موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

لم يزالوا سامعين مطيعين مناصحين ، وأنا مبلّغ ذلك صاحبي! ومعلّمه طاعتكم وجهادكم وعدوّكم حتّى كان الله الغالب على أمره.

وقد كان من رأيكم وما أشرتم به عليّ ما قد علمتم ، وقد رأيت أن أخرج الساعة ... وجزاكم الله خيرا ، وليأخذ كلّ امرئ منكم حيث أحبّ.

ثمّ خلّى القصر وخرج من نحو درب الروميّين إلى دار أبي موسى الأشعري!

وبعده فتح أصحابه باب القصر وطلبوا الأمان فآمنهم على أن يبايعوه فخرجوا وبايعوه ، فدخل المختار القصر ليلا فبات فيه (١).

خطبة المختار وبيعته وعطاؤه :

وأصبح الناس في المسجد ، وخرج المختار إليهم فصعد المنبر ، فقال : الحمد لله الذي وعد وليّه النصر وعدوّه الخسر ، وجعله فيه إلى آخر الدهر ، وعدا مفعولا وقضاء مقضيّا وقد خاب من افترى!

أيّها الناس ، إنّه رفعت لنا راية ومدّت لنا غاية ، فقيل لنا في الراية : أن ارفعوها ولا تضعوها ، وفي الغاية : أن اجروا إليها ولا تعدوها. فسمعنا دعوة الداعي ومقالة الواعي ، فكم من ناع وناعية لقتلى في الواعية! وبعدا لمن طغى ، وأدبر وعصى ، وكذّب وتولّى.

ألا فادخلوا أيّها الناس بايعوا بيعة الهدى ، فلا ـ والذي جعل السماء سقفا مكفوفا والأرض فجاجا سبلا ـ ما بايعتم بعد بيعة عليّ بن أبي طالب وآل عليّ بيعة أهدى منها! ثمّ سكت ونزل.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٣١ عن أبي مخنف.

٣٦١

ودخل دار الإمارة ودخل عليه الناس وأشرافهم ، فبسط لهم يده فبايعوه وهو يقول لهم :

تبايعوني على كتاب الله وسنّة نبيّه والطلب بدماء «أهل البيت» وجهاد المحلّين ، والدفع عن «الضعفاء» وقتال من قاتلنا وسلم من سالمنا والوفاء ببيعتنا لا نقيلكم ولا نستقيلكم! فإن قال الرجل : نعم ، بايعه. وجعل المختار يمنّي الناس ويستجرّ مودّتهم ويحسن سيرته جهده!

وأصاب المختار في بيت مال الكوفة تسعة آلاف ألف (ملايين) درهما ، وكان أصحابه الذين قاتل بهم وحصر ابن مطيع في القصر ثلاثة آلاف وثمانمئة رجل ، فأعطى كلّ رجل خمسمئة درهم ، وبعد ما أحاط بالقصر أتاه من أصحابه (الذين بايعوه من قبل) ستة آلاف! فأقاموا معه تلك الأيام الثلاثة حتّى دخل القصر ، فأعطى كلّ واحد منهم مئتين مئتين ، واستقبل الناس بخير ومنّاهم العدل وحسن السيرة.

واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل الشاكري (الهمداني) وعلى حرسه أبا عمرة كيسان مولى بني عرينة. وجاءه ابن كامل فأخبره أن ابن مطيع في دار أبي موسى الأشعري ، فلما أمسى المختار بعث إلى ابن مطيع بمئة ألف درهم! وقال له : إنّي قد شعرت بمكانك ، وقد ظننت أنّه لم يمنعك من الخروج إلّا أنّه ليس في يديك ما يقويك على الخروج فتجهّز بهذه واخرج (١).

وولّى على توابع الكوفة :

كان عبد الله بن الزبير ولّى على الموصل محمّد بن الأشعث بن قيس الكندي

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٣٢ ـ ٣٣ عن أبي مخنف.

٣٦٢

في إمارة إبراهيم بن محمّد بن طلحة التيمي ، وعبد الله بن يزيد الأنصاري على الكوفة ، وابن الأشعث مستقلّا عنهما ، ولكنّه في إمارة ابن مطيع أمره ابن الزبير بالسمع والطاعة لابن مطيع ومكاتبته ، غير أنّ ابن مطيع لا يقدر على عزله. فبعث المختار على الموصل عبد الرحمان بن سعيد بن قيس الهمداني ، فلمّا قدم هذا من قبل المختار أميرا على الموصل تنحّى له ابن الأشعث مع أشراف قومه إلى تكريت ، ثمّ شخص إلى الكوفة فبايع المختار ودخل فيما دخل فيه أهل بلده!

وكان سعد بن حذيفة بن اليمان بالمدائن فبعثه على حلوان وأرسل إليه معه ألفي فارس ، وجعل له في كلّ شهر ألف درهم ، وأمره بإقامة الطرق وقتال الأكراد المتمرّدين في الطرق ، ثمّ كتب إلى عمّاله على الجبال يأمرهم أن يحملوا أموال كورهم إلى سعد بن حذيفة.

وبعث حبيب بن منقذ الثوري الهمداني على بهقباد الأسفل ، ومحمّد بن كعب بن قرظة على بهقباد الأوسط ، وقدامة النصري مولى ثقيف على بهقباد الأعلى ، وبعث محمّد بن عمير بن عطارد على آذربايجان ، وعقد لعمّ إبراهيم : عبد الله بن الحارث النخعي أخ الأشتر على أرمينية (١).

