موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

وكان ممّا أثار خيار القرّاء والحجّاج على الحجّاج ما أثاره هو من العجاج واللجاج في تفضيل الخليفة الأموي حتّى على الرسول والنبيّ فضلا عن الوصيّ ، حتّى أنهم سمعوه يخطب على المنبر يقول : أخليفة أحدكم في أهله أكرم عليه أم رسوله في حاجته؟! يعني أن الخليفة أكرم على الله من رسوله (١)!

وممّا أثارهم على عبد الملك أنه كتب إلى الحجّاج أن يبعث إليه بثلاثين جارية : عشرة من ذوات الأحلام وعشرة من النجائب وعشرة من قعّد النكاح (٢).

أسرى الخوارج ، والحجّاج :

لمّا انهزم ابن الأشعث حلف الحجّاج : أن لا يؤتى بأسير منهم إلّا ضرب عنقه (٣) ولعلّه بلغ ابن مروان ، فروى العصفري البصري عن المدائني البصري قال : كتب عبد الملك إلى الحجّاج في بقايا الخوارج مع ابن الأشعث : أن ادع الناس إلى البيعة ، فمن أقرّ بالكفر! فخلّ سبيله ، إلّا رجلا نصب راية أو شتم أمير المؤمنين.

وكان الحجّاج قد أسر ناسا كثيرا منهم بنو ضبيعة من عنزة البصرة وسيّدهم مسمع ومن قرّاء مواليهم عمران بن عصام ، وكان الحجّاج لما قدم العراق أمر مسمع أن يزوّج عمران ابنته ماوية! ثمّ أوفد من البصرة وفدا إلى عبد الملك فأوفده فيهم ، ولم يكن يوفد الموالي! وجيء اليوم بهم مع الأسرى ، فقرأ عليهم كتاب عبد الملك ، وفيهم عمران فدعا به الحجّاج وقال له : أتشهد على نفسك بالكفر؟! قال : ما كفرت بالله منذ آمنت به! قال : ألم أقدم العراق فأوفدتك

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٤٧ مسندا.

(٢) مروج الذهب ٣ : ١٤٩.

(٣) مروج الذهب ٣ : ١٥٤.

٤٨١

ولا يوفد مثلك؟! قال : بلى! قال : وزوّجتك سيدة قومها ماوية بنت مسمع ، ولم تكن لها بأهل! قال : بلى! قال : فما حملك عن الخروج؟ قال : أخرجني باذان (؟) قال : فمن أخرجك عن حجلة أهلك؟! قال : أخرجني باذان! وكان معمّما فكشطوا عمامته فإذا هو محلوق! فأمر به فضربت عنقه (١).

قال : واتي بالشعبي فعاتبه فقال الشعبي : أجدب بنا الجناب ، وأحزن بنا المنزل ، واستحلسنا الخوف (منك) وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء!

فقال الحجّاج : لله أبوك! ومنّ عليه فتركه. وقتل الحجّاج في مسكن أربعة آلاف أو خمسة آلاف أسير (٢). وجعل يتلقّط بقاياهم حتّى قتل خلقا كثيرا ، وعفا عن جماعة منهم الشعبي وإبراهيم النخعي.

وفي السنة التي هرب فيها ابن الأشعث بني الحجاج مدينة واسط وقال : انزل بين البصرة والكوفة (٣) كأنه استنكف من الأوبة إلى الكوفة بل والبصرة وقد قتل منهم خلقا كثير!

وقال ابن قتيبة : لما انهزم ابن الأشعث وكان الحجّاج مترجلا وقد وضع له منبر من حديد دعا بدابته فركبها وركب من معه فانتهى إلى ربوة فأومأ إليها ووقف في ذلك المرتفع ، ينظر إلى معسكر ابن الأشعث وأصحابه ينتهبونه.

ثمّ رجع إلى معسكره فنزل إلى فسطاطه فجلس وأذن فدخلوا عليه يهنئونه بفتحه ، وأخذوا يأتونه بالأسرى فيقتلهم إلى الليل. ثمّ قفل إلى واسط التي بناها ،

__________________

(١) تاريخ خليفة : ١٧٧ و ١٧٨.

(٢) تاريخ خليفة : ١٨١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٨ و ٢٧٩.

٤٨٢

وأقام لا يمرّ عليه يوم إلّا ويؤتى بأسرى فيقتلهم! فلما رأى كثرة من يؤتى به أخذ يتحرّى فيقول له : أمؤمن أنت أم كافر؟! فمن أقرّ بالكفر أو النفاق عفا عنه ، ومن قال : مؤمن قتله (١)!

وكان هو يلقّن ذلك من كان من الأسرى من ثقيف! أتي بأحدهم وخلفه رجل من السكون ، فقال الحجاج للثقفي أكفرت؟ قال : نعم ، قال : لكن هذا الذي خلفك لم يكفر! فقال السكوني : أتخادعني عن نفسي! بلى والله ولو كان شيء أشدّ من الكفر لبؤت به! فخلاهما (٢).

ثمّ أتي برجل من فرسان عبد الرحمن من بني عامر فقال له : والله لأقتلنك شرّ قتلة! قال : والله ما ذلك لك! قال : ولم؟ قال : لأنّ الله يقول : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) فإمّا أن تمنّ علينا أو تفدينا عشائرنا!

فقال الحجاج : أكفرت؟ قال : نعم ، وغيّرت وبدلت! فخلّاه (٣).

