موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

ماذا ترى؟ قال : الرأي رأيك .. فهنا روى أبو مخنف عن المختار قال : إنّما أنا رجل من العرب ، فرأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز ، ورأيت نجدة الخارجي انتزى على اليمامة ومروان على الشام فلم أكن دونهم فأخذت هذه البلاد فكنت كأحدهم ، إلّا أنّي قد طلبت بثأر «أهل بيت النبيّ» إذ نامت العرب عنه فقتلت من شرك في دمائهم وبالغت في ذلك إلى يومي هذا! فاسترجع السائب (١).

مصير المختار وأنصاره :

روى أبو مخنف قال : لمّا رأى المختار ما بأصحابه من ضعف وفشل اغتسل وتحنّط وتطيّب ، وإنّما تبعه للخروج من القصر تسعة عشر رجلا. ونادى أصحاب مصعب قال لهم : أتؤمّنوني وأخرج إليكم؟ قالوا : لا ، إلّا على حكمنا. فقال : لا احكّمكم في نفسي أبدا.

ثمّ ضاربهم بسيفه وضاربوه حتّى قتلوه ومن معه من أصحابه ، قتله رجلان أخوان من بني حنيفة من تميم ، عند موضع الزيّاتين (٢).

ولمّا كان الغد من قتل المختار نزل أنصاره على الحكم! فبعث إليهم مصعب عبّاد بن الحصين الحبطي التميمي ، فنزعهم أسلحتهم وكتّفهم وأخرجهم مكتّفين!

وكان فيهم من قوّاد المختار رئيس شرطته عبد الله بن قراد ، فلمّا دخلوا عليه فأخذوا سيفه وكتّفوه وأخرجوه مكتوفا أدركته الندامة فأخذ يطلب حديدة أو عصا أو شيئا يقاتل به فلم يجده! وكأنّ عبد الرحمان بن محمّد بن الأشعث عرفه أنّه قاتل أبيه فنزل إليه وقال : أدنوه منّي ، فأدنوه منه فضرب عنقه.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ١٠٧ عن أبي مخنف.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ١٠٧ ـ ١٠٨ عن أبي مخنف. وأتيا مصعبا برأسه فأعطاهما ثلاثين ألف درهم ، كما في تاريخ خليفة : ١٦٥ وفيه : دخلا عليه القصر! غلط.

٤٢١

وكان من أشراف أنصار المختار عبد الله بن شدّاد الجشمي ومعه ابنه شدّاد ، وطلب عبد الرحمان من مصعب أن يدفع إليه ابن شدّاد ، فأمر له به ، فجاء وأخذه فضرب عنقه ، وترك ابنه.

وجاءوا إلى مصعب ببجير بن عبد الله المسلمي ومعه منهم ناس كثير ، فقال المسلمي : الحمد لله الذي ابتلانا بالإسار وابتلاك بأن تعفو عنا ... ومن عفا عفا الله عنه وزاده عزّا ومن عاقب لم يأمن القصاص! يابن الزبير! نحن أهل قبلتكم وعلى ملّتكم ، ولسنا تركا ولا ديلما ... وقد ملكتم فاسجحوا وقد قدرتم فاعفوا ... فما زال بهذا القول ونحوه حتّى رقّ لهم الناس ورقّ لهم مصعب وأراد أن يخلّي سبيلهم.

فقام عبد الرحمان بن محمّد بن الأشعث وقال لمصعب : يابن الزبير اخترنا أو اخترهم!

وقام محمّد بن عبد الرحمان الهمداني وقال له : قتل أبي وخمسمئة من أشراف أهل المصر وعشيرة همدان ثمّ تخلّى سبيلهم؟! اخترنا أو اخترهم!

وقام كلّ قوم اصيب منهم رجل فقالوا نحوا من هذا القول ، فلمّا رأى مصعب ذلك أمر بقتلهم.

وكان فيهم مسافر بن سعيد بن نمران فقال لمصعب : يابن الزبير! ما تقول لله إذا قدمت عليه وقد قتلت امّة من المسلمين ـ صبرا ـ حكّموك في دمائهم! فكان الحقّ أن لا تقتل نفسا بغير نفس. وفينا رجال كثير لم يشهدوا من حربنا وحربكم يوما واحدا وإنّما كانوا في الجبال والسواد يجبون الخراج ويؤمّنون السبيل! فإن كنا قتلنا عدّة رجال منكم فاقتلوا عدّة من قتلنا منكم وخلوا سبيل بقيّتنا! فلم يتكلّم.

٤٢٢

ثمّ أمر مصعب أن يقطعوا كفّ المختار فيسمّروها بمسمار إلى جانب المسجد الجامع! ففعلوا ذلك (١).

وقال الواقدي : كان المختار حين وقف لمصعب في عشرين ألفا! وتوجّه منهم نحو القصر ثمانية آلاف لم يجدوا من يقاتل بهم ووجدوا المختار في القصر .. فأقام مصعب يحاصره أربعة أشهر ، يخرج إليهم في سوق الكوفة فيقاتلهم من وجه واحد ولا يقدرون عليه حتّى قتل المختار. فلمّا قتل المختار بعث من في القصر يطلب الأمان فأبى مصعب حتّى ينزلوا على حكمه ، فلمّا نزلوا على حكمه وهم ثمانية آلاف سبعة آلاف من العرب وسائرهم عجم! فلمّا خرجوا أراد مصعب أنّ يترك العرب ويقتل العجم!

