موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

عبد الملك ملك العراق :

وسار عبد الملك من دير الجاثليق (الكاثوليك) حتّى نزل النخيلة بظهر الكوفة ، فخرج إليه أهله فبايعوه. فوفى لمن وعدهم في مكاتبته إيّاهم سرّا ، وخلع وأجاز وأقطع ، ورتّب الناس على قدر مراتبهم. ودخل دار الإمارة بالكوفة وقد حمل معه رأس مصعب فجيء به حتّى وضع بين يديه.

فنقل المسعودي عن أبي مسلم النخعي أنّه لمّا رأى ذلك اضطرب ، ورآه عبد الملك فسأله ، قال : فقلت : يا أمير المؤمنين! دخلت هذه الدار فرأيت رأس الحسين (عليه‌السلام) بين يدي ابن زياد في هذا الموضع ، ثمّ دخلتها فرأيت رأس ابن زياد بين يدي المختار ، ثمّ دخلتها فرأيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير ، وهذا رأس مصعب بين يديك! فوقاك الله يا أمير المؤمنين!

فوثب عبد الملك وأمر بهدم طاق ذلك المجلس! كأنّه هو عامل هذه المقاتل!

وكان مع عبد الملك أخوه بشر بن مروان فولّاه على الكوفة ، وخلّف معه جماعة من أهل الرأي والمشورة من أهل الشام منهم روح بن زنباع الجذامي. وأرسل الحجّاج بن يوسف الثقفي لحرب ابن الزبير بمكّة ، وعاد ببقية أهل الشام إلى الشام بعد أن ولّى على البصرة خالد بن عبد الله (١).

وقال المضاء بن علوان كاتب مصعب : دعاني عبد الملك فقال لي : علمت أنّه لم يبق من أصحاب مصعب وخاصته أحد إلّا كتب إليّ يطلب الأمان والجوائز والصلات والإقطاعات! قلت : يا أمير المؤمنين! وقد علمت أنّه لم يبق من أصحابك أحد إلّا وقد كتب إلى مصعب بمثل ذلك وهذه عندي كتبهم!

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٠٩ ـ ١١٠.

٤٤١

وجئته بإضبارة عظيمة! فلمّا رآه قال : ما حاجتي أن أنظر فيها فافسد قلوبهم عليّ! يا غلام أحرقها بالنار! فأحرقها.

ثمّ ندب الناس للخروج إلى عبد الله بن الزبير ، وانتدب الحجّاج لذلك فوجّهه في عشرين ألفا من أهل الشام وغيرهم (١).

ولمّا وصل خبر قتل مصعب إلى أخيه عبد الله أعرض عن ذكره حتّى تحدّث بذلك الناس في سكك مكّة ، فصعد المنبر وجبينه يرشح عرقا فحمد الله وأثنى عليه ولم يصلّ على محمّد وآله وقال : إنّه أتانا خبر من العراق أحزننا وأفرحنا وهو قتل مصعب ، أحزننا لفراق الحميم ثمّ إلى كريم الصبر وجميل العزاء ، وأفرحنا بشهادته (٢)! وكان مصعب حين قتله ابن أربعين سنة (٣).

ولعلّ قتل مصعب غلّب طارق بن عمرو مولى عثمان بن عفّان على المدينة داعيا إلى عبد الملك ، وأخرج منها والي ابن الزبير طلحة بن عبد الله بن عوف (٤).

حرب الحجّاج وابن الزبير :

قال اليعقوبي : كان ابن الزبير يأخذ الحجّاج بالبيعة له ، فلمّا رأى عبد الملك ذلك منعهم من الخروج إلى مكّة (ولعلّه إعدادا لحربه) فضجّ الناس وقالوا : تمنعنا من حجّ بيت الله الحرام وهو فرض من الله علينا!

فبنى قبة على الصخرة في مسجد بيت المقدس وأقام لها سدنة وعلّق عليها ستور الديباج ، وروى له ابن شهاب الزهري : أنّ رسول الله لمّا صعد من المسجد

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٦٦ وقبله خبر الرؤوس مرسلا.

(٢) مروج الذهب ٣ : ١١٢.

(٣) تاريخ خليفة : ١٦٧ و ١٨٥.

(٤) تاريخ خليفة : ١٦٨.

٤٤٢

إلى السماء وضع قدمه عليها! وأنّه قال (عن أبي هريرة) : «ألا لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي ، ومسجد بيت المقدس!».

فقال عبد الملك للناس : هذا ابن شهاب يحدثكم الحديث عن رسول الله .. فهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام! وهذه الصخرة التي يروي فيها : أنّ رسول الله وضع قدمه عليها! فهي تقوم لكم مقام الكعبة! وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة (١).