ومدحه الشعراء :

كان عبد الله بن همّام الجشمي من هوازن بالكوفة عثمانيّ الرأي والهوى وشاعرا ، وسمع يوما أبا عمرة كيسان مولى عرينة يعيّر عثمان بن عفّان وينال منه ، فرفع عليه السوط وقنّعه بها ، فلما أصبح اليوم رئيس حرس المختار على رأسه

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٣٤ عن أبي مخنف.

٣٦٣

اعتزل ابن همّام ، بل اختفى حتّى طلب الأمان له عبد الله بن شدّاد الجشمي ، فآمنه المختار ، فجاء إليه بقصيدة مديح قال فيها :

وفي ليلة المختار ما يذهل الفتى

ويلهيه عن رود الشباب شموع

دعا «يالثارات الحسين» فأقبلت

كتائب من «همدان» بعد هزيع

ومن «مذحج» جاء الرئيس «ابن مالك»

يقود جموعا عبّيت بجموع

ومن «أسد» وافى «يزيد» لنصره

بكلّ فتى حامى الذمار منيع

وجاء «نعيم» خير «شيبان» كلّها

بأمر لدى الهيجاء أحدّ جميع

وما «ابن شميط» إذ يحرّض قومه

هناك بمخذول ولا بمضيع

ولا «قيس نهد» لا ولا «ابن هوازن»

وكلّ أخو إخباتة وخشوع

وسار «أبو النعمان» لله سعيه

إلى «ابن إياس» مصحرا لوقوع

بخيل عليها يوم هيجا دروعها

واخرى حسورا غير ذات دروع

فكرّ الخيول كرة ثقفتهم

وشدّ بأولاها على ابن مطيع

فحوصر في «دار الإمارة» بائيا

بذلّ وإرغام له وخضوع

فمنّ وزير «ابن الوصيّ» عليهم

وكان لهم في الناس خير شفيع

وآب الهدى حقّا إلى مستقرّه

بخير إياب آبه ، ورجوع

 «إلى الهاشميّ المهتدي المهتدى به»

فنحن له من سامع ومطيع

فقال المختار لأنصاره : قد أثنى عليكم وأحسن الثناء فأحسنوا له الجزاء.

فقال يزيد بن أنس الأسدي : إن كان أراد بقوله ثواب الله فما عند الله خير له ، وإن كان إنّما اعترى أموالنا بهذا القول فو الله ما في أموالنا ما يسعه! قد كانت بقيت من عطائي بقيّة قوّيت بها إخواني. وقال أحمر بن شميط الأحمسي لابن همّام : يابن همّام! إن كنت أردت بهذا القول وجه الله فاطلب ثوابك من الله ، وإن كنت اعتريت به رضا الناس وطلب أموالهم فاكدم الجندل! فو الله ما من قال قولا لغير الله وفي غير ذات الله بأهل أن ينحل ولا يوصل!

٣٦٤

وكان قيس بن طهفة النهدي صهرا للأشعث بن قيس حاضرا فقال لابن همّام : فإنّ لك عندي فرسا ومطرفا ، وكذلك قال له عبد الله بن شدّاد الجشمي الذي استأمن له.

وقال المختار لهم : إذا قيل لكم خير فاقبلوه ، وإن قدرتم على مكافأة فافعلوه وإن لم تقدروا فتنصّلوا ، واتّقوا لسان الشاعر فإن شرّه حاضر وقوله فاجر! وسعيه بائر وهو بكم غدا غادر! وقد آمنّاه وأجرناه.

ثمّ قام إبراهيم النخعي فانصرف بالشاعر إلى منزله وأعطاه فرسا ومطرفا وألف درهم (١)!

وكان المختار أوّل أمره يجلس للناس ضحى وعصرا يقضي بينهم ، ثمّ استقضى شريح القاضي ، فأخذ أنصار المختار يذمّونه ويسندون إليه : أنّه عثماني الرأي والهوى ، فقد عزله عليّ عليه‌السلام عن القضاء ، وهو ممّن شهد على حجر بن عدي ، ولم يبلّغ عن هانئ بن عروة ما أرسله به ، فلمّا سمع شريح بذلك تمارض (٢).

وروى المعتزلي : أنّ المختار قال لشريح : ماذا قال لك أمير المؤمنين يوم كذا؟ وكان قد قضى قضاء نقمها عليه عليه‌السلام ، فقال له : والله لأنفينّك إلى بانقيا (من قرى اليهود على فرات الكوفة) شهرين تقضي بين اليهود! ثمّ قتل عليه‌السلام قبل أن يفعل ذلك. فقال شريح للمختار : إنّه قال لي كذا ، فقال له المختار : لا والله لا تقعد حتّى تخرج إلى بانقيا تقضي بين اليهود! فسيّره إليها ، فقضى بين اليهود شهرين (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٣٥ ـ ٣٧ عن أبي مخنف.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ٣٥ عن أبي مخنف.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٤ : ٩٨ عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي.

٣٦٥

شرحبيل الهمداني إلى المدينة :

مرّ أنّ المختار لما اطّلع على ملجأ ابن مطيع العدوي الأمير الزبيريّ على الكوفة في دار أبي موسى الأشعري ، جهّزه بعشرة آلاف درهم ليخرج منها ، وبذلك لم يهدم الجسر بينه وبين ابن الزبير نفسه.

واخبر المختار أنّ عبد الملك بن مروان قد بعث عبد الملك بن الحارث الأموي إلى وادي القرى من الحجاز ، فرأى أن يظاهر لابن الزبير بمناصرته فكتب إليه : أمّا بعد ، فقد بلغني أنّ عبد الملك بن مروان قد بعث إليك جيشا ، فإن أحببت أن أمدّك بمدد أمددتك.

