موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

وقد علمنا أن ابن الحنفيّة لم يفعل! وأطعم «موالينا» فيئنا! وأخذ «عبيدنا» فحرب بهم أراملنا ويتامانا! وأظهر هو و «سبئيّته» البراءة من «أسلافنا» الصالحين! وأخبره باجتماع رأيهم على قتاله وسأله أن يجيبهم إلى ذلك. فرحّب بهم كعب وأجابهم إليه.

وتوافقوا على دعوة عبد الرحمن بن مخنف الأزدي فذهبوا إليه ودعوه فقال لهم : إنّكم إن أطعتموني لم تخرجوا. قالوا : لم؟ قال : لأنّه مع الرجل شجعانكم وفرسانكم من أنفسكم ، وعدّهم ، ثمّ معه «عبيدكم» و «مواليكم» فهو مقاتلكم بشجاعة العرب وعداوة «العجم» و «عبيدكم» و «مواليكم» أشدّ حنقا عليكم من عدوكم. وإن انتظرتموهم قليلا كفيتموهم بمجيء أهل البصرة (الزبيريين) أو بقدوم أهل الشام (المروانيين) فتكونوا قد كفيتموهم بغيركم ولم تجعلوا بأسكم بينكم! وإن أبيتم إلّا أن تخرجوا لم أخذلكم!

فقالوا : ننشدك الله أن تخالفنا وأن تفسد علينا رأينا وما قد اجتمعت عليه جماعتنا! قال : فأنا رجل منكم ، فإذا شئتم فاخرجوا.

ثمّ انتظروا حتّى يخرج عنهم إبراهيم بن الأشتر. فأمهلوا حتّى خرج وبلغ ساباط المدائن فوثبوا (١).

تواثب العرب على المختار ومحاورته لهم :

قال أبو مخنف : فخرج عبد الرحمن بن سعيد الهمداني السّبيعي في جبّانتهم ، وسار إليه إسحاق بن محمّد بن الأشعث الكندي وزحر بن قيس الكندي إلى عبد الرحمن في جبانة السّبيع. وخرج كعب الخثعمي في جبّانتهم ، وسار إليه

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٤٣ ـ ٤٥ عن أبي مخنف.

٣٨١

بشير بن جرير بن عبد الله البجلي في بجيلة ، ثمّ سارت بجيلة وخثعم إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدي في جبّانة مخنف. ثمّ بلغ الذين في جبّانة السّبيع : أنّ المختار قد عبّأ لهم خيلا ، فبعثوا رسلا إلى الأزد وبجيلة وخثعم يسألونهم بالله والرحم أن يعجّلوا إليهم ، فساروا إليهم واجتمعوا. ونزل حجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رويم في ربيعة فيما بين التمّارين والسبخة ، ونزل شبث بن ربعي وحسّان بن قائد العبسي وربيعة بن شروان الضبّي في مضر بالكناسة ، ونزل عمرو بن الحجاج الزبيدي بمن تبعه من مذحج في جبّانة مراد ، ودعاه أهل اليمن إليهم فأبى عليهم ، ودعوا شمرا إليهم فقال لهم : لا والله لا اقاتل في سكك ضيّقة ونقاتل من وجوه! فإن اجتمعتم في مكان واحد نجعل له مجنبتين ونقاتل من وجه واحد فأنا صاحبكم. ثمّ خرج إلى جماعة قومه بجبّانة بني سلول.

وبذلك أخذ أهل الكوفة على المختار وأنصاره بأفواه السكك ، فلم يكن يصل إلى المختار ولا إلى أصحابه حتّى من الماء إلّا القليل يجيئهم في غفلة عنهم. وأمر المختار أنصاره بالكفّ عنهم ، وأراد أن يريّثهم بمقاولته لهم حتّى يسترجع إليه ابن الأشتر فبعث إليهم في ذلك اليوم : أخبروني ماذا تريدون فإنّي صانع كلّ ما أحببتم! فقالوا : فإنّا نريد أن تعتزلنا! فإنّك زعمت أنّ «ابن الحنفيّة» بعثك! ولم يبعثك! فأرسل المختار إليهم : فإنّي أبعث إليه وفدا من قبلي وابعثوا إليه وفدا من قبلكم حتّى تتبيّنوه ثمّ انظروا في ذلك.

وبعث المختار من يومه رسولا إلى إبراهيم بن الأشتر وهو بساباط المدائن : أن لا تضع كتابي هذا من يدك حتّى ترجع إليّ بجميع من معك (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٤٥ ـ ٤٦ عن أبي مخنف.

٣٨٢

وعاد أنصار المختار :

خرج رسول المختار عمرو بن توبة بالركض إلى إبراهيم بن الأشتر بساباط المدائن حتّى بلغه في عصر ذلك اليوم! فلمّا قرأ كتابه نادى بالناس : أن ارجعوا إلى الكوفة.

فسار بقية ذلك اليوم حتّى أمسى ثمّ نزل للعشاء ، وأراحوا الدوابّ شيئا ، ثمّ نادى فيهم فسار الليل كلّه حتّى صلّى الصبح في سوراء ثمّ سار حتّى صلّى عصر غده على باب الجسر ، ثمّ دخل البلد إلى المسجد فبات فيه بأصحابه.

وخرج المختار فصلّى بهم ثمّ صعد المنبر ، ثمّ نزل إلى السوق ـ ولم يكن فيه بناء ـ فعبّأ أصحابه فيه.

