موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

فبعث مروان إلى حبيب بن كرّة وكتب كتابا إلى يزيد وسلّمه إلى ابنه عبد الملك فخرج مع ابن كرّة إلى ثنيّة الوداع فسلّم الكتاب إليه وقال له : قد أجّلتك اثنتي عشرة ليلة ذاهبا واثنتي عشرة ليلة مقبلا ، فوافني لأربع وعشرين ليلة في هذا المكان في هذه الساعة تجدني جالسا أنتظرك.

قال ابن كرّة : أخذت الكتاب ومضيت به حتّى دخلت به على يزيد وهو على كرسيّه وقدماه في ماء في طست من وجع النقرس ، فقرأه فإذا فيه : أما بعد ، فإنّه قد حصرنا في دار مروان ، ورمينا بالجبوب (الأرض الغليظة) ومنعنا العذب! فيا غوثاه يا غوثاه! فلمّا قرأه قال لي : أما يكون بنو أمية ومواليهم ألف رجل؟ قلت : بلى وأكثر! قال : فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من نهار! قلت : أجمع الناس كلّهم عليهم فلم يكن لهم طاقة على الناس (١).

جيش الشام إلى المدينة :

فبعث يزيد ـ بعد إباء ابن زياد ـ إلى عمرو بن سعيد الأشدق وكان في الشام فأقرأه الكتاب ، وطلب إليه أن يسير بالناس إليهم. فقال : إنّما هي دماء قريش فلا احبّ أن أتولّى أنا ذلك.

فروى الطبري عن حبيب بن كرّة قال : فبعثني يزيد بالكتاب إلى مسلم بن عقبة المرّي القرشي (في فلسطين) فسلّمت الكتاب إليه وهو شيخ كبير مريض ، فقرأه وأخبرته الخبر فجاء حتّى دخل على يزيد.

فقال له : ويحك! إنّه لا خير في العيش بعدهم ، فاخرج وسر بالناس.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٨٢ ، ٤٨٣.

٢٤١

فخرج مناديه ينادي : أن سيروا إلى الحجاز على أخذ اعطياتكم كاملة ، ومعونة مئة دينار توضع في يد الرجل فورا! فانتدب له اثنا عشر ألف رجل (١).

وخرج يزيد وخطب فقال : يا أهل الشام ، إنّ أهل المدينة أخرجوا قومنا منها ، والله لئن تقع الخضراء على الغبراء أحبّ إليّ من ذلك (٢) وأمر بقبّة ضربت له خارج قصره ، وقطع البعوث على أهل الشام ، فلم تمض أيام ثلاثة حتّى فرغ وعرضت الكتائب عليه في اليوم الثالث (٣).

وخرج مسلم وهو أعور فاستعرض الجنود فلم يخرج معه أصغر من ابن عشرين ولا أكبر من ابن خمسين ، على خيل عراب وأدوات كاملة ، ووجّه يزيد معه عشرة آلاف بعير تحمل زاده.

وخرج إليه يزيد يودّعه فقال له : إن شئت أعفيتك ، فإنّي أراك مدنفا منهوكا!

فقال الأعور : نشدتك الله أن لا تحرمني أجرا ساقه الله إليّ! أو تبعث غيري!

فقال يزيد : فإن حدث بك حدث فأمر الجيوش إلى الحصين بن نمير السّكوني ، فانهض بسم الله إلى ابن الزبير ، واتّخذ المدينة طريقا إليه ، فإن صدّوك فاقتل من ظفرت به منهم ، وأنهبها ثلاثا ... فإذا قدمت المدينة فمن عاقك عن دخولها أو نصب لك الحرب فالسيف السيف ، أجهز على جريحهم واتّبع مدبرهم وإيّاك أن تبقي عليهم! وإن لم يتعرّضوا لك فامض إلى ابن الزبير (٤).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٨٣.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ٢٠٩ و ٢ : ٩.

(٣) تاريخ خليفة : ١٤٨ ، ولم يذكر وصايا يزيد للمسرف المرّي!

(٤) الإمامة والسياسة ١ : ٢٠٩ ، والتنبيه والإشراف : ٢٦٣.

٢٤٢

فأمره بقتال أهل المدينة ، فإن ظفر بها أباحها للجند ثلاثة أيّام يسفكون فيها الدماء ويأخذون أموالهم ، وأن يبايعهم على أنّهم خول وعبيد ليزيد (١) ، فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس. وانظر عليّ بن الحسين فاكفف عنه واستوص به خيرا وأدن مجلسه ، فإنّه لم يدخل في شيء ممّا دخلوا فيه (٢).

وقال اليعقوبي : كان جيشه خمسة آلاف رجل : من فلسطين ألف رجل عليهم روح بن زنباغ الجذامي ، ومن الأردن ألف رجل عليهم حبيش بن دلجة القيني ، ومن دمشق ألف رجل عليهم عبد الله بن مسعدة الفزاري ، ومن أهل حمص ألف رجل عليهم الحصين بن نمير السكوني ، ومن قنّسرين ألف رجل عليهم زفر بن الحارث الكلابي (٣).

لقاؤهم بالأمويين :

ولمّا أيقن أهل المدينة بقدوم الجيوش إليهم ، قال بعضهم : لقد خندق رسول الله ، فتشاوروا في ذلك وخندقوا المدينة من كلّ نواحيها (٤) أو في جانب منها (٥) وهو خندق النبيّ وواصلوا سائرها بالحيطان (٦).

