ابن الزبير من غير الطريق الأعظم ، فلمّا لزم الإمام عليه‌السلام الطريق الأعظم قال له بعض أهله : لو تنكّبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير لا يلحقك الطّلب؟! فقال عليه‌السلام : لا والله لا افارقه ، حتى يقضي الله ما هو أحبّ إليه.

وكان من أتراب الإمام عليه‌السلام رجل من بني عديّ قبيل الخليفة عمر ، هو عبد الله بن مطيع العدوي سكن المدينة على عهد عمر ، ولعلّه كان في عمرة رجب راجعا من مكّة ، إذ قابل الحسين عليه‌السلام فسأله : جعلت فداك! أين تريد؟ قال عليه‌السلام : أمّا الآن فإنّي اريد مكّة ، وأمّا بعدها فإنّي استخير الله (أطلب الخير منه).

وكأنّ العدويّ رأى الكلمة من الإمام عليه‌السلام إشارة إلى إمكانية استجابته لشيعته من أهل الكوفة ، فقال له : خار الله لك ، وجعلنا فداك! فإذا أنت أتيت مكّة فإيّاك أن تقرب الكوفة ، فإنّها بلدة مشؤومة! بها قتل أبوك وخذل أخوك واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه! الزم الحرم ، فإنّك سيّد العرب! لا يعدل ـ والله ـ بك أهل الحجاز أحدا! ويتداعى إليك الناس من كلّ جانب! لا تفارق الحرم! فداك عمّي وخالي! فو الله لئن هلكت لنسترقّنّ بعدك (٢).

ولم يذكر في الخبر كلام الإمام عليه‌السلام جوابا لهذا العدويّ على حذره وتحذيره من تغرير الكوفيين.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٤٣ عن أبي مخنف ، وفي الإرشاد ٢ : ٣٤ ـ ٣٥ والآية من القصص : ٢١.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٥١ عن أبي مخنف ، وأنساب الأشراف ٣ : ١٥٩ ، الحديث ١٦٥.

٦٣

الإمام عليه‌السلام في مكّة :

مرّ الخبر : أنّ الإمام عليه‌السلام خرج من المدينة ليلة الأحد التاسع والعشرين من شهر رجب (١) فأقبل حتى دخل مكّة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان (٢) أي ليلة ذكرى مولده عليه‌السلام ، دخلها وهو يقرأ : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ)(٣) فأقام بمكّة شعبان ورمضان وشوّال وذا القعدة وإلى الثامن من ذي الحجة (٤) فأقبل أهلها يختلفون إليه ويأتونه ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق.

وكان ابن الزبير بها قد لزم الكعبة ، فهو قائم يصلّي عامّة النهار ، ويطوف ، ويأتي حسينا عليه‌السلام فيمن يأتيه ، فيأتيه اليومين المتواليين ، ويأتيه بين كلّ يومين مرّة ؛ ولا يزال يشير عليه برأيه. وكان أثقل خلق الله عليه الإمام عليه‌السلام! لأنّه عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ولا يتابعونه أبدا ما دام الإمام عليه‌السلام بالبلد ، وأنّ حسينا عليه‌السلام أعظم في أعينهم وأنفسهم وأطوع في الناس منه (٥).

وبلغ خبر ابن الزبير والحسين عليه‌السلام إلى يزيد فتخوّف من ضعف الوليد فبعث عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق أميرا على المدينة (٦) ومكّة والطائف والحجّ (٧) وذلك في شهر رمضان (٨).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٥٣ عن أبي مخنف والإرشاد ٢ : ٣٥.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٨٧ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٣٥.

(٣) القصص : ٢٢.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٣٨١ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٦٦.

(٥) تاريخ الطبري ٥ : ٣٥١ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٣٦.

(٦) تاريخ ابن الخياط : ١٤٤.

(٧) المصدر السابق : ١٤٢.

(٨) تاريخ الطبري ٥ : ٣٤٣.

٦٤

وكان لابن الزبير تسعة إخوة : جعفر ، وحمزة ، وخالد ، وعاصم ، وعبيدة ، وعروة ، وعمرو ، ومصعب ، والمنذر (١) وله ثمان بنون : ثابت ، وحمزة ، وخبيب ، وعامر ، وعبد الله ، وعبّاد ، وقيس ، وموسى (٢) وإنّما كان معه إلى مكّة من إخوته جعفر ، كما مرّ.