عامر بن شراحيل الشعبي :

قال ابن قتيبة : كان عامر الشعبي مع ابن الأشعث وكان خاصّ المنزلة به ، ليس لأحد منه مثلها للذي كان عليه من حاله إلّا سعيد بن جبير ، وأفلت سعيد بن جبير إلى مكّة.

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ٤٦ و ٤٧.

(٢) مروج الذهب ٣ : ١٥٦.

(٣) مروج الذهب ٣ : ١٥٥ ـ ١٥٦.

٤٨٣

وأتي بالشعبي إلى الحجّاج في سورة غضبه وهو يقتل الأسرى إلّا من أقرّ بالكفر أو النفاق! فلقيه يزيد بن أبي مسلم مولى الحجّاج وحاجبه فقال له :

يا شعبي! لهفي للعلم الذي بين دفّتيك! وليس هذا بيوم شفاعة! إذا ادخلت على الأمير فأقرّ له بالكفر والنفاق عسى أن تنجو!

وأدخل الشعبي والحجّاج واضع رأسه ، فلمّا رفع رأسه رآه وعرفه فقال له : وأنت أيضا يا شعبي ممّن أعان علينا وألّب؟ قال : أصلح الله الأمير ؛ إنّي امرت بأشياء أقولها لك ارضيك بها وأسخط الربّ! فلست أفعل ذلك! ولكنّي اصدقك القول ، فإن كان شيء ينفع لديك فهو في الصدق إن شاء الله : أحزن بنا المنزل. وأجدب الجناب ، واكتحلنا السهر واستحلسنا الخوف (منك) وضاق بنا البلد العريض فوقعنا في خزية لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء!

فقال له الحجّاج : كذلك؟ قال : نعم أصلح الله الأمير وأمتع به. وكان مع الحجّاج جنود الشام فقال لهم :

يا أهل الشام : صدق والله ما كانوا بررة أتقياء فيتورّعوا عن قتالنا! ولا فجرة أقوياء فيقووا علينا! ثمّ قال للشعبي : انطلق يا شعبي فقد عفونا عنك فأنت أحقّ بالعفو ممّن يأتينا وقد تلطّخ بالدماء ثمّ يقول : كان كذا وكان كذا.

وبعد شهرين رفع إلى الحجّاج فريضة من فرائض الإرث أشكلت عليه في : امّ وجّد وأخت. فقال : من هاهنا نسأله عنها؟ فدلّ على الشعبي فأرسل إليه فسأله عنها ، فقال له :

أصلح الله الأمير ، قال فيها خمسة من أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : عليّ بن أبي طالب! وأمير المؤمنين عثمان! وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن مسعود ،

٤٨٤

وزيد بن ثابت ، فاختار رأي عثمان وقال : يا غلام ، قل للقاضي يمضيها على ما قال أمير المؤمنين عثمان (١).

وأقام الأشعريون منهم بقم :

مرّ في أوائل أخبار المختار خبر قيام التابعيّ السائب ابن الصحابي مالك بن عامر الأشعري يردّ على الأمير الزبيري عبد الله بن المطيع العدوي قوله بأن يسير فيهم بسيرة عمر وعثمان ، ولم يذكر عليّا عليه‌السلام بشيء ، فقال السائب : «لا حاجة لنا في سيرة عثمان ... ولا في سيرة عمر في فيئنا! وأن لا يسار فينا إلّا بسيرة علّي بن أبي طالب رحمة الله عليه» (٢).

وأنّه كان من أركان شؤون المختار وأنصاره في مساره حتى مصيره في حصره في قصره دار الإمارة حتّى قتل معه ، وكان ابنه محمّد معه واستصغر فنجا من مجزرة مصعب بن الزبير لسبعمئة ممّن كان مع المختار ، ثمّ كان مع السائب ابن الأشعث فقتله الحجّاج (٣).

وكان مع ابن الأشعث أيضا أخ السائب : سعد بن مالك أو بعض أبنائه الخمسة : عبد الله وعبد الرحمان وإسحاق ونعيم والأحوص ، واسر الأحوص وسجن وافرج عنه على غير متوقّع ؛ ولذا كان في الحسبان أنّ شرطة الحجّاج سيعودون عليه ، وكأنّ أخاه عبد الله لم يكن معه فأشار عليه أن لا يبقى في الكوفة بل يخرج منها لكي لا يعودوا عليه بالقبض فالقتل أو السجن ، وتوافق إخوته

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ٤٧ ـ ٤٩ مرسلا ومروج الذهب ٣ : ١٤٥ ـ ١٤٦ مسندا.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ١١ عن أبي مخنف.

(٣) ترجمة تاريخ قم بالفارسية : ٢٦٤ ، للحسن بن علي القمي المتوفى في (٨٠٦ ه‍).

٤٨٥

عبد الله وعبد الرحمن وإسحاق ونعيم أن يلتحقوا به ، قاصدين بني أعمامهم في خراسان ، وكأنّهم لمّا علموا مقاتلة أبناء المهلّب الأزدي : يزيد والمفضّل في فارس وهراة في خراسان لفلول ابن الأشعث ـ كما مرّ ـ يئسوا من خراسان ، فقصدوا جبال أرمينية في آذربايجان ليتحصّنوا بها ، عن طريق «كمندان» فإصفهان.

