موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

ودخل ابن زياد وجلس إلى شريك وأخذ يسائله عن شكواه وعن وجعه وما الذي يجد ، وطال تساؤله له. ورأى شريك أن مسلما لم يخرج فخشى أن تفوته الفرصة فأخذ يكرّر مرّتين أو ثلاثا : «ما تنظرون بسلمى أن تحيّوها» اسقنيها وإن كانت نفسي فيها!

فالتفت ابن زياد إلى هانئ وسأله : ما شأنه؟ أترونه يهجر؟

فاغتنمها هانئ وأجابه : نعم! أصلحك الله! ما زال هذا ديدنه منذ قبيل عماية الصبح حتّى هذه الساعة! فقام ابن زياد وانصرف.

وخرج مسلم ، فسأله شريك : ما منعك من قتله؟ فقال مسلم : خصلتان :

أمّا أحدهما : فكراهة هانئ أن يقتل في داره!

وأمّا الأخرى : فحديث حدّثه الناس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الإيمان قيد الفتك ؛ ولا يفتك مؤمن» (١).

فقال هانئ : أما والله لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا! ولكن كرهت أن يقتل في داري.

ولبث شريك بعد ذلك ثلاثا ثمّ مات ، فصلّى عليه ابن زياد.

فما مكث إلّا جمعة حتى مرض هانئ ، وبلغ خبره إلى ابن زياد فأرسل إليه : إني رائح إليك العشيّة (قبيل المغرب) هذا ومسلم ومرافقه عمارة بن عبيد السلولي معه في دار هانئ ، وحيث رأى عمارة أنّ المانع من قتل ابن زياد هو هانئ وكان

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٦١ عن أبي مخنف عن جبر بن نوف الهمداني يروي خبر الحارثي الهمداني ، ورجّحنا أن يكون مرض هانئ بعد مرض شريك لا قبله ، وأن يكون الخبر مضطربا في ترتيب الذكر. وفي تمام الخبر : أن ابن زياد إنما بلغه خبر مؤامرتهم عليه بعد قتل مسلم وهانئ ، فلم يصلّ على عراقي بعد شريك ، وترك نبش قبره خوفا من نبش قبر أبيه!

٨١

السّلولي يرجو أن يكون قد بدا لهانئ في قتل ابن زياد في داره فقال له : إنّما جماعتنا وكيدنا قتل هذا الطاغية! وقد أمكنك الله منه ؛ فاقتله! إلّا أنّ هانئا كان مصرّا على ما كان عليه فكرّر قولته : ما احبّ أن يقتل في داري! فجاء ابن زياد عائدا له وخرج.

والتزم هانئ بلازم إجارة مسلم في داره من اختلاف الشيعة إليه ، فأخذت «الشيعة» تختلف إلى مسلم في دار هانئ (١) حتّى بايعه ثمانية عشر ألفا من أهل الكوفة ، فقدّم كتابا إلى الإمام عليه‌السلام مع عابس بن أبي شبيب الشاكري الهمداني جاء فيه :

«أمّا بعد ؛ فإنّ الرائد لا يكذب أهله ، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا! فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي! فإنّ الناس كلّهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى! والسلام» (٢).

وكان ذلك قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة (٣) أي في العاشر من ذي القعدة بعد قدومه بأكثر من شهر.

عين ابن زياد على ابن عقيل :

مرّ عن المسعودي : أنّ ابن عقيل قدم الكوفة لخمس خلون من شوال (٤) وعن النميري البصري : أنّه قدمها قبل ابن زياد بليلة واحدة ، فدعا مولى

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٦١.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٧٥ عن أبي مخنف واختصره في : ٣٩٥.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٣٩٥.

(٤) مروج الذهب ٣ : ٤٥.

٨٢

لبني تميم (١) يقال له : معقل ، فقال له : خذ ثلاثة آلاف درهم ... واطلب أصحاب مسلم بن عقيل وأعلمهم أنّك منهم ، وأعطهم هذه الثلاثة آلاف وقل لهم : استعينوا بها على حرب عدوّكم! فإنّك لو أعطيتها إيّاهم اطمأنّوا إليك ووثقوا بك ولم يكتموك شيئا من أخبارهم ، ثمّ اغد عليهم ورح حتى تطلب مسلم بن عقيل.

فخرج إلى المسجد الأعظم ، وكان فيه مسلم بن عوسجة الأسدي يصلّي ، وسمع الناس يشيرون إليه ويقولون : إنّ هذا يبايع للحسين عليه‌السلام فجاء إليه وانتظره حتى فرغ من صلاته فجاءه وقال له : يا عبد الله! إنّي امرؤ من أهل الشام مولى لذي الكلاع الحميري ، وقد أنعم الله عليّ بحبّ أهل هذا البيت وحبّ من أحبّهم! وبلغني أنّ رجلا منهم قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاءه فلم أجد أحدا يعرف مكانه ويدلّني عليه ، فإنّي لجالس في المسجد آنفا إذ سمعت نفرا من المسلمين (يشيرون إليك) ويقولون : هذا رجل له علم بأهل هذا البيت ، فأتيتك لتقبض هذا المال وتدخلني على صاحبك فابايعه ، أو إن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه!