ودخل عمرو الأشدق المدينة ، وكان عمرو بن الزبير معاديا لأخيه عبد الله ، فولّاه الأشدق شرطته. وكان يصلّي بمكّة الحارث بن خالد بن العاص بن هشام المخزومي (٣) ولم يمنعه ابن الزبير عن الصلاة ولا الإمام عليه‌السلام حتى خرج من مكة (٤) فمنعه ابن الزبير عن الصلاة (٥).

كتب أهل الكوفة :

مرّ خبر الطبري عن الكلبي : أن معاوية بعد هلاك زياد في الكوفة سنة (٥٣ ه‍) استعمل عليها الضحّاك بن قيس الفهري لسنتين ، ثمّ ابن اخته عبد الرحمان بن عبد الله الثقفي فأساء السيرة فيهم فطردوه عنهم سنة (٥٨ ه‍) (٦) فاستعمل عليها النعمان بن بشير الأنصاري (٧) وكان عثمانيا سيّئ القول في

__________________

(١) المعارف : ٢٢١.

(٢) المعارف : ٢٢٥.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٣٤٤.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٣٨٢.

(٥) تاريخ الطبري ٥ : ٣٤٤.

(٦) تاريخ الطبري ٥ : ٣١٢.

(٧) تاريخ الطبري ٥ : ٣١٥.

٦٥

علي عليه‌السلام يجاهر ببغضه (١) فكان عليها حين هلاك معاوية واستيلاء يزيد وأقرّه حتى عزله بابن زياد.

فلمّا بلغ أهل الكوفة أنّ الحسين عليه‌السلام قد امتنع عن البيعة ليزيد وعاذ بمكة (٢) اجتمعوا في دار سليمان بن صرد الخزاعي وخطبهم فقال لهم : إنّ معاوية قد هلك ، وإنّ حسينا عليه‌السلام قد تقبّض عن القوم ببيعته ، وقد خرج إلى مكة ، وأنتم «شيعته وشيعة» أبيه ، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهد وعدوّه فاكتبوا إليه. وإن خفتم الوهل (الفزع) والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه!

فقالوا : لا ، بل نقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا دونه! قال : فاكتبوا إليه ، فكتبوا إليه :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، للحسين بن علي ، من سليمان بن صرد ، ورفاعة بن شدّاد ، وحبيب بن مظاهر ، «وشيعته» من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة. سلام عليك ، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد ؛ فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد (معاوية) الذي انتزى على هذه الأمّة فابتزّها وغصبها فيئها وتأمّر عليها بغير رضى منها ، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها ، فبعدا له كما بعدت ثمود.

إنّه ليس علينا إمام (لم نبايع) فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ. والنعمان بن بشير في قصر الأمارة ، لسنا نجمّع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد (الفطر القادم) ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله».

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ١٦١ الحديث ١٦٩.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٥١ عن أبي مخنف.

٦٦

ولعلّ عمدتهم كان من تميم وهمدان ؛ ولذا سرّحوا بالكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني ، وعبد الله بن وال التميمي ، فخرجا مسرعين حتّى قدما مكّة للعاشر من شهر رمضان.

وانتشر خبر هذه الرسالة فاقتدى آخرون بهم ، واجتمع كلّ اثنين أو أربعة منهم وكتبوا كتبا مماثلة بلغت مئة وخمسين صحيفة ، ولعلّ عمدتهم كانوا أيضا من همدان وبني أسد في الكوفة ، فسرّحوا بها مع عبد الرحمان بن الكدن الأرحبي الهمداني ، وقيس بن مسهر الصيداوي الأسدي ، وعمارة بن عبيد السلولي ، ولعلّهم قدموا مكّة للنصف من رمضان (١).

وكأنّهم بعد ذلك رأوا أن يكتبوا إليه عن عموم «شيعته» بلا تخصيص ذكر لأحد ، فكتبوا إليه :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، للحسين بن علي ، من «شيعته» من المؤمنين والمسلمين ، أمّا بعد ؛ فحيّ هلّا! فإنّ الناس ينتظرونك ولا رأي لهم في غيرك! فالعجل العجل! والسلام عليك» ثمّ سرّحوه إليه مع سعيد بن عبد الله الحنفي التميمي وهانئ بن هانئ السبيعي الهمداني ، كذلك من تميم وهمدان ، ولعلّهما قدما مكّة للسابع عشر من رمضان ذكرى يوم بدر الكبرى. ولعلّ هذا القول : «فإنّ الناس ينتظرونك ولا رأي لهم في غيرك»! كان بعد علمهم بكتابة عدد من زعماء الكوفة إليه عليه‌السلام :

__________________

(١) ذكر عدد الكتب هذه في الطبري ٥ : ٣٥٢ : ثلاثة وخمسين ، ولكن في الإرشاد ٢ : ٣٨ : مئة وخمسين ، وكذلك في تذكرة السبط : ٢٤٤ عن الكلبي وابن إسحاق ، وكذلك الخوارزمي عن ابن الأعثم ١ : ١٩٥ فالثلاثة في الطبري إمّا تصحيف عن : مئة ، وإمّا تقليل متعمّد.