فخرج الأحوص بأهله من الكوفة متّجها نحو إصفهان ، لكنّه لما وصل إلى قرية أبرشتجان من قرى «كمندان» ورأوا القلاع والكلأ والماء بها ، وكانت قبل أيام النوروز ، نزلوا بها والتحق به إخوته ، ولهم إبل ومواشي كثيرة.

وكانت المنطقة ولا سيّما في تلك الأيام (النوروز) معرّضة لهجوم طوائف من الديلم ، وفي أوّل حملة للديلم بعد حضور الأشعريين في المنطقة ، رأوا لهؤلاء إبلا ومواشي كثيرة فأغاروا عليهم ، فقاتلهم الأشعريون فقتلوا منهم وأسروا وهزموا بقاياهم ، وكان رئيس «كمندان» يومئذ فارسيّا منهم يسمّى «يزدانفر» فأرسلوا بالأسرى ورؤوس القتلى إليه ، ففرح الأهالي بفعلهم وناشدوهم البقاء ، وقدّموا لهم الهدايا والتّحف ومراعي ومزارع وأراضي وبذورا وأدوات الزراعة. فقال عبد الله : ولكن ليس لنا هنا مسجد نصلّي فيه ، فخالف البقاء هنا وأرادهم أن يذهبوا إلى بلاد قزوين ليصبحوا مرابطين لثغور المسلمين مع جبال الديلمان وهم على كفرهم يومئذ.

فقال له الأحوص : إنّ الديلم تهجم على هذه المنطقة في كلّ عام ، كما رأيت ـ فهي رباط كذلك! وكان هناك محلّ لبيت نار فهدمه الأحوص وبناه مسجدا (١) ، ليزيل علّة أخيه عبد الله ، فرضي وبقي وبقوا.

__________________

(١) ترجمة تاريخ قم بالفارسية : ٢٤٣ ـ ٢٥٣ ، الفصلان الأولان من الباب الرابع.

٤٨٦

وقال الحموي : كان هناك سبع قرى اسم إحداها (أو مركزها) : گمندان (المكان الضائع بين الجبال) فنزل هؤلاء الإخوة على هذه القرى ... واستوطنوها ، واجتمع إليهم أبناء عمومتهم ، والتحمت القرى فصارت سبع محالّ بها ، فسمّيت باسم إحداها «كمندان» وعرّبوها وأسقطوا بعض حروفها ، فصارت بتعريبهم : قم. وكان لعبد الله ولد بالكوفة (موسى) ثمّ انتقل منها إلى قم ، وكان هذا «إماميّا» فهو الذي نقل «التشيّع» إلى قم ، فلا يوجد بها سنّي قط (١)!

ولذا قال صاحب «تاريخ قم» : إنّ أوّل من أظهر التشيّع بقم : موسى بن عبد الله الأشعري (٢).

وبناء على ما مرّ فإنّ إقامة الأشعريين بقم كانت بمناشدة لهم من أهلها وتقديمهم الأراضي لهم ، وحتّى بيت نارهم المتروك ليهدموه ويبنوه لأنفسهم مسجدا ، بإزاء دفعهم أذى الديلمان عن «كمندان» والحموي عكس ذلك فضمن بيانه السابق ناقض فقال : نزل هؤلاء الإخوة على هذه القرى وقاتلوا أهلها حتّى افتتحوها واستولوا عليها واستوطنوها! فجعل القتال دفاعا عنهم دفعا لهم عن أموالهم وديارهم بل وأرواحهم. وهل كان هذا فتحا مكررا بعد ما قال : إنّها فتحت على يد الأحنف بن قيس التميمي على مقدمة أبي موسى الأشعري (٣)؟!

__________________

(١) معجم البلدان ٤ : ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

(٢) ترجمة تاريخ قم بالفارسية : ٢٧٨ ف ٦ ، ب ٥ ، بقي أن نقول : إنه لم يذكر سجن الحجّاج وقال : سجن بعد قتل زيد بن علي! وأرّخ لذلك بسنة اثنتين وستين! وهذا الثاني تصحيف عن الثمانين والأوّل وهم ؛ فإنّ قيام زيد لم يكن في أيّ من هذين التاريخين بل بعد هذا.

(٣) وانظر : قم حرم أهل البيت عليهم‌السلام لأخينا الشيخ محمد علي الأنصاري : ٢٤ ـ ٢٩.

٤٨٧

ومصير ابن الأشعث الانتحار :

قال اليعقوبي : مضى منهزما لا يلوي على شيء إلى زرنج من سجستان ، وكان عليها عبد الله بن عامر فمانعه من دخولها ، فمضى إلى بست ، وكان عليها عياض بن عمرو فدبّر أن يغدر به فيتقرّب به الحجّاج فأدخلهم ... ثمّ صار إلى رتبيل صاحب تلك البلاد فوفى له رتبيل بما كان بينهما فأقام عنده في أمن وسلامة ... في أربعة آلاف من أصحابه.