وكان المختار ذا رأي فكره أن يسير ابن الأشتر إلى قومه من اليمن فلا يبالغ في قتالهم ، فقال له : أيّ الفريقين (من مضر واليمن) أحبّ إليك أن تسير إليهم؟ قال : أيّ الفريقين أحببت! فقال المختار : فسر إلى مضر بالكناسة وعليهم شبث بن ربعي ومحمّد بن عمير بن عطارد ، وأنا أسير إلى اليمن ، فسار إبراهيم إلى الكناسة ، وسار المختار إلى جبّانة السّبيع (١).

ابن الأشتر لمضر والمختار لأهل اليمن :

فمضى ابن الأشتر حتّى لقي شبث بن ربعي وحسّان بن فائد العبسي وبشرا كثيرا من مضر.

فنادى فيهم إبراهيم : ويحكم! انصرفوا ، فو الله ما أحبّ أن يصاب على يدي أحد من مضر ، فلا تهلكوا أنفسكم! فأبوا وقاتلوه ، فهزمهم وجرح حسّان

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٤٦ ـ ٤٧ عن أبي مخنف.

٣٨٣

العبسي فاحتمل إلى أهله فلمّا أدخلوه عليهم مات فيهم (١). وقتل غيره من مضر بضعة عشر رجلا (٢).

وسار المختار إلى جبّانة السّبيع ولكنّه توقّف عند دار عمر بن سعد وسرّح بين يديه عبد الله بن كامل الشاكري الهمداني ، وأحمر بن شميط الأحمسي البجلي وقال له : الزم هذه السكّة حتّى تخرج من دور قومك ومسجدهم إلى جبّانة السّبيع ، وقال للشاكري الهمداني : الزم هذه السكّة حتّى تخرج عليهم من دار الأخنس بن شريق الثقفي إلى الفرات ، وقال لهما : إنّ الشباميين (من همدان) أخبروني أنّهم يأتونهم من ورائهم.

وبلغ إلى أهل اليمن مسير الرجلين إليهم فاقتسموا تلك السكّتين : فسكّة مسجد أحمس وقف فيها عبد الرحمن بن سعيد الهمداني ومعه زحر بن قيس الجعفي وإسحاق بن محمّد بن الأشعث الكندي وسكّة الأخنس الثقفي إلى الفرات وقف فيها عبد الرحمن بن مخنف الأزدي وبشير بن جرير البجلي وكعب الخثعمي ، وتلاقوا واقتتلوا قتالا شديدا حتّى انكشف أنصار المختار وفلّوا والتقاه فلولهم فردّهم حتّى وقف إلى دار أبي عبد الله الجدلي ، فبعث عبد الله بن قراد الخثعمي على أربعمئة فارس وراجل إلى عبد الله بن الكامل مددا ، وبعث مالك بن عمرو النهدي وكان شديد البأس في مئتي فارس إلى أحمر بن شميط الأحمسي فأمدّوه.

واجتمع الشباميون من همدان على رئيسهم أبي القلوص على أن يأتوا أهل اليمن من ورائهم كما وعدوا المختار ، حتّى خرجوا إلى جبّانة السّبيع ، فاستقبلهم

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٤٩ عن أبي مخنف.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ٥٦ عن أبي مخنف.

٣٨٤

الأعسر الشاكري الهمداني على فم السكّة ، فحمل عليه أبو الزبير بن كريب والجندعي فصرعاه ودخلوا الجبّانة وهم ينادون «يالثارات الحسين»! فأجابهم أنصار ابن شميط : «يالثارات الحسين». فأخذ بعض الهمدانيين ينادي : «يالثارات عثمان»! فقتل.

وكان رفاعة بن شدّاد البجلي مع قومه بني بجلة على المختار! وكان ناسكا قارئا للقرآن فقدّموه للصلاة بهم ، ولكنّه لما سمعهم اليوم ينادون : «يالثارات عثمان» قال : لا اقاتل مع قوم يبغون دم عثمان ما لنا ولعثمان؟! ثمّ عطف بسيفه عليهم وهو يقول :

أنا ابن شدّاد على دين عليّ

لست لعثمان بن أروى بولي

وقاتلهم حتّى عطفوا عليه فقتلوه عند حمّام الماهبدان بالسبخة. وارتثّ بالجراح زحر بن قيس الجعفي ، وقتل ابنه الفرات ، وقتل عبد الرحمن بن سعيد الهمداني ، وارتثّ بالجراح عبد الرحمن بن مخنف الأزدي وحملوه وقاتل دونه حميد بن مسلم الأزدي الراوي ، وقتل عمر بن مخنف الأزدي.

ولجأ خمسمئة منهم إلى دور الوادعيين من همدان ، فاستخرجوهم اسراء مكتّفين إلى المختار ، فتولّى أمرهم رجل من رؤساء أنصار المختار هو عبد الله بن شريك النهدي ، فكان يقتل الموالي والعبيد ويخلّي العرب! فلمّا رأى ذلك رجل من موالي بني نهد يدعى درهم رفع ذلك إلى المختار فقال : اعرضوهم عليّ ، وانظروا من شهد منهم قتل الحسين فأعلموني به. فشهدوا على نصفهم بذلك فقدّمهم وضرب أعناقهم ، ودعا بمن بقي منهم فأخذ عليهم المواثيق أن : لا يجامعوا عليه عدوا ، ولا يبغوه ولا أصحابه غائلة ، ثمّ أعتقهم.