فكتب ابن الزبير إليه : أمّا بعد ، فإن كنت على طاعتي .. فإذا أتتني بيعتك صدّقت مقالك وكففت جنودي عن بلادك! وعجّل عليّ بتسريح الجيش الذي أنت باعثه ، فلست أكره أن تبعث الجيش إلى بلادي ، ومرهم فليسيروا إلى من بوادي القرى من جند ابن مروان فليقاتلوهم. والسلام.

فدعا المختار شرحبيل بن ورس الهمداني وجعل معه سبعمئة رجل من العرب وألفين وثلاثمئة تمام الثلاثة آلاف من الموالي! وقال له : سر إلى المدينة ، فإذا دخلتها فاكتب إليّ بذلك حتّى يأتيك أمري!

فروى أبو مخنف عن إسماعيل بن نعيم وكان معهم قال : كان المختار يريد أن يبعث أميرا على المدينة من قبله ويأمر ابن ورس أن يمضي إلى مكّة فيحاصر ابن الزبير ويقاتله!

وخاف ابن الزبير من ذلك فبعث إلى المدينة عباس بن سهل بن سعد الساعدي في ألفين وأمره أن يستنفر من قدر عليه من الأعراب في طريقه (حتّى يتكامل ثلاثة آلاف) وقال له : إن رأيت القوم على طاعتي فاقبل منهم ، وإلّا فكايدهم حتّى تهلكهم!

٣٦٦

وأقبل ابن ورس الهمداني حتّى انتهى إلى ماء الرقيم (؟) وقد هلكوا من قلّة الزاد معهم. وكأن ابن ورس أخبر بقدوم جند ابن الزبير إليهم فعبّأ أصحابه فجعل لخيله ميمنة وعليها سلمان بن حمير الثوري الهمداني وميسرة فحسب وعليها عياش بن جعدة الجدلي. وأقبل ابن سهل حتّى لقى ابن ورس بالرقيم وقد تعبّأ ، وجاء عباس في أصحابه وهم منقطعون إعياء على غير تعبئة ، فوجد ابن ورس على الماء وقد عبّأ أصحابه تعبئة القتال ، فدنا فسلّم عليه ثمّ عرض عليه أن يخلو معه فخلا به وقال له : رحمك الله ألست في طاعة ابن الزبير؟ قال ابن ورس : بلى! قال عباس : فإن كنت في طاعة ابن الزبير فقد أمرني أن أسير بك وبأصحابك إلى عدوّنا الذي بوادي القرى ، فإن ابن الزبير حدّثني أنّه إنّما اشخصكم صاحبكم إليهم.

فقال ابن ورس : ما امرت بطاعتك ، وما أنا بمتّبعك دون أن أدخل المدينة ثمّ اكتب إلى صاحبي فيأمرني بأمره! فقال عباس : فرأيك فاعمل بما بدالك ، فأمّا أنا فإنّي سائر إلى وادي القرى!

وحيث رأى قلّة زادهم بعث عباس إلى كلّ عشرة منهم شاة ، وبعث إلى ابن ورس بنوق وجزر فأهداها له وبعث بدقيق وغنم مسلّخة ، فذبحوا واشتغلوا بها واختلطوا على الماء وتركوا تبعئتهم واستأمنوا.

ولمّا رأى عباس ما هم فيه من الانشغال ، جمع من رجاله ألفا من ذوي البأس والنجدة ثمّ أقبل بهم إلى فسطاط ابن ورس! فلمّا رآهم ابن ورس مقبلين إليه أخذ ينادي في أصحابه : يا شرطة الله! قاتلوا المحلّين أولياء الشيطان الرجيم وقد غدروا وفجروا! فلم يتوافى إليه منهم حتّى مئة رجل! بل بقي في سبعين من أهل الحفاظ من أصحابه فقتلوا. وانصرف نحو من ثلاثمئة رجل مع سلمان بن حمير الهمداني وعياش بن جعدة الجدلي ، ثمّ رفع العباس راية أمان لأصحاب ابن ورس ، فأتوها إلّا اولئك الأربعمئة تقريبا ، فأمر بقتلهم جميعا!

٣٦٧

فقتلوا إلّا نحوا من مئتي رجل كره بعض من دفعوا إليهم لقتلهم فخلوا سبيلهم فرجعوا فماتوا في الطريق جوعا وعطشا!

ورجع من رجع منهم إلى المختار فأخبروه خبرهم فقام خطيبا فقال : ألا إنّ الفجّار الأشرار قتلوا الأبرار الأخيار ، وقد كان أمرا مأتيّا وقضاء مقضيّا.

ثمّ لم يقطع الطمع وأراد القود فكتب إلى ابن الحنفية كتابا قال فيه : بسم الله الرحمنِ الرحیم ، أمّا بعد ، فإنّي كنت بعثت إليك جندا! ليذلّوا لك الأعداء! وليحوزوا لك البلاد! فساروا إليك حتّى إذا أظلوا على طيبة لقيهم جند الملحد! فخدعوهم بالله وغرّوهم بعهد الله ، فلمّا اطمأنّوا إليهم ووثقوا بذلك منهم وثبوا عليهم فقتلوهم. فإن رأيت أن أبعث إلى أهل المدينة من قبلي جيشا كثيفا وتبعث إليهم من قبلك رسلا ليعلم أهل المدينة أنّي في طاعتك وإنّما بعثت الجند إليهم عن أمرك! فافعل ، فإنّك ستجد عظمهم أعرف بحقّكم وأرأف بكم «أهل البيت» منهم بآل الزبير الظلمة الملحدين ، والسلام عليك. ثمّ دعا صالح بن مسعود الخثعمي فبعث الكتاب معه.