فقال له مسلم الأسدي : لقد ساءني معرفتك إيّاي بهذا الأمر من قبل أن يتم! مخافة هذا الطاغية وسطوته! ولقد سرّني ذلك لتنال ما تحبّ ولينصر الله بك «أهل بيت» نبيه ، فأحمد الله على لقائك إيّاي! ثمّ أخذ عليه المواثيق المغلّظة ليكتمنّ وليناصحنّ! فأعطاه من ذلك ما أرضاه به ، فأخذ منه بيعته ثمّ دلّه على منزله وقال له : اختلف إليّ في منزلي أيّاما حتى أحصل لك الإذن على صاحبنا. ولم يقبض منه المال ، فأخذ يختلف إليه مع الناس (٢) أيّاما ليدخله على ابن عقيل ، وبعد موت

__________________

(١) ولعلّ هذا لأنّه علم أنّ أكثر دعاة الإمام منهم ، وهذا أولى ممّا عن أبي مخنف : أنّ معقلا كان من موالي ابن زياد ، فإنّه لو كان لبان. والخبر في الطبري ٥ : ٣٦٠.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٦٢ عن أبي مخنف.

٨٣

شريك بن الأعور جاء به حتّى أدخله على مسلم وأخبره خبره ، فأخذ ابن عقيل بيعته ، وكان أبو ثمامة الصائدي الهمداني بصيرا بالسلاح ، فكان يقبض ما يعين به بعضهم لبعض ويشتري لهم السلاح ، فأمره مسلم فقبض المال الذي جاء به معقل ، ثمّ أخذ معقل يختلف إليهم فهو أول داخل وآخر خارج يسمع أخبارهم ويعلم أسرارهم ويسرّها إلى ابن زياد (١).

هانئ عند ابن زياد :

بعد عيادة ابن زياد لابن الأعور الحارثي الهمداني ثمّ موته ، وعيادته ثانية لهانئ المرادي وبرئه كأنّه كان هو على المطلوب من الأشراف يغدو إلى ابن زياد ويروح إليه ، ثمّ تمارض هذه المرّة وبه انقطع عن ابن زياد.

وكان هانئ مصاهرا لعمرو بن الحجّاج الزبيدي على اخته روعة ، فدعاه ابن زياد ومعه أسماء بن خارجة الفزاري ومحمد بن الأشعث الكندي وقال لهم : قد بلغني أنّ هانئا قد برأ من مرضه فهو يجلس على باب داره! فما يمنعه من إتياننا؟! القوه ومروه أن لا يدع ما عليه من الحقّ في ذلك! فإنّي لا احبّ أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب!

فلمّا كانت العشيّة (قبيل المغرب) أتى هؤلاء ومع أسماء ابنه حسّان إلى دار هانئ ، وإذا به ـ كما قال ابن زياد ـ جالس على باب داره ، فوقفوا عليه وأخبروه : أنّ الأمير قد ذكرك ، فما يمنعك من لقائه؟ قال : تمنعني الشكوى (المرض). قالوا : إنّه قد بلغه أنّك في كلّ عشيّة تجلس على باب دارك ، فاستبطأك والسلطان لا يحتمل الإبطاء والجفاء ، فنقسم عليك إلّا ما ركبت معنا!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٦٤ ، والإرشاد ٢ : ٤٥ ـ ٤٦.

٨٤

فدعا بثيابه فلبسها ودعا ببغلته فركبها ومضى معهم إلى دار الإمارة ، فلمّا دنا منه كأنّه أحسّ ببعض الذي كان وكان يواكبه حسّان بن أسماء الفزاري فقال له : يابن أخي : إنّي والله لخائف من هذا الرجل ، فما ترى؟ قال : أي عمّ ، والله ما أتخوّف عليك شيئا ، ولم تجعل على نفسك شيئا وأنت بريء!

ووصلوا إلى القصر ودخلوه ومعهم هانئ ، فلمّا طلع على ابن زياد تمثّل ابن زياد بالمثل القائل : «أتتك بحائن رجلاه» (١) وكان عند ابن زياد شريح بن الحارث الكندي القاضي ، فالتفت ابن زياد إليه وتمثّل بقول عمرو بن معدي كرب الزبيدي :

اريد حباءه ويريد قتلي

عذيرك من خليلك من مراد (٢)

وسمعه هانئ المرادي فقال : وما ذاك أيّها الأمير؟ قال : إيه يا هانئ بن عروة! ما هذه الأمور التي تربّص في دورك لأمير المؤمنين (يزيد) ولعامّة المسلمين! جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك! وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك! وظننت أنّ ذلك يخفى عليّ! فقعد هانئ وقال : ما فعلت وما مسلم عندي! قال ابن زياد : بلى قد فعلت! قال هانئ : ما فعلت ، قال ابن زياد : بلى! فلمّا كثر ذلك بينهما وأبى هانئ إلّا مجاحدته ومناكرته دعا ابن زياد معقلا فجاء حتى وقف بين يديه. فأشار إليه ابن زياد وقال لهانئ : أتعرف هذا؟

فلمّا رآه هانئ علم أنّه كان عينا عليهم وأنّه قد أتاه بأخبارهم ، فقال : نعم ، ثمّ قال له : اسمع منّي وصدّق مقالتي فو الله ما أكذبك ، والله الذي لا إله غيره ما دعوته إلى منزلي ولا علمت بشيء من أمره حتى رأيته على باب داري ،

__________________

(١) الحائن : الذي حان حينه أي حضر موته أي جاءك الهالك برجليه.

(٢) الحباء : الحبوة : العطاء. وعذيرك أي هات من يعذرك.