وبلغ الحجّاج ذلك فدعا عمارة بن تميم اللخمي وكتب معه إلى رتبيل يأمره أن يوجه إليه ابن الأشعث وإلّا فإنّه يوجه إليه بمئة ألف مقاتل! ووجّهه إليه ، فلم يفعل ... فعاد عمارة وأقام بمدينة بست. وهرب عبيد بن أبي سبيع من عند رتبيل فصار إلى عمارة بن تميم في بست وقال له : تجعلون لي شيئا وتكفّون عن رتبيل وتصالحونه ويسلّم إليكم ابن الأشعث. فكتب عمارة بذلك إلى الحجّاج فوافق الحجّاج ، فكتب عمارة لعبيد عهودا وختمها بخاتمه ، فأخذها عبيد وعاد بها على رتبيل فلم يزل يرغّبه مرّة ويرهبه اخرى حتّى أجابه إلى أخذ ابن الأشعث فأخذه وأخاه وجماعة معه ، وقيّدهم وحملهم معهم في الحديد إلى الحجّاج. وكان عبد الرحمان قد قيّد مع رجل يقال له أبو العنز ، وكان الفصل حارّا فأصعدوهم في الرخّج إلى سطح دار ، فرمى بنفسه ـ وصاحبه ـ من فوق السطح فماتا جميعا فاحتزوا رأس ابن الأشعث وحمل إلى الحجّاج ، فحمله الحجّاج إلى عبد الملك (١) ووجّه به عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز في مصر وذلك في سنة (٨٣ ه‍) (٢).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٨ و ٢٨٩.

(٢) تاريخ خليفة : ١٨٢ ـ ١٨٣ والتنبيه والإشراف : ٢٧٣.

٤٨٨

خطبة الحجّاج لقتل ابن الأشعث :

قال المسعودي : لما قتل ابن الأشعث واتي برأسه إلى الحجّاج ، رقى منبر الكوفة (أو الواسط) فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله ثمّ قال : يا أهل العراق ، إن الشيطان استبطنكم فخالط منكم اللحم والعظم ، والأعضاء والأطراف ، وجرى منكم مجرى الدم ، وأفضى إلى الأضلاع والأمخاخ ، فحشا ما هناك شقاقا واختلافا ونفاقا ، ثمّ أربع فيه فعشش ، وباض فيه وفرّخ ، فاتّخذتموه دليلا تتابعونه ، وقائدا تطاوعونه ، ومؤامرا تؤامرونه!

ألستم أصحابي «بالأهواز» حين سعيتم بالغدر بي فاستجمعتم عليّ حيث ظننتم أن الله سيخذل دينه وخلافته؟! واقسم بالله أني (كنت) لأراكم بطرفي وأنتم تتسلّلون لواذا منهزمين وسراعا متفرقين ، فكل امرئ منكم سيفه على عنقه رعبا وجبنا!

ثمّ يوم «الزاوية» وما يوم الزاوية (بالبصرة) كان بها فشلكم وتخاذلكم ، وبراءة الله منكم ، وتولّيكم على أكتافكم السيوف هاربين ، ونكوص وليكم عنكم ، إذ ولّيتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها. لا يسأل الرجل عن بنيه ، ولا يلوي امرؤ على أخيه ، حتّى عضّتكم السلاح وقصفتكم الرماح!

ويوم «دير الجماجم» كانت بها الملاحم والمعارك العظائم!

فما الذي أرجوه منكم يا أهل العراق! أم ما الذي أتوقّعه! ولماذا استبقيكم! ولأي شيء أدّخركم؟ أللفجرات بعد الغدرات؟ أم للنزوة بعد النزوات؟ وما الذي اراقب بكم؟ وما الذي انتظر فيكم! إن بعثتم إلى ثغوركم جبنتم! وإن أمنتم أو خفتم نافقتم! لا تجزون بحسنة ولا تشكرون نعمة!

يا أهل العراق! هل استنبحكم نابح أو استشلاكم غاو أو استخفّكم ناكث أو استنفركم عاص إلّا تابعتموه وبايعتموه ، وآويتموه وكفيتموه؟!

٤٨٩

يا أهل العراق! هل شغب شاغب أو نعب ناعب أو دبى كاذب إلّا كنتم أنصاره وأشياعه؟!

يا أهل العراق! لم تنفعكم التجارب وتحفظكم المواعظ وتعظكم الوقائع ، فهل يقع في صدوركم ما أوقع الله بكم عند مصادر الامور ومواردها؟! ثمّ التفت إلى الشاميين الحاضرين وقال لهم :

يا أهل الشام! أنتم العدة والعدة! والجنّة في الحرب ، إن نحارب حاربتم أو نجانب جانبتم! وأنا لكم كالظليم الرامح (المدافع) عن فراخه ينفي عنهنّ القذى ويكنفهنّ من المطر ويحفظهنّ من الذئاب ويحميهنّ من سائر الدواب! فلا يخلص معه إليهن قذى ولا يمسهنّ أذى ولا يفضي إليهنّ ردى! وما أنتم وأهل العراق إلّا كما قال نابغة بني جعدة :

وإن تداعيهم حظّهم ولم ترزقوه ولم نكذب

كقول اليهود: قتلنا المسيح ولم يقتلوه ولم يصلب (١)

احتجاج الحجّاج على عبد الملك :

قال المسعودي : ولمّا أسرف الحجّاج في قتل أسارى «دير الجماجم» (أربعة أو خمسة آلاف) وفي بذل الأموال لرجال القتال ، بلغ ذلك عبد الملك ، فكتب إليه : أمّا بعد ، فقد بلغ أمير المؤمنين سرفك في الدماء وتبذيرك في الأموال ، ولا يحتمل أمير المؤمنين هاتين الخصلتين لأحد من الناس! فحكم عليك في الدماء في العمد القود وفي الخطأ الدية! وفي الأموال العمل فيها برأيه!