ثمّ أجمل اليعقوبي في عدد جنود عبد الملك من الشام والكوفة مع الحجّاج لحرب ابن الزبير بمكّة في عشرين ألفا كما مرّ ، وفصّله ابن قتيبة فقال : خرج الحجّاج إلى ابن الزبير في ألف وخمسمئة من رجال الشام إلى الطائف ، وتابع عبد الملك إرسال الجيوش إليه حتّى توافى عنده قدر ما يظنّ أن يقدر بهم على قتال ابن الزبير فخرج بهم في (هلال) ذي القعدة سنة (٧٢) إذ خرج بهم من الطائف (عشرين ألفا) حتّى نزل بمنى.

ثمّ نصب الحجّاج المنجنيق على أبي قبيس وسائر جبال مكّة فحاصر ابن الزبير ومن معه ورماهم بالحجارة (٢).

وقال اليعقوبي : فجعلت الصواعق تأخذهم والحجّاج يقول لجنده من أهل الشام : يا أهل الشام! لا تهولنّكم هذه الصواعق فإنّما هي من تهامة! فلم يزل يرميه بالمنجنيق حتّى هدم الكعبة! وكان ابن الزبير شديد البخل فكان يجرى لجنده نصف صاع من تمر! فرأى فيهم تثاقلا فقال لهم : أكلتم تمري وعصيتم أمري (٣)! فذهب مثلا جاريا.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٦١ وتمامه : وأقام بذلك أيام بني أمية! والصحيح : أيام ابن الزبير.

(٢) الإمامة والسياسة ٢ : ٣٠.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٦٦.

٤٤٣

وكان ابن الزبير قد منع الحجّاج وجمعه أن يطوفوا بالبيت معتمرين ، وجاء الحجّ فوقف الحجّاج بالناس بعرفة محرما في درع ومغفر! كما لم يخرج ابن الزبير إلى عرفة بسبب الحجّاج حتّى أنّه نحر بمكّة. واستمر حصاره وحربه (سبعه أشهر إلى شهر جمادى الآخرة) (١).

وكان أخوه عروة بن الزبير مع عبد الملك فخرج إليه ، وكان عبد الملك قد كتب إلى الحجّاج يأمره بتعاهد عروة وأن لا يسوؤه في نفسه وماله! وكان مع الحجّاج عمرو بن عثمان بن عفّان وخالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد فدعاهم الحجّاج وعرض عليهم أمان عبد الملك لابن الزبير على ما أحدث ومن معه ، وأن ينزل أيّ بلاد شاء. فرجع عروة إلى أخيه وقال له : هذا عمرو بن عثمان وخالد بن عبد الله يعطيانك أمان عبد الملك على ما أحدثت ومن معك ، وأن تنزل أيّ بلاد شئت ، لك بذلك عهد الله وميثاقه! فأبت أمّه أسماء بنت أبي بكر وكان لها مئة سنة فهي عمياء ، وقالت له : أي بني إيّاك أن تعطي بيدك أو تؤسر! مت كريما ولا تقبل خطّة تخاف على نفسك منها مخافة القتل. فأبى ابن الزبير (٢).

وقال ابن قتيبة : جمع القرشيين وقال لهم : ما ترون؟ فقال رجل من بني مخزوم : والله لقد قاتلنا معك حتّى ما نجد مقاتلا ... وإنمّا هي إحدى خصلتين : إمّا أن تأذن لنا فنخرج ، وإمّا أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لك ولأنفسنا. وقال رجل آخر : اكتب إلى عبد الملك ، فقال عبد الله : أفأكتب إليه : من عبد الله أمير المؤمنين! فو الله لا يقبل منّي هذا أبدا! أم أكتب إليه : لعبد الملك أمير المؤمنين من عبد الله بن الزبير! فو الله لئن تقع الخضراء على الغبراء أحبّ إليّ من ذلك!

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٦٩.

(٢) مروج الذهب ٣ : ١١٣.

٤٤٤

وكان أخوه عروة جالسا معه على سريره فقال له : يا أمير المؤمنين! قد جعل الله لك اسوة! قال : ومن هو اسوتي؟ قال : الحسن بن علي بن أبي طالب! إذ خلع نفسه وبايع معاوية! فرفع عبد الله رجله عليه وضربه حتّى ألقاه من سريره وقال : لا أقبل شيئا ممّا تقولون!

ثمّ لما أصبح اغتسل وتطيّب وتحنّط ثمّ تقلّد سيفه وخرج حتّى أسند ظهره إلى الكعبة وإنمّا معه نفر يسير (١).