٨٥

فسألني النزول عليّ فاستحييت من ردّه ودخلني من ذلك ذمام فأدخلته داري وآويته وضفته ، وقد كان من أمره الذي بلغك! فإن شئت أعطيتك الآن موثقا مغلّظا وما تطمئن إليه أن لا أبغيك سوءا ، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك وأنطلق إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض فأخرج من ذمامه وجواره! وآتيك. فقال ابن زياد : لا والله لا تفارقني حتّى تأتيني به! فقال هانئ : لا والله لا أجيئك به أبدا! أنا أجيئك بضيفي تقتله! قال ابن زياد : والله لتأتينّي به! قال هانئ : والله لا آتيك به!

وكان مسلم بن عمرو الباهلي البصري جالسا فقام وقال لابن زياد : أصلح الله الأمير خلّني وإيّاه حتى اكلّمه. وقال لهانئ : قم إلى هاهنا حتّى اكلّمك. فقام هانئ إليه فخلا به ناحية قريبة يراهما ابن زياد ويسمع صوتهما العالي ويخفى عليه الخافض ، فقال الباهلي لهانئ : يا هانئ! والله إني لأنفس بك على القتل! فانشدك الله أن تقتل نفسك وتدخل البلاء على قومك وعشيرتك! إنّ ابن عقيل ابن عمّ القوم! فليسوا قاتليه ولا ضائريه! فادفعه إليه! فإنّه ليس عليك مخزاة ولا منقصة! إنّما تدفعه إلى السلطان!

فقال هانئ : بلى والله! إنّ عليّ في ذلك للخزي والعار! أنا أدفع جاري وضيفي وأنا حيّ صحيح أسمع وأرى شديد الساعد كثير الأعوان! والله لو لم أكن إلّا واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه إليه حتّى أموت دونه! وسمع ابن زياد ذلك فقال : أدنوه مني! فأدنوه منه. فقال له ابن زياد : والله لتأتينّي به أو لأضربنّ عنقك! قال : إذا تكثر (السيوف) البارقة حول دارك! قال ابن زياد : وا لهفاه عليك! أبالبارقة تخوّفني! أدنوه منّي! فادني ، فاستعرض وجهه بالقضيب! فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخدّه حتّى كسر أنفه وسيّل الدماء على ثيابه ونثر لحم خدّيه وجبينه على لحيته وحتّى كسر القضيب! وكان قد أمسك به لابن زياد شرطته ومعهم سيوفهم ، فمدّ هانئ يده إلى قائم سيف شرطيّ منهم وجاذبه سيفه! فقال له

٨٦

ابن زياد : قد حلّ لنا قتلك! أمسيت حروريا (١) خذوه فألقوه في بيت من بيوت الدار وأغلقوا عليه بابه واجعلوا عليه حرسا! فأخذوه وحبسوه.

فقام إليه أسماء بن خارجة الفزاري فقال : أنحن رسل غدر اليوم! أمرتنا أن نجيئك بالرجل ، حتّى إذا جئناك به وأدخلناه عليك هشّمت وجهه وسيّلت دمه على لحيته وزعمت أنّك تقتله! فقال له ابن زياد : وإنّك لهاهنا! فأمر فدفعوا في صدره ودفعوه حتى حبسوه كذلك!

فقام محمّد بن الأشعث الكندي إلى ابن زياد وهو يقول : إنّما الأمير مؤدّب! وقد رضينا بما يراه ، لنا كان أم علينا! ثمّ قال : ولكنّك قد عرفت منزلة هانئ بن عروة وبيته في العشيرة ... وهم عمدة عدد أهل اليمن وأعزّ أهل هذا المصر (الكوفة) وقد علم قومه أني وصاحبي (أسماء) سقناه إليك ، فانشدك الله لما وهبته لي فإنّي أكره عداوة قومه (مذحج ومراد) فلم يهبه له فورا إلّا أنّه وعده أن يفعل ذلك!

وشاع في مذحج أنّ ابن زياد قد قتل هانئا ، فجمع عمرو بن الحجاج الزبيدي جمعا عظيما من مذحج وأقبل بهم حتى أحاطوا بالقصر ، ونادى ابن الحجّاج : أنا عمرو بن الحجّاج! وهذه فرسان مذحج ووجوهها لم تخلع طاعة ولم تفارق جماعة! و (إنّما) بلغهم أنّ صاحبهم (هانئا) يقتل فأعظموا ذلك!

وكان شريح القاضي ما زال عند ابن زياد فقال له ابن زياد : قم وادخل على صاحبهم فانظر إليه ثمّ اخرج فأعلمهم أنّك قد رأيته وأنّه حيّ لم يقتل!

وكان من عبيد أهل الشام مع زياد حميد بن بكير الأحمري ، وكان حينئذ من شرطة ابن زياد الذين يقفون عند رأسه ، فأرسله ابن زياد مع شريح القاضي يفتح له ويسمع إليه!

__________________

(١) أي أصبحت خارجيا مثل الخوارج الأوّلين في قرية حروراء من نواحي الكوفة.

٨٧

فقام شريح ومعه حميد الشامي ودخل على هانئ والدماء تسيل على لحيته! فلمّا رأى هانئ شريحا نادى : يا لله يا للمسلمين! أهلكت عشيرتي؟! فأين أهل المصر؟! تفاقدوا؟! ويخلّوني وعدوّهم وابن عدوّهم! ثمّ سمع الضجّة على باب القصر فقام إلى شريح وناداه : يا شريح! إنّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين ؛ إن دخل عليّ عشرة منهم أنقذوني!

