موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

وخطبهم فقال :

«إنّه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها واستمرّت جدّا (حذّاء) ولم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل (الهالك) ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به! وإلى الباطل لا يتناهى عنه! ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقا! فإنّي لا أرى الموت إلّا شهادة (١) والحياة مع الظالمين إلّا برما» (٢) ثمّ سار الإمام ويسايره الحرّ.

وخطبة أخرى بالبيضة :

وقبل العذيب وصلوا إلى البيضة فخطبهم الإمام عليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

أيّها الناس ؛ إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من رأى سلطانا جائرا ، مستحلّا لحرام الله ، ناكثا لعهد الله ، مخالفا لسنّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقا على الله أن يدخله مدخله» ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان! وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود! واستأثروا بالفيء! وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلال الله! وأنا أحقّ من غيّر!

وقد أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني! فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم ، فأنا الحسين بن علي وابن

__________________

(١) كذا في الطبري عن أبي مخنف وهو الأولى ، وعليها فالإمام عليه‌السلام يرغّبهم في النهي عن الباطل ولو كان يؤدّي إلى الموت ، فإنّها موتة شهادة في سبيل الله والسعادة من لوازمها.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤٠٣ عن أبي مخنف ، وليست في الإرشاد!

١٢١

فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم ، ولكم فيّ أسوة. وإن لم تفعلوا ، ونقضتم عهدكم ، وخلعتم بيعتي من أعناقكم ، فلعمري ما هي لكم بنكر! لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم! والمغرور من اغترّبكم! فحظّكم أخطأتم ونصيبكم ضيّعتم (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ)(١) وسيغني الله عنكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (٢).

ثمّ سار وأخذ الحرّ يسايره وقال له : يا حسين! إنّي اذكّرك الله في نفسك! فإنّي أشهد (أرى) لئن قاتلت لتقاتلن ، ولئن قوتلت لتهلكنّ فيما أرى!

فقال له الحسين عليه‌السلام : أفبالموت تخوّفني! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني! ما أدري ما أقول لك! ولكن أقول كما قال أخو الأوس (؟) لابن عمّه (؟) لقيه وهو يريد نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له أين تذهب؟ فإنّك مقتول! فقال له :

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى حقّا وجاهد مسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبورا يغشّ ويرغما (٣)

فإن عشت لم أندم ، وإن متّ لم ألم

كفى بك ذلّا أن تعيش وترغما (٤)

فلمّا سمع الحرّ ذلك منه كأنّه أيس منه فتنحّى عنه بأصحابه ناحية ، متّجهين إلى :

__________________

(١) الفتح : ١٠.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤٠٣ عن أبي مخنف ، وليست في الإرشاد.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٤٠٤ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٨١ وفيه : وباعد مجرما.

(٤) الإرشاد ٢ : ٨١ والكامل للجزري ، هذا وهو ينقل عن الطبري ويضيف عليه من سواه.

١٢٢

عذيب الهجانات (١) :

مرّ الخبر عن تفادي قيس بن مسهر الصيداوي الأسدي ليخبر أهل الكوفة بقدوم الإمام إليهم ، فكأنّه انبعث منه ومن شهادته ابن عمّه عمر بن خالد الصيداوي الأسدي ومعه مولاه سعد وجابر بن الحارث السلماني ومجمّع بن عبد الله العائذي ، وبعث معهم نافع بن هلال الجملي فرسه على أن يلحقهم ، وكان الطرماح الطائي قد قدم من قومه طيّئ إلى الكوفة ليشتري لهم ، فصادفه هؤلاء وسألوه أن يصحبوه فيدلّهم على طريق تخلّصهم من شرطة ابن زياد والحصين بن تميم التميمي ، فخلّصهم منهم حتّى انتهوا إلى ما بين عسكر الحرّ والإمام عليه‌السلام ، فتقدّم الحرّ إلى الإمام وأشار إلى هؤلاء النفر وقال : إنّ هؤلاء الذين هم من أهل الكوفة ليسوا ممّن أقبل معك ، فأنا رادّهم أو حابسهم!

فقال الإمام عليه‌السلام : لأمنعنّهم مما أمنع منه نفسي ، إنّما هؤلاء أعواني وأنصاري ، وقد كنت أعطيتني أن لا تعرض لي بشيء حتى يأتيك كتاب من ابن زياد. فقال الحر : أجل ، ولكن لم يأتوا معك ، فقال الحسين عليه‌السلام : هم أصحابي وبمنزلة من جاء معي ، فإن تممت على ما كان بيني وبينك وإلّا ناجزتك! فكفّ الحرّ عنهم. فأنشده بعضهم :

يا ناقتي لا تذعري من زجري

وشمّري قبل طلوع الفجر

بخير ركبان وخير سفر

حتّى تحلّي بكريم النّجر

الماجد الحرّ رحيب الصدر

أتى به الله لخير أمر

 ثمّة أبقاه بقاء الدهر

__________________

(١) كانت مراعي للخيل الهجان للنعمان ملك الحيرة ، وفيها مسلحة للفرس ؛ لأنّه كان حدّ سواد العراق ، وفيها جمع من بني تميم.