فكتب ابن الحنفية إليه : أمّا بعد ، فإنّ كتابك لمّا بلغني قرأته وفهمت تعظيمك لحقّي وما تنوي من سروري. وإنّ أحبّ الأمور كلّها إليّ ما اطيع الله فيه ، فأطع الله ما استطعت فيما أعلنت وأسررت. واعلم أنّي لو أردت لوجدت الناس إليّ سراعا والأعوان لي كثيرا ، ولكنّي أعتزلهم وأصبر حتّى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. وناوله لصالح بن مسعود الخثعمي رسول المختار وقال له : قل له فليتّق الله وليكفف عن الدماء!

فلمّا قدم صالح الخثعمي بكتاب العبد الصالح إلى المختار أظهر للناس أنّه قد أمره بأمر يجمع البرّ واليسر ويضرح الكفر والغدر (١) وحيث لم يحصل منه على مختاره انتهز الفرصة التالية لذلك.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٧٢ ـ ٧٥ عن أبي مخنف.

٣٦٨

فضيّق ابن الزبير على ابن الحنفية :

اعتزل ابن الحنفية تمرّد المدينة على يزيد وبني اميّة ، ولجأ إلى جوار بيت الله الحرام هو وأهله وبقايا بني هاشم ، وطمع ابن الزبير في بيعتهم له فكرهوا البيعة لمن لم تجتمع عليه الأمّة كما قالوا.

ولعلّ رسل ابن الزبير وعيونه أخبروه بأخبار المختار عن ابن الحنفية ورسله وكتبه واحتساب جيش المختار إلى تلك الديار على ابن الحنفية ، وعدم مقاطعته وتبرّيه من المختار جهارا ، بل مراجعة سبعة عشر رجلا من وجوه أهل الكوفة إلى ابن الحنفية دون ابن الزبير ؛ لذلك حبس ابن الحنفية ومن معه من أهل بيته واولئك السبعة عشر رجلا من وجوه أهل الكوفة ، في حظيرة زمزم ، وتوعّدهم بالقتل والإحراق! وأعطى الله عهدا إن لم يبايعوا أن ينفّذ فيهم ما توّعدهم به وضرب لهم أجلا لذلك ، وجعل عليهم حرّاسا يحرسونهم.

فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه : أن يبعث إلى المختار ومن بالكوفة رسولا يعلمهم حاله ومن معه وما توعّدهم به ابن الزبير. ونام الحرّاس على باب زمزم ، فكتب ابن الحنفية كتابا إلى المختار وأهل الكوفة يعلمهم حاله وحال من معه وما توعّدهم به ابن الزبير من القتل والحرق بالنار! ويسألهم أن لا يخذلوه ـ كما خذلوا الحسين وأهل بيته عليهم‌السلام ـ واختار لذلك ثلاثة نفر من الكوفيّين معه فأرسلهم بالكتاب في نومة الحرّاس.

وأفلت هؤلاء حتّى قدموا على المختار فدفعوا إليه الكتاب ، وحيث أضمر الكتاب السابق ولم يبده لهم أظهر هذا وقرأه عليهم مجتمعين وقال : هذا كتاب «مهديّكم وصريح أهل بيت نبيّكم» وقد تركوا محضورا عليهم كما يحظر على الغنم! ينتظرون القتل والتحريق بالنار في أناء الليل وتارات النهار! ولست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصرا مؤزّرا ، وإن لم اسرّب إليهم الخيل

٣٦٩

في إثر الخيل كالسيل يتلوه السيل ، حتّى يحلّ بابن الكاهليّة الويل! وإذن فقد ناصبه العداء علنا وجهارا.

ثمّ كتب إلى ابن الحنفية بتوجيه الجنود إليه ، وأرسله مع الطفيل بن عامر ومحمّد بن قيس.

ثمّ وجّه أبا عبد الله الجدلي في سبعين راكبا من أهل القوة ، ثمّ ألحقه عمير بن طارق في أربعين راكبا ، ثمّ يونس بن عمران في أربعين راكبا ، ثمّ وجّه ظبيان بن عمارة التميمي ومعه أربعمئة! ثمّ أبا المعتمر في مئة ، ثمّ هاني بن قيس في مئة. فمضى الجدلي حتّى نزل ذات عرق ، ثمّ لحقه عمير بن طارق في أربعين ، ويونس بن عمران في أربعين فتمّوا مئة وخمسين ، فسار بهم حتّى دخلوا المسجد الحرام وهم يحملون «الكافر كوبات» (١) وينادون : «يالثارات الحسين» حتّى انتهوا إلى زمزم.

هذا ، وقد بقي من أجلهم يومان وقد أعدّوا عليهم الحطب ليحرقوهم! فطردوا الحرس وكسروا أعواد زمزم ليخرجوهم. فقال ابن الزبير : أتحسبون أنّي مخلّ سبيلهم دون أن يبايع ويبايعوا! فأجابه الجدلي : إي وربّ الركن والمقام وربّ الحلّ والحرام لتخلينّ سبيله أو لنجالدنّك بأسيافنا جلادا يرتاب منه المبطلون! فقال ابن الزبير : والله ما هؤلاء إلّا أكلة رأس! والله لو أذنت لأصحابي ما مضت ساعة حتّى تقطف رؤوسهم! فقال قيس بن مالك : أما والله إنّي لأرجو إن رمت ذلك أن يوصل إليك قبل أن ترى فينا ما تحب!

ثمّ قدم أبو المعتمر في مئة ، وهانئ بن قيس في مئة ، وظبيان بن عمارة في مئتين ومعه أموال إلى ابن الحنفيّة فدخلوا المسجد وكبّروا ونادوا : «يالثارات الحسين» فلما رآهم ابن الزبير خافهم.