وخرج شريح إليهم وقال لهم : إنّ الأمير لمّا بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه وأن ألقاكم وأن أعلمكم أنّه حيّ وأنّ الذي بلغكم من قتله كان باطلا ، وقد أتيته ونظرت إليه.

فقال ابن الحجاج : فأمّا إذا لم يقتل فالحمد لله! ثمّ انصرفوا (١).

موقف مسلم بن عقيل :

لم يكن لابن عقيل أن يبقى ساكتا لا يحرّك ساكنا ، وجاءه من بني كثير من الأزد عبد الله بن خازم (٢) ، فأرسله إلى القصر لينظر إلى ما يصير أمر هانئ فركب فرسا وسار قال : فلمّا ضرب هانئ وحبس ركبت فرسي وانصرفت فإذا بنسوة من مراد مجتمعات ينادين : يا عشيرتاه! يا ثكلاه! فدخلت على مسلم بن عقيل بالخبر.

وكان قد بايعه ثمانية عشر ألفا ، وقد ملأ الدور حوله بأربعة آلاف رجل منهم ، وأوصاهم بشعار الأنصار يوم بدر : يا منصور أمت! فأمرني أن انادي به فيهم.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٦٤ ـ ٣٦٨ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٤٧ ـ ٥١.

(٢) قتل مع التوابين ، الطبري ٥ : ٦٠٣.

٨٨

في هذه الأثناء وبعد ردّ ابن زياد لقبيلة مراد مع ابن الحجّاج الزبيدي ، خشي أن يثب ويثور عليه الناس ، فجمع إليه بعض أشرافهم مع حشمه وشرطه وخرج بهم إلى المسجد الجامع ، ولعلّه قبيل المغرب للصلاة ، وقبلها صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد ، أيّها الناس ؛ فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم ، ولا تختلفوا ولا تفرّقوا ، فتهلكوا وتذلّوا ، وتقتلوا وتجفوا وتحرموا (من العطاء) ثمّ تمثل بالمثل : إنّ أخاك من صدقك! وقد أعذر من أنذر.

قال ابن خازم الأزدي : فناديت بشعار الأنصار : يا منصور أمت! فتنادى الرجال حول دار هانئ واجتمعوا إلى مسلم ، فعقد لعبيد الله بن عمرو الكندي على ربع كندة وربيعة في الخيل مقدّمة له ، ثمّ عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع أسد ومعهم مذحج (دون مراد) في الرجال ، وعقد لأبي ثمامة الصيداوي الهمداني على ربع همدان ومعهم تميم ، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع أهل المدينة في الكوفة ، وأقبل يسير مسلم في بني مراد.

هذا وابن زياد على المنبر في المسجد الجامع ما نزل عن المنبر حتّى دخلت النظّارة المسجد من قبل سوق التمّارين يشتدّون وينادون : قد جاء ابن عقيل! قد جاء ابن عقيل! فنزل ابن زياد مسرعا إلى القصر فدخله وأغلق أبوابه وتحصّن فيه! وأقبل مسلم يسير في بني مراد حتّى أحاط بالقصر (١).

ونفيد من خبر ركوب هانئ ومن معه إلى القصر ، وركوب رسول مسلم إليه ذهابا وإيابا ، وملأ مسلم الدور حول دار هانئ بأربعة آلاف رجل ممّن بايعه وتسلّح له ، يعرف عرفا أنّ دار هانئ ودور مذحج ومراد لم تكن قرب القصر ، بل كانت بعيدة عنه إجمالا ، وبلا تفصيل في ذلك.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٦٨ و ٣٦٩ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٥١ ـ ٥٢.

٨٩

ويتجدّد الإجمال فيما مرّ من عقد الألوية على القبائل بلا تفصيل أعداد إلّا الإجمال بأربعة آلاف ، في خبر رسول مسلم : عبد الله بن خازم ، ثمّ أمير ربع أهل المدينة : عباس بن جعدة الجدلي وهذا قال : خرجنا مع ابن عقيل في أربعة آلاف ، وأقبل مسلم يسير ببني مراد حتى أحاط بالقصر ، فما بلغنا القصر إلّا ونحن ثلاثمئة! وكأنه لأنه من أهل المدينة في الكوفة ينحى عليهم بلائمة الخذلة والتذبذب واضطراب الفكر والرأي ، فيقول : ثمّ إنّهم تداعوا إلينا واجتمعوا ، فو الله ما لبثنا إلّا قليلا حتّى امتلأ السوق والمسجد من الناس! وما زالوا يثوبون حتّى المساء!

هذا وليس مع ابن زياد في القصر إلّا ثلاثون من الشرطة أكثر همّه أن يمسكوا أبواب القصر ، وعشرون رجلا من الأشراف ، وهم يشرفون على الناس فينظرون إليهم ويتقونهم أن يرموهم بالحجارة (١)! ومع ابن زياد أهل بيته ومواليه ، فأرسلهم إلى من نأى عنه من الأشراف من الباب الذي يلي دور الروميين (النصارى فلذا لم يكن هذا الباب داخلا في إحاطة أصحاب مسلم) فأقبل الأشراف يأتون ابن زياد من قبل ذلك الباب (٢).

خروج الأشراف برايات الأمان :

دعا ابن زياد الأشراف : كثير بن شهاب الحارثي الهمداني! ومحمد بن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٦٩ عن أبي مخنف ، وفيه : وأن يشتموهم ـ وهم لا يفترون ـ على عبيد الله وعلى أبيه! ونراه في الإرشاد ٢ : ٥٢ : ينظرون إليهم وهم يرمونهم بالحجارة ويشتمونهم (لا) يفترون على عبيد الله وعلى أبيه. وسقط لفظ (لا) من الإرشاد.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٦٩ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٥٢.