٦٧

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، للحسين بن علي ، أمّا بعد ؛ فقد اخضرت الجنان وأينعت الثمار (فلعلّه كان في أواخر الربيع أو أوائل الصيف) وطمّت الجمام (ملئت الغدران بالمياه) فأقدم على جند مجنّد لك! والسلام» من حجّار بن أبجر العجلي النصراني المسلم ، وشبث بن ربعي اليربوعي التميمي ، ومعه محمد بن عمر التميمي ، ولعلّهما لعلمهما بتبع أكثر بني تميم للإمام عليه‌السلام ، وعزرة بن قيس الأحمسي ، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي ، ويزيد بن الحارث الشيباني (١).

جواب الإمام عليه‌السلام :

حيث كان آخر رسل الكوفة إلى الإمام عليه‌السلام سعيد الحنفي التميمي وهانئ السبيعي الهمداني ، وكان عمدة الملحّين عليه من عشيرتهما تميم وهمدان ، لذلك سألهم عن أمر الناس في الكوفة.

وكان من بني أعمامه معه أبناء عقيل وأكبرهم صهره على أخته رقية : مسلم بن عقيل ، وكان الإمام أعدّه ليبعثه عنه مقدّما وسفيرا إلى الكوفة ، فلمّا قدم عليه الرجلان من تميم وهمدان كتب :

«بسم الله الرحمنِ الرحیم ، من الحسين بن علي ، إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين ، أمّا بعد ؛ فإنّ هانئا (الهمداني) وسعيدا (التميمي) قدما عليّ بكتبكم ، وكانا آخر من قدم عليّ من رسلكم ، وقد فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم ، ومقالة جلّكم : إنّه ليس علينا إمام ، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ ، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي : مسلم بن عقيل ، وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم. فإن كتب إليّ : أنّه قد أجمع رأي

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٥٣ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٣٨.

٦٨

ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم وقرأت في كتبكم ؛ أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله ، فلعمري ما الإمام إلّا العامل بالكتاب ، والآخذ بالقسط ، والدائن بالحقّ ، والحابس نفسه على ذات الله ، والسلام».

وبعث به مع سعيد وهانئ (١) ولعلّه كان في أوائل العشر الأواخر من رمضان.

سفر ابن عقيل :

وكان الرسولان السابقان من أسد وهمدان : عبد الرحمان الأرحبي الهمداني وقيس بن مسهر الصيداوي الأسدي باقيين ، وفضّل الإمام عليه‌السلام أن يسرّح معهما سفيره ابن عقيل ، فدعاهم وأمره بتقوى الله وكتمان أمره واللطف ، فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك ، ثمّ سرّحه معهم. وعزم مسلم على أن يودّع بقيّة أهله بالمدينة ، ووافقه الإمام عليه‌السلام والرسولان معه ، فأقبلوا إلى المدينة فصلّى في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وزار قبره ، ثمّ ذهب إلى بقية أهله وودّعهم ، ثمّ استأجر من بني قيس دليلين يدلّانهم سبيلهم ، فأقبلا به حتى ضلّا ، وكأنّهما تاها حتّى عادا إلى طريق مكّة نحو بطن الخبيت فهو إلى جهة مكّة (٢) وأصابهم عطش شديد ، وكأنّهما لاحت لهما لوائح الطريق فقالا لمسلم : هذا الطريق فخذه حتّى تنتهي إلى الماء ثمّ ماتا. ومضى مسلم ومن معه حتّى بلغوا الماء في بطن الخبيت.

وكان العرب يومئذ قريبي عهد بجاهليّتهم وتطيّرهم بمثل ما عرض لهؤلاء من البلاء ، وكأنّ ابن عقيل عقل ممّن معه شيئا من ذلك ، وعرض قيس بن مسهر الصيداوي الأسدي استعداده لحمل رسالة في ذلك من مسلم إلى الإمام عليه‌السلام ، فكتب :

__________________

(١) المصدران السابقان.

(٢) انظر إبصار العين (للسماوي) : ١٦.