__________________

(١) كلمة مركبة من العربية : الكافر ، والفارسية : كوب : أي آلة ضرب الكفّار (المگوار).

٣٧٠

فأخرجوا ابن الحنفيّة ومن معه إلى «شعب عليّ» وهم يسبّون ابن الزبير ويستأذنون ابن الحنفيّة لحربه وهو يأبى عليهم ، حتّى اجتمع مع ابن الحنفيّة في الشعب أربعة آلاف رجل ، فقسّم ذلك المال فيهم (١).

ابن الزبير في اليعقوبي :

واختصر اليعقوبي الخبر فقال : وجّه إليهم المختار عبد الله الجدلي في أربعة آلاف راكب ، فقدم مكّة وكسر حجرة زمزم وقال لابن الحنفية : دعني وابن الزبير! فقال : لا استحلّ من قطع رحمه ما استحلّ منّي! وذكر عبد الله بن العباس مع أربعة وعشرين رجلا من بني هاشم في حجرة زمزم.

وقال : وتحامل ابن الزبير على بني هاشم تحاملا شديدا ونصب لهم العداوة والبغضاء حتّى بلغ ذلك منه أن ترك في خطبته الصلاة على محمد (وليس آل محمّد) فقيل له : لم تركت الصلاة على النبيّ؟! فقال : إنّ له اهيل سوء يشرئبّون لذكره ويرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به.

بل بلغ ابن الحنفية أنّ ابن الزبير قام خطيبا فنال من عليّ عليه‌السلام فدخل المسجد الحرام ومعه من يحمل رحلا وضعه له فقام عليه فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد ثمّ قال : شاهت الوجوه! يا معشر قريش! أيذكر عليّ بين أظهركم (بسوء) وأنتم تسمعون فلا تغضبون؟! ألا إن عليا كان سهما صائبا من مرامي الله لأعدائه ، يضرب وجوههم ويهوّعهم مآكلهم ويأخذ بحناجرهم! ألا وإنّا على نهج من حاله وليس علينا في مقادير الأمور حيلة (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٧٦ ـ ٧٧ عن أبي مخنف.

٣٧١

فبلغ قوله ابن الزبير فقال : هذا عذر بني الفواطم فما بال ابن «أمة» بني حنيفة! وبلغ ذلك محمّدا فقال : يا معشر قريش! وما يميّزني من بني الفواطم؟! أليست فاطمة ابنة رسول الله حليلة أبي وامّ إخوتي؟! أو ليست فاطمة بنت أسد بن هاشم جدّتي امّ أبي؟! أليست فاطمة بنت عمرو بن عائذ جدة أبي وامّ جدتي؟! أما والله لو لا خديجة بنت خويلد بن أسد لما تركت عظما في «أسد» إلّا هشمته! فإنّي «بتلك التي فيها العيوب بصير» (١).

ابن الزبير في المسعودي :

والمسعودي نقل عن كتاب النوفلي بسنده عن الديّال بن حرملة قال : كنت في من استنفرهم أبو عبد الله الجدلي من أهل الكوفة من قبل المختار ، فنفرنا معه في أربعة آلاف فارس ، وقبل دخول مكّة قال لنا أبو عبد الله : هذه خيل عظيمة وأخاف أن يبلغ ابن الزبير الخبر فيعجل على بني هاشم فيأتي عليهم! فانتدبوا معي. قال : فانتدبنا معه جريدة خيل في ثمانمئة فارس ، فما شعر ابن الزبير إلّا والرايات تخفق على رأسه! فجئنا إلى بني هاشم فإذا هم في الشعب (كذا) فاستخرجناهم ، فقال لنا ابن الحنفية : لا تقاتلوا إلّا من قاتلكم.

ثمّ نقل عن النوفلي بسنده عن حمّاد بن سلمة قال : كان عروة بن الزبير إذا جرى ذكر بني هاشم وحصرهم في الشعب (كذا) وجمعه لهم الحطب لتحريقهم ، يعذر أخاه ويقول : إنّه إنّما أراد إرهابهم ليدخلوا في طاعته كما فعل عمر بن الخطاب ببني هاشم لما تأخّروا عن بيعة أبي بكر ، فإنّه أحضر الحطب ليحرّق

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، والآية ٢٢٧ من سورة الشعراء.

٣٧٢

عليهم الدار (١) ثمّ علّق المسعودي عليه قال : وهذا خبر لا يحتمل ذكره هنا ، وقد أتينا على ذكره في كتابنا في مناقب «أهل البيت وأخبارهم» المترجم بكتاب «حدائق الأذهان».

قال : وخطب ابن الزبير فقال : قد بايعني الناس ولم يتخلّف عن بيعتي إلّا هذا الغلام (كذا!) محمّد بن الحنفيّة ، والموعد بيني وبينه أن تغرب الشمس ثمّ اضرم عليه داره نارا! فدخل ابن العباس على ابن الحنفيّة وقال له : يابن عم إنّي لا آمنه عليك فبايعه! فقال : سيمنعه عنّي حجاب قوي! فوافاهم أبو عبد الله الجدلي في خيله وقد كادت الشمس أن تغيب (٢) ممّا يدلّ على بيعة ابن عباس له! وأنّه لم يكن في الحصار خلافا لليعقوبي العباسي كما مرّ! يزعم إباءة البيعة لابن الزبير!

ثمّ نقل عن النميري البصري : امتناع ابن الزبير عن الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : لا يمنعني أن اصلّي عليه إلّا أن تشمخ رجال بآنافها! وحدّد المدّة فقال : خطب أربعين يوما (أو أربعين جمعة) لا يصلّي على النبيّ.