٩٠

الأشعث الكندي ، والقعقاع بن شور الذّهلي ، وشبث بن ربعي التميمي ، وحجّار بن أبجر العجلي ، وشمر بن ذي الجوشن العامري الكلابي الضّبابي ، وقال لهم : أشرفوا على الناس فمنّوا أهل الطاعة بالزيادة والكرامة! وخوّفوا أهل المعصية من الحرمان والعقوبة! وأعلموهم فصول الجنود إليهم من الشام! وأمر ابن الأشعث أن يخرج في من يطيعه من كندة وحضر موت فيرفع راية أمان لمن يجيئه من الناس! وقال مثل ذلك لسائرهم وأمر كثير الحارثي الهمداني أن يخرج في من يطيعه من مذحج فيسير بالكوفة فيخذّل سائرهم عن ابن عقيل ويحذّرهم عقوبة السلطان والحرب! وحبس سائر وجوه الناس عنده استيحاشا لقلة عدد من معه من الناس!

فخرج اولئك الأشراف برايات الأمان ، وتكلّم أوّلهم كثير بن شهاب فقال : أيّها الناس الحقوا بأهاليكم ولا تعجّلوا الشرّ ، ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل ، فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين يزيد! قد أقبلت! وقد أعطى الله الأمير عهدا لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيّتكم (هذه) أن يحرّم ذريّتكم من العطاء! ويفرّق مقاتلتكم في المغازي! حتّى لا تبقى فيكم بقيّة من أهل المعصية إلّا أذاقها وبال ما جرّت أيديها! وتكلّم سائرهم بنحوه ومثله ، فكان الرجل يجيء إلى أخيه أو ابنه فيقول له : غدا يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشرّ! انصرف ، فيذهب به! والمرأة تأتي أخاها أو ابنها فتقول : انصرف ، يكفونك الناس! وأخذ الناس يتفرّقون.

وكان شبث بن ربعي يقاتلهم وهو يقول : انتظروا بهم الليل يتفرّقوا! فقال له القعقاع بن شور الذهلي فأفرج لهم يتسرّبوا! ففعل فكان كما قال ... فما زالوا يتفرّقون ويتصدّعون حتّى أمسى ابن عقيل في المسجد وما معه إلّا ثلاثون نفسا! وصلّى المغرب فما صلّى معه إلّا ثلاثون نفسا!

٩١

فلمّا رأى أنّه قد أمسى وليس معه إلّا اولئك النفر خرج متوجّها نحو أبواب كندة حتّى بلغها ومعه منهم عشرة! ثمّ خرج من الباب والتفت فإذا هو لا يحسّ أحدا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو ، ولا يدلّه على منزل ولا يدلّه على الطريق! فمضى على وجهه متلدّدا يتلفّت في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب (١).

مسلم في دار طوعة :

كان للأشعث بن قيس الكندي أمّ ولد تدعى طوعة ، وكان قد أعتقها ، فتزوّجها اسيد بن مالك الحضرمي فولدت له بلالا ، وكان بلال الحضرمي قد خرج مع الناس وامّه قائمة تنتظره. وخرج مسلم إلى دور بني كندة ومشى حتّى انتهى إلى باب دار هذه المرأة ، فلمّا رآها مسلم سلّم عليها! فردّت عليه‌السلام ، فكأنّه عرفها من لفظها أنّها أمة ، فقال لها : يا أمة الله اسقيني ماء. فدخلت ورجعت إليه بماء فسقته فشرب وجلس ، فدخلت وأدخلت الإناء ثمّ خرجت فرأته جالسا! فقالت له : يا عبد الله! ألم تشرب! قال : بلى! قالت : فاذهب إلى أهلك! فسكت! فعادت وقالت مثل القول الأول! فسكت ، فقالت له : (اتّق) فيّ الله! سبحان الله! يا عبد الله! مرّ إلى أهلك عافاك الله ، فإنّه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا احلّه لك!

فلمّا سمع بذلك قام وقال لها : يا أمة الله! ما لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة! فهل لك إلى أجر ومعروف! ولعلّي مكافئك به بعد اليوم؟! فقالت : وما ذاك يا عبد الله؟! قال : أنا مسلم بن عقيل! كذبني هؤلاء القوم وغرّوني! قالت : أنت مسلم؟! قال : نعم! قالت : فادخل. فأدخلته بيتا في دارها ـ غير البيت الذي تكون هي فيه وابنها ـ وفرشت له ، وعرضت عليه العشاء ، فلم يتعشّ.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٧١ عن أبي مخنف عن الشعبي ، والإرشاد ٢ : ٥٣ ـ ٥٤.

٩٢

ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول في ذلك البيت والخروج منه ، وذلك للفراش والعشاء ، فقال لها : والله إنّه ليريبني كثرة دخولك هذه الليلة في هذا البيت وخروجك منه فلك شأن فيه؟! فقالت له : يا بني اله عن هذا. قال : والله لتخبرنّي! قالت : أقبل على شأنك ولا تسألني عن شيء! فألحّ عليها. فقالت له : يا بني لا تحدّثن أحدا من الناس بما اخبرك به! وأخذت عليه الأيمان فحلف لها ، فأخبرته! فاضطجع وسكت (١).