٦٩

«بسم الله الرحمنِ الرحيم إلى الحسين بن علي ، من مسلم بن عقيل ، أمّا بعد ؛ فإنّي أقبلت من المدينة مع دليلين ، فجارا عن الطريق وضلّا واشتدّ علينا العطش فلم يلبثا أن ماتا! وأقبلنا حتّى انتهينا إلى الماء فلم ننج إلّا بحشاشة أنفسنا! وذلك بمكان يدعى : المضيق من بطن الخبيت ، وقد تطيّرت من وجهي هذا ؛ فإن رأيت أعفيتني منه وبعثت غيري ، والسلام» وبعث به مع قيس بن مسهر الصيداوي ، وصبر هو ينتظر أمره عليه‌السلام.

فلمّا قدم قيس بالرسالة إلى الإمام عليه‌السلام كتب إليه في جوابه : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من الحسين بن علي ، إلى مسلم بن عقيل ، أمّا بعد ؛ فقد خشيت أن لا يكون حملك على الكتاب إليّ في الاستعفاء من الوجه الذي وجّهتك له إلّا الجبن! فامض لوجهك الذي وجّهتك له ، والسلام» وردّ الكتاب إليه مع قيس ، فلمّا قدم عليه قيس بالكتاب وقرئ عليه قال : هذا ما لست أتخوّفه على نفسي! وارتحلوا حتّى نزلوا على بعض مياه بني طيّئ وارتحل منهم وإذا رجل أشرف له ظبي فرماه فصرعه ، فتفأل مسلم خيرا وقال : يقتل عدوّنا إن شاء الله (١) وذلك في أواسط العشر الأخير من رمضان.

مسلم في الكوفة :

كان عمر بن الخطاب في السنة (١٣ ه‍) أوائل عهده اختار أبا عبيد بن مسعود الثقفي أبا المختار لفتوح العراق ، فقتل يوم الجسر يوم عيد الفطر (٢) وأراد عمر تأليف بني ثقيف فخطب من المختار بن عبيد أخته صفيّة لابنه

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٥٤ ـ ٣٥٥ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٣٩ ـ ٤١.

(٢) تاريخ ابن الخيّاط : ٦٦.

٧٠

عبد الله بن عمر (١) وصاهر المختار صحابيّين أنصاريّين هما : سمرة بن جندب على ابنته امّ كلثوم والنعمان بن بشير على ابنته عمرة (٢) ، فكان صهر الوالي الأموي على الكوفة.

وكما مرّ في الخبر لم يحضر كثير من شيعة الكوفة في صلاة عيد الفطر مع الوالي الأموي الأنصاري ، وبعد عيد الفطر وفي الخامس من شهر شوّال وصل ابن عقيل الكوفة (٣) ومعه مرافقوه الثلاثة : عبد الرحمان الأرحبي الهمداني ، وعمارة السلولي ، وقيس الصيداوي الأسدي ، وكأنّ ابن عقيل رأى من المعقول أن يختار للاستتار دار المختار ولا سيّما أنّها كانت في ناحية الكوفة وليس في أوساطها ، فدخل عليه.

وطبيعي أن يخبر الصيداوي الأسدي قومه بني أسد ، والأرحبي الهمداني قومه همدان ، فاجتمع جمع منهم في دار المختار وفيهم حبيب بن مظاهر الأسدي وعابس بن أبي شبيب الشاكري الهمداني وسعيد بن عبد الله الحنفي التميمي ، فقرأ عليهم مسلم كتاب الحسين عليه‌السلام فأخذوا يبكون شوقا إليه.

وقام الشاكري الهمداني خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد ، فإنّي لا اخبرك عن الناس ، ولا أعلم ما في أنفسهم! وما اغرّك منهم! والله لأحدّثنّك عمّا أنا موطّن نفسي عليه : والله لأجيبنّكم إذا دعوتم ، ولأقاتلنّ معكم عدوّكم! ولأضربنّ بسيفي دونكم حتّى ألقى الله! لا أريد بذلك إلّا ما عند الله!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٧١.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ١١٢.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٥٤.

٧١

فقام حبيب بن مظاهر الأسدي فقال لعابس : رحمك الله ، قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك. ثمّ قال : وأنا والله الذي لا إله إلّا هو على مثل ما هذا عليه. ثم جلس.