فقال له من معه : أيّ دين هذا؟! تقتل العجم وتترك العرب ودينهم واحد! فقدّمهم فضرب أعناقهم.

وعن النميري البصري عن المدائني : أنّ مصعبا شاور أصحابه في من نزل على حكمه من المحصورين في القصر ، فقال ابن الأشعث وأمثاله : اقتلهم ، وكان معهم عبيد الله بن الحرّ الجعفي فقال له : أيّها الأمير ، ادفع كلّ رجل منهم إلى عشيرته تمنّ بهم عليهم ، ولا غنى بنا عنهم في ثغورنا ، وادفع عبيدنا إلى مواليهم فإنّهم لأيتامنا وأراملنا وضعفائنا يردّونهم إلى أعمالهم ، واقتل الموالي فإنه قد بدا كفرهم وعظم كبرهم وقلّ شكرهم.

وكان الأحنف التميمي ساكتا فقال له مصعب : وما ترى يا أبا بحر؟ فعرّض بقتلهم كلّهم فقتلهم كلّهم!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ١٠٨ ـ ١١٠ عن أبي مخنف.

٤٢٣

وكان ذلك للرابع عشر من شهر رمضان من سنة سبع وستّين ، وللمختار سبع وستّون سنة (١).

وأحضر مصعب امرأتي المختار : امّ ثابت بنت سمرة بن جندب الأنصاري الفزاري فقال لها :

ما تقولان في المختار؟ فقالت : ما نقول فيه إلّا ما تقولون أنتم فيه ، فقال لها : فاذهبي.

وقال لعمرة بنت النعمان بن بشير الأنصاري : ما تقولين فيه؟ قالت : رحمة الله عليه ، إنه كان عبدا من عباد الله الصالحين! فأمر بحبسها وكتب فيها إلى أخيه عبد الله وقال : إنّها تزعم أنّه نبيّ! فكتب إليه بقتلها! فأخرجها بعد العتمة إلى ما بين الكوفة والحيرة فضربها قاتلها ثلاث ضربات بالسيف فقتلها وهي تصرخ : يا أبتاه! يا أهلاه! يا عشيرتاه (٢)!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ١١٥ ـ ١١٦. وأغرب اليعقوبي فقال : إنّ مصعبا أعطاهم الأمان وكتب لهم بذلك ثمّ قتلهم واحدا واحدا فكانت إحدى الغدرات المذكورة المشهورة في الإسلام! اليعقوبي ٢ : ٢٦٣ ـ ٢٦٤ وإنّه ألقى بين يديه رأس المختار ٢ : ٢٦٥. وفي الإمامة والسياسة ٢ : ٢٥ : أنّه بعث به إلى أخيه وذكر الأمان والغدر المسعودي في مروج الذهب ٣ : ٩٩ وأعرض عنه في التنبيه والإشراف : ٢٧٠.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ١١٢ عن أبي مخنف.

وفي مروج الذهب ٣ : ٩٩ : واتي بحرم المختار ، فدعاهن إلى البراءة منه ففعلن ، إلّا حرمتين له إحداهما بنت سمرة بن جندب الفزاري ، والثانية ابنة النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي فانّهما قالتا : كيف نتبرّأ من رجل يقول : ربّي الله ، كان صائم نهاره قائم ليله ، قد بذل دمه لله ولرسوله في طلب قتلة ابن بنت رسول الله وأهله و «شيعته» فأمكنه الله منهم حتّى شفى النفوس!

٤٢٤

وحجّ مصعب فلقي عبد الله بن عمر زوج صفية اخت المختار ، فسلّم عليه وكأنّه كان لا يعرفه فعرّفه بنفسه أنّه مصعب فقال له ابن عمر : أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة! قال مصعب : إنّهم كانوا كفرة سحرة! (فهو منبع هذا التشنيع) فقال ابن عمر : والله لو قتلت عدّتهم غنما من تراث أبيك لكان ذلك سرفا (١)!

مصير إبراهيم بن الأشتر :

كان سواد العراق وجبال شماله وشطر من إيران تابعا لحكومة الكوفة ، فلمّا قتل المختار طمع عبد الملك بن مروان في تطميع النخعيّ في الموصل في حكم العراق فكتب إليه : أمّا بعد ، فإنّ آل الزبير انتزوا على أئمة الهدى! ونازعوا الأمر أهله! وألحدوا في بيت الله الحرام! واتّخذوا الحرام حلّا! والله ممكّن منهم وجاعل دائرة السوء عليهم. وإنّي أدعوك إلى الله وإلى سنّة نبيّه ، فإن قبلت وأجبت فلك سلطان العراق ما بقيت وبقيت ، عليّ عهد الله وميثاقه بالوفاء بذلك.

__________________

فكتب مصعب إلى أخيه عبد الله يخبره بخبرهما وما قالتاه ، فكتب إليه : إن هما رجعتا عما هما عليه وتبرّأتا منه ، وإلّا فاقتلهما! فعرضهما مصعب على السيف فقالت ابنة سمرة : فمع السيف لو دعوتني إلى الكفر لكفرت ، فأشهد أنّ المختار كافر! ولعنته وتبرّأت منه! ولكن ابنة النعمان قالت : كلّا! إنها موتة ثمّ الجنة والقدوم على الرسول وأهل بيته! والله لا يكون ذلك! آتي ابن هند فأتّبعه! وأترك ابن أبي طالب! اللهم اشهد أني متّبعة لنبيّك وابن بنته و «أهل بيته وشيعته»! فقتلها صبرا ، وهذا لا يتنافى مع خبر أبي مخنف إلّا في الإجمال والإكمال.