وموقف ابن زياد وخطبته :

كانت دار الإمارة في جهة قبلة المسجد الجامع بالكوفة كما هما اليوم ، وكانت أصوات أصحاب مسلم تسمع في القصر ، والآن طال سكوتهم ، فقال ابن زياد لمواليه : أشرفوا فانظروا هل ترون منهم أحدا ولعلّهم تحت السقوف قد كمنوا لكم! فأشرفوا فلم يروا أحدا ، فحملوا شعل النار وجعلوا يخفضونها بأيديهم فلم يروا أحدا ، فشدّوا أحزمة القصب بالحبال وأشعلوا فيها النار ودلّوها إلى المسجد والسقيفة التي فيها المنبر والمحراب فلم يروا شيئا ، فأخبروا بذلك ابن زياد.

فأمر كاتبه عمرو بن نافع فنادى : ألا برئت الذمة من رجل من الشرطة والعرفاء والمقاتلة لا يصلّي العتمة (العشاء) في المسجد! فلم يكن إلّا ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس!

وكان أمير شرطه الحصين بن تميم التميمي حاضرا فقال له : لو يصلّي بهم غيرك فإنّي لا آمن أن يغتالك بعض أعدائك! فقال ابن زياد : مر حرسي فليقفوا ورائي ودر أنت عليهم. ثمّ فتحوا باب القصر إلى سدّة المسجد فخرجوا به إليه فصلّى بالناس ، ثمّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٧١ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٥٤ ـ ٥٥.

٩٣

أمّا بعد ، فإنّ ابن عقيل السفيه الجاهل! قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق! فبرئت ذمّة الله من رجل وجدناه في داره! ومن جاء به فله ديته! اتّقوا الله ـ عباد الله ـ والزموا بيعتكم وطاعتكم ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا! ثمّ التفت إلى أمير الشرطة وناداه : يا حصين بن تميم! ثكلتك أمّك إن صاح باب سكة من سكك الكوفة أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به! فابعث مراصدة على أفواه السكك! وقد سلّطتك على دور أهل الكوفة! فأصبح واستبر الدور وجس خلالها حتّى تأتيني بهذا الرجل! ثمّ نزل ابن زياد ودخل القصر (١).

راية ابن حريث ، والمختار :

وكان عمرو بن حريث المخزومي مع ابن زياد ، فعقد له ابن زياد راية على الناس ، وأمره أن يقعد لهم في المسجد. ولمّا دخل ابن زياد الكوفة ودار مسلم عن دار المختار إلى دار هانئ ، كان المختار قد خرج من داره بالكوفة إلى داره في قرية لقفا من قرى الكوفة ، وبلغه خبر ظهور ابن عقيل بالكوفة ، فأقبل في مواليه إلى الكوفة فما انتهى إلى باب الفيل إلّا بعد الغروب ، بل بعد العشاء إذ عقد ابن زياد لابن حريث رايته على الناس ، فلم يعلم بمسلم ولم يلتحق براية ابن حريث.

فمرّ به هانئ الوداعي فسأله عن حاله ووقوفه؟ فقال المختار : أصبح رأيي مرتجا (مقفلا) لعظم خطيئتكم! فأقبل الوداعي إلى ابن حريث فأخبره عنه ، وكان عنده عبد الرحمن الثقفي من قبيلة المختار فقال له ابن حريث : قم إلى عمّك فأخبره أنّ صاحبه (يعني مسلما) لا يدرى أين هو ، فلا يجعلنّ على نفسه سبيلا!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٧٢ ، ٣٧٣ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٥٥ ـ ٥٧.

٩٤

وكان زائدة بن قدامة الثقفي أيضا حاضرا فقام إلى ابن حريث وقال له : يأتيك على أنّه آمن؟! فقال ابن حريث : أمّا منّي فهو آمن ، وإن رقّي إلى الأمير عبيد الله شيء من أمره أقمت له الشهادة وشفعت له أحسن الشفاعة! فخرجا إليه وناشداه أن لا يجعل على نفسه سبيلا ، وأخبراه بقول ابن حريث ، فقبل منهم المختار ونزل بمن معه إلى راية ابن حريث حتى الصباح.

ولكن عين الأمويّين عمارة بن عقبة أخو الوليد بن عقبة سمع من الناس أمر المختار فرفع خبره إلى ابن زياد ، فلمّا أصبح ودخل عليه المختار دعاه فقال له : أنت المقبل في الجموع! لتنصر ابن عقيل؟! قال : لكنّي أقبلت حتّى نزلت تحت راية عمرو بن حريث وبتّ معه! فصدّقه ابن حريث ، ولكنّ ابن زياد رفع قضيبه وضرب به وجه المختار فشتر عينه وأمر به إلى الحبس فحبسوه (١)!

الكشف عن مسلم وقتاله :

بات مسلم في بيت طوعة ، وبات ابنها بلال بن اسيد الحضرمي حتى أصبح صباح يوم التروية الثامن من ذي الحجة الحرام لعام (٦٠ ه‍) ، ولعلّ بلالا سمع تطميع ابن زياد لمن يكشف عن مسلم بإعطائه ديته ، فسارع إلى مواليه بني الأشعث فالتقى بعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأخبره بمكان ابن عقيل عند أمّه طوعة. وكان أبوه محمد بن الأشعث قد سارع إلى أميره ابن زياد فأقعده إلى جنبه ، فسارع ابنه عبد الرحمن إلى أبيه فسارّه بشيء ، فبادره ابن زياد فسأله : ما قال لك؟ قال : أخبرني أنّ ابن عقيل في دار من دورنا! فنخس بقضيبه في جنبه وقال له : قم الساعة فأتني به!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٧٠ عن أبي مخنف.