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٦٥.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤٨٤ ـ ٤٨٥ عن الكلبي ، عن الأزدي ، عن حبيب بن كرّة الأموي ، وفيه : وقد أتاني كتابه. وانفرد به ولم يذكره غيره.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥١.

(٤) الإمامة والسياسة ١ : ٢١٠.

(٥) الطبري ٥ : ٤٨٧.

(٦) التنبيه والإشراف : ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

٢٤٣

وخرج بنو أميّة بأثقالهم حتّى انتهوا إلى وادي القرى قرب خيبر في طريق الشام فالتقوا بجيش مسلم المرّي ، وسمع أنّ فيهم عمرو بن عثمان بن عفّان فدعا به أوّل الناس وقال له : أخبرني خبر ما وراءك وأشر عليّ. فقال عمرو : لقد أخذ علينا العهود والمواثيق أن لا ندلّ على عورة ولا نظاهر عدوّا! فقال المرّي : والله لو لا أنّك ابن عثمان لضربت عنقك! وأيم الله لا أقيلها بعدك قرشيّا! وانتهره! فخرج إلى أصحابه وأخبرهم بما لقي عنده.

فدخل عليه عبد الملك بن مروان فقال له : أخبرني خبر الناس وكيف ترى؟ فقال له : أرى أن تسير بمن معك حتّى إذا انتهيت إلى أدنى نخل للمدينة نزلت ، حتّى إذا أصبحت وصلّيت مضيت وتركت المدينة على يسارك ودرت حولها إلى الحرّة في مشرقها فتستدبر المشرق وتستقبل القوم فتشرق الشمس عليهم وبين أكتاف أصحابك فلا تؤذيهم ، وتقع في وجوههم فيؤذيهم حرّها وأذاها ، وما دمتم مشرّقين فهم يرون من بيضكم وحرابكم وأسنة رماحكم وسيوفكم ودروعكم وسواعدكم ما لا ترونه أنتم من شيء من سلاحهم ماداموا مغرّبين!

ثمّ دخل عليه مروان فأقنعه بولده عبد الملك واقتنع به (١). هذا ما رواه الطبري ، وزاد ابن قتيبة ، قال :

قال له مروان : عددهم أكثر من الجيش الذي جئت به ولكن فيهم قوم قليل لهم نية وبصيرة وعامّتهم ليس لهم نيّات ولا بصائر ، ولا بقاء لهم مع السيف ، وليس لهم سلاح ولا كراع ، ولكنّهم قد خندقوا عليهم وحصّنوا! فقال مسلم : ولكنّا نردم عليهم خندقهم ونقطع عنهم مشربهم! فلم يرجع منهم مع مسلم غير مروان وابنه عبد الملك ، وكان قد أصابه الجدري فخلّفه بذي خشب.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٨٥ ـ ٤٨٦ عن الكلبي ، عن الأزدي ، عن ابن كرّة الأموي.

٢٤٤

وجمع عبد الله بن حنظلة أهل المدينة عند المنبر فقال لهم : تبايعوني على الموت! وإلّا فلا حاجة في بيعتكم! فبايعوه على الموت ، ثمّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم : أيّها الناس ، إنّكم إنّما خرجتم غضبا لدينكم ، فأبلوا إلى الله بلاء حسنا ليوجب لكم به جنّته ومغفرته ، ويحلّ بكم رضوانه. واستعدوا بأحسن عدتكم ، وتأهّبوا بأكمل اهبتكم ، فقد اخبرت أنّ القوم قد نزلوا بذي خشب ومعهم مروان بن الحكم ، والله إن شاء مهلكه بنقضه العهد والميثاق (ما أعطاه) عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فتصايح الناس بسبّه والنيل منه. فرفع عبد الله يديه إلى السماء وقال : اللهمّ إنّا بك واثقون وعليك متوكّلون ، وإليك ألجأنا ظهورنا! ونزل. وكان صائما ولا يزيد على شربة من سويق يفطر عليها إلى مثلها في غد ، ولا يبيت إلّا في المسجد الشريف (١).

وقعة الحرّة :

ولما انتهى الجيش إلى المدينة عسكر بالحرّة (٢) وخرج أهلها لحربه وعليهم عبد الله بن حنظلة الأنصاري الأوسي (على الأنصار) وعبد الله بن المطيع العدوي القرشي (على قريش) (٣).

فلمّا نزل مسلم المرّي أرسل إلى أهل المدينة قال لهم : إنّ أمير المؤمنين! يقرأ عليكم السلام ويقول لكم :

أنتم الأهل والعشيرة ، فاتّقوا الله واسمعوا وأطيعوا ، فإنّ لكم عندي في عهد الله وميثاقه عطاءين في كلّ سنة : عطاء في الصيف وعطاء في الشتاء! ولكم عندي

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٢١٠ ـ ٢١١.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ٢١١ وصحّف بالجرف!

(٣) مروج الذهب ٣ : ٦٩.

٢٤٥

عهد الله وميثاقه أن أجعل سعر الحنطة عندكم كسعر الحنطة عندنا (في الشام) وكان عمرو بن سعيد قد أخذ عطاءهم واشترى به لنفسه عبيدا فقال لهم : وأمّا العطاء الذي ذهب به عمرو بن سعيد فعليّ أن أخرجه لكم!

فقالوا له : لقد خلعنا يزيد كما خلع نعالنا أو عمائمنا (١).