وفيه عنه عن سعيد بن جبير أنّ ابن الزبير قال لابن عباس : إنّي لأكتم بغضكم «أهل هذا البيت» منذ أربعين سنة!

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٨٦ من الطبعتين الأولى في الميمنيّة ، والثانية في دار السعادة لسنة (١٩٤٨ م) ، كما نقل المعتزلي عن مروج الذهب في شرح نهج البلاغة ٢٠ : ١٤٧ ووثّقه المحقّق المصري محمّد أبو الفضل إبراهيم عن الطبعتين السابقتين ، في حين تغيّرت العبارة في ط. يوسف أسعد داغر في بيروت لسنة (١٩٦٥ م) هكذا : كما ارهب بنو هاشم وجمع لهم الحطب لإحراقهم إذ هم أبوا البيعة فيما سلف! فهذا من موارد التحريف المعاصر في عصر النور!

(٢) مروج الذهب ٣ : ٧٦ ـ ٧٧.

٣٧٣

وفيه عن كتاب النوفلي قال : خطب ابن الزبير فنال من عليّ! فبلغ ذلك ابنه محمّد بن الحنفية فجاء ووضع له كرسي فعلاه وقال : يا معشر قريش! شاهت الوجوه! أينتقص عليّ وأنتم حضور! إنّ عليا كان سهما صائبا من مرامي الله على أعدائه ، يقتلهم لكفرهم ويهوّعهم مآكلهم ، فثقل عليهم فرموه بقرفة الأباطيل ... فقال ابن الزبير : عذرت بني الفواطم يتكلّمون فما بال «ابن الحنفية» فقال له محمّد : يابن امّ رومان! وما لي لا أتكلّم؟! أليست فاطمة ...

وفيه عنه أيضا بسنده قال : خطب ابن الزبير فقال : «ما بال أقوام يفتون في «المتعة» وينتقصون حواري الرسول وامّ المؤمنين عائشة! ما بالهم أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم» يعرّض بابن عباس وكان قد فقد بصره ويقوده غلامه ، فقال له : يا غلام اصمدني صمده فلما قاربه تمثّل :

قد أنصف القارة من راماها

إنّا إذا ما فئة نلقاها

 نردّ أولاها على اخراها

أمّا قولك في «المتعة» (يعني متعة الحجّ) فسل امّك تخبرك ؛ فإن أوّل متعة سطح مجمرها لمجمر سطع بين امّك وأبيك.

وأمّا قولك : «أم المؤمنين» فبنا سمّيت امّ المؤمنين وبنا ضرب عليها الحجاب!

وأمّا قولك : حواريّ رسول الله ، فقد لقيت أباك في الزحف وأنا مع إمام هدى ، فإن يكن على ما أقول فقد كفر بقتالنا! وإن يكن على ما تقول فقد كفر بهربه عنا!

فانقطع ابن الزبير ، ثمّ دخل على امّه أسماء بنت أبي بكر فسألها فقالت : صدق!

وفيه عنه أيضا بسنده عنها قالت : لمّا قدمنا في حجّة الوداع مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر من لم يكن معه هدي أن يحلّ ، فأحللت ولبست ثيابي وتطيّبت

٣٧٤

وجلست إلى جنب الزبير ، فقال : قومي عنّي أخاف أن أثب عليك! فهذا الذي أراد ابن عباس (١).

وهذا لا ينافي ما مرّ من استظهار أنّ ابن عباس كان قد بايع ابن الزبير كرها أو إكراها ، كما لا ينافي ذلك أن يضيق ابن الزبير به ذرعا من مجادلاته هذه بالحق فيحمله ذلك على إخراجه عن مكّة إلى الطائف إخراجا قبيحا ـ كما في اليعقوبي ـ وقال :

وكتب إليه ابن الحنفية : أمّا بعد ، فقد بلغني أنّ عبد الله بن الزبير سيّرك إلى الطائف. فرفع الله بك أجرا واحتطّ عنك وزرا. يابن عمّ ، إنّما يبتلى الصالحون ، وتعدّ الكرامة للأخيار ، ولو لم نؤجر إلّا فيما نحبّ وتحبّ لقلّ الأجر ، فاصبر فإن الله قد وعد الصابرين خيرا ، والسلام (٢).

واعتمد المسعودي هنا على خبر عمر بن شبّة النميري البصري بسنده عن سعيد بن جبير قال : وجرى بينهم (بينهما) خطب طويل فخرج ابن عباس من مكّة! خوفا على نفسه! فنزل الطائف حتّى توفى هناك (٣).

واليعقوبي وإن أعقب خبر إخراج ابن عباس لخبر إخراج ابن الحنفية إلى ناحية رضوى ، لكنّه لمّا أعقب ذلك بخبر رسالة ابن الحنفية إلى ابن عباس كأنّه سلّم بتأخّر إخراج ابن الحنفيّة ، وهو الصحيح ؛ لما سيأتي من إثارته للمختار على أخذ الثار من قتلة الحسين عليه‌السلام وهو بمكّة.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٧٩ ـ ٨٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٦٢.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٨٠.

٣٧٥

وقعة الموصل الأولى :

كان مروان ، أو ابنه عبد الملك ، قد جهّز ابن زياد بثمانين ألفا وجعل له ما غلب عليه في طريقه إلى العراق ، وأمره إذا ظفر بالكوفة أن ينهبها ثلاثة أيام ، كما فعل قبل يزيد بالمدينة!

وكانت قبائل قيس عيلان مع الضحّاك بن قيس الفهري ولمّا قاتل مروان وقتله مروان وهزم قيسا معه ، بقيت قيس مخالفة لمروان وعلى ابنه عبد الملك من بعده ، فلمّا فرغ ابن زياد من أمر التوابين بعين الوردة عاد مشتغلا بقبائل قيس عن العراق سنة تامّة! ثمّ وجّه خيله إلى الموصل.