(١) تاريخ الطبري ٦ : ١١٣ عن أبي مخنف.

٤٢٥

وبعث مصعب عمّاله على السواد والجبال ، وخاف التحاق النخعيّ بالأموي فقدم رسوله بكتاب مصعب إلى ابن الأشتر وفيه : أمّا بعد ، فإنّ الله قد قتل المختار «الكذّاب» و «شيعته الذين دانوا بالكفر وكادوا بالسحر!» وإنّا ندعوك إلى كتاب الله وسنّة نبيّه وإلى بيعة أمير المؤمنين! فإن أجبت إلى ذلك فأقبل إليّ ، فإنّ لك أرض الجزيرة وأرض المغرب (مغرب العراق ـ الشام) كلّها! ما بقيت وبقي سلطان آل الزبير ، لك بذلك عهد الله وميثاقه وأشدّ ما أخذ الله على النبيّين من عهد أو عقد ، والسلام.

فدعا إبراهيم أصحابه فأقرأهم الكتابين واستشارهم الرأي ، فقائل يقول : عبد الملك ، وقائل يقول : ابن الزبير. فقال لهم : ورأيي اتّباع أهل الشام ، ولكن كيف لي بذلك وليست قبيلة بالشام إلّا وقد وترتها! ولست بتارك عشيرتي وأهل مصري (١)! فكتب إلى مصعب ، فكتب إليه مصعب أن أقبل فأقبل إليه (٢) فلمّا بلغ ذلك إلى مصعب بعث المهلّب الأزدي البصري إلى عمل (٣) إبراهيم على الموصل والجزيرة وأذربيجان وأرمينية ، وأقام مصعب بالكوفة (٤) أميرا على العراقين وتوابعهما من إيران.

وبذلك تعاظم أمره ، ورأى أخوه عبد الله أنّ مروان بن الحكم إن حكم تصبح حكومته ملوكيّة وراثيّة كما فعل معاوية قبله ، فتوارثها ابنه عبد الملك ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ١١٠ ـ ١١٢ عن أبي مخنف.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ١١١ عن أبي مخنف.

(٣) تاريخ الطبري ٦ : ١١٢ عن أبي مخنف.

(٤) تاريخ الطبري ٦ : ١١٦ عن المدائني البصري. وهكذا غدر بابن الأشتر فلم يف له بما وعده إيّاه عاجلا.

٤٢٦

فأراد عبد الله أن يربّي لها ابنه الأكبر حمزة (١) فعزل مصعبا عن البصرة وولّاها ابنه حمزة. فظهرت منه بالبصرة خفّة وضعف وتخليط ، كان أحيانا يجود حتّى لا يترك ما يملك ، وأحيانا يمنع ما لا يمنع مثله. وكان على الخراج مردانشاه الفارسي فاستحثّه على الخراج فأبطأ عليه فقام عليه بسيفه فقتله! وهمّ بالأشراف أن يضربهم! فكتب الأحنف التميمي بذلك إلى ابن الزبير وسأله أن يعيد عليهم مصعبا ، ففعل ، فاحتمل حمزة مالا كثيرا من بيت المال معه وترك أباه وذهب إلى المدينة واستودع الأموال عند رجال فذهبوا بها! فلمّا علم ابن الزبير بما فعل قال : أبعده الله! أردت أن اباهي به بني مروان! فنكص! فولّى مصعب على الكوفة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المعروف بالقباع وانصرف إلى البصرة بعد سنة (٢) أي في (٦٨ ه‍).

مصير عبيد الله بن الحرّ :

روى المدائني قال : لما قتل المختار قال الناس لمصعب : إنّ ابن الحرّ قد شاقّ ابن زياد ثمّ المختار ، ولا نأمنه أن يثب بالسواد كما كان يفعل. فحبسه مصعب (بالكوفة ، قبل أن يعود للبصرة).

وتوصّل ابن الحرّ إلى وجوه مذحج (وهو منهم) وقال لهم : سعى بي قوم كذبة وخوفوا مصعبا ممّا لم أكن أفعله! وما لم يكن من شأني! فحبسني على غير جرم ، فاتوه وكلّموه في أمري. فوعدوه ذلك. فأرسل إلى فتيانهم قال : أرسلت قوما إلى مصعب يكلمونه في أمري ، فالبسوا سلاحكم وليكن مستورا بثيابكم ، واذهبوا معهم وقفوا ببابه ، فإن خرج القوم وقد شفّعهم فلا تعرضوا لشيء ،

__________________

(١) من ثمانية أبناء له ، المعارف : ٢٢٥ ، وانظر الطبري ٦ : ١١٨.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ١١٧ ـ ١١٨ عن أبي مخنف والمدائني.

٤٢٧

وإن خرجوا ولم يشفّعهم فكابروا السجّانين وأنا اعينكم من داخل! فجاء القوم من مذحج فدخلوا على مصعب فكلّموه فشفّعهم وأطلقه.

