موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

وكان كثيرا ما يجلس بعد أبي الدرداء إلى امرأته امّ الدرداء ، وكان قد بلغها أنّه يشرب فيسكر ، فسألته : يا أمير المؤمنين! بلغني أنّك شربت الطلاء (الخمر) بعد العبادة والنسك! قال : إي والله والدماء قد شربتها (١) وكأنّه يشير بذلك إلى يأسه وقنوطه من رحمة الله.

وبنو مروان هم أوّل من ابتدع الأذان لصلاتي الفطر والقربان وهو أول من نقل الديوان من الفارسية إلى العربية بالترجمان (٢) إكمالا لتعريبه دنانير الرومان. نقل السيوطي ذلك وقال : لو لم يكن من مساوي عبد الملك إلّا الحجّاج وتوليته إيّاه على المسلمين وعلى الصحابة يذلّهم ويهينهم حبسا وشتما وضربا وقتلا ، وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما لا يحصى فضلا عن غيرهم ، وختم في عنق أنس وغيره من الصحابة ختما يريد بذلك ذلّهم ... فلا رحمه‌الله ولا عفى عنه (٣).

ولذا قال قبله ابن الوردي بشأن ابن مروان : كان عالما ديّنا حتّى تولّى! بل نقل فيه عن الحسن البصري قال : ما أقول في رجل الحجّاج سيّئة من سيّئاته (٤)!

الوليد والمسجد النبويّ الشريف :

كان الوليد قد صاهر عمه عبد العزيز على ابنته أمّ البنين (٥) وقد عهد بدفن أبيه عبد الملك بوصيّته إلى ابن عمه عمر بن عبد العزيز هذا وهو صهره على اخته

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٦٤.

(٢) المصدر نفسه : ٢٦١ ، وتاريخ خليفة : ١٩٠ وقال : ترجمها سليمان بن سعد مولى قضاعة.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٦٢.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٧٠.

(٥) مروج الذهب ٣ : ١٥٨.

٥٠١

فاطمة بنت عبد الملك (١) فولّاه المدينة بمكان هشام بن إسماعيل المخزومي ، وأمره أن يوقف هشاما لاقتصاص الناس أو مقاضاتهم ؛ لأنه كان قد جار في أحكامه وأساء السيرة. وأن يضرب البعث للفتوح على أهلها. وأن يهدم حجرات أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد مات كلّهن ، وكذا المنازل حوله فيدخلها في المسجد ويبنيه من جديد.

فحمل عمر ثقله على ثلاثين بعيرا إلى المدينة فدخلها مع دخول سنة (٨٧ ه‍) ، فبدأ بإيقاف هشام المخزومي ، وكان قد تحامل على آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكان يقول : ما أخاف إلّا علّي بن الحسين عليه‌السلام فمرّ به وهو موقوف فسلّم عليه! فناداه هشام : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ)(٢) فاقتدى به سعيد بن المسيّب فلم يعرض له ولا لأحد من أسبابه وحاميته.

وضرب البعث للغزو والفتوح على حاملي السلاح من أهل المدينة فأخرج منهم إلى الشام ألفي رجل.

وصالح الوليد ملك الروم (؟) وكتب إليه يعلمه أنّه قد هدم مسجد رسول الله فليعنه فيه. فبعث إليه بمئة ألف مثقال ذهبا وأربعين حملا فسيفساء! فبعث الوليد بذلك كله إلى عمرو بن عبد العزيز.

ولمّا بدأ بهدم الحجرات (وفيها حجرة عائشة) قام خبيب بن عبد الله بن الزبير (حفيد أختها أسماء) فقال : نشدتك الله يا عمر أن تذهب بآية من كتاب الله يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ)(٣). فأمر عمر به فضرب مئة سوط ثمّ نضح عليه بالماء البارد ، وكان الفصل باردا ، فمات!

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ٥٧ ـ ٥٨.

(٢) الأنعام : ١٢٤.

(٣) الحجرات : ٤.

٥٠٢

ثمّ هدم الحجرات والمنازل التي حول المسجد وأدخلها فيه وفرغ من بنائه في سنة (٩٠ ه‍) ، فحجّ الوليد سنة (٩١ ه) لينظر إلى المسجد وما اصلح منه ، فلمّا قرب من المدينة جمع عمر أشرافها وخرج فتلقّاه بهم ، وأخرج من المسجد كلّ من كان فيه إلّا سعيد بن المسيب. فدخل الوليد وجعل يطوف وسعيد بن المسيب جالس ، فقال الوليد لعمر : أحسب أن هذا سعيد بن المسيّب؟ قال عمر : نعم ، وقد ضعف بصره ، كأنه يعتذر له منه ، فجاء الوليد حتّى وقف عليه بلا سلام وقال له : كيف أنت أيها الشيخ؟ فعرفه وقال : يا أمير المؤمنين نحن بخير وكيف أنت؟ وانصرف الوليد وهو يقول : هذا بقيّة الناس! ثمّ قسم بين أهل المدينة قسما كثيرة.

فلمّا كان يوم الجمعة صفّ الجند في المسجد صفّين وخرج الوليد في درّاعة وقلنسوة بلا عمامة ولا رداء فصعد المنبر وقعد عليه وخطب قاعدا! وتوعّد أهل المدينة فقال لهم : إنّكم أهل الخلاف والمعصية!

وكان قد جعل على مكّة خالد بن عبد الله القسري ، وكان قد بعث إليه بثلاثين ألف دينار فضربت كصفائح على الأساطين داخل الكعبة وعلى الميزاب والأركان والباب ، فكان أوّل من فعل ذلك. وصار إلى مكّة ففيها أيضا خطب خطبة بتراء فيها الوعيد والتهديد! وفي عرفات نصب موائد وأطعم الناس (١).