فقال لهم : يا أهل المدينة ؛ إنّ أمير المؤمنين يزيد بن معاوية! يزعم أنكم الأهل ، فأنا أكره إهراق دمائكم (ولذا) فإنّي اؤجّلكم ثلاثا ، فمن ارعوى وراجع الحقّ قبلنا منه ، وانصرفت عنكم إلى هذا الملحد الذي بمكّة! وإن أبيتم كنّا قد أعذرنا إليكم!

ولمّا مضت الأيام الثلاثة ناداهم : يا أهل المدينة ؛ قد مضت الأيّام الثلاثة فما تصنعون؟ أتسالمون أم تحاربون؟ قالوا : بل نحارب! قال : بل ادخلوا في الطاعة ونجعل حدّنا وشوكتنا على هذا الملحد الذي قد جمع إليه المرّاق والفسّاق من كلّ أوب!

فقالوا لهم : يا أعداء الله ، والله لو أردتم أن تجوزوا إليهم ما تركناكم حتّى نقاتلكم ، أنحن ندعكم أن تأتوا بيت الله الحرام وتخيفوا أهله وتلحدوا فيه وتستحلّوا حرمته! لا والله لا نفعل (٢)!

قتال يوم الحرّة :

فأقبل مسلم المرّي من الحرّة بجمعه إلى طريق العراق حتّى ضرب فسطاطه هناك ، ثمّ أوقف خمسمئة من حاملي الأسنّة الرجّالة دونه ، وكان له غلام روميّ شجاع كان صاحب رايته. ووجّه بخيله نحو ابن حنظلة ، فحمل ابن حنظلة

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١٠.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤٨٧ عن الكلبي ، عن أبي مخنف.

٢٤٦

في الرجال الذين معه عليهم حتّى انتهوا إلى ابن عقبة ، فنهض برجاله في وجوههم وصاح بهم فانصرفوا إلى قتال شديد.

وكان مع الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي عشرون فارسا فقاتل بهم قتالا شديدا ، ثمّ قال لابن حنظلة : مر الفرسان معك ليقفوا معي فإذا حملت فليحملوا فو الله لا أنتهي حتّى أبلغ مسلم المرّي. فأمر ابن حنظلة رجلا أن ينادي في الخيل بذلك ، فنادى فيهم وجمعهم إلى الفضل الهاشمي ، فلمّا اجتمعت إليه الخيل حمل بهم على أهل الشام فكشفهم. ثمّ قال لهم : احملوا اخرى ، ثمّ حمل وحمل معه أصحابه حتّى بلغوا الخمسمئة الرجالة جاثين على ركبهم شارعين أسنتهم نحو القوم ، يقدمهم الغلام الروميّ حامل راية ابن عقبة ، فمضى الفضل الهاشمي نحو حامل الراية وعلى رأسه المغفر ، فكان الفضل يظنّه مسلم المرّي ، فضرب بسيفه على مغفره فقطّ المغفر وفلق هامته ، ونادى : خذها وأنا ابن عبد المطلب! قتلت طاغية القوم وربّ الكعبة!

وبادر مسلم المرّي فأخذ رايته بيده ونادى أهل الشام بالملام وقال لهم : شدّوا مع هذه الراية ، ثمّ مشى برايته وشدّت رجاله أمامه.

وقال عوانة بن الحكم : بل كان مسلم المرّي لا زال مريضا على سريره ، وأمرهم فحملوه ووضعوه في الصفّ أمام فسطاطه ، فلمّا حمل عليه الفضل الهاشمي وأصحابه وانتهوا إلى سريره نادى ابن عقبة : أين أنتم يا بني الحرائر اشجروه بالرماح ، فطعنوه بالرماح حتّى سقط. هذا وبينه وبين أطناب مسلم المرّي نحو من عشرة أذرع ، وقتل معه رجال كثير من أهل المدينة فيهم إبراهيم بن نعيم العدوي وزيد بن عبد الرحمان بن عوف.

ثمّ ركب مسلم المرّي فرسه وأخذ يسير في أهل الشام ويحرّضهم ، وأمر الخيل أن تقدم على ابن حنظلة ، فأقبلت خيل مسلم المرّي ورجاله نحو ابن حنظلة الغسيل ورجاله ، فإذا أقدمت الخيل على الرجال ثاروا في وجوههم برماحهم

٢٤٧

وسيوفهم ، فتنفر خيولهم وتحجم. فأمر ابن عقبة الحصين بن نمير السكوني أن ينزل بجنده من أهل حمص ، فمشى براياتهم إليهم ، ثمّ أمر مسلم المرّي عبد الله الأشعري أن يدنو برماته الخمسمئة نحو ابن حنظلة الغسيل وأصحابه فأخذوا ينضحونهم بنبالهم.

فنادى ابن الغسيل : من أراد التعجّل إلى الجنة فليلزم هذه الراية ، فقام إليه المستميتون منهم ، فاقتتلوا أشدّ قتال ساعة ، وأخذ يقدّم بنيه أمامه واحدا فواحدا حتّى قتل ثمانيتهم بين يديه ، وهو يقاتلهم بسيفه حتّى قتل هو وأخوه لأمّه محمّد بن ثابت بن قيس بن شماس خطيب الأنصار ، ومعهما محمّد بن عمرو بن حزم الأنصاري.

وانهزم الناس ، وأخذ محمّد بن سعد بن أبي وقاص يقاتلهم حتّى غلبت الهزيمة فذهب مع الناس (١).