١٢٣

فقال الإمام عليه‌السلام : أما والله إني لأرجو أن يكون ما أراد الله بنا خيرا ، ظفرنا أم قتلنا! ثمّ سألهم : أخبروني خبر الناس وراءكم؟

وكأنّ العائذي كان أكبرهم فتقدّم وقال له : أمّا الأشراف فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم (أحمالهم) يستمال ودّهم ويستخلص به نصيحتهم ، فهم ألبّ واحد عليك! وأمّا سائر الناس بعد فإنّ أفئدتهم تهوى إليك و (لكن) سيوفهم غدا مشهورة عليك!

وكأنّه عليه‌السلام عرف فيهم عمر بن خالد الصيداوي فقال لهم : أخبروني هل لكم (علم) برسولي إليكم؟ قالوا : من هو؟ قال : قيس بن مسهر الصيداوي. قالوا : نعم ، أخذه الحصين بن تميم فبعث به إلى ابن زياد ، فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك! فصلّى عليك وعلى أبيك ، ولعن ابن زياد وأباه! وأخبرهم بقدومك ودعا إلى نصرتك فأمر به ابن زياد فألقي من أعلى القصر!

فلم يملك الإمام عليه‌السلام دمعه ثمّ تلا : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)(١) اللهمّ اجعل لنا ولهم الجنة نزلا ، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ رحمتك ورغائب مذخور ثوابك.

ثمّ تقدّم الطرمّاح الطائي إلى الإمام وقال له : والله إني لأنظر فما أرى معك أحدا ، ولو لم يقاتلك إلّا هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفى بهم. وقبل خروجي من الكوفة بيوم رأيت ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناي جمعا أكثر منه في صعيد واحد ، فسألت عنهم فقيل لي : جمعوا ليعرضوا ثمّ يسرّحون إلى الحسين! فانشدك أن لا تقدم عليهم شبرا. وإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك الله به حتى ترى رأيك ويستبين لك ما أنت صانع ، فسر حتّى أنزلك في منعة من جبلنا أجا!

__________________

(١) الأحزاب : ٢٣.

١٢٤

فقال له الإمام : جزاك الله وقومك خيرا! إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم (عسكر الحرّ) قول لسنا نقدر معه على الانصراف (عنهم) ولا ندري علام تنصرف الأمور بنا وبهم في العاقبة!

فقال الطرمّاح : إنّي قد امترت من الكوفة ميرة لأهلي ومعي نفقة لهم ، فآتيهم فأضع ذلك فيهم ثمّ اقبل إليك إن شاء الله ، فإن ألحقك فو الله لأكوننّ من أنصارك.

فقال الحسين عليه‌السلام : فإن كنت فاعلا فعجّل رحمك الله. فقال : دفع الله عنك شرّ الجنّ والإنس.

ثمّ مضى الحسين عليه‌السلام حتى انتهى إلى (١) ...

قصر بني مقاتل (٢) :

فلمّا بلغه نزل به ، وكان به فسطاط سأل عنه فقيل : هو لعبيد الله بن الحرّ الجعفي ، وكان من عثمانية الكوفة ؛ ولذلك لحق بالشام وعاد معهم إلى الكوفة (٣) إلّا أنّه لما قبض زياد على حجر وأصحابه العشرة ، أخذ يتمنّى لو كان معه عشرة لاستنقذهم (٤) ولكنّه لم يكن ممّن كتب إلى الحسين عليه‌السلام ولا ممّن بايع مسلما له ، ولما علم بقدوم الإمام إلى الكوفة كره أن يدخلها الحسين عليه‌السلام وهو بها فيبتلي بأمره! فخرج منها إلى قصر بني مقاتل متنحّيا عن طريق الحجاز إلى الكوفة ، ولا يدرى كيف تخلّص من شرطة ابن زياد. ولكن تنكّب الإمام عن الطريق أدّى إليه.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٤٠٤ ـ ٤٠٧ عن أبي مخنف ، وليس في الإرشاد.

(٢) كان بين القريّات والقطقطانة وعين التمر ، كما في معجم البلدان.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ١٢٨.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٢٧١.

١٢٥

فبعث إليه رسولا وقال له : ادعوه لي. فلمّا أتاه الرسول قال له : هذا الحسين بن علي يدعوك. فاسترجع الجعفي وقال : والله ما خرجت من الكوفة إلّا كراهة أن يدخلها الحسين وأنا بها! والله ما أريد أن أراه ولا يراني! فعاد الرسول وأخبر الإمام بذلك ، إلّا أنّ الإمام عليه‌السلام أبى إلّا أن يأتيه! فأخذ نعليه فانتعل ثمّ قام فجاءه حتى دخل فسلّم عليه ثمّ جلس ، ثمّ دعاه إلى الخروج معه ، فأعاد ابن الحرّ مقالته السابقة! فقال الإمام عليه‌السلام : فإن كنت لا تنصرنا فاتّق الله أن تكون ممّن يقاتلنا ، فو الله لا يسمع واعيتنا أحد ثمّ لا ينصرنا إلّا هلك! ثمّ قام من عنده (١) وعاد إلى رحله (٢).