وعيّن ابن الوردي مساحة توسعة مسجد النبيّ بمئتي ذراع في مثلها ، وأنّه ثمّن البيوت فوضع أثمانها في بيت المال ، وقدمت الفعلة والصناع لذلك من الشام (٢) وكان البدء بذلك في سنة (٨٧ ه‍) (٣). وهدم فيما هدم دار علي عليه‌السلام الذي كان في المسجد (٤).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٧٠.

(٣) تاريخ خليفة : ١٩١.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٢٤٠. وقال ابن الفقيه في مختصر تاريخ البلدان : ١٠٧ :

٥٠٣

الوليد ومسجد دمشق :

قال اليعقوبي : وابتدأ في سنة (٨٨ ه‍) ببناء مسجد دمشق فأنفق عليه أموالا عظاما (١) وكان في محلّه كنيسة فهدمها (٢) وهي كنيسة ماري حنّا ، وكانت قد سلمت للرومان بدمشق لوقوعها في النصف من دمشق الذي أخذ صلحا ، فأدخلها في جملة الجامع ، وجاءه الصناع لعمارته من بلاد الروم وبلاد الإسلام (٣) واستبدلوا محلّ الناقوس بالمئذنة ، فهي من أوائل المآذن المبنية في الإسلام.

وأنفق عليه أربعمئة صندوق من الذهب في كلّ صندوق أربعة عشر ألف أو أربعة وعشرون ألف أو ثمانية وعشرون ألف دينار! فلامه الناس عليه فقال : إنّما هذا من مالي (٤)!

__________________

خرج الوليد حاجّا فدخل مسجد النبي فرأى فيه بيتا ضاعنا شارعا بابه إليه! فسأل عنه فقيل له : هذا بيت عليّ؟! يا غلام : اهدمه.

فقيل له : يا أمير المؤمنين لا تفعل حتّى نقدم الشام فتخرج أمرك بتوسيع مساجد الأمصار فتبني بدمشق مسجدا وتبني مسجد بيت المقدس ومكة والمدينة ، فيدخل بيت عليّ فيما يوسّع من مسجد المدينة. فقبل ذلك.

وذكر ابن كثير في البداية والنهاية ٩ : ٧٤ ـ ٧٦ : أنّه لما علم بذلك أهل المدينة وكان فيهم عشرة فقهاء فأجمعوا على عدم الرضا بذلك! فكتب به ابن عبد العزيز إلى الوليد فأرسل إليه الوليد يأمره بذلك. فلما شرعوا في الهدم صاح وجوه الناس من بني هاشم وغيرهم وبكوا كيوم مات فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٨٤.

(٢) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١١٣.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٧١.

(٤) انظر الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ١ : ١٥٧.

٥٠٤

وأمر الوليد أن يكتب بالذهب على اللازورد على حائط المسجد! ربّنا الله لا نعبد إلّا إياه. أمر ببناء هذا المسجد وهدم الكنيسة التي فيه عبد الله الوليد أمير المؤمنين في ذي الحجة سنة سبع وثمانين (١).

فتوح في الروم والأسبان وخراسان :

وكان مسلمة بن عبد الملك على مكّة فصرفه أخوه الوليد إلى غزو الروم فغزاهم سنة (٨٧ ه‍)؟ فافتتح بلدة قمقم وبجرة الفرسان وبلغ عسكره قلوذى ماثلس وسبى منهم وانصرف عنهم. وعاد عليهم في شتاء السنة التالية (٨٨ ه‍) ومعه العباس بن أخيه الوليد فرابطا على أنطاكية وشتّوا بها ، وجمع الروم لهم جمعا كثيرا فزحفوا إليهم ، فقاتلوهم وافتتحوا سوسنة وطوانة من ثغور مصيصة ، وقيل قتل من الروم خمسون ألفا ، وانصرفوا. وفي سنة (٨٩ ه‍) غزا مسلمة عمورية فلقي جمعا من الروم فهزمهم. وفي سنة (٩٠ ه‍) افتتح خمسة حصون من سورية! وفي (٩١ ه‍) عزل الوليد أخاه محمّدا عن الجزيرة وأرمينية وأذربايجان وولّاها أخاه مسلمة فغزا أذربايجان ففتح حصونا ومدائن منها حتّى بلغ الباب ودان له من وراءها (٢).

وقال اليعقوبي : وفي سنة (٩١ ه‍) ولّى الوليد موسى بن نصير اللخمي (مولاهم) على بلاد الأندلس ووجّهه إليها ومعه مولاه طارق بن زياد (٣) وقال خليفة : بل في سنة (٨٧ ه‍) فأغزى عبد الله بن حذيفة الأزدي إلى سردانية

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٥٨ ، وفيه : وهو مكتوب إلى وقتنا هذا سنة (٣٣٢ ه‍).

(٢) تاريخ خليفة : ١١١ و ١٩٢ ـ ١٩٣.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٨٥.

٥٠٥

من بلاد المغرب فأصاب سبيا وغنم وسلم. وأغزاها ابنه عبد الله فافتتح بلدة قولة (١). وفي (٨٩ ه‍) أغزاه فغزا ميورقة ومنورقة جزيرتين بين صقلية والأندلس فافتتحهما. وأغزى ابنه مروان السوس الأقصى فافتتحها وبلغ سبيها أربعين ألفا (٢)!