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٣٢ ـ ١٣٣.

٤٩٠

فإنمّا أمير المؤمنين أمين الله! وسيّان عنده منع حقّ وإعطاء باطل ... وظنّ بأمير المؤمنين كلّ شيء إلّا احتمالك على الخطأ! وإذا أعطاك (أو أتاك) الظفر على قوم فلا تقتلنّ جانحا ولا أسيرا! (بعد خمسة آلاف أو أربعة)! وختم كتابه بسبعة أبيات من شعره.

فلمّا قرأ الحجّاج كتابه كتب : أمّا بعد ، فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين! يذكر فيه سرفي في الدماء وتبذيري الأموال! ولعمري ما بلغت في عقوبة أهل المعصية ما هم أهله! (بعد أربعة أو خمسة آلاف)! وما قضيت حقّ أهل الطاعة بما استحقّوه! فإن كان قتلي اولئك العصاة سرفا ، وإعطائي اولئك المطيعين تبذيرا فليسوّغني أمير المؤمنين ما سلف! ثمّ ليحدّ لي فيه حدّا أنتهي إليه إن شاء الله تعالى! ولا قوّة إلّا بالله! وو الله ما ظلمتهم فأقاد بهم ولا أصبتهم خطأ فأديهم! ولا قتلت إلّا فيك ولا أعطيتهم إلّا لك. ثمّ قابله بمثله شعرا.

فلمّا انتهى كتابه إلى عبد الملك قال : خاف أبو محمد (الحجّاج) صولتي! ولن أعود لشيء يكرهه (١)!

أمر الحجّاج بإعجام كلام الله :

كثر القرّاء على عهد الحجّاج بالعراق ، وكثروا في عسكر عبد الرحمان بن الأشعث ، وكثر قتل الحجّاج لأكثرهم ، فكان ما قاله أبو أحمد العسكري : كثر التصحيف (في القراءة) وانتشر بالعراق ، ففزع الحجّاج بن يوسف إلى كتّابه وسألهم أن يضعوا للحروف المشتبهة علامات. فيقال : إنّ نصر بن عاصم الليثي

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٣٣ ـ ١٣٥.

٤٩١

(تلميذ أبي الأسود الدؤلي) قام بذلك ، فوضع النقط أفرادا وأزواجا ، وخالف بين أماكنها (١).

وزاد غيره : يحيى بن يعمر العدواني البصري (٢) وكرهه إبراهيم النخعي وعامر الشعبي (٣) واستحسنه الحسن البصري ومحمّد بن سيرين (٤) وقالوا : أصلح الحجّاج الرسم القرآني في أحد عشر موضعا فأصبحت أيسر وأوضح (٥) ونقل الزركشي عن أحمد بن الحسين : أنّ الحجّاج بعث فجمع قرّاء البصرة ثمّ اختار منهم جماعة ثمّ أمرهم أن يعدّوا حروف القرآن فعدّوها في أربعة أشهر ، ثمّ ذكر التفاصيل (٦) ونقل السمهودي عن مالك بن أنس : أنّ الحجّاج أرسل إلى امهات القرى بمصاحف (استكتبها) فمنها إلى المدينة ، وكان في صندوق على يمين أسطوانة مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان يفتح كلّ خميس وجمعة (٧) كلّ ذلك عسى ولعلّه يجبر كثرة قتله للقرّاء! وأكمل الخبر الصادق عليه‌السلام قال : كان بين الحائط والمنبر قدر

__________________

(١) نقلا عن كتاب التصحيف : ١٣.

(٢) مناهل العرفان ١ : ٣٩٩ ، وانظر الشيعة وفنون الإسلام : ٥٦ ، وتاريخ القرآن : ٩٧ ، وبحوث في تاريخ القرآن وعلومه : ١٧٠ ـ ١٧٥ ، والتمهيد ١ : ٣٠٩ ، وتلخيصه ١ : ١٨٥ ، وشكّك صبحي في مباحث في علوم القرآن : ٩١ ـ ٩٣.

(٣) مناهل العرفان ١ : ٤٠٢ عن التبيان للنووي.

(٤) الإتقان ٢ : ٢٩٠.

(٥) المصاحف لابن أبي داوود ، وذكر المواضع.

(٦) البرهان ١ : ٢٤٩ ـ ٢٥٢.

(٧) وفاء الوفاء ٢ : ٦٦٧ ـ ٦٦٨ وقال : حتّى بعث المهدي العباسي بمصاحف فنحّى مصحف الحجّاج.

٤٩٢

ممرّ رجل وهو منحرف ، فكان يوضع القرآن عند القامة والمنبر ، فكان الرجل يأتي فيكتب السورة ، ويجيء آخر فيكتب السورة ، كذلك كانوا يصنعون ، ثمّ إنهم اشتروا بعد ذلك (١).

ويقترح الحجّاج ولاية الوليد :

قال ابن قتيبة : لمّا كانت سنة (٨١ ه‍) عقد عبد الملك لموسى بن نصير (المولى الفارسي) على إفريقية وما حولها وضمّ إليها برقة ، ووجّهه لقتال من بها من البربر. فلمّا قدم موسى بن نصير مصر متوجّها إلى برقة والبربر وإفريقية وانتهى ذلك إلى عبد العزيز بن مروان بمصر ، ردّ موسى من مصر إلى الشام.