ألسنا على الحقّ :

وفي آخر الليل أمر الإمام عليه‌السلام أصحابه بالاستقاء من الماء ، فلمّا استقوا أمرهم بالرحيل فارتحلوا من قصر بني مقاتل وساروا ساعة ، وخفق الإمام عليه‌السلام برأسه خفقة ثمّ انتبه فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين. قال ذلك مرّتين أو ثلاثا ، وكان إلى جانبه إبنه عليّ عليه‌السلام على فرسه فأقبل إليه وقال مثل قوله ثمّ قال : يا أبة جعلت فداك ممّ حمدت الله واسترجعت؟ فقال عليه‌السلام : يا بنيّ : إنّي خفقت برأسي خفقة ، فعنّ (ظهر) لي فارس على فرس فقال : القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم! فعلمت أنّها أنفسنا نعيت إلينا! فقال علي : يا أبت لا أراك الله سوءا ، ألسنا على الحق؟! قال : بلى ، والذي إليه مرجع العباد! فقال عليّ : يا أبت إذن لا نبالي أن نموت محقّين! فقال له : جزاك الله من ولد خير ما جزى ولدا عن والده (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٠٧ عن أبي مخنف عن الشعبي ، والإرشاد ٢ : ٨١ ـ ٨٢.

(٢) وهذه هي أول مرّة نرى فيها الإمام عليه‌السلام يدعو إلى نصرته بالإلزام ولا سابقة لها.

(٣) لم يعلم هل كان هذا عليّ الأكبر أو الأوسط؟ واشتهر في الأفواه أنّه الأكبر. والخبر في الطبري ٥ : ٤٠٧ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٨٢.

١٢٦

ثمّ لما أصبح نزل فصلّى ثمّ عجّل الركوب ، وأخذ يتياسر بأصحابه عن الكوفة يريد أن يفارق الحرّ وأصحابه ، فيأتيه الحرّ وأصحابه فيردّونهم إلى جهة الكوفة ، فإذا اشتدّوا في ردّهم امتنعوا عليهم فارتفعوا فلم يزالوا يتياسرون ، حتّى انتهو إلى قرية من قرى الطفّ تسمّى :

نينوى :

مرّ الخبر عن الحرّ أنّه قال للإمام عليه‌السلام : حتّى أكتب إلى ابن زياد. فيعلم أنّه قد كتب إليه فأجابه :

أمّا بعد ؛ فجعجع (١) بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي ، فلا تنزله إلّا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري ، والسلام. ودعا مالك بن النسير البدّي الكندي وأرسله به.

وركب هذا الرسول على نجيب له وعليه سلاحه وقوسه ، وخرج من الكوفة ، ولا يدرى كيف اهتدى إلى موضعهم؟ إلّا أنّهم لما انتهوا إلى نينوى إذا بهم يرون راكبا مقبلا من الكوفة ، فوقفوا جميعا ينتظرونه ، حتّى انتهى إلى الحرّ فسلّم عليه وعلى من معه من أصحابه ثمّ دفع إلى الحرّ الكتاب من ابن زياد. وقرأ الحرّ الكتاب ، ثمّ التفت إلى الإمام وأصحابه وقال لهم : هذا كتاب الأمير عبيد الله بن زياد يأمرني فيه أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه ، وهذا رسوله وقد أمره أن لا يفارقني حتّى انفّذ رأيه وأمره.

وكان من قوم الرسول من كندة مع الإمام : أبو الشعثاء يزيد بن زياد المهاصر البهدلي الكندي ، نظر إلى الرسول وعنّ إليه وناداه : أمالك بن النسير

__________________

(١) هو فسّر الجعجعة : أنزله بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء.

١٢٧

البدّي؟ قال : نعم ، فقال له يزيد بن زياد : ثكلتك أمّك! ماذا جئت فيه؟! قال : وما جئت فيه؟ أطعت إمامي ووفيت ببيعتي! فقال له أبو الشعثاء : عصيت ربّك وأطعت إمامك في هلاك نفسك! كسبت العار والنار! قال الله عزوجل : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ)(١) فهو إمامك.

وكانوا بين كور بابل (كربلاء) : نينوى ، والغاضرية وشفيّة ، فلمّا ألزمهم الحرّ وأصحابه بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا في قرية ، قالوا له : دعنا ننزل عند نينوى أو عند الغاضرية أو عند شفيّة. فقال : لا والله لا أستطيع ذلك ، هذا رجل قد بعث عينا عليّ!

فالتفت ابن القين إلى الحسين عليه‌السلام وقال له : يابن رسول الله ، إنّ قتال هؤلاء أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم! فلعمري ليأتينا من بعد من ترى ما لا قبل لنا به!

فقال له الحسين عليه‌السلام : ما كنت لأبدأهم بالقتال!

وكان من القرى هناك على شاطئ الفرات قرية حصينة يعرفها زهير البجلي فقال للإمام عليه‌السلام :

سر بنا إلى هذه القرية فإنّها حصينة على شاطئ الفرات فننزلها ، فإن منعونا قاتلناهم! فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء من بعدهم! مصرّا على ما قال من قبل. فسأله الإمام قال : وأيّة قرية هي؟ قال : هي العقر. فقال الحسين عليه‌السلام : اللهمّ إنّي أعوذ بك من العقر! ثمّ نزل.