وقال اليعقوبي : في سنة (٩١) وجّه مولاه طارقا فالتقى الإدريق ملك الأندلس (٣) وقال المسعودي : عبر طارق إلى الأندلس (من مضيق طارق) وقاتل الاذريق ملك الإشبان الذين كانوا بالأندلس (٤) وزحف طارق إليه فاقتتلوا قتالا شديدا ، وفتح الأندلس ، ثمّ خرج موسى إلى البلد فلقيه طارق وترضّاه فرضى عنه ووجّهه إلى مدينة طليطلة من عظائم مدائن الأندلس على مسيرة عشرين يوما! فافتتحها وأصاب فيها مائدة ذهب مفصّصة بالجواهر فبعث بها إلى ابن نصير.

وكان قتيبة بن مسلم الباهلي عامل الحجّاج الثقفي في الريّ فكتب الحجّاج إليه أن يذهب بمن معه إلى مرو فيقبض على أبناء المهلّب بن أبي صفرة الأزدي : يزيد والمفضّل وبني أبيه فيوثقهم ويشخصهم إلى الحجّاج ، فقد عزلهم وولّاه بدلهم على خراسان. فسار قتيبة بمن معه من الريّ حتّى قدم مرو فأخذ ولد المهلّب وأشخصهم إلى الحجّاج ، فطالبهم بستّة آلاف ألف درهم (ملايين) وحبسهم في ذلك (٥) وعذّبهم لذلك بأشدّ عذاب ، فسألوه أن يدخل إليهم التجار ليبيعوهم أموالهم

__________________

(١) تاريخ خليفة : ١٩٠ و ١٩١.

(٢) تاريخ خليفة : ١٩٢.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٨٥.

(٤) التنبيه والإشراف : ٢٨٨ والإشبان معرّب الإسپان ، وصحّف في اليعقوبي إلى إصفهان!

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٨٥.

٥٠٦

وضياعهم فيوفّوه ما أراد ، فأدخل عليهم التجار ، وكانوا قد تقدّموا إلى ذويهم أن يعدّوا لهم طعاما كثيرا ويدخلوا عليهم النجائب ، فركبوها واختلطوا بغمار الناس وخرجوا معهم متنكّرين إلى دمشق الشام! فصاروا إلى عبد العزيز بن الوليد فشفع لهم عند أبيه الوليد فآمنهم وأحضرهم وصالحهم على نصف ما أراد الحجّاج : ثلاثة آلاف ألف درهم (ملايين) (١).

ثمّ صار قتيبة الباهلي إلى بخارى فافتتحها ومدنا منها معها ، وخلّف فيها ورقاء بن نصر الباهلي وانصرف عنها ، فلمّا انصرف قتيبة تحرّك صاحب السغد طرخون وحاكم بخارى في الأتراك لقتال قتيبة ، فوجّه قتيبة حيّان النبطي إليهم فصالحهم. وكان على الطالقان (من خراسان) بادام ، وكان قتيبة قد خاف عصيانه وطغيانه فاصطحب معه ابنه وجماعة رهينة ، ومع ذلك عصى وتغلّب على البلد وتحصّن به وارتدّ ، فلمّا بلغ ذلك إلى قتيبة أمر بقتل الرهائن وصلبهم ، ثمّ التقى بادام فقاتله أيّاما حتّى ظفر به فقتله وولده وامرأته ، واستعمل على البلد أخاه عمرو بن مسلم.

وكان يترك خان الترك من طخارستان قد أسلم وتسمّى عبد الله وكان يحضر مع قتيبة في حروبه ، فلمّا افتتح قتيبة بخارى والطالقان استأذنه يترك ليرجع إلى بلاده طخارستان فأذن له ، فلمّا عاد إليها كاتب الناس وبدأ يجمع الجموع عاصيا ، فزحف إليه قتيبة ووجّه إليه قبله سليم الناصح فأعطاه الأمان من قتيبة فخرج إليه فقتله قتيبة وبعث برأسه إلى الحجاج.

ثمّ سار قتيبة إلى السغد فخرج إليه صاحبهم فصافّه أيّاما ثمّ هرب فانصرف قتيبة عنهم.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٨٨.

٥٠٧

وكتب الحجّاج إليه يأمره أن يصير إلى سجستان فيحارب رتبيل ملك ثغر الهند ، وذلك في سنة (٩٢ ه‍) فسار حتّى صار إلى زالق وزحف إلى رتبيل ، ثمّ بدا له فولّى لذلك عبد ربّه الليثي وانصرف عنه. وكان قد بلغه أنّ سعيد بن ونوفار في خوارزم قد خرج على عامل قتيبة وقتله ، فسار قتيبة إلى خوارزم حتّى قدمها وحاصر سعيد بن ونوفار حتّى قتله وسبى مئة ألف! وانصرف بغنائم لم يسمع بمثلها ، وأصلح البلاد. واستخلف عليها عبد الله الكرماني. وأراد جنده أن يرجعوا بما في أيديهم إلى أوطانهم فلم يأذن لهم قتيبة أن يبرحوا وكان قد بلغه أن غوزك قد قتل طرخون ملك السغد في سمرقند وتملك على البلد ، فسار بأنصاره إليهم وقاتل غوزك في حروب شديدة ، ثمّ دعاه إلى الصلح فأذعنوا له ، واتّخذ غوزك ملك سمرقند لهم طعاما وكتبوا كتاب الصلح كذا : هذا ما صالح عليه قتيبة بن مسلم غوزك أخشيد السغد وأفشين سمرقند ، على السغد وسمرقند وكشّ ونسف ، صالحه على ثلاثة آلاف درهم يؤدّيها غوزك إليّ رأس كلّ سنة. وجعل له عهد الله وذمّته وذمّة الأمير الحجّاج بن يوسف وأشهد شهودا ، وكان ذلك في سنة (٩٤ ه‍) وولّى عليها أخاه عبد الرحمن بن مسلم وخرج منها. فأتاهم ملك الترك خاقان وغدر به أهل سمرقند فكتب بذلك إلى أخيه قتيبة ، فتوقّف قتيبة حتّى ينحسر الشتاء ثمّ سار إليه فهزم الأتراك ، واستقامت له خراسان (١).