فلمّا أتاه الناس يهنئونه قال لهم : قد عهد إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» وما رأينا بعد الأربعة الماضين (١) إماما صالحا ولا وزيرا تقيّا ، كلّهم عاص مخالف ، قويّ الدنيا ضعيف الدين ، فعلام تستحلّ حرمتنا ونحن أصحاب النخيلة والقادسيّة وجلولاء ونهاوند! نلقى الأسنة بنحورنا والسيوف بجباهنا ، ثمّ لا يعرف لنا حقّنا وفضلنا! فقاتلوا عن حريمكم ، فأيّ الأمر ما كان فلكم فيه الفضل ، وإنّي قد قلبت ظهر المجن! وأظهرت لهم العداوة فإنّ هذا الأمر لا يصلح إلّا لمثل خلفائكم الماضين ، وما نرى لهم فينا ندّا ولا شبيها فنلقي بأزمّتنا إليه ونمحضه نصيحتنا ، فإن كان إنّما هو «من عزّ بزّ» فعلام نعقد لهم بيعة في أعناقنا وليسوا بأشجع منّا لقاء ولا أعظم منّا غناء .. ولا قوّة إلّا بالله!

وحيث كان هو من مراد من مذحج ، أرسل إليه مصعب سيف بن هانئ (ابن عروة) المرادي فقال له : إنّ مصعبا يعطيك خراج بادوريا على أن تبايع وتدخل في طاعته! فأبى.

فبعث مصعب إليه الأبرد الرياحي في نفر لقتاله ، فقاتله ابن الحرّ فهزم الأبرد الرياحي.

فبعث مصعب إليه حريث بن زيد في نفر ، فقاتله ابن الحرّ فقتله وهزم جمعه.

فبعث مصعب إليه الحجّاج بن حارثة الخثعمي فلقيه على نهر صرصر فقاتله ابن الحرّ فهزم الخثعمي.

__________________

(١) هذه من بوادر ما مهّد فيما بعد لمصطلح : الخلفاء الراشدين ، ولم يصطلح يومئذ بعد.

٤٢٨

فأرسل مصعب قوما إليه يدعونه إلى أن يؤمّنه ويولّيه أيّ بلد شاء! فأبى.

وكان على الفلّوجة دهقان يدعى تيز جشنش (بالفارسية) فأتاه ابن الحرّ ففرّ الدهقان بمال الفلّوجة إلى عين التمر وعليها بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني ومعه مئة وخمسون فارسا ، وتابع ابن الحرّ الدهقان ، فخرج إليه بسطام بجمعه ، ووافاهم الحجّاج الخثعمي كرّة ، فبارزه الحجّاج فأسره ابن الحرّ ، وبارزه بسطام فأسره أيضا ، وبعث دلهم المرادي بفوارس من أصحابه يطلبون الدهقان فأصابوه وأخذوا الأموال ، فأخذها وتركهم إلى تكريت فهرب عاملها ، فأقام ابن الحرّ بها يجبي الخراج.

فوجّه مصعب إليه الأبرد الرياحي والجون الهمداني في ألف فارس ، وأمدّهما المهلّب من الموصل بخمسمئة مع يزيد بن المغفّل ، فتقاتلوا وقتل كثير من فرسان ابن الحرّ وتحاجزوا مساء فخرج من تكريت إلى الشام ثمّ عاد بهم إلى الكوفة ليخوّف مصعبا ، فأتى على كسكر فنفى عاملها وأخذ بيت مالها ، ثمّ أتى الكوفة إلى دير الأعور ، فبعث إليه مصعب حجّار بن أبجر فقاتله ابن الحرّ فهزمه ، فضمّ مصعب إليه الجون الهمداني وعمر بن معمر ، فانهزم حجّار ثمّ كرّ وقاتلوه كلّهم ، فكثرت الجراحات في أصحاب ابن الحرّ وعقرت خيولهم حتّى أمسوا ، وخرج ابن الحرّ إلى المدائن.

وكان مصعب قد جعل على المدائن يزيد بن الحارث الشيباني ، فكتب إليه بقتال ابن الحرّ ، فقدّم يزيد ابنه حوشبا بجمع فلقي ابن الحرّ في باجسرا ، فقاتله ابن الحرّ فهزمه وأقبل ليدخل المدائن فتحصّنوا ، ثمّ توجه إليه بشر الأسدي إلى تامرّا فلقيه ابن الحرّ فقتله وهزم أصحابه ، وتوجّه إليه جون الهمداني في حولايا ، فقاتله ابن الحر فهزمهم وتبعهم ، فخرج إليه بشير العجلي فالتقوا في سورا فاقتتلوا قتالا شديدا ثمّ انحاز بشر عنه فرجع إلى عمله. وأقام ابن الحرّ يغير على السواد ويجبي الخراج.

٤٢٩

وكأنّ مصعبا خرج من الكوفة إلى البصرة واستخلف عليها الحارث بن أبي ربيعة ، فتوجّه ابن الحرّ إليه وبلغ ذلك بني قيس عيلان وكان ابن الحرّ قد هجاهم بشعره ، فسألوا الحارث أن يبعث معهم جيشا لحرب ابن الحر فوجّه معهم ، فلقوه وقاتلوه ساعة ثمّ غرق فرسه فركب بلما ليعبر فتصايح الأنباط : هذا طلبة أمير المؤمنين فضربوه بالمرادي فغرق واستخرجوه وحزّوا رأسه فبعثوا به إلى الكوفة ثمّ البصرة (١).