ولمّا دارت رحا الموت بين الفريقين توارى عبد الله بن المطيع العدوي وسئل عن ذلك فقال : رأيت ما رأيت من غلبة أهل الشام ، وصنع بني حارثة الذي صنعوا من إدخالهم علينا (كما يلي) وولي الناس ... وعلمت أنّه لا يضرّ عدوي مشهدي (حضوري) ولا ينفعهم ولّتي (فراري) فتواريت ، ثمّ لحقت بابن الزبير (٢).

اقتحام خندق المدينة :

وهكذا ذكر الطبري خبر الحرّة بلا اختراق للخندق ، بينما اختزل الدينوري خبر القتال في الحرّة إلى خبر اختراق الخندق عليهم فقال : لمّا انتهوا إلى المدينة عسكروا بالحرّة ، ثمّ مشى رجال منهم فأطافوا بالمدينة من كلّ ناحية فلا يجدون

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٨٧ ـ ٤٩١ عن الكلبي ، عن أبي مخنف وغيره.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ٢٢٠ وقال : وكان معنا يوم الحرّة ألفا رجل ذو حفاظ.

٢٤٨

مدخلا ، والناس متلبّسون السلاح قد قاموا على أفواه الخنادق ، فجعل أهل الشام يطوفون بها والناس يرمونهم بالنبل والحجارة من فوق الآكام والبيوت حتّى جرحوا منهم وفي خيلهم.

فخرج مروان إلى رجل من بني حارثة في ضيعته فقال له : افتح لنا طريقا وأنا اكتب بذلك إلى أمير المؤمنين (يزيد) وأضمن لك عنه شطر ما كان بذل لأهل المدينة من العطاء وتضعيفه. فرغب فيما بذل له وقبل ما ضمن له عن يزيد ، وفتح له طريقا ، فاقتحمت الخيل المدينة (١) ولذا كان بنو حارثة آمنين ما قتل أحد منهم ، وكان قصرهم أمانا لمن أراد أهل الشام أن يؤمّنوه ، وكلّ من نادى باسم الأمان لأحدهم أمّنوه ثمّ ذبّوا عنه حتّى يبلّغوه قصر بني حارثة ، فاجير يومئذ رجال كثير ونساء ، لم يزالوا في قصرهم حتّى انقضت الثلاث (٢).

وكان ابن حنظلة في ناحية الطورين لمّا جاءه خبر دخولهم المدينة ، فأقبل إليهم ، وكان عبد الله بن مطيع العدوي في ناحية ذناب فأقبل إليهم ، فاجتمعوا بمن معهم حيث اقتحم عليهم أهل الشام ، فاقتتلوا حتّى عاينوا الموت ؛ والنساء والصبيان يصيحون ويبكون على قتلاهم.

وجعل مسلم المرّي ينادي : من جاء برأس رجل فله كذا وكذا يغري بهم قوما لا دين لهم ، حتّى جاءهم ما لا طاقة لهم به ، وظهروا على أكثر المدينة.

وكان على بشر بن حنظلة الغسيل درعان ، فلمّا هزم القوم طرحهما ثمّ جعل يقاتلهم حاسرا حتّى ضربه شاميّ بسيفه على منكبه فوقع قتيلا. فلمّا قتل ابن حنظلة الأمير صار أهل المدينة كالنعم شرودا بلا راع يقتلهم الشاميون في كلّ وجه.

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٢١١ ، وأشار إليه خليفة : ١٤٩ ، واليعقوبي ٢ : ٢٥٠.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ٢١٣.

٢٤٩

وأقبل محمّد بن عمرو بن حزم الأنصاري فارسا يقاتل جريحا فيحمل على كردوس من أهل الشام فيفضّ جماعتهم ، فاجتمع جمع من أصحاب الرماح وحملوا عليه حملة واحدة وطعنوه برماحهم حتّى مال قتيلا. فلمّا قتل انهزم باقي الناس في كلّ وجه ، ودخل القوم المدينة تجول خيولهم فيها يقتلون وينهبون!

وقيل لعبد الله بن زيد بن عاصم : لو علم القوم باسمك وصحبتك لم يهيجوك بأذى فلو أعلمتهم! فقال : لا أفلح من ندم ، لا والله لا أبرح حتّى اقتل ولا أقبل لهم أمانا! وكان أصلع حاسرا ، فضربه شامي بفأس على رأسه فسقط قتيلا صائما (١).

نهب المدينة وإباحتها :

وأوّل دور انتهبت والحرب قائمة : دور بني عبد الأشهل ، فما تركوا في المنازل من أثاث ولا حليّ ولا فراش إلّا نقض صوفه ، وحتّى أنّهم كانوا يذبحون الدجاج والحمام!

ودخل عشرة منهم دار محمّد بن مسلمة الأنصاري فتصايحت النسوة ، فسمعهنّ زيد بن محمّد ففزع لهنّ ومعه رجلان من أهله حتّى قتل جميع الشاميين ، ثمّ أقبل نفر آخرون منهم فقاتلوهم أيضا حتّى ضربه أربعة منهم بسيوفهم في وجهه فقتلوه بعد أن قتل أربعة عشر رجلا منهم.

ولزم خدره أبو سعيد الخدري فهتكوا ستره وسألوه : من أنت أيها الشيخ؟ قال : أنا أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! قالوا : ما زلنا نسمع عنك ، فبحظّك أخذت في ترك قتالنا وكفّك عنّا ولزوم بيتك ، ولكن أخرج إلينا ما عندك! قال : والله ما عندي مال. فضربوه حتّى نتفوا لحيته ثمّ أخذوا كلّ ما وجدوه في بيته حتّى الصواع والحمام!