وفتوح في السند والهند :

قال اليعقوبي : وجّه الحجّاج محمّد بن القاسم الثقفي سنة (٩٢ ه‍) إلى السند ، وأمره أن يقيم بشيراز من أرض فارس حتّى يمكن الزمان. فقدم محمّد شيراز وأقام بها ستة أشهر ، ثمّ سار في ستة آلاف فارس إلى مكران فأقام بها نحو شهر ،

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٨٥ ـ ٢٨٧.

٥٠٨

ثمّ زحف إلى قنّزبور فحاربهم شهورا حتّى فتحها فغنم وسبى. ثمّ زحف إلى ارمائيل فحاربهم أيّاما حتّى فتحها فأقام بها شهورا. ثمّ زحف إلى الدّيبل في خلق عظيم حتّى بلغها وأقام يحاربهم عدّة شهور ثمّ وضع السلالم على سورها وأصعد إليها الرجال حتّى فتحها عنوة ، فقتل المقاتلة. وكان لهم بدّ (بت : صنم) يعبدونه طوله أربعون ذراعا فكسره ، ووجد له سبعمئة راتبة لخدمته ، وأخذ من ذلك المعبد أموالا عظاما. ثمّ سار من الدّيبل إلى البيرون فصالحهم ، ثمّ كتب إلى الحجّاج يستأذنه هل يتقدّم؟ فكتب إليه أن سر فأنت أمير على ما فتحته! فمضى محمّد الثقفي لا يمرّ ببلد إلّا غلب عليه ولا مدينة إلّا فتحها صلحا أو عنوة ، حتّى عبر نهر السند دون شط مهران ، ثمّ سار إلى سهبان ففتحها ، ثمّ سار نحو شطّ مهران ، فلمّا بلغ إلى ملك السند داهر مكان الثقفي وجّه إليه جيشا عظيما ، فلقى ابن القاسم ذلك الجيش فهزمه ، فزحف إليه داهر بجمعه وبنفسه فأقام مواقفا له عدّة شهور ، ثمّ زحف إليه داهر على فيله واشتدت الحرب بينهما وأخذت من الفريقين ، حتّى عطش فيل داهر فغلب فيّاله فترجّل منه داهر ونزل يقاتل حتى قتل وانهزم جيشه ، وفتح المسلمون ، وكتب محمد إلى الحجّاج بالفتح وبعث إليه برأس داهر ، وحمل امرأة داهر معه.

ثمّ مضى في بلاد السند ففتح بلدا بلدا ومدينة مدينة حتى أتى الرور أعظم مدائن السند فحاصرها حصارا شديدا ، ثمّ بعث إليهم بامرأة داهر قالت لهم : إنّ الملك قد قتل فاطلبوا الأمان! فطلبوه ، ونزلوا على حكمه وفتحوا له باب المدينة ، فدخلها ، ثمّ استخلف عليها ومضى يقطع سائر البلاد ويفتح مدينة مدينة. وكتب الحجّاج إليه : إنّي كنت قد ضمنت لأمير المؤمنين الوليد أن أردّ إلى بيت المال ما أنفقت لهذا الغزو فأخرجني من ضماني! فحمل إليه أكثر ممّا أنفق. وأقام بالسند حتّى هلك الحجّاج والوليد (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

٥٠٩

ونقل خليفة عن أبي عبيدة قال : ولّى الحجّاج محمّدا الثقفي وهو ابن سبع عشرة سنة! ولذا قال الشاعر :

قاد الجيوش لسبع عشرة حجة

يا قرب ذلك سؤددا من مولد (١)

وروى أنّ داهر داهمهم ذات ليلة فقاتلوه فقتلوه وهزم أصحابه فأتبعهم محمّد حتّى أتى مدينة براهما فحاصرها حتّى فتحها ، ثمّ سار إلى الكيرج فافتتحها سنة (٩٣) وفي سنة (٩٥) افتتح مدينة المولتان (٢).

ونقل عن عوانة بن الحكم قال : في المحرم سنة (٩٣) غزا موسى بن نصير اللخمي (مولاهم) مدينة طنجة على البحر فافتتحها. ثمّ عبر البحر لا يأتي على مدينة حتّى ينزلوا على حكمه أو يفتحها عنوة ، حتّى سار إلى قرطبة (كارتوبا) ثمّ اتّجه غربا فافتتح بلدة باجة على البحر ، ثمّ افتتح مدينة البيضاء ، ثمّ وجّه الجيوش فجعلوا يفتحون ويغنمون!

وفي سنة (٩٤) بعث موسى بن نصير بالخمس من الأندلس إلى الوليد وقدم إليه بما معه من التيجان والأموال يخبره بما فتح الله عليه. وفي سنة (٩٥) استخلف ابنه عبد الله بن موسى على إفريقية وقفل منها يحمل الأموال ومعه ثلاثون ألف رأس (؟!) إلى الوليد (٣).

قال : وفي سنة (٩٣ ه‍) كان أنس بن مالك الأنصاري النجّاري قد بلغ مئة سنة وثلاث سنين فتوفي (٤) ، فكان آخر الأنصار بل الصحابة موتا.

__________________

(١) ونقله اليعقوبي : لخمس عشرة حجّة!

(٢) تاريخ خليفة : ١٩٣ ـ ١٩٥.

(٣) تاريخ خليفة : ١٩٥ ـ ١٩٦ فهل كان ذلك مرّتين؟!