ونادى مناديه : ألا إنّ من أغلق بابه فهو آمن إلّا رجلا شرك في دم «آل محمّد» صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣٨٥

وفرّ عمرو بن الحجّاج الزبيدي إلى طريق الحجاز فلم يعثر عليه ، وأخبر حجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رويم الشيبانيان بهزيمة أهل اليمن فانصرفا بأصحابهما إلى بيوتهم (١) وانجلت الوقعة عن سبعمئة وثمانين قتيلا من الهمدانيين وغيرهم (٢)! بما فيهم المئتان والخمسون من الأسرى ... وكانت الوقعة يوم الأربعاء (لثمان) ليال بقين من ذي الحجّة سنة ستّ وستّين (٣).

والشعراء يتّبعهم الغاوون :

قتل المختار مئتين وثمانية وأربعين رجلا من الأسرى الخمسمئة ، ممن أعلموه أنّه ممن شهد قتل الحسين عليه‌السلام ، ثمّ أخذ المواثيق على من بقي من الأسرى فأعتقهم ، إلّا شاعرهم سراقة بن مرداس البارقي الهمداني فإنّه أمر أن يساق معه إلى المسجد (٤).

ثمّ أقبل إلى القصر ، فرفع سراقة صوته يناديه :

امنن عليّ اليوم يا خير معد

وخير من حيّا ولبّى وسجد

فبعث به المختار إلى السجن فحبسه ليلة ثمّ دعاه فأقبل يقول له :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٤٧ ـ ٥٢ عن أبي مخنف.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ٥٦ عن أبي مخنف.

(٣) تاريخ الطبري ٦ : ٥٧ عن أبي مخنف ، والنصّ : لستّ ليال بقين ... ولكنّه في : ٨١ يذكر أنّ ابن الأشتر لمّا فرغ من أهل الكناسة والسبيع ما نزل إلّا يومين حتّى أشخصه إلى الموصل فخرج يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجّة. فالصحيح العكس ، وانظر : ٣٤٠ ، الحديث ٢. أي هنا لستّ.

(٤) تاريخ الطبري ٦ : ٥١ عن أبي مخنف.

٣٨٦

ألا أبلغ أبا إسحاق أنّا

نزونا نزوة كانت علينا

خرجنا لا نرى «الضعفاء» شيئا

وكان خروجنا بطرا وحينا

نراهم في مصافهم قليلا

وهم مثل الدّبي حين التقينا

برزنا إذ لقينا هم فلمّا

رأينا القوم قد برزوا إلينا

لقينا منهم ضربا طلحفا

وطعنا صائبا حتّى انثنينا

نصرت على عدوّك كلّ يوم

بكلّ كتيبة تنعى «حسينا»

كنصر محمّد في يوم بدر

ويوم الشعب إذ لاقى حنينا

فأسجح إذ ملكت ، فلو ملكنا

لجرنا في الحكومة واعتدينا

تقبّل توبتي منّي فإنّي

سأشكر إن جعلت النقد دينا

ولمّا انتهى إلى المختار قال له : أصلحك الله أيّها الأمير! سراقة بن مرداس يحلف بالله الذي لا إله إلّا هو! لقد رأى الملائكة تقاتل على الخيول البلق بين السماء والأرض! فقال له المختار : فاصعد المنبر وأعلم ذلك المسلمين ، فصعد فأخبرهم بذلك ثمّ نزل ، فخلا به المختار وقال له : إنّي قد علمت أنّك لم تر الملائكة ، وإنّما أردت أن لا أقتلك! فاذهب عنّي حيث أحببت!

وقد مرّ أن عبد الرحمن بن مخنف الأزدي ارتثّ جريحا فحمل إلى أهله ، ثمّ لحق بأزد البصرة وخرج سائر وجوه الكوفة فلحقوا بالبصرة ، ولحق بهم سراقة ، وهو يقول : ما كنت في أيمان حلفت بها قط أشدّ اجتهادا ولا مبالغة في الكذب منّي في أيماني التي حلفت بها لهم أنّي رأيت الملائكة تقاتل معهم! ولكنّهم عادوا فنسبوا الكذب هذا ونحوه إلى المختار نفسه (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٥٤ ـ ٥٥ عن أبي مخنف.

٣٨٧

وأعاد ابن الأشتر لابن زياد :

روى الطبري ، عن الكلبي ، عن أبي مخنف قال : فرغ المختار من أهل الكناسة والسّبيع يوم الأربعاء (١) فما استراح ابن الأشتر إلّا يومين (الخميس والجمعة) فخرج يوم السبت (لستّ) بقين من ذي الحجّة سنة ستّ وستّين (٢).

وأخرج المختار معه من وجوه أصحابه وفرسانهم وذوي البصائر منهم ممّن قد شهد الحروب وجرّبها ، فخرج معه قيس بن طهفة على ربع أهل المدينة ، وعلى ربع مذحج وأسد عبد الله بن حيّة الأسدي ، وعلى ربع ربيعة وكندة الأسود بن جراد الكندي ، وعلى ربع تميم وهمدان حبيب بن منقذ الثوري الهمداني.

وكان موضع عسكر إبراهيم بموضع حمّام أعين ، ومنه شخص بعسكره ، وخرج معه المختار يشايعه حتّى بلغ دير عبد الرحمن بن امّ الحكم ، ومضى معه إلى قناطر رأس الجالوت فلمّا صار بين قنطرة دير عبد الرحمن وقناطر رأس الجالوت اكتفى وأراد أن ينصرف راجعا فوقف ثمّ قال لابن الأشتر : خذ عنّي ثلاثا :

خف الله في سرّ أمرك وعلانيته! وعجّل السير ، وإذا لقيت عدوّك فناجزهم ، فإن لقيتهم ليلا واستطعت أن لا تصبح حتّى تناجزهم! وإن لقيتهم نهارا فلا تنتظر بهم حتى تحاكمهم إلى الله. ثمّ قال له : هل حفظت ما أوصيتك به؟! قال : نعم. قال : صحبك الله. ثمّ انصرف راجعا (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٥٧.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ٨١ ، والنصّ : لثمان بقين .. بينما ذكر وقعة يوم السّبيع : لستّ بقين .. فالصحيح العكس. راجع : ٣٣٨ الحاشية : ٣.