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٢١١ ـ ٢١٣.

٢٥٠

ولزم سعيد بن المسيّب المسجد فكان لا يخرج منه إلّا ليلا ، وأمن. وخرج جابر بن عبد الله الأنصاري وهو يومئذ أعمى إلى بعض زقاق المدينة وهو يقول : تعس من أخاف الله ورسوله! فسئل : ومن أخاف الله ورسوله؟! قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : من أخاف المدينة فقد أخاف ما بين جنبيّ! فسمعه شاميّ فحمل عليه بسيفه ليقتله ، وكان مروان بن الحكم حاضرا فترامى بنفسه عليه وأجاره وأدخله منزله وأغلق عليه بابه ، فسلم ، وأسروا كثيرا فغلّوهم (١).

وأنهبها ثلاثا فنهبت الأموال وافتضحت النساء (٢).

وقال اليعقوبي وأباح مسلم المرّي المدينة لجنده فلم يبق بها كثير أحد نجا من القتل ، وحتّى حملت الأبكار لا يعرف لمن (٣) وروى البيهقي عن الحسن البصري أنّه ذكر الحرّة فقال : والله ما كاد ينجو منهم أحد ، ونهبت المدينة ؛ وافتضّ فيها ألف عذراء ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون (٤).

ودخل شاميّ على امرأة ابن أبي كبشة الأنصاري ، قالت : لقد بايعت معه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الشجرة على أن لا أزني ولا أسرق ولا أقتل ولدي ، ولا آتي ببهتان أفتريه ، وكانت قد نفست حديثا بصبيّ ، فقال الشامي لها : هل من مال؟ قالت : لا والله ما تركوا لي شيئا! فقال لها : والله لتخرجنّ إليّ شيئا أو لأقتلنّك وصبيّك هذا! فقالت له : ويحك إنه ولد ابن أبي كبشة الأنصاري صاحب

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٢١٣ ، ٢١٤ ، وانظر تحريف خبر الخدري في تاريخ خليفة : ١٤٩ واعجب!

(٢) الإمامة والسياسة ٢ : ١٠.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥٠.

(٤) دلائل النبوة للبيهقي ٦ : ٤٧٥ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٤٩.

٢٥١

رسول الله ... فاتّق الله! ثمّ التفتت إلى الصبي وهي ترضعه وقالت له : يا بني! والله لو كان عندي شيء لافتديتك به. وكان الصبيّ في حجرها وثديها في فمه ، فأخذ برجله وجذبه من حجرها وضرب به الحائط فانتثر دماغه على الأرض! ثمّ خرج من البيت ولكنّه اسودّ وجهه نصفيا ، وصار يضرب به المثل (١).

أعداد القتلى في الحرّة :

قال المسعودي : وكانت وقعة عظيمة ، قتل فيها خلق كثير من الناس ، من بني هاشم وسائر قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس. فممّن قتل من آل أبي طالب : اثنان : جعفر بن محمّد بن علي (ابن الحنفية) وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب (كذا! وهو وهم) ومن بني هاشم : الفضل بن العباس بن ربيعة ، وحمزة بن عبد الله بن نوفل ، والعباس بن عتبة بن أبي لهب. ومن سائر قريش بضع وتسعون رجلا ، ومثلهم من الأنصار ، ومن سائر الناس ممّن أدركه الإحصاء : أربعة آلاف (٢).

ويبدو أنّ أقدم قائمة بتسميتهم هي قائمة الليثي العصفري البصري (م ٢٤٠ ه‍) وهذا بدأ ببني هاشم وبدأ منهم بعبد الله بن جعفر كما مرّ ، وهو وهم ، ثمّ سمّى سائر قريش حتّى قال : فجميع من أصيب من قريش سبعة وتسعون رجلا ، ثمّ سمّى الأوس ثمّ الخزرج حتّى قال : فجميع من اصيب من الأنصار مئة وثلاثة وسبعون رجلا! وجميع من اصيب من قريش والأنصار : نحو ثلاثمئة رجل (٣) واكتفى بهذا.

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٢١٥.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٦٩ ـ ٧٠.

(٣) تاريخ ابن الخياط : ١٥٠ ـ ١٥٥.

٢٥٢

وزاد المسعودي ثانيا عن الواقدي قال : قتل عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري الأوسي في عدّة من المهاجرين والأنصار وأبنائهم ومواليهم وحلفائهم وغيرهم من قريش نحو من سبعمئة رجل ، ومن سائر الناس من الرجال والنساء والصبيان! نحو من عشرة آلاف ... فكان ذلك من أعظم الأحداث في الإسلام وأجلّها وأفضعها رزءا بعد قتل الحسين بن عليّ عليه‌السلام (١).

وقال الدينوري : فبلغ عدة قتلى الحرّة يومئذ من قريش والمهاجرين والأنصار ووجوه الناس ألفا وسبعمئة ، ومن سائر الناس عشرة آلاف ، سوى النساء والصبيان (٢).

وقال ثانيا : وذكروا أنه قتل يوم الحرّة من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمانون رجلا حتّى لم يبق بدري منهم بعد ذلك أبدا ، وقتل من قريش والأنصار سبعمئة ، ومن سائر الناس من التابعين والعرب والموالي عشرة آلاف (٣).