(٤) تاريخ خليفة : ١٩٤.

٥١٠

ونطق الفرزدق بالحّق :

روى الكشيّ عن العيّاشي عن الغلّابي البصري عن ابن عائشة عن أبيه محمّد بن عائشة : أنّ هشام بن عبد الملك حجّ في خلافة أبيه أو أخيه الوليد ، فطاف بالبيت وأراد أن يستلم الحجر الأسود فلم يقدر عليه من الزحام ، فنصب له منبر فجلس عليه وأطاف به أهل الشام ومعهم الفرزدق الشاعر. فبينا هو كذلك إذ أقبل عليّ بن الحسين عليه‌السلام وعليه إزار ورداء ، وهو من أحسن الناس وجها وأطيبهم رائحة ، بين عينيه سجّادة كأنّها ركبة عنز! فجعل يطوف بالبيت فإذا بلغ إلى موضع الحجر تنحّى الناس عنه حتّى يستلم! هيبة منه وإجلاله له!

فقال رجل من أهل الشام لهشام : يا هشام! من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة وأفرجوا له عن الحجر؟ وقد عرفه هشام ولكنّه قال : لا أعرفه! مخافة أن يرغب فيه أهل الشام! وكان الفرزدق همّام بن غالب البصري حاضرا فقال :

لكنّي أعرفه! فالتفت إليه الشامي وقال له : من هو يا أبا فراس! فأنشأ يقول :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحلّ والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلّهم

هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلم

هذا عليّ ، رسول الله والده

أمست بنور هداه تهتدي الامم

إذا رأته قريش قال قائلها

إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

ينمى إلى ذروة العزّ التي قصرت

عن نيلها عرب الإسلام والعجم

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

يغضي حياء ويغضى من مهابته

فما يكلّم إلّا حين يبتسم

ينجاب نور الهدى عن نور غرّته

كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله

بجدّه أنبياء الله قد ختموا (١)

__________________

(١) هذه تسعة أبيات أوّليّة من مجموع تسعة وعشرين بيتا استمر في سردها الكشي في رجاله وهو أقدم مصدر شيعي لهذا الخبر.

٥١١

قال : فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق ، فحبس في عسفان بين مكة والمدينة ، فجعل الفرزدق يهجو هشاما وممّا هجاه به قوله :

أيحسبني بين المدينة والتي

إليها قلوب الناس يهوي منييها

يقلّب رأسا لم يكن رأس سيد

وعينا له حولاء باد عيوبها

وبعث إليه علّي بن الحسين عليه‌السلام باثني عشر ألف درهم وقال له : أعذرنا يا أبا فراس ، فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به! فردّها وقال : يابن رسول الله! ما قلت الذي قلت إلّا غضبا لله ولرسوله! وما كنت لأقبل عليه أجرا! فردّها علّي بن الحسين عليه‌السلام وعليه قال له : بحقّي عليك لمّا قبلتها! فقد رأى الله مكانك وعلم نيّتك! فقبلها الفرزدق. ولمّا بلغ هشاما أنّ الفرزدق يهجوه بعث إليه فأخرجه (١) خوف الفضيحة ، ولم يكن خليفة ولا وليا للعهد ليمكنه أن يفتك به ، ولعلّ الفرزدق وافق هوى في ذلك للخليفة الوليد فتجرّأ؟ على أخيه هشام.

وكأنه بلغ الوليد أن كثيرا من الحجّاج الذين لم يكترثوا لهشام ولكنّهم انفرجوا للسجّاد عليه‌السلام إكراما هم من العراقيين الفارّين من جور الحجّاج ، فكتب اليعقوبي : أنّ الوليد كتب إلى عامله على الحجاز خالد بن عبد الله القسري يأمره بإخراج من بالحجاز من أهل العراقين وحملهم إلى الحجّاج بن يوسف! فنادى مناديه بمّكة والمدينة ـ وأكثرهم بها ـ : ألا برئت الذمّة ممن آوى عراقيّا! ثمّ بعث

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١٢٩ ـ ١٣٢ ، الحديث ٢٠٧ ، ونشرت في ديوانه ٢ : ١٧٨ ، وبعد عشر سنين في (١٠٥) تولّى هشام فمدحه الفرزدق بأكثر من عشرة قصائد هي في ديوانه مع قصائد عديدة في مدح آبائه حتّى معاوية والحجّاج! فهو شاعرهم. ولعلّ الإمام السجّاد جاد عليه ليقرّبه إليه ويبعّده عنهم فلم يبتعد ، والله أعلم بمآله. نعم ، لا ينكر تشيّعه في باطن أمره لآل البيت ، ومنه تعلّم التشيع لهم ابن اخته الكميت بن زيد الأسدي البصري رحمه‌الله.

٥١٢

خالد إلى المدينة عثمان بن حيّان المرّي لإخراج من بها من أهل العراقين! وكان جماعاتهم يجتمعون في الجوامع فأخرجهم جميعا إلى الحجّاج ولم يترك تاجرا ولا غير تاجر ، وكان لا يبلغه أنّ أحدا منهم في دار أحد بالمدينة إلّا أخرجه (١).

وكأنّ هذا الأمر عمّ العراقيين وخصّ منهم التابعيّ الجليل سعيد بن جبير مولى بني والبة من أسد الكوفة (٢) ، وقد نصّ الصادق عليه‌السلام على أنه كان مستقيما وكان يأتمّ بعليّ بن الحسين عليه‌السلام. وكان علي يثني عليه (٣) وكان سعيد آخر من قتله الحجّاج ثمّ هلك ، فإلى خبره.