وخطبهم فقال : أيّها الناس! إنّ الموت قد أظلكم سحابه ، وأحدق بكم ربابه ، فغضوا أبصاركم عن الأبارقة (السيوف) وليشغل كل امرئ قرنه ، ولا يلهينّكم التساؤل : أين أمير المؤمنين ، ألا فمن يسأل عني فإني في الرعيل الأول (٢)!

ثمّ جعل يقاتل بهم أهل الشام فيهزمهم ثمّ يلتجئ إلى البيت .. وتكاثر عليه الرجال من أهل الشام فلم يزل يضرب فيهم حتّى يخرجهم من المسجد ويعود إلى البيت ، واستلم الحجر ، ثمّ تكاثروا عليه ، وأتاه حجر فصك جبينه فأدماه ، فكشفهم عن المسجد وعاد على من بقي من أصحابه عند البيت وقال لهم :

ألقوا أغماد السيوف ، وليصن كلّ رجل منكم سيفه كما يصون وجهه ، لا ينكسر سيف أحدكم فيقعد كالمرأة! ولا يسأل أحد : أين عبد الله فإنّني في الرعيل الأوّل! وتكاثر عليه أهل الشام ألوفا من كلّ باب. فحمل عليهم ، فشدخ بالحجارة فانصرع (٣).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ٣٠ ـ ٣١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٦٧.

(٣) مروج الذهب ٣ : ١١٤.

٤٤٥

وقال ابن قتيبة : وكان يمشي فجاءه حجر من المنجنيق فأصاب قفاه فسقط! وما درى أهل الشام أنّه هو حتّى بكته جاريته تقول : وا أمير المؤمنيناه! فاحتزّوا رأسه ورأس عبد الله بن صفوان بن اميّة وعمارة بن عمرو بن حزم وجاؤوا بها إلى الحجّاج ، فبعث الحجّاج برؤوسهم إلى عبد الملك (١).

وقال المسعودي : بل أكبّ عليه موليان له فقتلوا جميعا ، وتفرّق من بقي معه من أصحابه ، وأمر الحجّاج فصلب (٢) بالتنعيم ثلاثا أو سبعا.

الحجّاج وابن عمرو ابن الحنفية :

وكان عبد الله بن عمر معتمرا بمكّة (وبايع الحجّاج) ومرّ بعبد الله مصلوبا فوقف وقال له : أبا خبيب! يرحمك الله! لو لا ثلاث كنّ فيك لقلت إنّك أنت! : إلحادك في الحرم! ومسارعتك إلى الفتنة ، وبخل بكفّك! وما زلت أتخوّف عليك هذا المركب وما صرت إليه منذ كنت أراك ترمق بغلات شهبا لابن حرب فيعجبنك! إلّا أنّه كان أسوس منك لدنياه!

ثمّ جاءت أمّه أسماء وهي عمياء تقاد حتّى وقفت لدى الحجّاج وقالت له : أما آن لهذا الراكب أن ينزل بعد؟! فأمر به فانزل (٣) ودفن.

وكان عبد الله بن عمر قد جاوز الثمانين من عمره ومع ذلك كأنّه كان قد حمل السلاح مع ابن الزبير (٤) وكأنّه أحسّ بشرّ الحجّاج عليه فخاطب ابن الزبير

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ٣١.

(٢) مروج الذهب ٣ : ١١٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

(٤) المعارف لابن قتيبة : ١٨٥ و ١٨٦.

٤٤٦

بما مرّ من عتابه له ، وكأنّه اشتدّ به الخوف فطرق على الحجّاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك لكي لا يبيت تلك الليلة بلا إمام! إذ كان يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : «من مات ولا إمام له مات ميتة جاهليّة»! فبلغ من احتقار الحجّاج له واسترذال الحال به أن أخرج له رجله من فراشه وقال له : اصفق بيدك عليها! ففعل (١)!

ومع ذلك لم يتحمّله الحجّاج فدسّ إليه رجلا سمّ زجّ رمحه وزاحمه في طريقه فطعنه بظهر قدمه ، ثمّ عاده الحجّاج فقال له : يا أبا عبد الرحمان من أصابك؟ قال : ولم تقول هذا رحمك الله! قال : لأنّك حملت السلاح في بلد لم يكن يحمل السلاح فيه! ثمّ مات ابن عمر فدفن في حائط حرماز (٢) عند ردم بني جمح.

وقد مرّ أنّ ابن الزبير كان قد نفى ابن الحنفيّة إلى جبال رضوى بين مكّة والطائف ، وقد آن الأوان للعود إلى مكّة ، ولكنّه كان يخاف الحجّاج فكتب بذلك إلى ابن مروان : أنّ الحجّاج قد قدم بلدنا وقد خفته! فاحبّ أن لا تجعل له عليّ سلطانا بيد ولا لسان!