(٣) تاريخ الطبري ٦ : ٨١ ـ ٨٢ عن أبي مخنف ، وفيه خبر كرسيّ أخرجوه معهم في المشايعة يدعون حوله يستنصرون ، فقال إبراهيم : والذي نفسي بيده هذه سنة بني إسرائيل إذ عكفوا على عجلهم! اللهمّ لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء. ثمّ روى الطبري عن الكلبي

٣٨٨

ابن الأشتر إلى الموصل :

كان مع النخعيّ المولى أبو سعيد الصيقل فنقل أبو مخنف عنه قال : خرجنا مسرعين لا ننثني نريد أن نلقى ابن زياد قبل أرض العراق! فتوغّلنا في أرض الموصل ، فجعل ابن الأشتر على مقدّمته الطفيل بن لقيط النخعي شجاعا شديدا ، ثمّ ضمّ إليه حميد بن حريث ، وضمّ ابن الأشتر إليه أصحابه كلّهم بخيلهم ورجالهم يسير بهم جيمعا لا يفرّقهم ولا يسير إلّا على تعبئة ، إلّا أنّ في طليعته ابن لقيط حتى نزل جنب قرية باربيثا بينها وبين مدينة الموصل خمسة فراسخ (١) (٢٧ كم).

وكان شريك بن جدير التغلبي من ربيعة مع علي عليه‌السلام (يوم صفّين) واصيبت عينه معه ، ولمّا انقضت الحرب لحق ببيت المقدس وبقي بها عشرين عاما حتّى جاءه خبر قتل الحسين عليه‌السلام فعاهد الله إن قدر يطلب بدم الحسين عليه‌السلام فيقتل ابن مرجانة أو يموت دونه! فلمّا بلغه خروج المختار بطلب دم الحسين عليه‌السلام أقبل إليه إلى الكوفة. فاليوم توجّه مع ابن الأشتر فجعل على ربيعة ، فقال لهم : يا قوم! إنّي عاهدت الله على كذا وكذا فمن يبايعني على ذلك؟! فبايعه منهم ثلاثمئة (٢).

__________________

عن أبي مخنف الأزدي عن أبي الأشعر موسى بن عامر الجهني : أنّ الذي صنع ذلك وقال لهم : هذا كرسيّ عليّ عليه‌السلام إنّما هو عبد الله بن عوف! وكان يقول : أمرني به المختار! والمختار يتبرّأ منه! (٦ : ٨٤ ـ ٨٥) ولمّا بلغ أمره لابن الزبير قال : أين عنه بعض جنادبة الأزد (٦ : ٨٤) يعني النهّائين عن المنكرات والبدع! فتكلّم الناس في ذلك فغيّب (٦ : ٨٣) وعلى هذا فلا يجوز أن ينسب أمره إلى المختار نفسه.

وذكر المسعودي عدد عسكر ابن الأشتر في التنبيه والإشراف : ٢٧٠ قال : سيّره المختار في اثني عشر ألفا ، فالتقوا بالزاب من أرض الموصل.

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٨٦.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ٩٠ ـ ٩١.

٣٨٩

وكانت قبائل قيس مع الضحّاك بن قيس الفهري وحاربوا مروان وهزموا ، فكانت كلّها اليوم بالجزيرة وهم أهل خلاف لمروان وآل مروان ، ومع ذلك كان ابن زياد قد استزاد بهم في جنوده.

وجاء ابن زياد حتّى نزل قريبا من جند ابن الأشتر على شاطئ نهر الخازر.

وكان زعيم قيس مع ابن زياد عمير بن حباب السلمي فأرسل إلى ابن الأشتر أنّه يريد لقاءه الليلة ، فأرسل إليه ابن الأشتر : إذا شئت فالقني. فأتاه عمير ليلا وأخبره أنّ ابن زياد جعله على ميسرته ، وبايع ابن الأشتر وواعده أن ينهزم بالناس!

فأراد إبراهيم امتحانه فقال له : ما رأيك أن اخندق عليّ وأتلوّم يومين أو ثلاثة؟!

فقال عمير : إنّا لله! وهل يريد القوم إلّا هذه! فهو خير لهم! فهم كثير أضعافكم وليس يطيق القليل الكثير في المطاولة ، ولكن ناجز القوم ، فإنّهم قد ملئوا منكم رعبا ، وإنّهم إن شاموا أصحابك وقاتلوهم يوما بعد يوم ومرّة بعد مرّة أنسوا بهم واجترؤوا عليهم!

فقال إبراهيم : صدقت فالرأي ما رأيت ، والآن علمت أنّك مناصحي ، أما إن صاحبي أوصاني بهذا وأمرني به. فقال عمير : إنّ الشيخ (المختار) قد ضرّسته الحروب وقاسى منها ما لم نقاس فلا تعدون رأيه! أصبح فناهض الرجل. ثمّ انصرف عمير السلمي. فأذكى ابن الأشتر تلك الليلة حرسه كلّ الليل ولم يغمض عينه (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٨٦ ـ ٨٧.

٣٩٠

الاستعداد لقتال ابن زياد :

قال الصيقل : لمّا كان السحر عبّأ إبراهيم أصحابه وكتّب كتائبه وأمّر امراءه ، فبعث على ميمنته سفيان بن يزيد الأزدي ، وعلى ميسرته عليّ بن مالك الجشمي ، وكانت خيل النخعيّ قليلة فجعل عليها أخاه لأمّه : عبد الرحمن بن عبد الله وضمّها إليه في القلب والميمنة ، وجعل على رجّالته الطفيل بن لقيط النخعي أيضا.