مقتل سعيد بن جبير مولى بني أسد :

بلغ (الوليد بن) عبد الملك (٤) أنّ سعيد بن جبير قد لجأ إلى مكّة ، فولّى عليها خالد بن عبد الله القسري بكتاب قرأه عليهم فيه : إلى أهل مكّة! أمّا بعد ، فإنّي قد ولّيت عليكم خالد بن عبد الله القسري فاسمعوا له وأطيعوا ، ولا يجعلنّ امرؤ على نفسه سبيلا ، فإنّما هو القتل لا غير ، وقد برئت الذمّة من رجل آوى سعيد بن جبير ، والسلام!

ثمّ التفت خالد إليهم وقال : والذي نحلف به ونحجّ إليه! لا أجده في دار أحد إلّا قتلته وهدمت داره ودار كلّ من جاوره واستبحت حرمته! وقد أجّلتكم فيه ثلاثة أيّام! ثمّ نزل.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩٠ وكأنه انفرد بهذا الحدث العظيم!

(٢) المعارف : ٤٤٥ ، والتنبيه والإشراف : ٢٧٤ وقال : كان أسود ، ومناقب الحلبي ٤ : ١٩٠.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ١١٩ ، الحديث ١٩٠.

(٤) الخبر في الإمامة والسياسة ٢ : ٥١ : عبد الملك ، وأثبتنا الصحيح.

٥١٣

فأخبره رجل أنّ سعيد بن جبير بواد من أودية مكّة بمكان كذا مختفيا. فأرسل خالد في طلبه. فأتاه الرسول ولكنّه قال له : إنّما امرت بأخذك ولكنّي أعوذ بالله من ذلك فالحق بأيّ بلد شئت وأنا معك! قال ابن جبير : ألك أهل وولد هنا؟ قال : نعم. قال : فإنّهم يؤخذون وينالهم مثل ما ينالني! قال : فإنّي أكلهم إلى الله! قال سعيد : لا يكون هذا! فأتى به إلى خالد ، فشدّه وثاقا وبعث به إلى الحجّاج ، كذا أمره ابن مروان.

وكان معه جند من الشام فقال له أحدهم : إنّ الحجّاج قد أنذر به وأشعر قبلك فما عرض له ، فلو جعلته فيما بينك وبين الله (؟) لكان أزكى من كلّ عمل يتقرّب به إلى الله!

وكان خالد حينها مسندا ظهره إلى الكعبة فقال : والله لو علمت أنّ (الوليد بن) عبد الملك لا يرضى عنّي إلّا بنقض هذا البيت حجرا حجرا لنقضته لمرضاته!

فلمّا قدموا بسعيد على الحجّاج سأله : ما اسمك؟ قال : سعيد. قال : ابن من؟ قال : ابن جبير. قال : بل أنت شقيّ بن كسير! قال : امي أعلم باسمي واسم أبي. قال : شقيت وشقيت امك! قال سعيد : الغيب يعلمه غيرك! قال الحجّاج : لاوردنّك حياض الموت! قال سعيد : إذن أصابت اميّ في اسمي! قال الحجّاج : لابدلنّك بالدنيا نارا تلظّى! قال سعيد : ولو أنّي أعلم أنّ ذلك بيدك لاتخذتك إلها! قال : الحجّاج : فما قولك في محمّد؟ قال سعيد : نبي الرحمة ورسول ربّ العالمين إلى الناس كافّة بالموعظة الحسنة! فقال الحجّاج : فما قولك في الخلفاء؟ قال سعيد : لست عليهم بوكيل (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ)(١) قال الحجّاج : أشتمهم أم أمدحهم؟ قال سعيد : لا أقول إلّا ما أعلم ، إنمّا استحفظت أمر نفسي. قال

__________________

(١) الطور : ٢١.

٥١٤

الحجّاج : أيّهم أعجب إليك؟ قال : يفضل بعضهم على بعض ، قال : صف لي قولك في علي! أفي الجنة هو أم في النار؟ قال سعيد : لو دخلت الجنة فرأيت أهلها علمت ، ولو رأيت من في النار علمت ، فما سؤالك عن غيب قد حفظ بالحجاب! قال الحجّاج : فأيّ رجل أنا يوم القيامة؟! قال سعيد : أنا أهون على الله من أن يطلعني على الغيب! قال : أبيت أن تصدقني! قال سعيد : بل لم أرد أن اكذبك! قال الحجّاج : فدع عنك هذا كلّه ، وأخبرني ما لك لم تضحك قّط؟ قال : وكيف يضحك مخلوق من طين والطين تأكله النار ومنقلبه إلى الجزاء ، واليوم يصبح ويمسي في الابتلاء! قال الحجّاج : فأنا أضحك. قال سعيد : كذلك خلقنا الله أطوارا! قال الحجّاج : هل رأيت شيئا من اللهو؟ قال : لا أعلمه. فدعا الحجّاج بالعود والناي وأمر بضربهما ، فلمّا ضرب بالعود ونفخ في الناي بكى! قال : ما يبكيك؟ قال : أما هذه النفخة فذكّرتني يوم النفخة في الصور! وأمّا هذه المصران فمن نفس هي معك إلى الحساب ، وأما هذا العود فقد نبت بالحقّ وقطع لغير الحقّ! فقال الحجّاج : أنا قاتلك! قال سعيد : قد فرغ من تسبّب موتي. قال الحجّاج : أنا أحب إلى الله منك! قال سعيد : لا يقدم أحد على ربّه حتّى يعرف منزلته منه ، والله أعلم بالغيب. قال الحجّاج : كيف لا أقدم على ربّي في مقامي هذا وأنا مع إمام الجماعة وأنت مع إمام الفرقة والفتنة؟! قال سعيد : ما أنا بخارج عن الجماعة ولا أنا براض بالفتنة ، ولكنّ قضاء الربّ نافذ لا مردّ له.