الأزارقة بعد ابن الحرّ :

أوقع المهلّب الأزدي بالأزارقة الخوارج أتباع نافع بن الأزرق بالأهواز فلحقوا بفارس ونواحي إصفهان وكرمان ، وقتل الأزرق فبايعوا الزبير بن ماحوز. فلمّا شخص المهلّب عن ذلك الوجه ووجّه عاملا على الموصل وضواحيها ، وجعل على فارس عمر بن معمر ، اذ حطّت الأزارقة عليه مع ابن ماحوز إلى فارس فلقيهم في شاپور فقاتلهم قتالا شديدا حتّى غلبهم فتركوا المعركة وذهبوا حتّى نزلوا بإصطخر فارس ، فسار إليهم حتّى لقيهم على قنطرة طبستان ، فقاتلهم قتالا شديدا حتّى غلبهم فقطعوا القنطرة وارتفعوا إلى إصفهان ثمّ كرمان فأقاموا بها. حتّى قووا وكثروا واستعدّوا وأقبلوا حتّى مرّوا بفارس فأخذوا على شاپور ثمّ خرجوا على أرجان ثمّ توجّهوا قبل الأهواز ، وتبعهم عمر بن معمر فالتقى بهم هناك ، وبلغ إقبالهم إلى مصعب بالبصرة في ولايته الثانية فخرج بالناس فعسكر بهم عند الجسر الأكبر.

وأقبل هؤلاء الخوارج الأزارقة حتّى نزلوا الأهواز ، فأخبرتهم عيونهم بأنّهم بين مصعب وعمر بن معمر ، فسار بهم ابن ماحوز حتّى قطع بهم أرض جوخى

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ١٢٨ ـ ١٣٤ عن المدائني.

٤٣٠

ثمّ النهروانات ثمّ لزم شاطئ دجلة حتّى خرج على المدائن ، وكان عليها كردم بن مرثد الفزاري فهرب ، فشنّوا الغارة على أهل المدائن يقتّلون الرجال والولدان والنساء ويبقرون الحبالى! ثمّ أقبلوا إلى ساباط المدائن فوضعوا سيوفهم في الناس.

وكان على الكوفة الحارث الملقّب بالقباع فأتاه أهل الكوفة وقالوا له : إنّ هذا عدوّنا قد أظلنا فاخرج بنا! فخرج ونزل النخيلة فأقام أيّاما ، وخرج معه إبراهيم بن الأشتر النخعي فقال له : فانهض بنا إليه وأمر بالرحيل! فخرج فنزل دير عبد الرحمان فأقام فيه ، وخرج معه شبث بن ربعي التميمي فكلّمه بمثل مقال ابن الأشتر فارتحل إلى الصّراة في بضعة عشر يوما وقد انتهى إليها أوائل خيول العدو وطلائعه ، فلمّا أخبرهم عيونهم بخروج جمع أهل الكوفة إليهم قطعوا الجسر دونهم!

فقال إبراهيم للحارث : اندب معي الناس حتّى أعبر إلى هؤلاء الكلاب! وكان شبث بن ربعي وأسماء بن خارجة الفزاري ويزيد بن الحارث الشيباني ومحمّد بن عمير بن عطارد ومحمّد بن الحارث حاضرين فكأنهم حسدوا ابن الأشتر فقالوا للحارث : لا تبدأهم دعهم فليذهبوا! واغتنم الحارث ذلك فتحبّس عنهم. فقام رجال وطلبوا منه إعادة الجسر حتّى يعبروا إليهم ، فأمر بذلك فاعيد الجسر ، فعبر الناس إليهم فطار الخوارج الأزارقة إلى المدائن ثمّ خرجوا منها ، فأتبعهم الحارث بعبد الرحمان بن مخنف الأزدي في ستّة آلاف ليخرجهم من أراضي الكوفة فإذا دخلوا أراضي البصرة خلّاهم ، ففعل ذلك ثمّ انصرف عنهم.

ومضوا إلى إصفهان وعليها عتّاب بن ورقاء فأقاموا عليه وحاصروه ، فخرج إليهم فقاتلهم فلم يطقهم وشدّوا على أصحابه حتّى دخلوا المدينة ، وأخذ يخرج إليهم في كلّ يوم فيقاتلهم على باب المدينة ، ويرمونهم من السور

٤٣١

بالنبل والنشّاب والحجارة. وأقاموا عليهم أشهرا حتّى نفدت أطعمتهم واشتدّ عليهم الحصار وأصابهم الجهد الشديد! فخطبهم عتاب وعاتبهم فأعدّهم للخروج في الصباح.

ثمّ إنّه حين أصبح خرج بهم على راياتهم فصبّحهم في معسكرهم وهم آمنون فشدّ عليهم حتّى انتهى إلى ابن ماحوز فقاتل بأصحابه حتّى قتل. وعاد عتّاب فدخل المدينة.

وانحاز الخوارج إلى قطريّ بن الفجاءة فبايعوه ، فارتحل بهم إلى كرمان فأقام بها حتّى اجتمع إليه جمع كثير! واجتبى الأموال وأكل الأرض ثمّ عاد إلى إصفهان ثمّ إلى إيذة فإلى الأهواز فأقام بها.

فكتب الحارث إلى مصعب يخبره : أنّ الخوارج قد خرجوا إلى الأهواز ، وأنّه ليس لهم إلّا المهلّب الأزدي.