وكان ذلك يوم الخميس الثاني من المحرّم سنة إحدى وستين (٢).

__________________

(١) القصص : ٤١.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤٠٨ ـ ٤٠٩ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٨٣ ـ ٨٤.

١٢٨

خروج ابن سعد إلى كربلاء :

من همدان إلى الريّ كانت تابعة للكوفة ، وبينهما كورة كبيرة كانت تسمّى : دشتبي أي الواحة الحسناء ، وكان فلول الجيوش الفارسيّة وكثير منهم من جبال ديلمان في شمال إيران ، إذا شعروا بضعف في أي ناحية يخرجون إليها فيغلبون المسلمين عليها ، وكأنّهم شعروا بضعف الدولة بعد هلاك معاوية فخرجوا وغلبوا على دشتبي.

فكان ابن زياد بعد أن جهّز الحصين بن تميم التميمي بأكثر من ألف معه لسدّ الطرق على الحسين عليه‌السلام ، فجهّز هذا ألفا سواهم مع الحرّ الرياحي التميمي وقدّمه لتلقّي الإمام عليه‌السلام ، كتب لعمر بن سعد بن أبي وقّاص الزهري عهده على الرّي وبعثه على أربعة آلاف من أهل الكوفة يسير بهم إلى دشتبي وأمره بالخروج إليها. وكان لابن سعد حمّام في قرية من قرى الكوفة بيد مولاه أعين فكانت القرية تسمّى به : حمّام أعين ، وخرج ابن سعد بعسكره إليها.

فلمّا بلغ ابن زياد خبر وصول الإمام عليه‌السلام إلى العراق دعا عمر بن سعد وقال له : سر إلى الحسين ، فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينه سرت إلى عملك.

فقال ابن سعد : إن رأيت أن تعفيني فافعل. فقال ابن زياد : نعم ، على أن تردّ إلينا عهدنا! فقال عمر : فأمهلني اليوم أنظر! فأمهله. فانصرف عمر يستشير نصحاءه ، فنهاه كلّهم.

وكان المغيرة الثقفي في عهده على الكوفة قد تزوّج بأخت ابن سعد وله منها ابن يدعى حمزة ، فجاء حمزة هذا إلى خاله ابن سعد وقال له : يا خال : انشدك الله أن تسير إلى الحسين فتأثم بربّك وتقطع رحمك! فو الله لئن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلّها لو كان لك ، فهو خير لك من أن تلقى الله بدم الحسين!

١٢٩

فقال عمر : فإنّي أفعل إن شاء الله (١)!

ولكنّه عاد إلى ابن زياد فقال له : أصلحك الله! إنّك ولّيتني هذا العمل وكتبت لي العهد وسمع الناس به ، فإن رأيت أن تنفّذ ذلك لي فافعل ، وابعث إلى الحسين في هذا الجيش من أشراف الكوفة من لست بأغنى ولا أجزى عنك في الحرب منه ، وسمّى له أناسا.

فقال ابن زياد : لا تعلّمني بأشراف أهل الكوفة ، ولست أستأمرك فيمن أريد أن أبعث! إن سرت بجندنا وإلّا فابعث إلينا بعهدنا! فلمّا رأى عمر أن ابن زياد قد لجّ في أمره ، قبل أن يسير بالجيش لحرب الحسين عليه‌السلام.

وأبلغه ابن زياد نزول الإمام بكربلاء ، فأسرع السير بهم إليها حتّى نزل بها في الغد من نزول الحسين عليه‌السلام في نينوى ، أي في يوم الجمعة الثالث من المحرم (٢).

ما الذي جاء بالإمام عليه‌السلام :

مرّ الخبر عن كتابة جمع من المنافقين إلى الحسين عليه‌السلام لمّا رأوا كثرة من

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٠٩ عن أبي مخنف ، ومقاتل الطالبيين : ٧٤ كذلك.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤١٠ عن عوانة بن الحكم ، وكذلك ذكر العدد الإرشاد ٢ : ٨٤ ، فهؤلاء مع الألف مع الحرّ خمسة آلاف. ونقل عن مقتل محمد بن أبي طالب : أنّه كان مع ابن سعد تسعة آلاف ، ثمّ أمدّه ابن زياد بيزيد بن ركاب الكلبي في ألفين ، وبالحصين بن تميم السكوني التميمي في أربعة آلاف ، وبنصر بن فلان (!) في ألفين ، وبفلان المازني (!) في ثلاثة آلاف ، فتمّوا عشرين ألفا.

وروى الصدوق في أماليه : ١٧٧ الحديث ١٧٩ المسألة ٢٤ الحديث ٣ : بسنده عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال الحسن للحسين عليه‌السلام يوما : «لا يوم كيومك يا أبا عبد الله! يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل .. يجتمعون على قتلك».