قال الحجّاج : كيف ترى ما نجمع لأمير المؤمنين؟ ودعا بذهب وفضة وجواهر وكسوة!

فقال سعيد : هذا حسن إن قمت بشرطه! قال : وما شرطه؟ قال : أن تشتري له بما تجمع من هذا الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة! وإلّا فإنّ كلّ مرضعة تذهل عمّا أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها ، ولا ينفعه إلّا ما طاب منه. قال : فترى جمعنا طيبا؟ قال : برأيك جمعته فأنت أعلم بطيبه. قال : أتحبّ أن يكون لك

٥١٥

شيء منه؟ قال : لا احب ما لا يحب الله! قال : ويلك! قال : الويل لمن زحزح عن الجنة وادخل النار! قال : فاقتلوه!

فقال له : يا حجّاج! فإنّي اشهدك أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأن محمّدا عبده ورسوله ، أستحفظكهنّ حتّى ألقاك يا حجّاج. فأخذوه فلمّا أدبر سمع يضحك فقال الحجّاج : ما يضحكك يا سعيد؟ قال : عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك! قال الحجّاج : إنّما أقتل من شقّ عصا الجماعة ومال إلى الفرقة التي نهى الله عنها. اضربوا عنقه.

فقال سعيد : حتّى اصلي ركعتين فلمّا استقبل القبلة قال الحجّاج : اصرفوه عن القبلة إلى قبلة النصارى الذين تفرّقوا واختلفوا بغيا بينهم فإنّه من حزبهم! فصرفوه عن القبلة فتلا : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ)(١) الكافي بالسرائر. فقال الحجّاج : لم نوكل بالسرائر وإنما وكلنا بالظواهر. قال سعيد : اللهمّ لا تترك له ظلمي واطلبه بدمي واجعلني آخر قتيل يقتله من امّة محمّد! فقال الحجّاج : لا أخاف إلّا دعاء من هو في ذمّة الجماعة من المظلومين ، فأمّا أمثال هؤلاء فإنّهم ظالمون حين خرجوا عن جمهور المسلمين! فقتلوه. فقيل : لم يفرغ من قتله حتى خولط في عقله فجعل يصيح : قيودنا قيودنا (٢)!

ولمّا ضربت عنق سعيد سقط رأسه يتدحرج على الأرض ويسمع منه : لا إله إلّا الله ، ولم يزل كذلك حتّى أمر الحجّاج بعض رجاله أن يضع رجله على فيه! ففعل فسكت.

وروى في محاجّة الحجّاج إيّاه قال له : قدمت الكوفة فجعلتك إماما! وليس يؤمّ بها إلّا عربي! ثمّ إنّي ولّيتك القضاء فضجّ أهل الكوفة وقالوا : لا يصلح

__________________

(١) البقرة : ١١٥.

(٢) الإمامة والسياسة ٢ : ٥١ ـ ٥٤.

٥١٦

القضاء إلّا لعربي! فاستقضيت أبا بردة (بن أبي موسى الأشعري) وأمرته أن لا يقطع أمرا دونك! وجعلتك من سمّاري! فما أخرجك عليّ؟! والله لأقتلنّك! وقتله وله ابنان : عبد الله وعبد الملك! وله تسع وأربعون سنة في سنة أربع وتسعين (١).

وكذلك ذكره أبو نعيم وقال : كان ذلك في شعبان (٢) في بلدة واسط ودفن بظهرها وقبره بها معلوم معروف ، وهلك الحجّاج بعده بستة أشهر (٣) في سنة (٩٥ ه‍) وله أربع وخمسون سنة ، على رأس عشرين عاما من إمرته على العراقين (٤) وقال المسعودي : كان في شهر رمضان قبل موت الوليد بتسعة أشهر (٥) وقبل قتل سعيد قتل كميل بن زياد ، فنذكره هنا.

قتل كميل بن زياد النخعي :

كان كميل بن زياد النخعي من القرّاء الذين شاركوا في خروج عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث الكندي على الحجّاج وبني امية في وقعة دير الجماجم (٦) وكان قد بلغ الحجّاج أنّ كميلا كان ممّن شارك في الثورة على عثمان ، فأمر بطلبه فهرب منه مختبئا في قومه ، فحرم قومه النخع عطاءهم ، فلمّا رأى كميل ذلك قال لهم : أنا شيخ كبير قد نفد عمري فلا ينبغي أن احرم قومي عطيّاتهم. فخرج وأسلم بيده للحجّاج ، فلما رآه قال له : لقد كنت أحبّ أن أجد عليك سبيلا! فقال له كميل :

__________________

(١) المعارف : ٤٤٥ ـ ٤٤٦.

(٢) أخبار إصبهان ١ : ٣٢٤.

(٣) قاموس الرجال ٥ : ٨٦.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٠.

(٥) التنبيه والإشراف : ٢٧٤.

(٦) قاموس الرجال ٨ : ٦٠١ عن ذيل الطبري.

٥١٧

لا تصرف عليّ أنيابك ولا تهدّم عليّ ، فو الله ما بقي من عمري إلّا مثل كواسل الغبار ، فاقض ما أنت قاض ، فإن الموعد الله ، وبعد القتل الحساب! ولقد خبّرني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنك قاتلي! فقال له الحجّاج : الحجة عليك إذن! فقال كميل : ذاك إن كان القضاء إليك (١).