فكتب عبد الملك إلى الحجّاج : أنّ محمد بن علي كتب إليّ يستعفيني منك ، وقد أخرجته من يدك فلم أجعل لك عليه سلطانا بيد ولا لسان فلا تتعرّض له!

فأمن بذلك ابن الحنفية من الحجّاج فنزل إلى مكّة مع الحجّاج في الطواف فلقيه الحجّاج فعضّ على شفته ثمّ قال له : لم يأذن لي فيك أمير المؤمنين! فقال له محمد : ويحك أما علمت أنّ لله تبارك وتعالى في كل يوم وليلة ثلاثمئة وستين لحظة (أو : نظرة) فلعلّه ينظر إليّ بنظرة فيرحمني فلا يجعل لك عليّ سلطانا بيد ولا لسان!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٣ : ٢٤٢ عن الإسكافي في رسالته في نقض عثمانية الجاحظ.

(٢) المعارف لابن قتيبة : ١٨٥.

٤٤٧

وكان ملك الروم قد كتب إلى ابن مروان يتوعّده ، فكتب الحجّاج بجواب ابن الحنفية إلى ابن مروان فكتب به إلى ملك الروم ، فكتب إليه ملك الروم : هذه ليست من سجيّتك ولا من سجيّة آبائك! ما قالها إلّا نبيّ أو رجل من «أهل بيت» النبيّ (١)!

ثمّ أعاد الحجّاج بنيان الكعبة على ما كانت عليه قبل بناء ابن الزبير ، فنقص منها ما كان زاده طولا وعرضا في جانب حجر إسماعيل ستّة أذرع ، وأغلق الباب الثاني ورفع الباب الأوّل (٢).

الحجّاج في المدينة :

وفي سنة (٧٤ ه‍) سار الحجّاج إلى المدينة فأخذ يتعنّت على أهلها ويستخفّ ببقايا من فيها من صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ختم في أيديهم وأعناقهم (بالرصاص) يذلّهم بذلك : أنس بن مالك ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، وسهل بن سعد الساعدي ، فإنّا لله وإنا إليه راجعون (٣).

ولكنّه لم يعرض لآل أبي طالب ، ذلك أنّ عبد الملك كان قد كتب إليه : جنّبني دماء آل أبي طالب ؛ فإنّي قد رأيت الملك استوحش من آل حرب حين سفكوا دماءهم. نقل ذلك المسعودي وقال : فكان الحجّاج يتجنّب آل أبي طالب خوفا من زوال ملك آل مروان لا خوفا من الله عزوجل (٤).

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١١٦ ـ ١١٧ ونسب أحيانا إلى الإمام الباقر عليه‌السلام.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٢.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٥٦ ، وبخصوص جابر في الطبري ٦ : ١٩٥ ، وعليه فلا يصحّ ما جاء في الكشي : ١٢٤ ، الحديث ١٩٥ : أنّ جابرا كان رجلا من أصحاب رسول الله وكان شيخا قد أسنّ فلم يتعرض له! اللهم إلّا القتل.

(٤) مروج الذهب ٣ : ١٧٠.

٤٤٨

بل نقل الصفار القمي (م ٢٧٩ هـ) في بصائر الدرجات ومعاصر الحميري القمي في دلايل رسول الله بطرقهما عن الصادق عليه السلام قال : كان عبدالملك قد بعث بالكتاب إلى الحجّاج سرّاً ، وفي الساعة التي كتب فيها الكتاب قيل لعلي بن الحسين (عليه السلام سرّاً أيضاً) إنّ عبدالملك قد كتب إلى الحجاج كذا وكذا وإنّ الله قد شكر له ذلك (١) فثبّت ملكه وزاده برهة.

فكتب علي بن الحسين : (بسم الله الرحمنِ الرحيم ، إلى عبدالملك بن مروان أميرالمؤمنين ، من علي بن الحسين. أما بعد ، فإنّك في ساعة من يوم كذا من شهر كذا كتبت بكذا وكذا! وإنّ رسول الله أنبأني وأخبرني أنّ الله قد شكر لك ذلك فثبت ملكك! وزادك برهة) وختم الكتاب وطواه وأمر غلاماً له أن يوصله على بعيره إلى عبدالملك ساعة يقدم عليه.

فلمّا قد الغلام وأوصل الكتاب إلى عبدالملك ونظر في تاريخ الكتاب ووجده موافقاً لتلك الساعة التي كتب فيها إلى الحجاج ، لم يشك في صدق علي بن الحسين وفرح فرحاً شديداً ، وثواباً لما سرّه من الكتاب أوقر راحلة الغلام بدراهم بعث بها إلى علي بن الحسين (٢).