١٣٠

كتب إليه من شيعته ، وكان منهم عزرة بن قيس الأحمسي ، وهو اليوم مع ابن سعد ، وما كان عمر منهم ولا يعرفهم ، فدعا عزرة الأحمسي وقال له : ائت الحسين فسله : ما الذي جاء به وماذا يريد؟ فاعتذر من ذلك.

وما كان هذا هو الوحيد منهم فيمن مع عمر ، فإنّه استعرض جمعا من الرؤساء الذين كاتبوا الإمام فكلّهم أبى وكرهه واستحيا منه أن يأتيه واعتذر! حتّى قام إليه كثير بن عبد الله الشعبي الهمداني فقال : أنا أذهب إليه. ثمّ أضاف : والله لو شئت لأفتكنّ به! فقال عمر : ما اريد أن تفتك به ، ولكن ائته فسله ما الذي جاء به؟

وكان الرجل من همدان وكان منهم مع الإمام عليه‌السلام : أبو ثمامة الصائدي الهمداني فهو يعرف الرجل ، فلمّا رآه مقبلا إلى الإمام قال له : أبا عبد الله ؛ أصلحك الله ، قد جاءك شرّ أهل الأرض وأجرأهم على الدم وأفتكهم! ثمّ قام إلى الرجل وقال له : ضع سيفك! قال : لا ، ولا كرامة! إنّما أنا رسول ، فإن سمعتم منّي أبلغتكم ما ارسلت به إليكم ، وإن أبيتم انصرفت عنكم! فقال له : فإنّي آخذ بقائم سيفك ثمّ تكلّم بحاجتك. قال : لا والله ولا تمسّه! فقال له : أخبرني ما جئت به وأنا أبلّغه عنك ، ولا أدعك تدنو منه فإنّك فاجر! فسبّه الشعبي فاستبّا ، ثمّ انصرف إلى عمر وأخبره الخبر.

فدعا عمر بقرّة بن قيس الحنظلي التميمي وقال له : ويحك يا قرّة! الق حسينا فسله ما جاء به وماذا يريد؟ وهنا لأوّل مرّة نرى ذكر حبيب بن مظاهر الأسدي مع الإمام عليه‌السلام بلا خبر عن كيفيّة وصوله إليه ، فلمّا رأى الإمام الرجل مقبلا إليه قال لمن معه : أتعرفون هذا؟ فقال حبيب : نعم ، هذا رجل تميمي من حنظلة ، وهو ابن اختنا ، ولقد كنت أعرفه بحسن الرأي (والعقيدة) وما كنت أراه يحضر هذا المحضر!

وجاء الرجل حتّى سلّم على الحسين عليه‌السلام وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه.

١٣١

فقال الحسين عليه‌السلام : كتب إليّ أهل مصركم هذا : أن أقدم. فأمّا إذ كرهوني فأنا أنصرف عنهم!

فانصرف الرجل إلى عمر فأخبره الخبر ، فقال عمر : إني لأرجو أن يعافيني الله من حربه وقتاله!

ثمّ كتب بذلك إلى ابن زياد (١) وفيه : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، أمّا بعد ، فإنّي حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي فسألته : عمّا أقدمه وماذا يطلب ويسأل؟ فقال : كتب إليّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم فسألوني القدوم ففعلت ، فأمّا إذ كرهوني وبدا لهم غير ما أتتني رسلهم فأنا منصرف عنهم» فلمّا قرئ الكتاب قال ابن زياد :

الآن إذ علقت مخالبنا به

يرجو النجاة ولات حين مناص

ثمّ كتب ابن زياد إلى ابن سعد : بسم الله الرحمنِ الرحيم ، أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت ، فاعرض على الحسين : أن يبايع ليزيد بن معاوية هو وجميع أصحابه ، فإذا فعل ذلك رأينا رأينا ، والسلام. فلمّا أتى عمر بن سعد الكتاب قال : قد حسبت أن لا يقبل ابن زياد العافية (٢).

لقاء ابن سعد بالإمام عليه‌السلام :

كان قرظة بن كعب من الخزرج من أنصار النبيّ ثمّ الوصيّ حتّى مات بالكوفة سنة إحدى وخمسين (٣) وترك ابنين : عليّا وعمرا ، والتحق عليّ بعمر بن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤١٠ ـ ٤١١ عن عوانة بن الحكم ، والإرشاد ٢ : ٨٤ ـ ٨٥.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤١١ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٨٦.

(٣) تقريب التهذيب ٢ : ١٢٤ برقم ٩٨ ، وانظر إبصار العين : ١٥٥.

١٣٢

سعد! ولا نتحقّق كيف التحق أخوه عمرو بالإمام عليه‌السلام. وعزم الإمام على أن يلقى ابن سعد عسى ولعلّه يسعده بإنقاذه له ، فدعا عمرو بن قرظة وأمره أن يلقى ابن سعد فيقول له عن الإمام عليه‌السلام : أن القني الليل بين عسكري وعسكرك. فلقيه وعاد بقبوله.