ثمّ قام سعيد الحنفي التميمي فقال مثلهما وجلس. واستمرّت «الشيعة» تختلف إليه حتّى علم مكانه ، فبلغ ذلك الوالي الأموي الأنصاري ، ولعلّه انتظر خطبة الجمعة ، فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أمّا بعد ؛ فاتّقوا الله ـ عباد الله ـ ولا تسارعوا إلى الفرقة والفتنة فإنّ بهما يهلك الرجال ، وتسفك الدماء ، وتغصب الأموال ... إنّي لا اقاتل من لا يقاتلني ولا أثب على من لا يثب عليّ ، ولا اشاتمكم ولا أتحرّش بكم ، ولا آخذ بالقذف والظنّة والتهمة ، ولكنّكم إن أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم! فو الله الذي لا إله إلّا غيره! لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولو لم يكن لي منكم ناصر! أما إنّي لأرجو أن يكون من يعرف الحقّ (!) منكم أكثر ممّن يرديه الباطل!

وكان بعض الحضرميّين حلفاء لبني اميّة منهم عبد الله بن مسلم الحضرمي ، وكان حاضرا فقام وقال :

إنّه لا يصلح ما ترى (من حركة الشيعة) إلّا الغشم (الظلم!) إنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك ؛ رأي المستضعفين!

فقال النعمان : لئن أكون من المستضعفين في طاعة الله! أحبّ إليّ من أن أكون من الأعزّين في معصية الله! ثمّ نزل.

فكتب عبد الله الحضرمي إلى يزيد : أمّا بعد ؛ فإنّ مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة فبايعته «الشيعة» للحسين بن علي! فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويّا ينفّذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوّك! فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعّف!

٧٢

ثمّ كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص الزهري بمثل ذلك. وكان أخو الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي : عمارة بن عقبة مقيما بالكوفة عينا للشام ، فكتب إليه بنحو كتابهما إليه (١).

كتب الإمام عليه‌السلام إلى أهل البصرة :

كان أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري آخر عامل لعثمان على الكوفة منحرفا عن علي عليه‌السلام ، وكاد أن يحرفهم ويميل بهم عنه عليه‌السلام لو لا أن غلب على أمره الحسن بن علي ومعه عمّار بن ياسر ومالك الأشتر فمالوا بهم إلى علي عليه‌السلام. بينما استمال طلحة والزبير وعائشة بأكثر أهل البصرة إليهم على علي عليه‌السلام حتّى قاتلوه ناكثين بيعته اللهمّ إلّا قليلا منهم ، فغلبت عليهم العثمانيّة ؛ ولذلك لم يكن منهم مثل ما كان من أهل الكوفة إلى الحسين عليه‌السلام ، فبدأهم الإمام بذلك.

ولعلّه لاستمالة بعضهم كان الحسين عليه‌السلام قد تزوّج أمّ إسحاق بنت طلحة التيمي ، وهي أمّ فاطمة ابنة الحسين عليه‌السلام (٢) وقد أخدمها من جواريه كبشة ، وزوّج مولاته كبشة لمولاه أبي رزين فولدت له ابنا سمّاه سليمان (٣) وكان سليمان هذا مع مولاه الإمام عليه‌السلام بمكّة ، فكتب معه بنسخة واحدة إلى أشراف البصرة من رؤوس أخماسها وغيرهم وهم : الأحنف بن قيس السعدي التميمي ، وعمرو بن عبيد الله ابن معمر ، وقيس بن الهيثم السلمي ، ومالك بن مسمع الجحدري من بكر بن وائل ، ومسعود بن عمرو الأزدي ، والمنذر بن الجارود العبدي من عبد قيس ، وكان عبيد الله بن زياد صاهره على ابنته بحريّة (٤)!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٥٥ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٤١ ـ ٤٢.

(٢) الإرشاد ٢ : ١٣٥.

(٣) انظر وقعة الطف : ١٢٤ في الهامش.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٣١٨.

٧٣

وكانت نسخة الكتاب : أمّا بعد ، فإنّ الله اصطفى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله على خلقه ، وأكرمه بنبوّته واختاره لرسالته ، ثمّ قبضه الله إليه وقد نصح لعباده وبلّغ ما ارسل به صلى‌الله‌عليه‌وآله. وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحقّ الناس بمقامه في الناس ، فاستأثر علينا قومنا بذلك! فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية ، ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولّاه ، وقد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ (١).

وقد بعثت إليكم رسولي بهذا الكتاب ، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ السنّة قد اميتت وإنّ البدعة قد احييت! وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد! والسلام عليكم ورحمة الله.