__________________

(١) هذا من قبيل قوله سبحانه : (أنّى لا اُضيع عمل عامل منكم) ـ آل عمران : ١٩٥ ـ ولذا قال ثبّت ملكه ، لا خلافته.

(٢) بصائر الدرجات : ٣٩٧ ، الحديث ٤ ، الباب ١١. وعن دلائل رسول الله في كشف الغمّة ٣ : ٧١ ، ٧٢ ، ومصادره الاُخرى في الحاشية وأول النقل عن الدلائل في كشف الغمة ٣ : ٦٦. وأرسل النقل اليعقوبي ٢ : ٣٠٥ ، وقال : كتب اليه علي بن الحسين ، إنّي في ليلة كذا من شهر كذا رأيت رسول الله يقول لي : إن عبدالملك قد كتب إلى الحجّاج في هذه الليلة بكذا وكذا ، فأعلمه أن الله قد شكر له ذلك وزاده برهة في ملكه.

٤٤٩

ويا ليته كان عبدالملك كما أوصى عامله الحجّاج بأن لا يتعرض لآل أبي طالب ، كان يوصيه بأن لا يهين إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فإنّ الحجّاج لمّا رأى الحجاج يطوفون بقبر الرسول ومنبره قال : (تبّاً لهم)! إنّما يطوفون بأعواد ورمّةٍ بالية! هلا طافوا بقصر أميرالمؤمنين عبدالملك؟! ألا يعلمون أنّ خليفة المرء في أهله خير من رسوله إليهم (١)؟!

ثمّ كتب بهذا الاكتشاف الجديد إلى عبدالملك يقول : إنّ خليفة الرجل في أهله أكرم عليه من رسوله إليهم! وكذلك الخلفاء ـ يا أميرالمؤمنين : ـ أعلى منزلةً من المرسلين (٢) : ولم يردّ عليه عبدالملك.

السجاد والباقر عليهما السلام وجابر الانصاري :

وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله خصّ جابر الانصاري بقوله : «إنك ستدرك رجلاً من أهل بيتي اسمه اسمي وشمائله شمائلي يبقر العلم» (٣) أن تدرك محمد بن علي (بن الحسين) فأقرأه مني السلام (٤).

وقد مرّ أن الباقر عليه السلام ولد في عام (٥٧ هـ) ولم يُعلم متى عمل جابر بوصية نبيّه صلّى الله عليه وآله ، ولعلّه انتظر حتّى يدرك الباقر عليه السلام طبيعياً سلام جدّه ويرد عليه ، واليوم في عام (٥٧٤ هـ) هو شاب في السابعة عشرة من عمره ، فلعلّه اليوم في ظل الأمان النسبي من ابن مروان للسجاد عليه السلام رأى الظرف مناسباً لذلك.

__________________

(١) الكامل للمبرّد : ٢٢٢ ، وسنن أبي داوود ٤ : ٢٠٩ ، وشرح النهج للمعتزلي ١٥ : ٢٦٢ عن كتاب افتراق هاشم وعبد شمس ، لأبي العباس الدبّاس ، والنصائح الكافية : ٨١ عن الجاحظ. ونقل جدلاً حوله الدكتور طه حسين في كتابه الأيام بين مشايخ الأزهر!

(٢) العقد الفريد ٢ : ٣٥٤ ، وراجع مقدمة هذه الموسوعة ١ : ٥١.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٤١ ، الحديث ٨٨.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٤٢ ، الحديث ٨٩.

٤٥٠

واختلفت الاخبار في كيفية لقاء جابر بالباقر عليه السلام أشدّ اختلاف فاحش ، لا يخلو غير واحد منها من غير واحد من الاخلال والاشكال ، وأسلمها ما نقله ابن طلحة الشافعي بطريقة عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكّي المدني قال : كنّا عند جابر بن عبدالله ، فأتاه علي بن الحسين ومعه صبيّ فقال علي لابنه : قبّل رأس عمّك ، فدنا الصبيّ من جابر فقبّل رأسه وكان جابر قد كفّ بصره فقال : من هذا؟ فقال علي بن الحسين : هذا ابني محمّد ، فضمّه جابر إليه وقال له : يا محمّد ، إنّ محمداً رسول الله يقرأ عليك السلام! فقالوا له : يا أباعبدالله وكيف ذلك؟

فقال : كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله والحسين في حجره وهو يلاعبه ، فقال لي : يا جابر يولد لابني الحسين ابن يقال له علي ، إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ ليقم سيد العابدين! فيقوم علي بن الحسين ، ويولد لعلي ابن يقال له : محمّد ، يا جابر وإن رأيته فاقرأه منّي السلام ، واعلم أنّ بقائك بعد لقائه يسير! فلم يعش بعد ذلك إلّا قليلاً ومات (١).