٩٥

وكان يعلم ابن زياد أنّ كل قوم يكرهون أن يصاب فيهم مثل ابن عقيل فلم يبعث معه من كندة ، بل بعث صاحبه الشامي بكير بن حمران الأحمري إلى صاحب رايته عمرو بن حريث : أن ابعث مع ابن الأشعث سبعين رجلا من قيس! فدعا عمرو المخزومي بعمرو السلمي وبعث معه بسبعين فارسا من قيس مع ابن الأشعث إلى دار مولاتهم طوعة التي فيها ابن عقيل ، ومعهم بكير الأحمري الشامي.

فلمّا قربوا منه سمع وقع الخيل وأصوات الرجال فعرف أنّهم أتوه واقتحموا الدار عليه ، فخرج إليهم بسيفه وشدّ عليهم حتى أخرجهم منه ، وعادوا إليه فشدّ عليهم كذلك. فشدّ عليه بكير الأحمري بسيفه على وجهه فقطع شفته وثناياه العليا ، وضربه مسلم على رأسه وأخرى على حبل عاتقه فجرحتاه ولم يقتل. وأشرفوا على مسلم من فوق البيوت يلهبون النار في أحزمة القصب ويرمونه بها وبالحجارة! فخرج بسيفه إلى السكّة. فناداه ابن الأشعث : يا فتى! لك الأمان لا تقتل نفسك! فأجابهم مرتجزا :

أقسمت لا اقتل إلّا حرّا

وإن رأيت الموت شيئا نكرا

كل امرئ يوما ملاق شرّا

ويخلط البارد سخنا مرّا

ردّ شعاع النفس فاستقرّا (١)

أخاف أن أخدع أو أغرّا

فناداه ابن الأشعث : إنّك لا تكذب ولا تخدع ولا تغرّ! فإن القوم بنو عمّك! وليسوا بقاتليك ولا ضائريك! وكان يقاتل فعجز عن القتال مما اثخن جراحا بالحجارة! فأسند ظهره إلى حائط تلك الدار ، فدنا منه ابن الأشعث وكرّر عليه القول : لك الأمان! فقال مسلم : أنا آمن؟! قال : نعم وقال من معه : نعم أنت آمن!

__________________

(١) يعني كانت نفسه متبدّدة خوفا كالشعاع ثمّ ردت فاستقرت واطمأنت إلى الشهادة.

٩٦

فقال ابن عقيل : أما لو لم تؤمّنوني ما وضعت يدي في أيديكم! فعلموا أنه استسلم. فدنوا منه وانتزعوا منه سيفه وأتوه ببغلة فحملوه عليها ، فدمعت عيناه وقال : هذا أوّل الغدر! يعني نزعه سيفه. فقال ابن الأشعث : أرجو أن لا يكون عليك بأس! فقال : ما هو إلّا الرجاء! فأين أمانكم؟! واسترجع وبكى. فقال له أميرهم السّلمي : إن من جاء يطلب مثل الذي تطلب لا يبكي إذا نزل به مثل الذي نزل بك!

فأجابه مسلم : إني وإن كنت لم أحبّ لنفسي تلفا طرفة عين ، ولكنّي والله ما لها أبكي ولا لها من القتل أرثي ، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ! أبكي لحسين وآل حسين!

ثمّ التفت عن السّلمي إلى ابن الأشعث فقال له : يا عبد الله ، إنّي ـ والله ـ أراك ستعجز عن أماني! فهل عندك خير؟ إني لا أرى حسينا إلّا قد خرج هو وأهل بيته مقبلا إليكم اليوم أو هو خارج إليكم غدا! وإنّ ما ترى من جزعي لذلك! فهل تستطيع أن تبعث من عندك رجلا يبلّغ حسينا عن لساني فيقول له : إنّ ابن عقيل بعثني إليك ـ وهو أسير في أيدي القوم لا يرى أن يمسي حتّى يقتل ـ وهو يقول لك : ارجع بأهل بيتك! ولا يغرّك أهل الكوفة! فإنّهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل! إنّ أهل الكوفة كذبوك وكذبوني ، وليس لمكذّب رأي!

فقال له ابن الأشعث : والله لأفعلن ذلك ، ولأعلمنّ ابن زياد أني قد أمّنتك (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٧٣ ـ ٣٧٥ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٥٧ ـ ٦٠.

٩٧

مسلم في دار الإمارة ، ووصيّته :

اجتمع على باب دار الإمارة عمارة بن عقبة الأموي أخو الوليد ، وصاحب راية ابن زياد على الناس عمرو بن حريث المخزومي ، ومن أمرائه كثير بن شهاب الحارثي الهمداني ومسلم بن عمرو الباهلي ، وكأنّ ابن زياد حجبهم ينتظر خبر مسلم ، وأقبل محمّد بن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر ، وعلى الباب قلّة ماء بارد ، وكان مسلم جريحا عطشانا فلمّا رأى الماء قال لهم : اسقوني من هذا الماء. فقال له الباهلي البصري : أتراها! ما أبردها! لا والله لا تذوق منها قطرة أبدا حتى تذوق الحميم في نار جهنّم! فقال له ابن عقيل : ويحك من أنت؟ قال : أنا من عرف الحقّ إذ أنكرته! ونصح لإمامه إذ غششته! وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفته! أنا مسلم بن عمرو الباهلي.

فقال مسلم : لأمّك الثكل ما أجفاك وما أفظّك وأقسى قلبك وأغلظك! أنت ـ يابن باهلة ـ أولى بالحميم والخلود في نار جهنّم منّي! ثمّ جلس واستند إلى الحائط.