فلمّا وصل سليمان مولى الحسين عليه‌السلام بكتابه إلى اولئك النفر وقرؤوه كتموه ، إلّا المنذر العبدي فإنّه خشي أن يكون صهره ابن زياد قد دسّ إليه ذلك ليختبره ، وكان ابن زياد قد تلقّى أمر يزيد ليرحل إلى الكوفة ، وكان وصول المولى إليهم قبيل رحيله ، فأسر المنذر المولى سليمان وسلّمه وكتابه إليه إلى صهره ابن زياد ، فقدّمه لجلاوزته لقتله ، وصعد المنبر (٢).

جمع العراقيين لابن زياد :

كان يزيد عاتبا على ابن زياد ، وكان لمعاوية مولى (روميّ) يدعى سرجون يستشيره ، فلمّا أتت كتب الثلاثة من الأمويّين في الكوفة إلى يزيد دعا مولاه سرجون وأقرأه كتبهم ثمّ قال له : فما ترى؟ من استعمل على الكوفة؟

__________________

(١) هذا إنما بالنسبة إلى من بعد علي عليه‌السلام.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٥٧ عن أبي مخنف.

٧٤

فقال له سرجون : أرأيت معاوية لو نشر لك أكنت آخذا برأيه؟ قال : نعم ، فقال له : فإنّ معاوية قد أمر بكتاب عهد لعبيد الله على الكوفة فهو رأيه ، وأخرج له العهد وقال : هذا رأي معاوية ومات عليه.

وكانت قبيلة باهلة البصرة عثمانية أموية وكان منهم مسلم بن عمرو الباهلي عند يزيد ، فدعا به وكتب إلى ابن زياد : أمّا بعد ، فإنّه كتب إليّ «شيعتي» من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين ، فسر ـ حين تقرأ كتابي هذا ـ حتى تأتي أهل الكوفة ، فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه (تظفر به) فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسلام.

ثمّ سلّم الكتاب والعهد إلى الباهليّ وأرسله إليه ، فأقبل حتى قدم على ابن زياد بالبصرة ، فلمّا قرأ الكتاب والعهد أمر جهازه بالتهيّؤ للمسير إلى الكوفة فورا (١) ، وجاءه المنذر برسول الإمام فقتله وخطب فقال : أمّا بعد ؛ فو الله ما تقرن بي الصعبة (٢) ولا يقعقع لي بالشّنان (٣) وإنّي لنكل لمن عاداني وسمّ لمن حاربني «أنصف القارّة من راماها» (٤).

يا أهل البصرة ؛ إنّ أمير المؤمنين (يزيد) ولّاني الكوفة وأنا غاد إليها الغداة ، وقد استخلفت عليكم (أخي) عثمان بن زياد بن أبي سفيان! فإياكم

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٥٦ عن الكلبي عن عوانة ، وفي الإرشاد ٢ : ٤٢ عن الكلبي.

(٢) الصعبة : الناقة الصعبة القياد ، كأنّه يقول : أنا راكب مركب الإمرة فلا أدعها تكون صعبة.

(٣) القعقعة : الصوت ، والشّنان جمع الشن : القربة الجافة يجعل فيها حصى وتحرّك.

(٤) شطر من شعر جرى مثلا تمامه :

إنّا إذا ما فئة نلقاها

نردّ اولاها على اخراها

قاله رجل من قبيلة تدعى القارّة ، وراما من راماه فشكّ فؤاده فمات! فكأنّ ابن زياد يقول : من يرامينا نحن بني أميّة فنحن كالرجل القارّي القاتل برميته!

٧٥

والخلاف والإرجاف! فو الذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لأقتلنّه وعرّيفه ووليّه! ولآخذنّ الأدنى بالأقصى حتّى تسمعوا قولي! ولا يكون فيكم مخالف ولا مشاقّ!

أنا ابن زياد أشبهه من بين من وطأ الحصى! ولم ينتزعني شبه خال ولا ابن عمّ (١).

ابن زياد في الكوفة :

حيث كان عرّيف بني باهلة : مسلم بن عمرو الباهلي حامل حكم يزيد لابن زياد على الكوفة ، لذلك حمله ابن زياد معه إلى الكوفة مع أهل بيته وحشمه بضعة عشر رجلا. وكان من زعماء الشيعة بالبصرة من همدان : شريك بن الأعور الحارثي ، وكان شديد التشيع ومع ذلك كريما على الامراء وحتى على ابن زياد نفسه (٢) ، وكان ابن زياد قد ولّاه كرمان وعاد منها إليه (٣). فحمله معه أيضا. هذا ما جاء عن أبي مخنف (٤).