وأقام الحجّاج والياً على المدينة ومكّة والطائف والحجاز واليمن واليمامة ثلاث سنين ، ثمّ بُعث على العراقين (٢) وكان بناحية اليمامة نجدة بن عامر التميمي

__________________

(١) عن کشف الغمة ٣ : ١١٩ ، وقبله في : ٨٤ عن ابن طلحة في مطالب السؤول ٢ : ٥٣ ، ٥٤ وفي الهامش مصادر اُخر ، ونقله سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ٢ : ٤٢٥ ، وبهامشه مصادر أكثر ومنها بهذا السند واللفظ : تاريخ دمشق لابن عساكر ، ترجمة الامام السجاد عليه السلام : ٢٥ ، حديث ٣٤ و ١٣٦ ، حديث ٢٥ و ٢٦. وتوفي جابر بعد هذا بسنتين أي في سنة (٧٨ هـ) ، وانظر قاموس الرجال ٢ : ٥١٩.

(٢) مروج الذهب ٣ : ١١٥ ، والإمامة والسياسية ٢ : ٣١.

٤٥١

الحنفي الحروري الخارجي ولكنّه كأنّه هاب الحجّاج فسار إلى البحرين واستولى عليها ، وظهرت منه اُمور أنكرها أصحابه عليه فخلعوه وأقاموا لهم أبا فُديك ، فوجّه إليه عبدالملك أُمية بن عبدالله بن خالد بن أُسيد فهزمه أبو فُديك ، فوجّه إليه عمر بن عبيدالله بن معمر فلقي أبا فُديك فقتله واستولى على البحرين وعُمان وهجر (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

٤٥٢

عهد الحجّاج في العراق

٤٥٣
٤٥٤

خطبة الحجّاج في الكوفة :

مرّ الخبر أنّ عبدالملك لمّا ملك العراق ومعه أخوه بِشر بن مروان استخلفه على الكوفة ثمّ العراقيين ، وفي سنة (٧٥ هـ) كان بالبصرة فمات وهو ابن نيّف وأربعين سنة (١).

فكتب عبدالملك إلى الحجّاج : أمّا بعد ، يا حجّاج ، فقد ولّيتك العراقين صدقة ، فإذا قدمت الكوفة فطأها وطأة يتضاءل منها أهل البصرة ، وإيّاك وهوينا الحجاز! فإنّ القائل هناك يقول ألفاً ولا يقطع بهنّ حرفاً ، وقد رميت الغرض الأقصى فارمه بنفسك وأرد ما أردته بك (٢) ، سِر إلى العراقين ، واحتل لقتلهم ، فإنّه قد بلغني عنهم ما أكره (٣)!

__________________

(١) تاريخ ابن الخياط البصري : ١٧١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٣.

(٣) الإمامة والسياسة ٢ : ٣١.

٤٥٥

فتوجّه الحجّاج ومعه أربعة آلاف من أخلاط الناس وألفا رجل من مقاتلة الشاميّين (١).

فلمّا بلغ القادسيّة أمر الجيش أن يُقيلوا ثمّ يروحوا وراءه ، ولبس ثياب السفر وتعمّم بعمامته ، ودعا بجمل عليه قتب فجلس عليه بغير حشية ولا وطاء! وأخذ الكتاب بيده حتّى دخل الكوفة وحده فجعل ينادي : الصلاة جامعة! حتّى صعد المنبر متلثّما متنكّباً قوسه ، فجلس عليه ، وفي المسجد رجال جلوس في مجالسهم مع كلّ منهم العشرون والثلاثون وأكثر من ذلك من أهله ومواليه. فمن قائل يقول : أعرابي ما أبصر محجّته (طريقه) ومن قائل يقول : حُصر الرجل فما يقدر على الكلام! وقال بعضهم لبعض : قوموا حتّى نحصبه!

ودخل محمّد بن عمير الدارمي التميمي في مواليه ، فلمّا رأى الحجّاج جالساً على المنبر لا ينطق قال : لعن الله بني اُمية حين يولّون العراق مثل هذا! والله لو وجدوا أذمَّ من هذا لبعثوه إلينا! ثمّ ضرب بيده إلى حصباء المسجد ليحصبه فقال له بعض أهله : أصلحك الله اكفف عن الرجل حتّى نسمع ما يقول. فلمّا غصّ المسجد بأهله حسر اللثام عن وجهه ثمّ قام ونحّى العمامة عن رأسه وقال :

أنا ابن جلا ، وطلّاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني

ثمّ ما حمد الله ولا أثنى عليه ولا صلّى على نبيّه وقال : إنّي والله لأرى أبصاراً طامحة وأعناقاً متطاولة ، ورؤوساً قد أينعت وحان قطافها! وإنّي صاحبها : كأنّي أنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى! ثمّ ارتجز ببعض أراجيز الحروب ثمّ قال :

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ٣٢.