فلمّا انفجر الفجر غلّس بصلاة الغداة ، ثمّ خرج فصفّهم ، ووضع امراء الأرباع في مواضعهم ، ونزل يمشي ويقول للناس : ازحفوا. فزحف الناس معه على رسلهم رويدا رويدا حتّى أشرف على تلّ عظيم مشرف على القوم وإذا اولئك بعد لم يتحرّك أحد منهم.

فدعا بعبد الله بن زهير السلولي فقال له : قرّب على فرسك حتّى تأتيني بخبر هؤلاء.

فانطلق فلم يلبث إلّا يسيرا حتّى جاء فقال : قد خرج القوم على دهش وفشل ، ولقيني رجل منهم فناداني : يا «شيعة» أبي تراب ؛ يا «شيعة» المختار الكذّاب! فقلت له : ما بيننا وبينكم أجلّ من الشتم.

قال : يا عدوّ الله! إلى ما تدعوننا؟ قلت له : يالثارات الحسين ابن رسول الله ، ادفعوا إلينا عبيد الله بن زياد فإنّه قتل ابن رسول الله «وسيّد شباب أهل الجنة» حتّى نقتله ببعض من قتلهم مع الحسين فإنّا لا نراه ندّا للحسين لنرضى به قودا! فإذا دفعتموه إلينا فقتلناه ببعض موالينا جعلنا بيننا وبينكم حكما كتاب الله أو أي صالح شئتم من المسلمين.

فقال : قد جرّبناكم في مثل هذا فغدرتم! فقلت : وما هو؟ قال : قد جعلنا بيننا وبينكم حكما فلم ترضوا بحكمهما! فقلت له : إنّما كان صلحنا على أنّهما إذا اجتمعا على رجل تبعنا حكمهما ورضينا به وبايعناه ، فلم يجتمعا على واحد.

٣٩١

ثمّ دعا النخعي بفرسه فركبه وأخذ يمرّ على أصحاب الرايات يرغّبهم في الجهاد ويحرّضهم على القتال يقول :

يا أنصار الدين وشرطة الله و «شيعة الحق» هذا عبيد الله بن مرجانة قاتل الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله ، حال بينه وبين أبنائه ونسائه و «شيعته» وبين ماء الفرات أن يشربوا منه وهم ينظرون إليه ... ومنعه أن ينصرف إلى أهله ورحله ، ومنعه الذهاب في الأرض العريضة حتّى قتله وقتل أهل بيته! فو الله ما عمل فرعون بنجباء بني إسرائيل ما عمل ابن مرجانة بأهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا» قد جاءكم الله به وجاءه بكم ، فو الله إنّي لأرجو أن لا يكون جمع الله بينكم وبينه في هذا الموطن إلّا ليشفي صدوركم بسفك دمه على أيديكم. فقد علم الله أنّكم خرجتم غضبا «لأهل بيت نبيّكم» ثمّ رجع حتّى نزل تحت رايته (١).

وقعة نهر الخازر بالموصل :

قال الصيقل : جعل ابن زياد على ميمنته الحصين بن نمير السكوني ، وعلى ميسرته عمير بن الحباب السلمي (كما قال من قبل) وعلى الخيل شرحبيل بن ذي الكلاع ، وأخذ هو يمشي في الرجّالة.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٨٧ ـ ٨٨ عن الكلبي عن أبي مخنف عن المولى أبي سعيد الصيقل عن إبراهيم النخعي ، وجاء فيه : ومنعه أن يذهب إلى ابن عمّه [يزيد] فيصالحه! هذا وقد نقل الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف عن عقبة بن سمعان غلام الإمام الحسين عليه‌السلام ينفي وينكر هذا الكلام عن الحسين عليه‌السلام أشدّ النفي والإنكار ، وأنّه إنّما هو ممّا تقوّل به الناس تقوّلا بالظنون ورجما بالغيب ، فيعلم أنّ هذا كان قد انطلى على النخعيّ ومخاطبيه من الكوفيين ، وكأنه يبرّئ يزيد عن إرادة قتل الإمام عليه‌السلام!

٣٩٢

فلمّا تدانى الصفّان حمل الحصين بن نمير في ميمنة أهل الشام على ميسرة أهل الكوفة فقتل قائدها الجشمي ، فأخذ رايته ابنه قرّة فقتل أيضا مع رجال آخرين ثابتين ثمّ انهزمت الميسرة ، فأخذ رايتها عبد الله بن ورقاء السلولي واستقبلهم وقال لهم : إليّ يا شرطة الله! فأقبل جلّهم إليه ، فقال لهم : سيروا بنا إلى أميركم فها هو يقاتل ، فأقبل بهم إليه فإذا به هو كاشف عن رأسه يناديهم : يا شرطة الله إليّ أنا ابن الأشتر! إنّ خير فرّاركم كرّاركم وليس مسيئا من أعتب. فثاب إليه أصحابه.

وقد مرّ أنه جعل على ميمنته يزيد بن سفيان ، وأنّ عمير بن حباب السلمي على ميسرة الشام وعده أن ينهزم بهم ، فأرسل إبراهيم إلى يزيد أن يحمل على ميسرتهم وهو يرجو أن ينهزم عمير كما ادّعى ، بينما ثبت عمير وقاتل قتالا شديدا!