فبعث إلى المهلّب وهو على الموصل والجزيرة فأمره بالمسير إلى الخوارج وقتالهم ، فجاء إلى البصرة.

وبعث إلى عمله إبراهيم بن الأشتر (١) فكأنّه وفى له اليوم بما وعده بعد قتل المختار ، بعد أكثر من سنة.

وفيات بعض الأعلام وابن العباس :

في عهد المختار في سنة (٦٦ ه‍) مات عدي بن حاتم الطائي ، ومن الصحابة زيد بن أرقم الأنصاري كلاهما بالكوفة. وفي (٦٧ ه‍) مات الأحنف التميمي البصري بالكوفة مع المصعب فصلّى عليه ومشى في جنازته بغير رداء!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ١١٩ ـ ١٢٧ عن أبي مخنف.

٤٣٢

وفي (٦٨ ه‍) بالمدينة : أبو واقد الحارث بن مالك الليثي ، وأبو شريح خويلد بن عمرو الخزاعي الكعبي ، وزيد بن خالد الجهني وجابر بن عبد الله الأنصاري الخزرجي.

وعامل المدينة عن ابن الزبير جابر بن الأسود الزهري فطلب سعيد بن المسيّب التابعي على بيعة ابن الزبير فأبى فضربه ستّين أو سبعين سوطا.

ومات بالطائف : أبو العباس عبد الله ابن العباس (١).

قال اليعقوبي : وهو ابن إحدى وسبعين سنة ، وحضره محمّد بن الحنفيّة فصلّى عليه ، ودفن في مسجد جامعها ، وضرب عليه فسطاط. وكان له خمس بنين أكبرهم العباس الأعنق ، ومحمّد ، والفضل ، وعبد الرحمان ، وعلي وهو أصغرهم سنّا وتقدّم لنبله.

نقل ذلك اليعقوبي وأرسل عنه قال : أردفني رسول الله فقال لي : يا غلام! ألا اعلّمك كلمات ينفعك الله بهنّ؟ قلت : بلى يا رسول الله! قال : جفّ القلم بما هو كائن ؛ ولو جهد الخلق على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لم يقدروا عليه ، ولو جهدوا على أن يضرّوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا! فعليك بالصدق واليقين. وإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا ، واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب ، و «إنّ مع العسر يسرا» وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استغنت فاستعن بالله ، واذكر الله في الرخاء يذكرك في الشدّة ، واحفظ الله تجده أمامك ، واحفظ الله يحفظك (٢).

وقال المسعودي : وكان يخضّب شيبه بالحنّاء وله وفرة شعر طويلة ، وقد ذهب بصره لبكائه على عليّ والحسن والحسين عليهم‌السلام وهو الذي يقول :

__________________

(١) تاريخ خليفة : ١٦٤ ـ ١٦٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

٤٣٣

إن يأخذ الله من عينيّ نورهما

ففي لساني وقلبي منهما نور

ومصعب لما عاد من باجميرا إلى البصرة وأعاد المياه إلى مجاريها ، رجع إلى باجميرا ، فيبدو أنّ ذلك بلغ عبد الملك بدمشق فخلّف عليها ابن عمّته الأشدق وسار إلى زفر بن الحارث الكلابي في قرقيسيا وبلاد الرحبة.

قال المسعودي : فبلغه أنّ عمرا بدمشق قد دعا الناس إلى بيعته ، فكرّ راجعا إليها ، فامتنع عمرو فيها ، وصارت فيما بينه وبين عبد الملك محادثات ومكاتبات وخطب طويل طلبا للملك ، وكان ممّا كتب إليه عبد الملك : استدراج النعم إيّاك أفادك البغي ، ورائحة الغدر أورثتك الغفلة ، زجرت عمّا وافقت عليه ، وندبت إلى ما تركت سبيله ، ولو كان ضعف الأسباب يؤيّس الطالب لما انتقل سلطان ولا ذلّ عزيز! وعن قريب يتبيّن من صريع بغي وأسير غفلة!

وناشده عبد الملك الرحم بينهم وقال له : لا تفسد أمر أهل بيتك وما هم عليه من اجتماع الكلمة ، وفي ما صنعت قوّة لابن الزبير! إرجع إلى بيتك فإنّي سأجعل لك العهد! فرضى وصالح (١).

وجرى بينهم السفراء حتّى اصطلحا وتعاقدا وكتبا بينهما كتابا بالعهود والمواثيق والأيمان على أن لعمرو بن سعيد الخلافة بعد عبد الملك ، ودخل عبد الملك دمشق (٢).

وبقي عمرو متحيّزا في خمسمئة فارس يزولون معه حيث زال.

فقال عبد الملك يوما لحاجبه : ويحك! أتستطيع إذا دخل عمرو أن تغلق الباب دون أصحابه؟ قال : نعم. وكان مروان قد ترك ابنه عبد العزيز على مصر

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٠٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٠.

٤٣٤

وكان قد قدم هذا ذلك اليوم من مصر فتواطأ عبد الملك معه على قتل الأشدق ، وكان الوليد بن عبد الملك قد تزوّج أخت الأشدق ، وأمرهما بقتل الأشدق (١)! ودعاه إلى قصره ولعلّه بحجّة زيارة أخيه عبد العزيز القادم من مصر.