٤٥٦

إنّ أميرالمؤمنين! نثر كنانته فوجدني أمّرها طعماً وأحدّها سناناً وأقواها قداحاً ، فإن تستقيموا تستقيم لكم الامور ، وإن تأخذوا لي بُنيّات الطريق تجدوني لكلّ مرصد مُرصداً ، والله لا اُقيل لكم عثرة ، ولا أقبل منكم عذرة.

يا أهل العراق ، يا أهل الشقاق والنفاق ، ومساوئ الأخلاق ، والله ما أُغمز كتغماز التّين ولا يُقعقع لي بالشنان ، ولقد فررت عن ذكاء وفُتّشت عن تجربة! والله لألحونّكم لحو العود ، ولأعصبنّكم عصب السلمة ، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل ولأقرعنّكم قرع المروة!

يا أهل العراق! طالما سعيتم في الضلالة ، وسلكتم سبيل الغواية ، وسننتم سنن السوء ، وتماديتم في الجهالة! يا عبيد العصا وأولاد الإماء! أنا الحجّاج بن يوسف ، إنّي والله لا أعد إلّا وفيت ، ولا أخلق إلّا فريت! فإياكم وهذه الزرافات والجماعات وقال وقيل وما يكون وما هو كائن؟! وما أنتم وذاك يا بني اللكيعة؟! لينظر الرجل في أمر نفسه ، وليحذر أن يكون من فرائسي!

يا أهل العراق أنتم كما قال الله عزّ وجلّ : كمثل (قريةً كانت آمنة مظمئنةً يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) (١) فأسرعوا واستقيموا ، واعتدلوا ولا تميلوا ، وبايعوا وشايعوا واخضعوا ، واعلموا أنّه ليس منّي الإكثار والإهذار! ولا منكم الفرار والنفار! إنّما هو انتضاء السيف ثمّ لا أغمده في شتاء ولا صيف! حتّى يقيم الله لأميرالمؤمنين! أودكم ويذلّ له صعبكم.

إني نظرت فوجدت الصدق مع البرّ والبرّ في الجنّة! ووجدت مع الفجور والفجور في النار.

__________________

(١) النحل : ١١٢. وهو يعني عهد عثمان.

٤٥٧

ألا وإنّ أميرالمؤمنين! أمرني بإعطائكم اُعطياتكم ، وإشخاصكم إلى محاربة عدوّكم مع المهلّب! وقد أمرتكم بذلك وأجّلت لكم ثلاثاً! وأعطيت الله عهداً يؤاخذني به ويستوفيه منّي : أن لا أجد أحداً من بعث المهلّب بعدها إلّا ضربت عنقه وانتهبت ماله! يا غلام اقرأ عليهم كتاب أميرالمؤمنين!

فقرأ كاتبه : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من عبدالله عبدالملك بن مروان أميرالمؤمنين إلى من بالعراق من المؤمنين والمسلمين ، سلام عليكم» فلم يردّ عليه سلامه أحد ، فقال الحجّاج للغلام : اسكت يا غلام ، ثمّ قال : يا أهل النفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق! يا أهل الفرقة والضلال! يسلّم عليكم أميرالمؤمنين! فلا تردّون عليه السلام؟! أما والله لئن بقيت لكم لألحونّكم لحو العود ولاُؤدّبنّكم أدباً سوى هذا! ثمّ أمر غلامه باستئناف الكتاب فاستأنفه فلما بلغ السلام أجاب أهل المسجد ، وعلى أميرالمؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته! ثمّ نزل وأمر للنّاس باُعطياتهم وضرب على الناس بعثاً لنصرة المهلّب بن أبي صفرة الأزدي لحرب الأزارقة الخوارج بالبصرة والأهواز.

وفی الیوم الثالث استعرض الناس فعرف فیهم عُمير بن ضابي البُرجمي التميمي المشترك في قتل عثمان فقال له : أيّها الشيخ ، أنت الواثب على أميرالمؤمنين عثمان بعد قتله والكاسر ضلعاً من أضلاعه؟!

فقال : إنّه كان حبس أبي شيخاً كبيراً ضعيفاً فلم يطلقه حتّى مات في سجنه! فقال : أما والله إنّ في قتلك أيّها الشيخ لصلاح للمصرين ... قُم يا غلام فاضرب عنقه! ففعل.