فلمّا رأى إبراهيم ذلك قال لأصحابه : أمّوا السواد الأعظم فو الله لو فضضناه لا نجفل من ترون انجفال طير ذعرت فطارت! ثمّ حمل فكان يقول لصاحب رايته : انغمس برايتك فيهم. فيقول : جعلت فداك ليس لي متقدّم. فإذا تقدّم شدّ إبراهيم بسيفه فلا يضرب رجلا إلّا صرعه ، وكان يكرد الرجال بين يديه ، وإذا حمل برايته شدّ أصحابه شدّة واحدة.

قال ورقاء بن عازب : مشينا إليهم حتّى إذا دنونا منهم اطّعنّا بالرماح قليلا ثمّ صرنا إلى العمد والسيوف فاضطربنا بها مليّا من النهار .. ثمّ إن الله هزمهم ومنحنا أكتافهم. فلمّا رأى عمير بن الحباب هزيمة أصحابه بعث إلى إبراهيم يسأله : أجيئك الآن؟ فقال له : لا تأتينّي حتّى تسكن فورة شرطة الله ، فإنّي أخاف عليك عاديتهم الآن (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٩٠ ، عن أبي مخنف ، عن فضيل بن خديج الكندي. وفي ٦ : ٨١ : أنّه ممّن شهد الوقعة.

٣٩٣

وحمل شريك بن جدير التغلبي بالثلاثمئة المبايعين معه على الموت ، فجعل يهتك صفوفهم صفّا صفّا بأصحابه وثار الغبار فلا يسمع إلّا وقع السيوف والحديد (١) ، ورأى شريك التغلبي الحصين بن نمير السكوني فحسبه ابن زياد ، فتوصّل إليه واعتنق كلّ منهما الآخر ثمّ نادى التغلبي : اقتلوني وابن الزانية ، فقتل الحصين (٢) ثمّ توصّل إلى ابن زياد وانفرج الناس عنهما وإذا بهما قتيلين (٣) ورأى ابن الأشتر ابن زياد على شاطئ نهر الخازر تحت راية منفردة فضربه فقدّه نصفين. فلمّا انفرج الناس ذكر لأصحابه ذلك وقال لهم : التمسوه ، فالتمسوه فإذا هو ابن زياد (٤).

ولمّا هزم أصحاب ابن زياد تبعهم أصحاب ابن الأشتر فغرق منهم في نهر الخازر أكثر ممّن قتل ، وغنموا في معسكرهم من كلّ شيء (٥) وحمل ابن الأشتر رأس ابن زياد وغيره إلى المختار (٦).

__________________

ونقل المسعودي : أنّ عمير بن الحباب كان في نفسه ما فعل بقومه من مضر وغيرهم من نزار يوم مرج راهط قرب دمشق ، فكاتب إبراهيم بن الأشتر سرّا والتقيا وتواطئا. فصاح يومئذ : يالثارات قيس! يالمضر! يالنزار! فتزاحمت نزار من مضر وربيعة على من كان معهم في جيشهم من أهل الشام من قحطان. مروج الذهب ٣ : ٩٧.

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٩١ عن غير أبي مخنف.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ٩٠ عن أبي مخنف.

(٣) تاريخ الطبري ٦ : ٩١ عن غير أبي مخنف.

(٤) تاريخ الطبري ٦ : ٩٠ عن أبي مخنف. وقال في التنبيه والإشراف : ٢٧٠ : كان ذلك يوم عاشوراء سنة (٦٧ ه‍). وقال يزيد بن المفرّغ الحميري اليمني في قتل ابن زياد :

إنّ الذي كان ختّارا بذمّته

ومات عبدا قتيل الله بالزّاب

(٥) تاريخ الطبري ٦ : ٩١.

(٦) مروج الذهب ٣ : ٩٧ وزاد : فبعث به المختار إلى ابن الزبير! وهو وهم كما يأتي.

٣٩٤

أخبار الانتصار عند المختار :

اختار المختار من أنصاره السائب بن مالك الأشعري ليخلفه على الكوفة وخرج منها بالناس إلى ساباط المدائن ، فلمّا جاوزه قال لهم : أبشروا فإنّ شرطة الله قد حسّوهم بالسيوف يوما إلى الليل بنصيبين أو قريبا منها!

ثمّ دخل المدائن فصعد المنبر وخطبهم يأمرهم بالجدّ وحسن الاجتهاد والرأي والثبات على الطاعة و «الطلب بدماء أهل البيت عليهم‌السلام» إذ جاءه البشير تلو البشير بقتل ابن زياد وهزيمة عسكره وقتل أشراف الشام ، فانصرف المختار إلى الكوفة.

وعاد إبراهيم إلى الموصل فبعث أخاه لأمّه عبد الرحمن بن عبد الله على نصيبين ، وغلب على دارا وسنجار وما والاها من أرض الجزيرة (١) وأرمينية وأذربايجان.

رأس ابن زياد عند السجاد عليه‌السلام :

قال اليعقوبي : ووجّه المختار برأس ابن زياد مع رجل من قومه إلى عليّ بن الحسين عليه‌السلام وقال له : قف ببابه فإذا رأيت أبوابه قد فتحت ودخل الناس فذاك هو الوقت الذي يوضع فيه طعامه فادخل إليه.

__________________

وزاد ابن الوردي : وأحرق ابن الأشتر جثة ابن زياد وبعث برأسه وعدة من رؤوس أصحابه إلى المختار ، وانتقم الله بالمختار للحسين عليه‌السلام وإن لم تكن من نيّة المختار! ثمّ قال : قلت : في الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أن الله قتل بيحيى بن زكريا سبعين ألفا ، ووعدني أن يقتل بابني هذا (يعني الحسين) سبعين ألفا» وكان كما قال ، والله أعلم ـ ابن الوردي ١ : ١٦٧.