فلمّا كان الليل بعد العشاء خرج ابن سعد في نحو من عشرين فارسا ، وأقبل الإمام عليه‌السلام في مثل ذلك ، فلمّا التقوا أمر الحسين عليه‌السلام أصحابه أن يتنحّوا عنه ، وأمر عمر أصحابه بمثل ذلك. ثمّ طال كلامهما حتّى ذهب هزيع منه ، ثمّ افترقا ، من غير أن يكون أصحابهما سمعوا من ذلك شيئا ولا علموه (١).

وعاد ابن سعد ، وكان يأمل في إطفاء النائرة ، فأساء الاستفادة من جهل الناس بما دار بينه وبين الحسين عليه‌السلام ، وذلك بالافتراء على الإمام فيما كتب به إلى ابن زياد قال : أمّا بعد ، فإنّ الله قد أطفأ النائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الأمة : هذا حسين قد أعطاني :

ـ أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى.

ـ أو أن نسيّره إلى أيّ ثغر من ثغور المسلمين شئنا ، فيكون رجلا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم.

ـ أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين (!) فيضع يده في يده ، فيرى رأيه فيما بينه وبينه! وفي هذا لكم رضا وللأمّة صلاح!

وأشاع هذا فتحدّث الناس أن الحسين عليه‌السلام قال لابن سعد : اختاروا منّي خصالا ثلاثا :

ـ إمّا أن أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤١٣ ، عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٨٧.

١٣٣

ـ وإمّا أن تسيّروني إلى أيّ ثغر من ثغور المسلمين شئتم ، فأكون رجلا من أهله لي ما لهم وعليّ ما عليهم.

ـ وإمّا أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى رأيه فيما بيني وبينه!

وتحدّث الناس يزعمون أنّ حسينا عليه‌السلام قال لابن سعد : اخرج معي إلى يزيد بن معاوية وندع العسكرين!

فقال عمر : إذن تهدم داري! قال : أنا أبنيها لك! قال : وتؤخذ ضياعي! قال : إذن اعطيك خيرا منها من مالي بالحجاز! فتكرّه عمر ذلك.

تحدّث الناس بذلك وشاع فيهم من غير أن يكونوا قد سمعوا من ذلك شيئا ولا علموه (١).

وبعد مقتل الإمام عليه‌السلام لما كان مولاه الذي أفلت من القتل معه : عقبة بن سمعان يسمع ذلك يقول : لقد خرجت مع الحسين من المدينة إلى مكّة ومن مكّة إلى العراق ولم افارقه حتّى قتل ، وليس من مخاطبة الناس له بكلمة بالمدينة ولا بمكّة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكره إلى يوم مقتله ، إلّا سمعتها! ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون : من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية ، ولا أن يسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين! ولكنّه قال : دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة ، حتّى ننظر إلى ما يصير أمر الناس (٢).

جواب ابن زياد لابن سعد :

وتحدّث بعض الناس : أن حسينا عليه‌السلام وابن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدّثان كلّ الليل! وبلغ ذلك إلى شمر بن ذي الجوشن الضّبابي الكلابي ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤١٣ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٨٧ نقل الكتاب فحسب.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤١٣ ـ ٤١٤ عن أبي مخنف ، وليس في الإرشاد!

١٣٤

وكان حتّى ذلك الحين من جلساء ابن زياد ومشاوريه ، وكان عند ابن زياد لما قرأ كتاب ابن سعد وقال : هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه (من القتال) نعم قد قبلت!

فقام إليه شمر وقال له : أتقبل هذا منه؟! وقد نزل بأرضك إلى جنبك! والله لئن لم يضع يده في يدك ورحل من بلدك ليكوننّ أولى بالقوة والعزّة! ولتكوننّ أولى بالضعف والعجز! فلا تعط هذه المنزلة! فإنّها من الوهن! ولكن ينزل على حكمك هو وأصحابه ، فإن عاقبت فأنت وليّ العقوبة! وإن غفرت كان لك ذلك! والله لقد بلغني أنّ حسينا وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدّثان عامّة الليل! فأثّر ذلك في ابن زياد حتّى عطف رأيه إلى رأي شمر وقال له : نعم ما رأيت ، الرأي رأيك (١)! وكأنه سأله : هل هو مستعدّ لتنفيذ ذلك في الحسين عليه‌السلام؟ فقال : نعم.

فبدل أن يكتب إلى ابن سعد بقبوله بما كتب إليه ، كتب إليه بأشدّ القول : أمّا بعد ، فإنّي لم أبعثك إلى حسين لتكفّ عنه ، ولا لتطاوله ، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء ، ولا لتقعد له شافعا عندي ... انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إليّ سلما! وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم ، ومثّل بهم! فإنّهم لذلك مستحقّون! وإن قتل حسين فأوطئ الخيل صدره وظهره! فإنّه عاقّ شاقّ! قاطع ظلوم! وليس دهري في هذا أن يضرّ شيئا بعد الموت ؛ ولكن عليّ قول : لو قد قتلته فعلت به هذا! فإن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع! وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا! وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر ، فإنّا قد أمرناه بأمرنا! والسلام (٢) فأفاد من عامل المسابقة بينهما في طاعته وجزائه!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤١٤ عن أبي مخنف ، وليس في الإرشاد!

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤١٥ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٨٨.