وروى الطبري عن النميري البصري بسنده : أنه حمل معه من أهل البصرة خمسمئة اختارهم (٥) حتى دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء وهو متلثّم ، والناس قد بلغهم إقبال الحسين عليه‌السلام إليهم فهم كانوا ينتظرون قدومه ، فحين قدم عليهم عبيد الله ظنّوا أنه الحسين عليه‌السلام ، فأخذ لا يمرّ على جماعة من الناس إلّا سلّموا عليه

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٥٨ عن أبي مخنف.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٦٣ عن أبي مخنف.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٣٢١.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٣٥٨ ، واختصره الإرشاد ٢ : ٤٣.

(٥) تاريخ الطبري ٥ : ٣٥٩.

٧٦

وقالوا : مرحبا بك يابن رسول الله قدمت خير مقدم! فرأى من تباشرهم بالحسين عليه‌السلام ما ساءه وغاضه ما سمع منهم. فلما أكثروا عليه من ذلك قال الباهلي معه للناس : تأخّروا هذا الأمير عبيد الله بن زياد! هذا ما جاء عن أبي مخنف (١).

وفي خبر النميري البصري عن عيسى الكناني : أن ابن زياد قبل دخول الكوفة نزل فأخرج ثيابا وعمامة يمانية وركب بغلة ، فكل من نظر إليه لم يشك أنه الحسين عليه‌السلام فيقولون : مرحبا بك يابن رسول الله! فلا يكلّمهم! وسمع بهم النعمان الأنصاري فدخل قصره مع خاصّته وغلّق عليه بابه. وانتهى إليه ابن زياد ومعه الخلق يضجّون ، فلم يشك الأنصاري أنه الحسين عليه‌السلام ، فتدلّى الأنصاري بين شرفتين وناداه : انشدك الله الا تنحّيت عنّي! فما أنا بمسلم إليك أمانتي! وابن زياد لا يكلّمه ودنا منه فقال له : افتح لا فتحت! فقد طال ليلك! فسمعها رجل خلفه فنادى الناس : أي قوم! ابن مرجانة! والذي لا إله غيره! وفتح النعمان له البيبان فدخل وغلّقوا الباب بوجه الناس فانفضّوا (٢).

فلمّا دخل القصر وعلم الناس أنّه ابن زياد دخلهم من ذلك كآبة وحزن شديد (٣).

خطاب ابن زياد :

طبيعيّ والحال هذه أن لا يبادر ابن زياد لصلاة صبح غد ، بل يستمرّ الأنصاري في ذلك قبل أن يخرج من الكوفة. نعم ، في ضحى الغد ولصلاة الظهر نادى منادي القصر بالصلاة جامعة ، فاجتمع الناس وخرج ابن زياد فصعد المنبر

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٥٨ ، والإرشاد ٢ : ٤٣.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ ، والإرشاد ٢ : ٤٣ ـ ٤٤.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٣٥٧.

٧٧

وحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد ؛ فإنّ أمير المؤمنين أصلحه الله! ولّاني مصركم وثغركم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم ، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم ، وبالشدّة على مريبكم وعاصيكم! وأنا متّبع فيكم أمره ومنفّذ فيكم عهده ، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البرّ ، وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي! فليبق امرؤ على نفسه! الصدق ينبئ عنك لا الوعيد! ثمّ نزل.

وأحضر العرفاء إلى القصر وقال لهم : اكتبوا إليّ الغرباء ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين! ومن فيكم من الحرورية (الخوارج) وأهل الريب ، الذين رأيهم الخلاف والشقاق ، فمن كتبهم لنا فبرئ ، ومن لم يكتب لنا أحدا فيضمن لنا ما في عرافته أن لا يخالفنا منهم مخالف ، ولا يبغي علينا منهم باغ ، فمن لم يفعل برئت منه الذمّة وحلال لنا ماله وسفك دمه! وأيّما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين! أحد لم يرفعه إلينا صلب على باب داره! والقيت تلك العرافة من العطاء! وسيّر إلى موضع من عمان الزّارة (عمان الخليج) (١) واخبر أن ابن عقيل قد قدم إلى الكوفة قبله بليلة (٢) فيكون دخول ابن زياد في السادس من شوال ، وبقاء مسلم في دار المختار لليلتين أو ثلاث فقط.

فانتقل ابن عقيل عن المختار إلى هانئ :

مرّ أن المختار الثقفي كان قد صاهر الأمير النعمان الأنصاري فكان ذلك خير ساتر على ابن عقيل ولذا اختار داره ، أمّا الآن بعد عزل النعمان وسماع ابن زياد بمحل ابن عقيل ، وسماع مسلم بأنّ ابن زياد قد علم به ، فقد اختار مسلم أن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٥٨ ، والإرشاد ٢ : ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٦٠ عن النميري البصري.