فانصرف موسى بن نصير إلى عبد الملك بالشام فذكر له ما استقبله به أخوه عبد العزيز وما ناله منه من الامتهان! فأجابه عبد الملك : إنّ عبد العزيز صنو أمير المؤمنين وقد أمضينا فعله!

وبعث عبد العزيز بدل موسى بن نصير : قرّة بن حسان التغلبي ، فتوجّه قرة إلى إفريقية فقتل أكثر أصحابه وهزموا. وكان عبد العزيز وليّ العهد لعبد الملك من قبل أبيهما مروان.

وكأنّ الحجّاج أراد أن يتزلّف إلى عبد الملك فكتب يقترح عليه أن يكتب لابنه الوليد العهد من بعده وأن يبايع هو له في العراقين! فكتب عبد الملك إلى الحجّاج يقول له : ما أنت والتكلّم بهذه الأمور (٢)؟!

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢ : ١١٥ ، الباب ٣١ ، الحديث ٨ و ٩.

(٢) الإمامة والسياسة ٢ : ٥٤.

٤٩٣

ثمّ عزم عبد الملك على ذلك فكتب إلى الحجّاج بأن يشخص إليه عامر بن شراحيل الشعبي الهمداني! فأشخصه إليه فآنسه وبرّه وأقام عنده أياما ثمّ قال له : إنيّ أأتمنك على شيء لم أاتمن عليه أحدا! إنه قد بدا لي أن ابايع للوليد بولاية العهد بعدي ، فاذهب إلى عبد العزيز وزيّن له أن يخلع نفسه من ولاية العهد على أن تكون له مصر طعمة!

ثمّ نقل اليعقوبي عن الشعبي قال : فذهبت إلى عبد العزيز ، فما رأيت ملكا أسمح أخلاقا منه! وذات يوم وأنا خال به احدّثه إذ قلت له : أصلح الله الأمير ، والله إن رأيت ملكا أكمل ولا نعمة أنضر ولا عزّا أتمّ ممّا أنت فيه! ولقد رأيت عبد الملك طويل النصب كثير التعب ، قليل الراحة دائم الروعة ، هذا إلى ما يتحمّل من أمر الامّة! والله لوددت أنّهم أجابوك إلى أن يصيّروا مصر طعمة لك ثمّ يصيّروا عهدهم لمن أحبّوا! فقال : ولكن من لي بذلك؟ فعرفت ما عنده من الموافقة على ذلك.

فانصرفت عائدا إلى أخيه عبد الملك فأخبرته الخبر ، فخلع عبد الملك أخاه من ولاية العهد وولّاها ابنيه الوليد ثمّ سليمان بعده. فقيل : إنّ عبد العزيز سقي سمّا .. وكان على مصر والمغرب. فجعلهما لابنه الثالث عبد الله بن عبد الملك. وطلب البيعة للوليد ولسليمان معا. وكان على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي فطلبها من (ابن عمّه) سعيد بن المسيّب (المخزومي) فأبى أن يجمع بيعتين ، فضربه هشام ستين سوطا وطاف به. فبلغ ذلك عبد الملك فكتب إلى هشام يلومه على ذلك (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

٤٩٤

وقال خليفة : بل قال سعيد لهشام : إن أحبّ عبد الملك أن ابايع الوليد فليخلع نفسه! فقال هشام : فادخل من هذا الباب واخرج من آخر ليرى الناس أنّه قد بايع! فأبى وقال : لا يغترّبي أحد! فضربه مئة سوط! فحين بلغ ذلك عبد الملك قال : بئسما صنع هشام! مثل سعيد لا يضرب بالسياط ، كان ينبغي أن يضرب عنقه! أو يدعه! وكان ذلك سنة أربع (أو خمس) وثمانين.

وفيها كان أخو عبد الملك : محمّد بن مروان ما زال على الموصل والجزيرة وإلى أرمينية ، وزحفت الروم إلى أرمينية ، فكأنّه بلغه عنهم أنّهم استقبلوهم مرحّبين ، فلمّا هزمهم محمّد بعث من موالي عثمان بن عفّان : زياد بن الجرّاح ومعه جمع ، فجمع أهل نخجوان النشوى والبسفرجان في كنائسهم وبيعهم وقراهم وحرّقها عليهم! فسمّيت عندهم سنة الحريق.!

ثمّ ولّاها عبد الله بن حاتم الباهلي ، فمات ، فولّاها أخاه عبد العزيز بن حاتم فبنى مدن النشوى وبرذعة ودبيل سنة (٨٥ ه‍).

وخرج من أنطاكية أكثر من ألف إلى طوانة بثغر المصّيصة من ثغور الروم ، فلقيهم الروم في جموع كثيرة فاصيب نحو من ألف منهم من أهل أنطاكية.

وفي سنة (٨٦ ه‍) غزا مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم ففتح حصن بولاق وحصن الأخرم قبيل وفاة أبيه.

وفيها في النصف من شوال مات عبد الملك بدمشق وهو ابن ثلاث وستين سنة (١).

__________________

(١) تاريخ خليفة ١ : ١٨٣ ـ ١٨٥.