١٣٥

ثمّ قال لشمر : اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد ، فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي! فإن فعلوا فليبعث بهم إليّ سلما! وإن هم أبوا فليقاتلهم ، فإن فعل فاسمع له وأطع ، وإن هو أبى فقاتلهم فأنت أمير الناس! وثب عليه فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه (١)!

وكان من الكلابيين الحاضرين عبد الله بن أبي المجل (بالجيم) حزام الكلابي خال العباس بن علي وإخوته من أم البنين بنت حزام (٢) فاتّفق مع ابن ذي الجوشن وقاما إلى ابن زياد فقال له عبد الله : أصلح الله الأمير! إنّ بني اختنا مع الحسين ، فإن رأيت أن تكتب لهم أمانا فعلت! فقال ابن زياد : نعم ، ونعمة عين! ثمّ أمر كاتبه أن يكتب لهم أمانا ففعل وأعطاه لابن حزام ، فبعث به مع مولاه كزمان مع ابن ذي الجوشن (٣).

قدوم الكلابي إلى كربلاء :

أقبل شمر بكتاب ابن زياد إلى ابن سعد ، فلمّا قدم عليه وقدّم له الكتاب وقرأه قال له : ويلك! ما لك؟! لا قرّب الله دارك! وقبّح الله ما قدمت به عليّ! والله لأظنّك أنت ثنيته أن يقبل ما كتبت به إليه ، وأفسدت علينا أمرا كنّا رجونا أن يصلح ، والله إنّ حسينا لا يستسلم! إن نفسا أبيّة لبين جنبيه!

وكانت مظنّة ابن سعد صادقة في شمر فلم يردّ عليه في ذلك بل قال له : أخبرني ما أنت صانع؟! أتمضي لأمر أميرك وتقتل عدوّه؟! وإلّا فخلّ بيني وبين

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤١٤ عن أبي مخنف.

(٢) انظر قاموس الرجال ١٢ : ١٩٥ برقم ٢١ ، ولم تذكر المصادر المعتبرة لها اسما سوى ام البنين.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٤١٥ عن أبي مخنف.

١٣٦

الجند والعسكر! فقال ابن سعد : لا ولا كرامة لك! أنا أتولّى ذلك! ولكنّه جعله المباشر دونه فقال له : كن أنت على الرجّالة ، فكان هو وهم مباشري القتال.

ثمّ خرج شمر مع كزمان مولى ابن حزام إلى أصحاب الحسين عليه‌السلام حتّى وقف إليهم ونادى : أين بنو أختنا؟! وكأنّهم عرفوه من كلاب فخرج إليه العباس وجعفر وعثمان بنو علي من امّ البنين الكلابيّة فقالوا له : ما لك وما تريد؟ قال : أنتم يا بني اختي آمنون! وتقدّم إليهم كزمان بكتاب ابن زياد وقال لهم : هذا أمان بعث به خالكم!

قال الفتية لشمر : لعنك الله ولعن أمانك لئن كنت خالنا! أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له! وقالوا لكزمان : أقرئ خالنا السلام وقل له : لا حاجة لنا في أمانكم ، فأمان الله خير من أمان ابن سميّة (١) فانصرفا عنهم آئبين خائبين.

منع الإمام وأصحابه عن الماء :

مرّ الخبر عن كتاب ابن زياد للحرّ الرياحي أن : ينزل الإمام بالعراء على غير ماء! فأخذ الحرّ القوم بالنزول على غير ماء ولا عند قرية ، إلّا أنّه لم يمنعهم عن الماء ، حتّى حضر شمر ، فيظهر أنّه أخبر بذلك ابن زياد يتزلّف به إليه دون ابن سعد. وكان بنو امية يتّهمون عليّا عليه‌السلام ومعه بني هاشم بخذلان عثمان حتّى قتل عطشانا! ولذلك سبق معاوية في صفّين إلى مورد الفرات فمنعه عن علي عليه‌السلام ، وعاد اليوم ابن زياد الدعيّ لهم فكتب إلى ابن سعد : أمّا بعد ، فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء! فلا يذوقوا منه قطرة! كما صنع بالتقيّ الزكيّ المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفّان!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤١٥ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٨٩.

١٣٧

فدعا عمر بعمرو بن الحجّاج الزبيدي على خمسمئة فارس ، لينزلوا على شريعة الفرات ، فيحولوا بين حسين عليه‌السلام وأصحابه وبين الماء أن يستقوا منه قطرة! وكان ذلك قبل قتله بثلاث ليال (١).