٧٨

خرج لوحده من دار المختار حتّى انتهى إلى دار هانئ بن عروة المرادي ، فدخل بابه وأرسل إليه : أن اخرج إليّ ، بلا إعلام عن نفسه ، وخرج إليه هانئ وحين رآه وعرفه كره لجوءه إليه ؛ وقال له مسلم : أتيتك لتجيرني وتضيّفني! فقال له هانئ : رحمك الله! لقد كلّفتني شططا! ولكنّه كان قد دخل داره فعار عليه ـ عربيّا ـ أن يخرجه فقال له : ولو لا دخولك داري وثقتك لأحببت ولسألتك أن تخرج عنّي! غير أنّه يأخذني من ذلك ذمام! وليس (مقبولا عند الناس) أن يكون ردّ مثلي على مثلك عن جهل بك ، ادخل! فآواه (١) ومعه مرافقه عمارة بن عبيد السلولي (٢).

وكان أبو هانئ : عروة بن نمران أسلم ورأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وسمع حديثه ، ثمّ صحب عليا عليه‌السلام في حروبه الثلاثة ، ثمّ خرج مع حجر الكندي ، وكان زياد مصادقا له فشفع فيه وأطلقه ، وكان شيخ مراد ، وبعده كان ابنه هانئ شيخ مراد ، وكان منهم كثير بن شهاب المذحجي على بعض كور خراسان لمعاوية فاختان المال فطلبه معاوية فلجأ إلى هانئ ، فحمله معه إلى معاوية بالشام وشفع له فشفّعه فيه (٣) فلم يزل زياد يحسن صحبته ويوصي به خليفته على الكوفة ويكتب إليه : إنّ من حاجتي قبلك هانئ (٤).

وقد مرّ أن ابن زياد حمل معه من زعماء الشيعة بالبصرة : شريك بن الأعور الحارثي ، وأنّه تمارض ، بل مرض قبل القادسية رجاء أن يتريث له ابن زياد فيسبقه الحسين عليه‌السلام إلى الكوفة ، فلم يلتفت إليه ومضى حيث امر (٥) وقدم شريك

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٦٢.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٦٣.

(٣) إبصار العين : ٨١ ـ ٨٢.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٣٦١ عن النميري البصري.

(٥) تاريخ الطبري ٥ : ٣٥٩ عن أبي مخنف.

٧٩

الكوفة مريضا ونزل على هانئ وقال له : مر مسلما يكن عندي ، فإنّ عبيد الله بن زياد يعودني (١).

وحين نرى في الخبر أنّ شريكا بعد ذلك لبث ثلاثا ثمّ مات (٢) يرجح أنّه لم يتمارض وإنّما مرض حتّى مات ، فهو دخل دار هانئ مريضا ، وقد ذكر في الخبر أوّلا مرض هانئ وعيادة ابن زياد له ، فما مكث إلّا جمعة (اسبوعا) حتّى مرض شريك فعاده ابن زياد! بينما الطبيعي عكس ذلك ، وأن تكون العدوى سرت من شريك إلى هانئ ، وعيادته لشريك قبل عيادته لهانئ.

شريك وعمارة يعرضان للمؤامرة :

نزل شريك بن الأعور الحارثي الهمداني البصري على هانئ بن عروة المرادي ، مريضا ، وكان كريما على ابن زياد وهو الذي حمله معه من البصرة إلى الكوفة ، فأرسل إليه ابن زياد : إني رائح إليك العشية (قبيل المغرب).

فقال شريك لمسلم : إنّ هذا الفاجر يعودني عشيّة اليوم ، فإذا جلس فاخرج إليه فاقتله! ثمّ اقعد في القصر فإنّه لا يحول أحد بينك وبينه! فإذا برئت من وجعي هذا أيّامي هذه سرت إلى البصرة وكفيتك أمرها! وعلم هانئ المرادي بمرادهم هذا ولم يقل الآن شيئا.

فلما كانت العشيّة (قبل المغرب) أقبل ابن زياد لعيادة شريك ، فقام مسلم ليدخل المخبأ ، وقال له شريك مؤكّدا : لا يفوتنّك إذا جلس! فكأنّ هانئا استقبح أن يقتل أحد في داره فقام إلى مسلم وقال له : إني لا احبّ أن يقتل في داري! ودخل مسلم ، وخرج هانئ لاستقبال ابن زياد.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٦٠ عن النميري البصري.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٦٣ ـ ٣٦٤ عن أبي مخنف.

٨٠