وقال ثالثا : قال الزهري : بلغ القتلى يوم الحرّة من قريش والأنصار ومهاجرة العرب ووجوه الناس سبعمئة ، ومن سائر الناس من الأخلاط والموالي والعبيد عشرة آلاف ، واصيب نساء وصبيان. وقتل بها من أصحاب النبيّ ثمانون رجلا ولم يبق بدريّ بعد ذلك. وكان قدومهم المدينة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين ، فانتهبوها ثلاثا حتّى رأوا هلال المحرم فأمسكوا (٤).

وقال رابعا : عن محمّد بن عمرو بن حزم : قتل بضعة وسبعون رجلا من قريش منهم ابنان لعبد الله بن جعفر ، وبضعة وسبعون رجلا من الأنصار

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٢٦٤.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ٢٦٥.

(٣) الإمامة والسياسة ١ : ٢١٦.

(٤) الإمامة والسياسة ١ : ٢٢٠ ، وعن الزهري كذلك في تاريخ ابن الوردي ١ : ١٦٥.

٢٥٣

منهم خمسة أو أربعة من صلب زيد بن ثابت الأنصاري ، ومن سائر الناس نحو من أربعة آلاف (١) والأخير أولى.

وفي الجزري : كان في من قتل يوم الحرّة : ابنان لزينب بنت أبي سلمة المخزومية (بنت امّ سلمة) فحملا مقتولين فوضعا بين يديها ، فاسترجعت وقالت : والله إنّ المصيبة فيهما عليّ لكبيرة ، وهي عليّ في هذا أكبر من ذاك ؛ لأنّه جلس في بيته فدخل عليه فقتل مظلوما! وأمّا الآخر فإنّه بسط يده وقاتل ، فلا أدري على ما هو (٢)؟

وقالوا : لقد مكث النوح على أهل الحرّة في الدور سنة لا يهدؤون! وقال الأعرج : كان الناس قبل الحرّة لا يلبسون المصبوغ (الأسود) من الثياب فلمّا قتل الناس بالحرّة استحبّوا أن يلبسوها (٣).

كتاب ابن عقبة إلى ابن معاوية :

مرّ عن الدينوري أنّه خالف المعروف في تسمية قتال أهل المدينة بالحرّة ، فلم يذكر في الحرّة إلّا نزول جيش الشام ، ثمّ إحاطتهم بخندق المدينة ثمّ اقتحامه بدلالة رجل من بني حارثة ، وانفرد ـ فيما نجد ـ بذكر كتاب لمسلم المرّي إلى أميره يزيد مع هذا الرجل الحارثي ، وفيه أيضا لم يذكر إلّا مثل ذلك : «لعبد الله يزيد بن معاوية أمير المؤمنين! من مسلم بن عقبة ، سلام عليك يا أمير المؤمنين! ورحمة الله وبركاته ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد تولّي الله حفظ أمير المؤمنين! والكفاية له : فإنّي اخبر أمير المؤمنين! أبقاه الله :

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١٠.

(٢) عنه في قاموس الرجال ١٢ : ٢٦١ برقم ١١٣ ، وتحريفه في تاريخ خليفة : ١٤٩.

(٣) الإمامة والسياسة ١ : ٢٢٠.

٢٥٤

أنّي خرجت من دمشق ونحن على التعبئة التي رأى أمير المؤمنين! يوم فارقنا بالعافية ، فلقينا أهل بيت أمير المؤمنين! بوادي القرى فرجع معنا مروان بن الحكم ، وكان لنا عونا على عدوّنا. وإنّا انتهينا إلى المدينة فإذا أهلها خندقوا عليها الخنادق ، وأقاموا على أنقابها الرجال بالسلاح ، وأدخلوا ماشيتهم وما يحتاجون لحصارهم سنة! فيما يقولون.

وإنّا أعذرنا إليهم وأخبرناهم بعهد أمير المؤمنين! وما بذل لهم ، فأبوا ، ففرّقت أصحابي على أفواه الخنادق : فولّيت الحصين بن نمير ناحية الذناب وما والاها ، ووجّهت جيش دلجة على الموالي (كذا) إلى ناحية بني سلمة ، ووجّهت عبد الله ابن مسعدة إلى ناحية بقيع الغرقد ، وكنت ـ ومن معي من قوّاد أمير المؤمنين ورجاله في وجوه بني حارثة (ثمّ) بطريق فتحه لنا رجل منهم بما دعاه مروان بن الحكم إلى صنيع أمير المؤمنين! وما تضمّن له عنه من قرب المكانة وجزيل العطاء وإيجاب الحقّ وقضاء الذّمام ، وقد بعثت به إلى أمير المؤمنين! وأرجو من الله أن يلهم خليفته وعبده عرفان ما أولى من الصنع وأسدى من الفضل! وكان من محمود مقام مروان بن الحكم وجميل مشهده وسديد بأسه وعظيم نكايته لعدوّ أمير المؤمنين! ما لا إخال ذلك ضائعا عند إمام المسلمين وخليفة ربّ العالمين إن شاء الله! فأدخلنا الخيل عليهم حين ارتفع النهار من ناحية بني عبد الأشهل ... وسلّم الله رجال أمير المؤمنين! فلم يصب أحد منهم بمكروه! ولم يقم لهم عدوّهم من ساعات نهارهم أربع ساعات. فما صلّيت الظهر ـ أصلح الله أمير المؤمنين ـ إلّا في مسجدهم! بعد القتل الذريع والانتهاب العظيم! وأوقعنا بهم السيوف وقتلنا من أشرف لنا منهم! وأتبعنا مدبرهم! وأجهزنا على جريحهم! وانتهبناهم ثلاثا كما قال أمير المؤمنين! أعزّ الله نصره. وجعلت دور بني الشهيد المظلوم عثمان بن عفّان في حرز وأمان!