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٩١ ـ ٩٢.

٣٩٥

فجاء الرسول إلى باب عليّ بن الحسين عليه‌السلام فلما فتحت أبوابه ودخل الناس للطعام نادى الرجل بأعلى صوته : «يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومهبط الملائكة ومنزل الوحي! أنا رسول المختار بن أبي عبيد ومعي رأس عبيد الله بن زياد»! فصرخت نسوة بني هاشم ، ودخل الرسول فأخرج الرأس فلمّا رآه عليّ بن الحسين قال : أبعده الله إلى النار. ولم ير ضاحكا منذ قتل أبوه الحسين حتّى ذلك اليوم.

وكانت له إبل تحمل له الفاكهة من الشام فأمر بتلك الفواكه أن تفرّق في أهل المدينة.

وما اختضبت امرأة من بني هاشم منذ قتل الحسين ولا امتشطت حتّى ذلك اليوم» (١).

وجاء هذا في خبر الكشيّ عن جارود بن المنذر الزيدي عن الصادق عليه‌السلام قال : ما امتشطت فينا هاشميّة ولا اختضبت حتّى بعث إلينا المختار برؤوس الذين قتلوا الحسين عليه‌السلام.

ثمّ روى عن عمر بن عليّ بن الحسين عليه‌السلام أنّه لمّا أتي برأس ابن زياد وعمر بن سعد خرّ ساجدا وقال : الحمد لله الذي أدرك لي ثاري من أعدائي ، وجزى الله المختار خيرا.

وأنّ المختار كان قد أرسل إلى أبيه بعشرين ألف دينار ، فقبلها وبنى بها دارهم التي هدمت ودار عقيل بن أبي طالب ، ولم يكن قد ظهر من المختار يومئذ ما ظهر منه بعد ذلك (٢).

وسيأتي خبر قتله لعمر بن سعد وإرساله لرأسه إلى ابن الحنفيّة ، فلعلّ عمر بن عليّ بن الحسين عليه‌السلام تسامح في عطف اللاحق على السابق.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥٩.

(٢) رجال الكشي : ١٢٧ ، الحديث ٢٠٢ و ٢٠٣ و ٢٠٤ وفي آخره : وبعد ما أظهر الكلام الذي أظهره (؟!) بعث إليه بأربعين ألف دينار فردّها ولم يقبلها.

٣٩٦

وجاء مصعب للبصرة :

ولعلّه تزامن أو قرب من ذلك إرسال ابن الزبير لأخيه مصعب على البصرة بدل الحارث بن عبد الله القباع ، لحرب المختار ثمّ لحرب الشام. وكان معه جماعة دخل بهم البصرة متلثما حتّى أناخ بباب مسجدها ، ورآه الناس فقالوا : أمير أمير ، وتسامع به الحارث الأمير السابق فجاء إلى المسجد وإذا بمصعب قد صعد المنبر ، فلمّا دخل الحارث أسفر مصعب عن وجهه فعرفوه ، وقال للحارث : اصعد ، فصعد حتّى جلس تحته بدرجة ، ثمّ قام مصعب فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قرأ الآيات الأوائل من سورة القصص وهو يشير بيده إلى الحجاز والشام ، ثمّ سمّى نفسه الجزّار! ونزل (١).

وخرج أهل الكوفة الذين قاتلوا المختار فهزمهم ، فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة وكان فيهم شبث بن ربعي اليربوعي التميمي (٢).

وفرّ شمر وهلك :

كأنّ ذلك كان من مقدّمات الإعداد لحرب المختار أن يلتحق قادة قبائل الكوفة بالبصرة ، ولم يكن ذلك ليخفى على المختار ، فاختار أن يرسل رئيس حرسه أبا عمرة كيسان مولى بني عرينة إلى جوار قرية يقال لها : الكلتانيّة على شاطئ نهر إلى جانب تلّ ، لتكون مسلحة فيما بينه وبين البصرة (٣).

وكان ممّن فرّ شمر بن ذي الجوشن الكلابي بجمع من كلابه معه إلى مصعب بالبصرة ، وكان للمختار غلام (فارسي) يدعى (زرپي ـ العمود الذهبي)

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٩٣ عن النميري البصري عن المدائني البصري عن الشعبي.

(٢) المصدر السابق ٦ : ٩٢.

(٣) المصدر السابق ٦ : ٥٢ ـ ٥٣ عن أبي مخنف.

٣٩٧

فتبع شمرا طامعا فيه دون أن يستشير المختار ، فلمّا دنا من جماعة شمر قال لهم شمر : اركضوا وتباعدوا عنّي لعلّ العبد يطمع فيّ ، وأخذ شمر يستطرد له وأقبل هو يسرع به فرسه حتّى إذا انقطع من أصحابه حمل عليه شمر فدق ظهره وقتله ، وعاد أصحابه إلى المختار فأخبروه بذلك فقال : أما لو كان يستشيرني لما أمرته أن يخرج له.