٤٩٥

الفجر الصادق لميلاد الصادق عليه‌السلام :

مرّت أخبار لحوق محمّد بن أبي بكر (التيمي) بأمير المؤمنين علي عليه‌السلام حضانة وتربية وتأديبا حتى روى عنه عليه‌السلام قال فيه : «محمّد ابني من صلب أبي بكر». ومرّ أيضا خبر لحوق ابنه القاسم النجيب بعمّته عائشة وأنّها احتضنته حاقدة على معاوية قتله لأخيها محمّد.

ومرّ في أخبار إجبار معاوية الجبّار لخيار الناس وفيهم عبد الرحمن ابن أبي بكر على البيعة لولاية عهده ليزيد ، استنكاف عبد الرحمن من ذلك حتّى مات في ظروف غامضة ، وقد صاهره القاسم النجيب ابن أخيه محمّد بن أبي بكر ، وولد له منها أولاد منهم ابنة له أسماها فاطمة وعرفت بكنيتها أمّ فروة. وتعلّم القاسم الفقه حتّى عدّ من فقهاء المدينة المعروفين ، وعلّم ذلك أولاده ومنهم فاطمة.

وشابه القاسم النجيب الفقيه أباه فأصبح من ثقات الإمام السجاد عليه‌السلام إلى جانب سعيد بن المسيّب المخزومي وأبي خالد الكابلي كنكر (١) وفي حدود الثمانين للهجرة تقرّب الباقر عليه‌السلام من صاحب أبيه هذا الفقيه النجيب ليخطب منه ابنته النجيبة فاطمة لنفسه مباشرة! فطبيعي أن رجّح القاسم أن يكون أبوه السجّاد عليه‌السلام هو الذي يخطب له ويزوّجه (٢) وطبيعي أن السجاد عليه‌السلام باشر ذلك فخطب له منه وزوّجه بها ، وأظن أنه إنّما قدّم الباقر عليه‌السلام قبله لكي لا يكون يحرجه يومئذ.

__________________

(١) أصول الكافي ١ : ٤٧٢ عن الصادق عليه‌السلام في باب مولده ، الحديث الأوّل.

(٢) قرب الإسناد : ١٥٧ ، وعنه في قاموس الرجال ٨ : ٤٩٢ برقم ٦٠١٦.

٤٩٦

وفي اليوم السابع عشر من شهر ربيع الأوّل (١) من سنة (٨٣ ه‍) (٢) ولد له منها ولد ذكر. ولم يكن السجّاد عليه‌السلام يجمع لابنه محمّد بين اسم محمّد وكنية أبي القاسم ، بل كان يكنّيه بأبي جعفر ، فسمّى ابنه هذا كذلك جعفر ، وكنّاه أبا عبد الله ، وحدّثهم عن أبيه عن جدّه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إذا ولد ابني جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي فسمّوه الصادق ، فإنّه سيكون في ولده سمي له يدّعي الإمامة بغير حقّها فيسمّى كذابا (٣).

هلاك الملك عبد الملك :

جاء في اليعقوبي : روى بعضهم : أن رجلا قال لسعيد بن المسيّب : رأيت كأنّ النبيّ موسى واقف على ساحل البحر ، آخذ برجل رجل يدوّره كما يدوّر

__________________

(١) روضة الواعظين : ٢٥٣ وهو أوّل من عيّن اليوم والشهر مرسلا.

(٢) تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام : ٨١ ، وأصول الكافي ١ : ٤٧٢.

(٣) علل الشرائع ١ : ٢٧٤ ، الباب ١٦٩ ، الحديث ١.

وأغرب هنا بعض الغربيين فافترى على السجّاد عليه‌السلام : أن القابلة أخبرته أن للوليد عينين زرقاوين! فتبسّم الإمام وقال : فهو يشبه عيني والدتي! كما في : الإمام الصادق كما عرّفه علماء الغرب : ٧٢ وعنه في أعلام الهداية ٨ : ٣٩ ، فيالها من غواية!

ولم يعلم عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ولا شيعتهم الرواية عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : ولقد ولّدني أبو بكر مرتين! ولا أجد فيما بأيدينا أقدم من رواية الجنابذي البغدادي للخبر مرسلا أيضا وعنه الإربليّ في كشف الغمة ٣ : ١٦٣ ويبدو عنه الذهبي في تذكرة الحفّاظ ١ : ١٦٦ بلفظ : ولدني أبو بكر مرّتين! مرسلا أيضا.

ولو تنزّلنا ، فعلى فرض التسليم بصدوره عنه عليه‌السلام فلعله يعني الفخر بالانتساب إلى محمد ابن أبي بكر لامتناعه عن البيعة لمعاوية حتى قتل ، وانتسابه لعبد الرحمن بن أبي بكر لامتناعه عن البيعة لولاية عهده حتى مات في ظروف غامضة وقيل : قتل ، فراجع الموضوع.

٤٩٧

الغسّال الثوب ، فدوّره ثلاثا ثمّ دحا به إلى البحر! فما تفسيره؟ فقال سعيد : إن صدقت رؤياك فسيموت عبد الملك إلى ثلاثة أيام! فلم تمض ثلاثة أيام حتّى جاء نعيه! فسأل الرجل سعيد : من أين قلت هذا؟ قال : لأنّ موسى غرّق فرعون ، ولا أعلم فرعون هذا الوقت إلّا عبد الملك (١).