فتدرّع الأشدق تحت قبائه وقام ليخرج فعثر بالبساط فتطيّرت امرأته نائلة ابنة الفريض وقالت له : انشدك الله أن لا تأتيه! فأبى وقال لها : دعيني فو الله لو كنت نائما ما أيقظني! وخرج وكان عمرو رجلا عظيم الكبر لا يرى لأحد فضلا عليه ، وإذا مشى إلى أحد فلا يلتفت وراءه. فلمّا فتح الحاجب الباب ودخل عمرو ، أغلق الباب دون أصحابه ومضى عمرو لا يلتفت وهو يظنّ أنّ أصحابه قد دخلوا كما كانوا يدخلون. فلمّا دخل على عبد الملك قام من هناك من بني أميّة ، فعاتبه عبد الملك طويلا. ثمّ قال له : إنّي كنت حلفت لئن ملكتك لأشدنك في جامعة! فاتي بجامعة فوضعها في عنقه وأخذ يشدّها عليه ويشدّه إليه! فأيقن عمرو بالهلاك ، فقال له : أنشدك الله يا أمير المؤمنين! فقال له عبد الملك : يا أبا اميّة! ما لك جئت في الدرع أللقتال؟! والتفت عمرو إلى أصحابه فلم يرهم في الدار! فكلّمه عبد الملك وأغلظ له بالقول.

فقال الأشدق : يا عبد الملك! أتستطيل عليّ كأنّك ترى لك فضلا عليّ؟! والله إن شئت نقضت العهد بيني وبينك ثمّ نصبت لك الحرب! فقال عبد الملك : قد شئت ذلك! فقال الأشدق : وأنا قد فعلت! وكان صاحب حرسه يدعى أبا الزعيزعة وكان قد وصّاه أن يضرب عنق الأشدق ، فهنا قال له : يا أبا الزعيزعة شأنك! فضربه أبو الزعيزعة فقتله (٢).

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٠٤.

(٢) مروج الذهب ٣ : ١٠٢ ـ ١٠٣.

٤٣٥

ونقل ابن قتيبة عن أبي معشر قال : فأمر رجلا عنده يقال له : ابن الزويرع فضرب عنقه ، ثمّ أدرجه في بساط تحت سريره.

وكان لعبد الملك أخ من الرضاعة قد تفقّه يقال له : قبيصة بن ذويب الخزاعي (الصحابي) كان عبد الملك يشاوره وقد سلّمه خاتمه (١)! فدخل عليه الساعة ، ولعلّه لذا أخفى جثة الأشدق ، فسأله عبد الملك : كيف رأيك في عمرو بن سعيد؟ وأبصر قبيصة رجل عمرو تحت السرير! فقال له : يا أمير المؤمنين اضرب عنقه! فقال عبد الملك : جزاك الله خيرا! ما علمتك إلّا أمينا ناصحا موفّقا! فما ترى في هؤلاء الذين أحدقوا بنا وأحاطوا بقصرنا؟! وفيه : أنّهم كانوا أربعة آلاف رجل مسلّح! فقال قبيصة : يا أمير المؤمنين! اطرح رأسه إليهم ثمّ اطرح عليهم الدنانير والدراهم يتشاغلون بها! هذا وهو الخازن.

فأمر عبد الملك أن يطرح إليهم رأس عمرو من أعلى القصر وتطرح لهم الدنانير وننثر عليهم الدراهم! ففعلوا ذلك.

ثمّ ناداهم مناديه : إنّ أمير المؤمنين قد قتل صاحبكم بما كان من القضاء السابق والأمر النافذ! ولكم على أمير المؤمنين عهد الله وميثاقه : أن يحمل راجلكم ويكسو عاريكم ويغني فقيركم ، ويبلّغكم إلى المئتين في الديوان بل إلى أكمل ما يكون من الرزق والعطاء! فاعرضوا أنفسكم على ديوانكم ، ويسلم لكم دينكم ودنياكم! فصاحوا : نعم نعم سمعا وطاعة لأمير المؤمنين (٢)!

ووافى أخو عمرو : يحيى بن سعيد بمن معه من رجاله إلى باب القصر ليكسره فخرج إليه موالي عبد الملك فاقتتلوا .. ثمّ اخذ أسيرا إلى عبد الملك.

وهكذا اجتمعت الكلمة له وانقاد الناس إليه.

__________________

(١) وخزائن بيوت الأموال ، كما في تاريخ خليفة : ١٩٠ ، وعدّه من الصحابة في : ١٨٥.

(٢) الإمامة والسياسة ٢ : ٢٢.

٤٣٦

وقال لابنه الوليد وأخيه عبد العزيز : والله ما أردت قتله إلّا من أجلكم أن لا يحوزها دونكم (١)!

ثمّ خرج عبد الملك للصلاة فصعد المنبر وذكر عمرا وخلافه وشقاقه فوقع فيه (٢).

ابن مروان في العراق ومقتل ابن الأشتر :

قال المسعودي : في بقيّة سنة سبعين أقام عبد الملك بدمشق ، ثمّ نزل إلى قرقيسيا فحاصرها ، فنزل زفر بن الحارث العامري الكلابي على إمامة عبد الملك وبايعه وتابعه.

فسار عبد الملك حتى نزل على نصيبين فحاصرها ، فنزل يزيد والحبشي من بقايا أنصار المختار على إمامة عبد الملك وانضافوا إليه.