وكان على الموصل من قبل المختار عبد الرحمن بن سعيد قيس الهمداني فلمّا وجّه ابن زياد خيله إليه انحاز إلى تكريت وكتب إلى المختار : أمّا بعد أيّها الأمير فإنّي اخبرك أنّ عبيد الله بن زياد قد دخل أرض الموصل ، وقد وجّه قبلي خيله ورجاله ، وأنّي انحزت إلى تكريت حتّى يأتيني رأيك وأمرك والسلام عليك.

فأجابه المختار : أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك وقد أصبت بانحيازك إلى تكريت ، فلا تبرحنّ مكانك حتّى يأتيك أمري إن شاء الله ، والسلام عليك.

ثمّ دعا يزيد بن أنس الأسدي فقال له : اخرج إلى الموصل حتّى تنزل بأدانيها. فقال له يزيد :

سرّح معي ثلاثة آلاف فارس انتخبهم ، وخلّني والثغر الذي أتوجّه إليه ، فإن احتجت إلى الرجال فسأكتب إليك. فقال المختار : فاخرج فانتخب من أحببت على اسم الله. فخرج وانتخب ثلاثة آلاف فارس ، فجعل على ربع المدينة النعمان بن عوف الأزدي ، وعلى ربع تميم وهمدان عاصم بن قيس الهمداني ، وعلى مذحج وأسد ورقاء بن عازب الأسدي ، وعلى ربع ربيعة وكندة سعرا الحنفي التميمي.

٣٧٦

ثمّ خرج من الكوفة وخرج المختار والناس يشايعونه إلى دير أبي موسى ثمّ قال له : إذا لقيت عدوّك فلا تناظرهم وإن أمكنتك الفرصة فلا تؤخّرها ، وليكن في كلّ يوم خبرك عندي ، وإن احتجت إلى مدد فاكتب إليّ ، مع أنّي ممدّك ولو لم تستمد فإنّه أشدّ لعضدك وأعزّ لجندك وأرعب لعدوّك. فقال يزيد : لا تمدّني إلّا بدعائك فكفى به مددا! وقال للناس : ايم الله لئن لقيتهم ففاتني النصر فإنّه لا تفتني الشهادة إن شاء الله ، فاسألوا الله لي الشهادة!

وكتب المختار إلى عبد الرحمن بن سعيد : أمّا بعد فخلّ بين البلاد وبين يزيد والسلام عليك.

فخرج يزيد بالناس حتّى بات في سورا ، ثمّ غدا بهم حتّى بات بالمدائن فشكا إليه بعض من معه شدّة سيره فأقام بالمدائن يوما وليلة اخرى (ثالثة) ثمّ خرج بهم إلى أرض جوخى ثمّ إلى الراذانات ثمّ إلى أرض الموصل فنزل إلى قرية بنات تلى ، فبلغ خبره ابن زياد وأخبرته عيونه أنّ معه ثلاثة آلاف ، فقال ابن زياد : فأنا أبعث إلى كلّ ألف ألفين ، ثمّ دعا ربيعة بن المخارق الغنوي فبعثه في ثلاثة آلاف أوّلا ، ثمّ مكث يوما ثمّ بعث خلفه عبد الله بن حملة الخثعمي في ثلاثة آلاف ، وسبقه ربيعة إلى قرية بنات تلى.

وأصبح يزيد بن أنس الأسدي مريضا ، فجعل ورقاء بن عازب الأسدي على الخيل ، وعبد الله بن ضمرة العذري على ميمنته ، وسعرا الحنفي على ميسرته ، ثمّ أمرهم أن يحملوه على حمار ويمسكونه من جنبيه فجعل يقف على الأرباع ويقول لهم : يا شرطة الله اصبروا تؤجروا ، وصابروا عدوّكم تظفروا ، وقاتلوا (أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً)(١) فإن هلكت فأميركم ورقاء بن

__________________

(١) النساء : ٧٦.

٣٧٧

عازب الأسدي ، وإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة ، فإن هلك فأميركم سعر الحنفي. ثمّ أمرهم أن يضعوا له سريرا فيضعوه عليه بين الرجال ، ثمّ قال لهم : قدّموني في الرجال وابرزوا لهم بالعراء ثمّ إن شئتم فقاتلوا عن أميركم أو إن شئتم ففرّوا فهزمهم ، وحمل ورقاء بن عازب الأسدي بخيله فهزمهم وبقي قائدهم ابن المخارق وقد فارقه أصحابه وهو نازل يناديهم ، وحمل عليه عبد الله بن ورقاء الأسدي وعبد الله بن ضمرة العذري فقتلاه ، فلم يرتفع الضحى حتّى هزموهم وحووا معسكرهم (١).

وكان من مخاريق ابن المخارق هذا لقومه أن قال لهم : يا أهل الشام ؛ إنّكم إنّما تقاتلون «العبيد الأبّاق» وقوما قد خرجوا من الإسلام وتركوه! «لا ينطقون العربيّة» وليست لهم بقيّة (٢)!