٢٥٥

فالحمد لله الذي شفى صدري من قتل أهل الخلاف القديم والنفاق العظيم! فطالما عتوا وقديما ما طغوا.

وكتبت إلى أمير المؤمنين! وأنا في منزل سعيد بن العاص مدنفا مريضا ما أراني إلّا لما بي ، وما ابالي متى متّ بعد يومي هذا! وكتب لهلال المحرم سنة ثلاث وستين».

جاءه الكتاب وعبد الله بن جعفر لا زال عنده بدمشق ، فأرسل إليه وعنده ولده معاوية بن يزيد فأقرأهما الكتاب ، فاسترجع ابن جعفر وأكثر ، فقال له يزيد : ألم اجبك إلى ما طلبت وأسعفتك فيما سألت ، فبذلت لهم العطاء وأجزلت لهم الإحسان ، وأعطيت العهود والمواثيق على ذلك؟!

فقال عبد الله بن جعفر : فمن هنا استرجعت وتأسّفت عليهم إذ اختاروا البلاء على العافية والفاقة على النعمة ، ورضوا بالحرمان دون العطاء!

وبكى ابنه معاوية فقال له : وما بكاؤك يا بنيّ؟! قال : أبكي على من قتل من قريش! وإنّما قتلنا بهم أنفسنا! فقال يزيد : هو ذاك قتلت بهم نفسي وشفيتها (١)!

أخذه البيعة ليزيد :

روى خليفة قال : ثمّ دعا الناس الباقين إلى البيعة على أنّهم خول ليزيد بن معاوية! يحكم في أموالهم وأهليهم ودمائهم ما شاء! حتّى أتي بعبد الله بن زمعة (القرشي الأسدي من قوم ابن الزبير) وكان من قبل من أصفياء أصدقاء يزيد ، فقال له المرّي : بايع على أنّك خول لأمير المؤمنين! يحكم في مالك وأهلك ودمك! قال : ابايعك على أنّي ابن عمّ أمير المؤمنين! يحكم في دمي وأهلي

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٢١٧ ، ٢١٨.

٢٥٦

ومالي! قال : اضربوا عنقه! وكان مروان حاضرا فوثب وضمه إليه وقال لمسلم : يبايعك على ما أحببت! قال : لا والله! لا أقيلها إيّاه أبدا ، ثمّ قال لجلاوزته : إن تنحّى مروان وإلّا فاقتلوهما جميعا! فتركه مروان فضربوا عنقه!

ثمّ أتي بابنه يزيد بن عبد الله بن زمعة (وكان عبد الله زوج زينب بنت امّ سلمة زوج النبيّ ، فيزيد ابن بنتها) فقال له مسلم : بايع وقال : ابايعك على كتاب الله وسنّة نبيّه! فأمر بقتله! فقتلوه (١)!

وعاد بنو امية إلى المدينة. وقال ابن قتيبة : وانتقل مسلم من منزله (بالحرّة) إلى قصر بني عامر في دومة (من المدينة) ودعا من بقي من أهل المدينة للبيعة (٢) وكان بنو امية أول من دعاهم إلى بيعة يزيد ، وأوّلهم مروان بن الحكم ، ثمّ سائر أكابرهم (٣).

وأتي بعمرو بن عثمان بن عفّان (وكان كاظما غيظه عليه لوفائه بحلفه لأهل المدينة) ولا يعرفه من حضره من أهل الشام ، فقال لهم : تعرفون هذا؟ قالوا : لا ، قال : هذا الخبيث ابن الطيّب : هذا عمرو بن عثمان أمير المؤمنين! ثمّ قال له : هيه يا عمرو ؛ إذا ظهر أهل المدينة قلت : أنا رجل منكم! وإن ظهر أهل الشام قلت : أنا ابن أمير المؤمنين عثمان! (وكانت امّ عمرو دوسية) فقال : وإن امّ هذا كانت تدخل الجعل في فيها! ثمّ تقول لأبيه : يا أمير المؤمنين حاجيتك! ما في فيّ؟ وفي فيها ما أساءها! ثمّ أمر مسلم أن تنتف لحية عمرو فنتفوها! ثمّ خلّى سبيله (٤).

__________________

(١) تاريخ خليفة بن الخياط الأموي الهوى : ١٤٩.

(٢) الإمامة والسياسة ٢ : ١٠.

(٣) الإمامة والسياسة ١ : ٢١٤.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٤٩٤.

٢٥٧

قال ابن قتيبة : بايع عمرو بن عثمان ثمّ ذهب إلى امّ سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (فكانت حيّة يومئذ) وقال لها : أرسلي معي ابن بنتك يزيد بن عبد الله بن زمعة (القرشي الأسدي وكأنّه كان لاجئا مستجيرا بجدّته امّ سلمة) فجاء به إلى مسلم المرّي.

فلمّا تقدّم يزيد قال له مسلم : تبايع لعبد الله يزيد أمير المؤمنين! على أنّكم ممّا أفاء الله عليه بأسياف المسلمين! خول له فإن شاء وهب وإن شاء أعتق وإن شاء استرق! فقال يزيد : لأنا أقرب إلى أمير المؤمنين منك! فقال مسلم : والله لا تستقيلها أبدا!