قال : وخلّف أربعة عشر ذكرا : الوليد وسليمان وعبد الله ومسلمة ومروان ومعاوية ويزيد والحجّاج وعنبسة وآخرين. فلما حضرته الوفاة جمعهم وقال للوليد : إذا أنا متّ فشمّر وائتزر والبس جلد النمر! ثمّ ادع الناس إلى بيعتك فمن قال برأسه كذا فقل بالسيف كذا (٢)!

وقال ابن قتيبة : كان مروان قد زوّج ابنته فاطمة لابن أخيه عمر بن عبد العزيز وكان يومئذ حاضرا فأوصاه بها وبابنيه الوليد وسليمان ـ وكان قد عهد إليهما على التوالي ـ ثمّ قال لهم قوموا عصمكم الله وكفاكم! فقاموا وخرجوا من عنده ، ثمّ دعا بالوليد وسليمان فقال للوليد : اسمع يا وليد ، قد حضر الوداع وذهب الخداع وحلّ القضاء! فبكى الوليد فقال عبد الملك : لا تعصر عينيك عليّ كما تعصر الأمة الوكاء (القربة) إذا أنا متّ فاغسلني وكفّني وصلّ عليّ واسلمني إلى عمر بن عبد العزيز يدلّيني في حفرتي. أما أنت فاخرج للناس والبس لهم جلد النمر واقعد على المنبر! وادفع الناس إلى بيعتك ، فمن قال بوجهه عنك كذا فقل له بالسيف كذا! وتنكّر للقريب واسمح للبعيد! واوصيك بالحجّاج خيرا فإنّه هو الذي وطّأ لكم المنابر وكفاكم تقحّم تلك الجرائر! ثمّ مات.

__________________

(١) تاريخ خليفة : ١ : ١٨٣ ـ ١٨٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٨٠ ـ ٢٨١.

٤٩٨

فخرج الوليد إلى الناس وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : نعمة ما أجلّها! ومصيبة ما أعظمها! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فقد الخليفة ، ونقلت الخلافة (١).

وقال : أيها الناس ؛ عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة ، فإنّه من أبدى ذات نفسه ضربت الذي فيه عيناه (٢)!

ثمّ دعا الناس إلى بيعته ، فلم يختلف عليه أحد. ثمّ كتب ببيعته إلى الآفاق والأمصار ، وإلى الحجّاج بالعراق (٣) فنعى إليه أباه عبد الملك ودعاه إلى بيعته.

فنادى الحجّاج بالصلاة جامعة ثمّ صعد المنبر فذكر عبد الملك وقرّظه ووصف فعله وقال : كان والله البازل الذكر! رابعا من الولاة الراشدين المهديين (الامويّين!) وقد اختار له الله ما عنده! وعهد إلى نظيره في الفضل وشبيهه في الحزم والجلد والقيام بأمر الله! فاسمعوا وأطيعوا (٤)! فبايع الناس ولم يختلف عليه أحد. ثمّ كتب الحجّاج إلى الوليد :

أما بعد ، فإنّ الله تعالى استقبلك ـ يا أمير المؤمنين! ـ في حداثة سنّك بما لا أعلمه استقبل به خليفة قبلك : من التمكين في البلاد والملك للعباد والنصر على الأعداء! فعليك بالإسلام فقوّم إوده وشرائعه وحدوده! ودع عنك محبة الناس وسخطهم وبغضهم ، فإنّهم قلّ ما يؤتى الناس من خير وشر إلّا أفشوه (أو نسوه) في ثلاثة أيام ، والسلام.

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ٥٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٨٣.

(٣) الإمامة والسياسة ٢ : ٥٨.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٨٣.

٤٩٩

ودخل سليمان على الوليد وقال له : يا أمير المؤمنين! إعزل الحجّاج ابن يوسف عن العراقين ، فإنّ الذي أفسد أكثر مما أصلح! فقال الوليد : إنّ عبد الملك قد أوصاني به خيرا! فقال سليمان : إنّ عزل الحجّاج والانتقام منه من طاعة الله وتركه من معصية الله! فقال الوليد : سنرى وترون إن شاء الله (١).

ودفن عبد الملك وجاء في وصفه : أنّه كان مربوعا أسمر قد طوّل لحيته ، متيقّظا في سلطانه ، حازما في أمره ، لا يكل الأمور في أعدائه وأهل حربه حتّى يباشرها بنفسه ، ويخطئ كثيرا ومع ذلك يسلم فتغرّه السلامة.

واستمرّ في الاعتماد على الكاتب سرجون بن منصور الرومي النصراني كاتب معاوية ، ويزيد قبله ، ثمّ كتب له عمرو بن الحارث مولى بني عامر (٢) واتخذ الأخطل النصراني شاعرا قال فيه : لكل قوم شاعر وشاعر بني أمية الأخطل! ولما أنشده قوله فيهم :

شمس العداوة حتّى يستقاد لهم

وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا!

طرب له وقال لغلامه : يا غلام خذ بيده فألق عليه من الخلع ما يغمره! وأنشده الأخطل في الخمرة :

إذا ما نديمي علّني ثم علّني

ثلاث زجاجات لهنّ هدير

خرجت أجرّ الذيل تيها ، كأنّني

عليك ـ أمير المؤمنين ـ أمير (٣)

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ٥٨.

(٢) التنبيه والإشراف : ٢٧٣. وفي تاريخ خليفة : أن سرجون كان كاتب الخراج وأزاق الجنود. وخلّفه : سليمان بن سعد مولى قضاعة : ١٨٩.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٦٤.

٥٠٠