ثمّ مضى شمر بأصحابه حتّى نزل قرية سانيدما ، ثمّ نزل قرب قرية الكلتانية وفيها كتب كتابا عنوانه : للأمير المصعب بن الزبير من شمر بن ذي الجوشن ، وأخذ عبدا من القرية فضربه وحمّله كتابه إلى مصعب بالبصرة ، فمرّ به أبو الكنود عبد الرحمن بن عبيد فرأى الكتاب مع العبد وعنوانه لمصعب من شمر ، فذهب به إلى أبي عمرة كيسان فسألوه عن مكان شمر فأخبرهم به فإذا هو على ثلاثة فراسخ منهم فأقبلوا إليه ليلا ، وقد قال لأصحابه إنّه يريح هناك ثلاثة أيام ، وإذا بهم أشرفوا عليهم من التلّ وكبّروا وأحاطوا بهم ، وكان شمر قد اتزر ببرد محقّق ، وهو أبرص وقد ظهر بياض كشحيه فوق برده ، فأعجلوه أن يلبس ثيابه وسلاحه ، وترك أصحابه خيولهم وخرجوا يشتدّون على أرجلهم ، وأخذ شمر رمحا وأخذ يطاعنهم به ساعة ثمّ دخل خيمته وأخذ سيفه وقاتل به حتّى قتل (١).

وتجرّد المختار لقتلة الحسين عليه‌السلام :

وكأن كيسان أبا عمرة مولى بني عرينة عاد إلى رئاسة حرس المختار فرآهم المختار يكلّمونه فارتاب منهم ، فدعاه المختار وقال له : رأيتهم يكلّمونك فما يقولون لك؟ فأسرّ إليه : أصلحك الله! شقّ عليهم صرفك وجهك عنهم إلى

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٥٢ ـ ٥٤ عن أبي مخنف.

٣٩٨

العرب! فقال له : قل لهم : لا يشقنّ ذلك عليكم ، فأنتم منّي وأنا منكم! ثمّ قرأ من سورة السجدة : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ)(١) فلمّا سمعها منه الموالي قالوا : أبشروا فو الله لكأنّكم به قد قتلهم (٢).

ولمّا رأى أنّ أشرافهم يلتحقون بالبصرة وبلغه أنّهم يتّهمونه بالكذب بل يسمّونه «الكذّاب» قال : ما من ديننا ترك قوم قتلوا الحسين عليه‌السلام يمشون أحياء في الدنيا آمنين! بئس «ناصر آل محمد» أنا إذا في الدنيا! أنا إذا الكذّاب كما سمّوني! فإنّي بالله استعين عليهم! الحمد لله الذي جعلني سيفا ضربهم به ، ورمحا طعنهم به ، وطالب وترهم والقائم بحقّهم ، إنّه كان حقّا على الله أن يقتل من قتلهم ، وأن يذلّ من جهل حقّهم. فسمّوهم لي ثمّ اتّبعوهم حتّى تفنوهم! فإنّه لا يسوغ لي الطعام والشراب حتّى اطهّر الأرض منهم ، وانقّي المصر عنهم (٣).

وكان من قتلة الحسين عليه‌السلام : عبد الله بن اسيد الجهني ، ومالك بن النسير البدّي ، وحمل بن مالك المحاربي ، وكانوا قد ابتعدوا إلى القادسية ودلّ عليهم عبد الله بن دباس (قاتل محمّد بن عمار بن ياسر!) فبعث المختار عليهم من رؤساء أصحابه مالك بن عمرو النهدي ، فأتاهم وهم بالقادسية فأخذهم وأقبل بهم حتّى أدخلهم عليه عشاء.

فقال لهم المختار : يا أعداء الله وأعداء كتابه وأعداء رسوله وآل رسوله! أين الحسين بن عليّ؟! أدّوا إليّ الحسين ، قتلتم من امرتم «بالصلاة عليه في الصلاة»؟!

قالوا : رحمك الله! بعثنا ونحن كارهون ، فامنن علينا واستبقنا.

__________________

(١) السجدة : ٢٢.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ٣٣ عن أبي مخنف.

(٣) تاريخ الطبري ٦ : ٥٧.

٣٩٩

قال المختار : فهلّا مننتم على الحسين ابن بنت نبيّكم واستبقيتموه وسقيتموه؟!

ثمّ قال للبدّي : أنت أخذت برنس الحسين؟! قال ابن كامل : نعم ، هو هو.

فقال المختار : اقطعوا يدي هذا ورجليه ودعوه ليضطرب حتّى يموت! ففعل به ذلك. وقتل الآخرين (١).

وأربعة نهبوا خيام الحسين عليه‌السلام :

ودلّه سعر الحنفي على أربعة ممّن نهبوا خيام الإمام عليه‌السلام : زياد بن مالك الضّبعي وعمران بن خالد العنزي ، وعبد الرحمن البجلي ، وعبد الله الخولاني ، فبعث عليهم عبد الله بن كامل الشاكري الهمداني فأخذهم من قبائلهم وجاء بهم حتّى أدخلهم عليه فقال لهم :

يا قتلة الصالحين! يا قتلة «سيد شباب أهل الجنة»! ألا ترون الله قد أقاد منكم اليوم! لقد جاءكم الورس بيوم نحس! وكانوا أصابوا منه ، ثمّ قال : أخرجوهم إلى السوق فاضربوا رقابهم ، ففعل بهم ذلك (٢).

وثلاثة آخرون من الأزد منهم حميد بن مسلم الأزدي المرادي وعبد الله وعبد الرحمن ابنا صلخب الأزدي ، وجاءهم السائب بن مالك الأشعري في خيل فأخذوا الأخوين وفرّ حميد ، وأخذوا عبد الله بن وهب الهمداني فانتهوا بهم إلى المختار فأمر بهم فقتلوا بالسوق.

وآخران شريكان في قتل عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب : أبو أسماء

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٥٧ ـ ٥٨ عن أبي مخنف.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ٥٨ عن أبي مخنف. وعن المدائني في أمالي الطوسي : ٢٤٤ ، الحديث ١٦ ، المجلس ٩.

٤٠٠