وكان مسلم قد أكرم عمرو بن عثمان هذه المرّة فأجلسه معه على سريره فقال لمسلم : أنشدك الله! فإنّي أخذته من امّ سلمة بعهد الله وميثاقه أن أردّه عليها! فركضه مسلم برجله فرماه من سريره! وأمر بقتل يزيد (١).

ولعلّ مروان كان حاضرا فوثب وضمّه إليه فكان ما مرّ من الخبر السابق.

ثمّ اتي بمعقل بن سنان الأشجعي حامل لوائهم يوم فتح مكّة ، وكان معقل على الاستراحة إلى مسلم المرّي قد طعن بعض الطعن على يزيد قبل هذا ، فلمّا أدخل عليه قال له : يا معقل أعطشت؟ قال : نعم ، أصلح الله الأمير! قال لهم : حيسوا له شربة من سويق اللوز الذي زوّدنا به أمير المؤمنين! فلمّا شربها قال له : رويت؟ قال : نعم ، قال مسلم : أما والله لا تبولها أبدا! ما كنت لأدعك بعد كلام سمعته منك تطعن به على إمامك ، فقدّم فضربت عنقه (٢).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١٠.

(٢) وقال ثانيا : أتاه مئة رجل من قومه (أشجع) وقالوا له : اذهب بنا إلى الأمير نبايعه. قال : قد قلت له قولا أتخوّف منه! قالوا : لا والله لا يصل إليك أبدا! فلمّا بلغوا باب قصره

٢٥٨

ثمّ اتي بعبد الله بن الحارث مغلولا ، فقال له مسلم : أنت القائل : اقتلوا سبعة عشر رجلا من بني اميّة لا تروا شرّا أبدا! قال : قد قلتها ، ولكن لا يسمع لأسير أمر ، أرسل يدي وقد برئت منّي الذمة ، إنّما نزلت بعهد الله وميثاقه ، وايم الله لو أطاعوني وقبلوا منّي ما أشرت به عليهم ما تحكّمت أنت فيهم أبدا! فأمر به فضربت عنقه (١).

ثمّ أمر بمحمّد بن أبي الجهم وجماعة من وجوه قريش والأنصار من خيار الصحابة والتابعين ... فجعل مروان يعتذر إلى القرشيين منهم يقول : والله لقد أساءني قتل من قتل منكم!

فقالت له قريش : أنت والله الذي قتلتنا ، ما عذرك الله والناس ، لقد خرجت من عندنا وقد حلفت لنا عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لتردّنهم عنّا فإن لم تستطع لتمضينّ ولا ترجع معهم ، فرجعت ودللت على العورة وأعنت على الهلكة ، فالله لك بالجزاء.

فقال مروان للمرّي : قد والله شفيتني من دماء هؤلاء القوم إلّا ما كان من قريش! فإنّك أفنيتها وأثخنتها! فقال مسلم : والله لا أعلم عند أحد غشّا لأمير المؤمنين إلّا سألت الله أن يسقيني دمه! فقال مروان : إنّ عند أمير المؤمنين! عفوا لهم وحلما عنهم ليس عندك (٢)!

__________________

أدخلوا معقلا وأغلقوا الباب دون قومه فحبسوهم خلفه. ثمّ ساق الخبر نحوا ممّا مرّ وفيه :

وكانت عليه جبة فجعل يمزّقها لئلّا يلبسوها! فيعلم أنّ الفصل في المحرم لسنة (٦٣) لم يكن صيفا قائضا وحارّا.

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٢١٤ ، ونسبها في ٢ : ١٠ إلى محمّد بن أبي الجهم.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ٢١٥.

٢٥٩

وفي اليعقوبي : ثمّ أخذ الناس على أن يبايعوا على أنّهم عبيد يزيد بن معاوية ، فكان الرجل من قريش يؤتى به فيقال له : بايع أنك عبد قنّ ليزيد ، فيقول : لا. فتضرب عنقه (١).

وقال المسعودي : بايع من بقي من أهلها على أنهم قنّ ليزيد! والقنّ : العبد الذي ملك أبواه. والذي ملك في نفسه دون أبويه فهو عبد مملكة (٢) وقال : وبايع الناس على أنهم عبيد ليزيد ، ومن أبى ذلك أمرّ على السيف (٣).

الإمام السجاد ويزيد :

قال ابن قتيبة : لم يكن أحد من بني هاشم نصب للحرب ، ولزموا بيوتهم فسلموا ، إلّا ثلاثة منهم تعرضوا للقتال فأصيبوا.

وقبل أن يرتحل مسلم بن عقبة عن المدينة (لشهر صفر) سأل عن علي بن الحسين عليه‌السلام أحاضر هو؟ فقيل : نعم (فقيل لعليّ) فأتاه عليّ بن الحسين مع ابنيه (؟) فرحّب وسهّل ، وقرّبهم ، وقال : إنّ أمير المؤمنين! أوصاني بك.

فقال عليّ بن الحسين : وصله الله وأحسن جزاءه! ثمّ انصرف عنه (٤).

ولم يتحقق اليعقوبي في النقل فقال : أتاه عليّ بن الحسين عليهما‌السلام فقال : علام يريد يزيد (كذا بلا لقب) أن ابايعك؟! قال : على أنّك أخ وابن عمّ! فقال : وإن أردت أن ابايعك على أني عبد قنّ فعلت! فقال : ما اجشّمك هذا! فلمّا رأى

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥٠ ـ ٢٥١.

(٢) التنبيه والإشراف : ٢٦٤.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٧٠.

(٤) الإمامة والسياسة ١ : ٢١٨.

٢٦٠