وكان مع عمرو المخزومي غلامه سليمان فبعثه ليأتيه بماء ، فذهب وجاءه بقلّة ماء عليها منديل ومعه قدح ، فأمره أن يسقي مسلما فصبّ ماء في القدح وناوله ، فلمّا أراد أن يشرب منه امتلأ القدح دما ، فأراقه وملأ له القدح ، فامتلأ دما ، فأراقه وملأ له القدح ثالثة وذهب مسلم ليشرب فسقطت ثناياه فيه ، فكأنّه اكتفى ببلل شفاهه وقال : الحمد لله ، لو كان لي من الرزق المقسوم شربته.

واستأذن محمّد بن الأشعث على ابن زياد فأذن له ، فدخل عليه وأخبره خبر مسلم وجرحه وما كان منه ومن أمانه له! فقال ابن زياد : بعدا له! وما أنت والأمان! كأنّا أرسلناك تؤمّنه ، إنّما أرسلناك لتأتينا به!

ثمّ أمر بإدخال مسلم عليه ، فأدخله الحرسيّ حتى أوقفه بين يدي ابن زياد ، فلم يسلّم عليه ، فقال له الحرسيّ : ألا تسلّم على الأمير؟ قال :

٩٨

إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه؟! وإن كان لا يريد قتلي فلعمري ليكثرنّ سلامي عليه! فقال ابن زياد : فلعمري لتقتلنّ! قال : كذلك؟! قال : نعم! قال : فدعني اوصي إلى بعض قومي.

وكان عمر بن سعد بن أبي وقّاص الزهري قد دخل قبلهم وهو جالس مع ابن زياد ، وكان مسلم يعرفه من قبل ، فلمّا نظر إليه مسلم ناداه : يا عمر! إن بيني وبينك قرابة (قرشيّة) ولي إليك حاجة ، وقد يجب لي عليك إنجاح حاجتي ، وهو سرّ! فلم يقم إليه حتى قال له ابن زياد : لا تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك! فقام عمر إلى مسلم وتنحّيا إلى حيث يراهما ابن زياد ، فقال مسلم لابن سعد :

إنّ عليّ دينا استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمئة درهم ، فاقضها عنّي.

وانظر جثّتي فاستوهبها من ابن زياد فوارها.

وابعث إلى حسين من يردّه ، فإني كتبت إليه اعلمه أنّ الناس معه ، ولا أراه إلّا مقبلا.

وقاما فاعيد مسلم إلى ما بين يدي ابن زياد ، ودنا ابن سعد إلى ابن زياد فقال له : أتدري ما قال لي؟ ثمّ ذكر له وصاياه الثلاثة. فقال ابن زياد : إنّه لا يخونك الأمين ولكن قد يؤتمن الخائن! فاتّهمه بالخيانة! ثمّ قال له : أمّا مالك ؛ فهو لك ، ولسنا نمنعك أن تصنع فيه ما أحببت (من قضاء دين مسلم) وأما حسين ؛ فإنّه إن لم يردنا لم نرده ، وإن أرادنا لم نكفّ عنه! (وسكت عن وصيّة مسلم) ثمّ قال : وأمّا جثّته ؛ فإنّا لن نشفّعك فيها! إنّه ليس بأهل منّا لذلك. قد جاهدنا وخالفنا وجهد على هلاكنا (١)!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٧٥ ـ ٣٧٧ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٦٠ ـ ٦١ واختار في جواب ابن زياد بشأن جثمان مسلم الخبر الآخر : وأمّا جثته فإنّا لا نبالي إذا قتلناه ما يصنع بها!

٩٩

ابن زياد وابن عقيل ومقتله :

ثمّ التفت ابن زياد إلى ابن عقيل وقال له : إيه يابن عقيل : أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة لتشتّتهم وتفرّق كلمتهم ، وتحمل بعضهم على بعض!

قال : كلّا! لست (أنا) أتيت ، ولكن أهل (هذا) المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم ، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم (إجابة) لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب.

وكأنّ ابن زياد لم يجد جوابا له إلّا أن يباهته باتّهامه بالفسق فقال له : وما أنت وذاك! أو لم نكن نعمل فيهم بذلك (بالعدل والكتاب) إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر!

قال : أنا أشرب الخمر! والله ، إنّ الله ليعلم أنّك غير صادق! وأنّك قلت بغير علم! وأنّي لست كما ذكرت ، وأنّك أحقّ مني بشرب الخمر وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغا فيقتل النفس التي حرّم الله قتلها! ويقتل النفس بغير النفس! ويسفك الدم الحرام! ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظن وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئا!

قال ابن زياد : يا فاسق! إنّ نفسك (كانت) تمنّيك ما حال الله دونه ولم يرك أهله!

قال : فمن أهله يابن زياد؟ قال : أمير المؤمنين يزيد! فقال مسلم : الحمد لله على كل حال ، رضينا بالله حكما بيننا وبينكم! قال : كأنّك تظنّ أنّ لكم بها شيئا! قال : والله ما هو بالظنّ ولكنّه اليقين! قال : قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام! قال : أما إنّك أحقّ من أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه! أما إنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة! وخبث السيرة ولؤم الغلبة! ولا أحد من الناس أحقّ بها منك!

فأقبل ابن سمية يشتمه ويشتم حسينا وعليّا وعقيلا! فسكت مسلم عليه‌السلام.

١٠٠