وعادوا في عيد الأضحى :

مرّ الخبر أنّ ابن زياد زوّد ابن المخارق بثلاثة آلاف ، وأعقبه بعده بيوم بثلاثة آلاف آخرين مع عبد الله بن حملة الخثعمي فكان بعده بمسيرة ساعة ، فروى أبو مخنف عن أبي كبشة عمرو القيني الشامي أنّه كان مع ابن المخارق ، فلمّا انهزموا على مسيرة ساعة من قرية بنات تلى قال : التقينا بعسكر ابن حملة الخثعمي ، فردّنا معه حتّى نزل في بنات تلى مواجها لعسكر يزيد بن أنس الأسدي الكوفي ، فبتنا ليلة عيد الأضحى متحارسين حتّى أصبحنا فصلّينا الصبح ، ثمّ تعبّأنا ، فجعل على ميمنته الزبير بن خزيمة الخثعمي وعلى ميسرته ابن اقيصر القحافي الخثعمي والتزم هو بالخيل والرجال ، واقتتلنا قتالا شديدا فتطاردت

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٣٨ ـ ٤١ عن الكلبي ، عن عوانة ، وعن أبي مخنف.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ٤٢ عن أبي مخنف ، والنص : ليست لهم تقيّة!

٣٧٨

الخيلان في أوّل النهار ثمّ انصرفوا لصلاة الزوال ، ثمّ خرجوا فهزم الكوفيّون الشاميّين هزيمة قبيحة وقتلوا منهم قتلا ذريعا. ونزل ابن حملة الخثعمي ينادي أصحابه ، فحمل عليه رجل من خثعم الكوفة فقتله ، وحووا معسكرهم وما فيه ، وأسروا منهم ثلاثمئة أسير ، أتوا بهم إلى يزيد الأسدي وهو في مقدّمات السكرات فأخذ يومي بقتلهم فقتلوهم كلّهم ، ثمّ ما أمسى حتّى مات ، فصلّى عليه ورقاء الأسدي ودفنه.

ثمّ إنّ ورقاء الأسدي دعا رؤوس الأرباع وفرسان أصحابه فقال لهم : يا هؤلاء! إنّما أنا رجل منكم ولست بأفضلكم رأيا ، فأشيروا عليّ ؛ فإنّ ابن زياد قد جاءكم في جند أهل الشام الأعظم! إنّه قد بلغني أنّه قد أقبل إلينا في ثمانين ألفا من أهل الشام ، وبجلّتهم وفرسانهم وأشرافهم ، ولا أرى لنا ولكم بهم طاقة على هذه الحال ، وقد مات أميرنا يزيد بن أنس وتفرّقت عنا طائفة منّا! فلو انصرفنا اليوم من تلقاء أنفسنا قبل أن نلقاهم وقبل أن نبلغهم ، فيعلموا أنّا إنّما ردّنا عنهم هلاك صاحبنا فلا يزالوا لنا هائبين ... وإنّا إن لقيناهم اليوم كنّا مخاطرين ، فإن هزمنا اليوم لم تكن تنفعنا هزيمتنا إيّاهم قبل اليوم! فقالوا : نعم ما رأيت ، انصرف رحمك الله ، فقرّر الانصراف بهم ، وانصرفوا.

وترامت الأخبار بانصرافهم إلى إسحاق بن مسعود عامل المختار على المدائن وجوخى ، وكان له عين من أنباط السواد فأرسله بخبرهم إلى المختار ، فدعا المختار إبراهيم بن الأشتر وعقد له على سبعة آلاف رجل وقال له : سر حتّى تلقى جيش ابن أنس الأسدي فارددهم معك حتّى تلقى عدوّك فتناجزهم القتال (١) فأخذ إبراهيم يتجهّز لذلك ، في أواخر سنة ست وستين.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٤٢ ـ ٤٣ عن أبي مخنف.

٣٧٩

وتلاقى المرجفون في الكوفة :

قال أبو مخنف الأزدي : لم يكن فيما أحدث المختار شيء أعظم عليهم من أنّه جعل للموالي نصيبا من الفيء! وكان شبث بن ربعي اليربوعي التميمي شيخا جاهليّا إسلاميّا! فلمّا مات يزيد بن أنس الأسدي وزعموا أنّه قد قتل التقى أشراف الكوفة وقالوا : تجتمع في منزل شيخنا شبث! فتواعدوا منزله واجتمعوا وأتوا إليه فصلّى بهم ثمّ تذاكروا فأخذوا يقولون : والله لقد تأمّر علينا هذا الرجل بغير رضا منّا ، ولقد أدنى موالينا فحملهم على الدواب! وأعطاهم وأطعمهم فيئنا! فعصانا عبيدنا! وحرب بذلك أراملنا وأيتامنا! فقال لهم شبث : دعوني حتّى ألقاه.

فذهب شبث وجمع معه جمعا والتقى بالمختار وذاكره ما أنكره أصحابهم ، فذكر «المماليك» فقال المختار : فأنا أردّ عليهم عبيدهم ومماليكهم. فذكر له «الموالي» فقال : عمدت إلى موالينا وهم فيء أفاءه الله علينا مع هذه البلاد جميعا! فأعتقنا رقابهم نأمل الأجر و «الشكر» فلم ترض لهم بذلك حتّى جعلتهم شركاءنا في فيئنا!

فقال المختار لهم : إن أنا تركت لكم مواليكم ورددت فيئكم فيكم ، فهل تقاتلون أنتم معي بني امية وابن الزبير وتعطوني على الوفاء بذلك عهد الله وميثاقه وما أطمئن إليه من الإيمان؟ فقال شبث : ما أدري ، حتّى أخرج إلى أصحابي فأذاكرهم ذلك. وخرج فلم يرجع إليه.

بل أجمع على قتاله هو وشمر بن ذي الجوشن الكلابي ، ومحمّد بن الأشعث الكندي ، والتحق بهم عامل المختار على الموصل عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني ، وتوافقوا على دعوة كعب الخثعمي فذهبوا إليه وتكلّم شبث فقال في عيب المختار : إنّه تأمّر علينا بغير رضا منّا ، وزعم أنّ «ابن الحنفيّة» بعثه إلينا ،

٣٨٠