فقال له الحجّاج : أنت الذي فعلت بعثمان كذا؟! فقال كميل : لا تكثر عليّ اللوم ولا تهل عليّ الكثيب ، وما ذاك؟ رجل لطمني فأنفد صبري وعفوت عنه ، فأيّنا كان المسيء؟ فأمر به فضربت عنقه (٢) بالكوفة ، ودفن بالثوية بظهر الكوفة إلى النجف ، وقبره بها معلوم معروف مشهور.

هلاك الحجّاج :

قال المسعودي : بلغ عدد من قتله الحجّاج صبرا في غير حروبه : مئة وعشرين ألفا ؛ منهم كميل بن زياد النخعي صاحب علي بن أبي طالب عليه‌السلام وسعيد بن جبير صاحب عبد الله بن العباس ، مولى لبني والبة من أسد الكوفة. وتوفى الحجّاج وفي محبسه خمسون ألف رجل ، وثلاثون ألف امرأة! وكان حبسه لا يكنّهم من برد ولا حرّ ، ويسقون الماء مشوبا بالرماد!

وكان قد تولّى العراق وخراجها مئة ألف ألف (مليون) درهم ، فلم يزل بعنته وسوء سياسته حتّى صار خراجها خمسة وعشرين ألف ألف (مليون) درهم ، أي ربع ما كان من قبل (٣).

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٣٢٧ ، وفي الإصابة ٣ : ٣١٨.

(٢) قاموس الرجال ٨ : ٦٠١ عن ذيل الطبري.

(٣) التنبيه والإشراف : ٢٧٤ ـ ٢٧٥ ، والأخير في تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩١.

٥١٨

وقال ابن العبري : وكان الحجّاج مبتلى بأكل الطين! وكان له طبيبان نصرانيان : يتاذوق ، وثاودون ، فدخل هذا الثاني عليه يوما فقال له : ما دواء أكل الطين؟ قال : أيّها الأمير عزيمة مثلك! فلم يعد إليها بعدها.

وذكروا أنّه أخذه السل فهجره النوم فأحضر منجما فسأله : هل ترى ملكا يموت؟ قال : نعم أرى ملكا يموت ولكن اسمه كليب! فقال : بذلك سمّتني امّي! قال المنجّم : كذلك تدل عليه النجوم! قال الحجّاج : فلاقدمنّك أمامي! ثمّ أمر به فضربت عنقه! ثمّ مات الحجّاج (١).

وقال ابن الوردي : كان الحجّاج أخفش فصيحا رقيق الصوت! وقال عمر بن عبد العزيز : لو جاءت كلّ امّة بمنافقيها وجئنا بالحجّاج لفضلناهم (٢)!

وكان الحجّاج يستخلف على عمله يزيد بن أبي مسلم ، فأقرّه الوليد بن عبد الملك على ذلك (٣).

وفاة الإمام السجّاد عليه‌السلام :

مرّ الخبر عن عدم اكتراث الحجّاج بهشام وانفراجهم للإمام السجّاد عليه‌السلام ، وأنّ كثيرا منهم كان من حجّاج العراق الفارّين من الحجاج ، وأن الوليد أمر بردّهم إليه عموما وخصّ منهم سعيد بن جبير ، وجاء فيه عن الصادق عليه‌السلام قال : كان يأتمّ بعلي بن الحسين عليه‌السلام وما كان سبب قتل الحجّاج له إلّا على هذا الأمر (٤)!

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول لابن العبري : ١١٣ ، وتنسب قصّة أكله الطين إلى المأمون مع الرضا عليه‌السلام ، خطأ.

(٢) ابن الوردي ١ : ١٧١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٠.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ١١٩ ، الحديث ١٩٠.

٥١٩

والحجّاج إنّما قتله بإرسال الوليد إيّاه إليه لذلك كما مرّ خبره ، فلو كان قتله لا لائتمامه بعلي بن الحسين عليه‌السلام ، فلا بعد فيما جاء أنّ الوليد سمّ الإمام عليه‌السلام (١).

ولم يأت فيما رواه الكليني عن الحميري بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : عاش عليّ بن الحسين بعد الحسين عليهما‌السلام خمسا وثلاثين سنة ، وقبض وهو ابن سبع وخمسين سنة في عام خمس وتسعين (٢).

وقال المسعودي : في سنة (٩٥) قبض عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، في ملك الوليد .. وهو ابن سبع وخمسين سنة ، وهو السجّاد وذو الثفنات وزين العابدين ، ودفن بالمدينة في بقيع الغرقد مع عمّه الحسن بن علي. وكلّ عقب الحسين من عليّ هذا (٣).

وقال ابن الوردي : في سنة (٩٤) وقيل (٩٥) توفّى عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب. الذي سلم من القتل ؛ لأنّه كان مريضا على الفراش (لا لصغره) وكان كثير العبادة ، ولهذا سمّي زين العابدين. توفّي في المدينة ودفن بالبقيع ، وعمره ثمان وخمسون سنة (٤).

وصاياه الأخيرة وصدقة السرّ :

روى ابن الصبّاغ المالكي قال : دخل جماعة على عليّ بن الحسين عليه‌السلام عائدين له ، فقالوا له : كيف أصبحت يابن رسول الله فدتك أنفسنا؟ قال : في عافية ، والله المحمود على ذلك. ثمّ قال لهم : كيف أصبحتم أنتم جميعا؟ قالوا :

__________________

(١) عن الصدوق في مناقب الحلبي ٤ : ١٨٩ ، وفي دلائل الإمامة : ٨٠.

(٢) اصول الكافي ١ : ٤٦٨ ، الباب ١١٧ ، الحديث ٦.

(٣) مروج الذهب ٣ : ١٦٠. فهو مصداق وعد الله (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ).

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٧١. وراجع حوادث عصر عاشوراء فهناك المزيد.

٥٢٠