وكان فصل الصيف وكثرة الحاجة إلى الماء ، فدعا الحسين عليه‌السلام أخاه العباس ابن عليّ ليلا وندب معه ثلاثين فارسا وعشرين راجلا يحملون القرب ، وأمامهم نافع بن هلال الجملي يحمل لواءهم ، فذهبوا نحو الشريعة حتّى دنوا من الماء ، ليلة السابع من المحرم ، وضوء القمر ضعيف ، وأبصر عمرو بن الحجاج شبح نافع فنادى : من الرجل؟ فقال نافع : أنا نافع بن هلال. فقال : ما جاء بك؟ قال : جئنا لنشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه! قال : فاشرب هنيئا! قال : لا والله لا أشرب منه قطرة وحسين عطشان ومن ترى من أصحابه! وأشار إلى أصحابه فطلعوا عليه! فقال عمرو : لا سبيل إلى سقي هؤلاء! إنّما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء! ونادى نافع أصحاب القرب قال : املؤوا قربكم. فملؤوا قربهم. فثار إليهم عمرو وأصحابه ، فحمل عليهم نافع والعباس وأصحابهم فكفّوهم عنهم حتّى عاد أصحاب القرب إليهم فقالوا لهم : امضوا ، ووقفوا دونهم ، وتطارد الحجّاج وأصحابه مع أصحاب الحسين ، وجاء أصحاب القرب فأدخلوها على الحسين وأصحابه. وإنّما طعن نافع رجلا من أصحاب عمرو بن الحجّاج ، وانتقضت طعنته بعد ذلك فمات منها (٢) ، فهو أوّل جريح من القوم تلك الليلة.

زحف ابن سعد عصر التاسع :

عصر التاسع من المحرم صلّى ابن سعد العصر ثمّ نادى : يا خيل الله اركبي

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤١٢ ، وفي الإرشاد ٢ : ٨٦.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤١٢ وليس في الإرشاد.

١٣٨

وأبشري! فنادى مناديه بذلك ، وتنادى الناس وركبوا ، ثمّ زحف بهم نحو بيوت الحسين عليه‌السلام.

وكان الإمام عليه‌السلام بعد صلاة العصر قد احتبى بسيفه جالسا أمام بيته ، وقد خفق برأسه على ركبته.

وسمعت أخته زينب ابنة علي الضجّة ، فدنت من أخيها وقالت له : يا أخي أما تسمع الأصوات قد اقتربت!

فرفع الحسين عليه‌السلام رأسه فقال : إني رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام فقال لي : إنّك تروح إلينا! فلطمت اخته زينب وجهها وقالت : يا ويلتا! فقال : ليس لك الويل يا أخيّة اسكتي رحمك الرحمن.

وسمعهم العباس ودنا فقال له : يا أخي أتاك القوم! فنهض الإمام وقال له : يا عباس ، اركب بنفسي أنت ـ يا أخي ـ حتّى تلقاهم فتقول لهم : ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم.

فانتدب معه عشرون فارسا منهم حبيب بن مظاهر الأسدي ، وزهير بن القين البجلي ، واستقبلوهم.

فناداهم العباس : ما بدا لكم؟ وماذا تريدون؟

قالوا : جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم!

فقال العباس : فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم.

فقالوا : القه فأعلمه ذلك ثمّ القنا بما يقول. فانصرف العباس يركض فرسه إلى أخيه يخبره ، ووقف أصحابه ، ووقف القوم. فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين : كلّم القوم إن شئت وإن شئت كلّمتهم. قال له زهير : أنت بدأت بهذا فكن أنت تكلّمهم.

١٣٩

فرفع حبيب صوته يخاطب زهيرا قال : أما والله لبئس القوم غدا عند الله قوم يقدمون عليه وقد قتلوا ذريّة نبيّه عليهم‌السلام وعترته وأهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله وعبّاد أهل هذا المصر (الكوفة) المجتهدين بالأسحار والذاكرين الله كثيرا.

وكان عزرة بن قيس البجلي أمام القوم قريبا من حبيب فسمعه فقال له : إنّك لتزكّي نفسك ما استطعت! حيث وصف أصحاب الحسين بالمجتهدين بالأسحار والذاكرين الله كثيرا.

فأجابه زهير البجلي قال : يا عزرة! إنّ الله قد زكّاها وهداها ، فاتّق الله يا عزرة ، فإني لك من الناصحين ، أنشدك الله يا عزرة أن تكون ممّن يعين الضلّال على قتل النفوس الزكية!

فقال له عزرة البجلي : يا زهير! ما كنت عندنا من «شيعة» أهل هذا البيت! إنّما كنت عثمانيا!

فأجابه زهير البجلي : أفلست تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم! أما والله ما كتبت إليه كتابا قط! ولا أرسلت إليه رسولا قطّ! ولا وعدته نصرتي قطّ! ولكنّ الطريق جمع بيني وبينه ، فلمّا رأيته ذكرت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومكانه منه ، وعرفت ما يقدم عليه من عدوّه وحزبكم ، فرأيت أن أكون في حزبه وأنصره وأجعل نفسي دون نفسه ، حفظا لما ضيّعتم من حقّ الله وحقّ رسوله.

ولمّا عاد العباس إلى الحسين عليه‌السلام بما عرض عليه عمر بن سعد ، قال الحسين : ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة ، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره ، فهو يعلم أنّي كنت احبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار!

فعاد العباس يركض فرسه حتّى انتهى إليهم فقال لهم : يا هؤلاء! إنّ أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشيّة حتّى ينظر في هذا الأمر ، فإنّ هذا أمر لم يجر بينكم وبينه فيه منطق ، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله ، فإمّا رضيناه

١٤٠