فلمّا قُتل ركب الناس كلّ صعب وذلول وخرجوا على وجوههم إلى المهلّب الأزدي لنصرته على الأزارقة (١).

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٢٦ ـ ١٣٠.

٤٥٨

وخطبة ابن مروان في المدينة أوّلاً :

قال اليعقوبي : ولمّا استقامت اُمور البلدان لابن مروان ولم تبق ناحية بحاجة للاهتمام بها وإصلاحها ، خرج حاجّاً سنة (٧٥ هـ) فبدأ بالمدينة (١).

وقال المسعودي : فأمر بعطائهم ، فخرجت إليهم بدرة مكتوب عليها «من الصدقة»! فقالوا : أفما كان عطاؤنا من الفيء! فارتقى المنبر وقال لهم : إنّما مثلنا ومثلكم أن أخوين في الجاهلية خرجا مسافرين فنزلا في ظلّ شجرة تحت صفاة ، فلمّا دنى الرواح خرجت إليهما من تحت الصفاة حيّة تحمل ديناراً ، فقال ألقته إليهما ، فأقاما عليها ثلاثة أيّام كلّ يوم تخرج إليهما ديناراً ، فقال أحدهما لصاحبه : إلى متى ننتظر هذه الحيّة؟! ألا نقتلها ونحفر هذا الكنز فنأخذه؟ فنهاه أخوه وقال له : ما تدري لعلّك تعطب ولا تدرك المال. فأبى عليه وأخذ فأساً ورصد الحيّة لتخرج فضربها ضربة جرحت رأسهاولم تقتلها! فثارت الحيّة فقتلته ورجعت إلى جحرها. حتّى إذا كان من الغد خرجت الحيّة معصوباً رأسها! وليس معها شيء ، فقال لها : يا هذه إنّي والله ما رضيت ما أصابك ولقد نهيت أخي عن ذلك ، فهل لك أن نجعل الله بيننا أن لا تضرّيني ولا أضرّك وترجعين إلى ما كنت عليه؟! قالت الحيّة : إنّي لأعلم أنّ نفسك لا تطيب لي أبداً وأنت ترى قبر أخيك! ونفسي لا تطيب لك ابداً وانا أذكر هذه الشجّة!

فيا معشر قريش! وليكم عمر بن الخطاب فكان فظّاً غليظاً مُضيّقاً عليكم! فسمعتم له وأطعتم ، ثمّ وليكم عثمان فكان سهلاً ليّناً كريماً! فعدوتم عليه فقتلتموه! وبعثنا عليكم مسلماً (ابن عقبة الفهري) يوم الحرّة فقاتلتموه!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٣.

٤٥٩

فنحن نعلم ـ يا معشر قريش! (كذا!) أنّكم لا تحبّوننا أبداً وأنتم تذكرون يوم الحرّة! ونحن لا نحبّكم أبداً! ونحن نذكر مقتل عثمان (١).

وخطبته بمكة :

قال اليعقوبي : أحرم عبدالملك من ذي الحُليفة ، ودخل الحرم والبلد والمسجد وهو يُلبّي لم يقطع التلبية! وصلّى المغرب ليلة العيد بعرفات قبل الإفاضة إلى المزدلفة ، وخطب أربع خطب وفي أحدها قال : لقد قمت في هذا الامر وما أدري أحداً أقوى عليه منّي ولا أولى به! ولو وجدت ذلك لولّيته! إنّ ابن الزبير لم يصلح أن يكون سائساً ، كان يُعطي مال الله كأنّه يعطي ميراث أبيه! وإنّ عمرو بن سعيد أراد الفتنة وأن يستحلّ الحرمة ويذهب الدين! وما أراد صلاحاً للمسلمين ، فصرعه الله مصرعه! وإنّي محتمل لكم كلّ أمر إلّا نصب راية! وإنّ الجامعة التي وضعتها في عنق عمرو عندي! وإنّي اُقسم بالله لا أضعها في عنق أحد فأنزعها منه إلّا صعداً (٢)!

وروى ابن الخياط قال : حجّ عبدالملك بعد مقتل ابن الزبير بعامين فخطبنا فقال :

أمّا بعد ، فإنّه كان قبلي من الخلفاء يأكلون من هذا المال ويؤكلون! وإنّي ـ والله ـ لا اُداوي هذه الاُمّة إلّا بالسيف! ولست بالخليفة المستضعف (يعني عثمان) ولا الخليفة المداهن (يعني معاوية).

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٢١ ـ ١٢٢ عن الاخبار الموفّقيات للزبير بن بكّار مسنداً وليست في المنشور منه!

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٣.

٤٦٠