وفي سنة اثنتين وسبعين خرج مصعب في أهل العراق يريد عبد الملك ، فدلف إليه عبد الملك في عساكر الشام والجزيرة ، وعلى مقدّمته أو ساقته الحجاج بن يوسف الثقفي.

وأخذ عبد الملك يكاتب سرّا رؤساء أهل العراق ممن هم بعسكر مصعب وغيرهم يرغّبهم ويرهبهم.

وممّن كتب إليه إبراهيم بن الأشتر النخعي ، فلمّا أوصل جاسوسه كتابه إليه أتى بالكتاب إلى مصعب ، فسأله مصعب : أقرأته؟ قال : أعوذ بالله! فلمّا تأمّل مصعب ما فيه وجده أمانا له وولاية لما شاء من العراق. وقال النخعي :

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٠٤.

(٢) مروج الذهب ٣ : ١٠٣.

٤٣٧

والله ما كاتبني حتّى كاتب غيري ، ولا امتنعوا عن إيصالها إليك إلّا للرضا به والغدر بك ، فأبدأ بهم ثمّ الق هذا الرجل ، فأبى ذلك مصعب.

ثمّ سار إبراهيم على مقدّمة مصعب متسرعة ومعه عتّاب بن ورقاء التميمي (١) والتقوا في أرض العراق قرب قرية مسكن على شاطئ دجلة ، وعلى مقدّمة عبد الملك الحجّاج بن يوسف الثقفي (٢) أو محمّد بن مروان أخو عبد الملك (٣).

وكان ممّن دخل في خيل مصعب من أهل الكوفة القاسم بن حبيب بن مظاهر الأسدي الفقعسي ، وقاتل أبيه البديل بن صريم التميمي العقفاني ، وكان ممّن فرّ من نقمة المختار إلى مصعب بالبصرة ، ولم تكن للقاسم همّة إلّا اتّباع أثر قاتل أبيه ليجد منه غرّة فيقتله بأبيه! فلمّا غرّة مصعب باجميرا (لغزو ابن مروان) دخل القاسم عسكره حتّى عرف فسطاط قاتل أبيه ، فأخذ يختلف إليه التماس غرّته ، حتّى دخل عليه نصف النهار وهو في قيلولته فضربه بسيفه حتى برد (٤).

ثمّ التقوا فاقتتلوا حتّى قرب المساء وقد أشرف إبراهيم على الفتح ، فحسده عتّاب التميمي فقال : يا إبراهيم ، إن الناس قد جهدوا فمرهم بالانصراف! فقال إبراهيم : وكيف ينصرفون وعدوّهم بإزائهم؟! وكان عتاب على ميمنته فقال له : فمر الميمنة أن تنصرف! فأبى ذلك إبراهيم ، فمضى عتاب إليهم وأمرهم بالانصراف فانصرفوا فأكبّت ميسرة الشام عليهم واختلط الرجال وصمدوا لإبراهيم وأسلمه من معه ، فنزل ودار به الرجال وازدحموا عليه واشتبكت عليه

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٠٤ ـ ١٠٦.

(٢) مروج الذهب ٣ : ١٠٥.

(٣) مروج الذهب ٣ : ١٠٦.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٤٤٠ عن أبي مخنف ، عن حميد بن مسلم.

٤٣٨

الأسنة فقتل ، فقيل إنّ قاتله ثابت بن يزيد مولى الحصين بن نمير السكوني الكندي وحمل رأسه إلى عبد الملك ، واتي بجسده والقي بين يديه ، فجمع مولى الحصين عليه حطبا واحرقه (١)!

حرب مصعب وعبد الملك :

ثمّ سار عبد الملك من موضعه في صبيحة تلك الليلة حتّى نزل بدير الجاثليق (الكاثوليك) من أرض العراق (على فرسخين من الأنبار) وكان عبيد الله ابن زياد البكري من زعماء بكر بن وائل وسادات ربيعة ومعه عكرمة بن ربعي فأقبلا برايات بني ربيعة فالتحقوا بعبد الملك ودخلوا في طاعته وأضافوها إليه (٢)!

قال ابن قتيبة : وكان مصعب وعبد الملك قبل ذلك صديقين متحابّين متصافيين لا يعلم بين اثنين من الناس ما بينهما من الإخاء والصداقة! ولذا تقدّم اليوم هنا عبد الملك وبعث إليه : أن ادن منّي اكلّمك! فدنا منه وتنحّى الناس عنهما. فسلّم عبد الملك عليه وقال له : يا مصعب قد علمت ما جرى بيني وبينك منذ ثلاثين سنة من الصحبة والإخاء ، فو الله لأنا خير لك من عبد الله وأنفع لدينك ودنياك! فثق بذلك منّي وانصرف إليّ وخذ بيعة المصرين (الكوفة والبصرة) والأمر أمرك لا تعصى ولا تخالف. وإن شئت اتّخذتك صاحبا ووزيرا لا تعصى.

فقال مصعب : ما ذكرت من مودّتي وإخائي وثقتي بك ، فذلك كما ذكرته ولكنّه قبل قتلك لعمرو بن سعيد ، وبعد قتلك له فلا يطمأنّ إليك وهو أقرب منّي رحما إليك وأولى بما عندك فقتلته غدرا ، وو الله لو قتلته في محاربة لمسّك عاره ولما سلمت من إثمه.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٢) مروج الذهب ٣ : ١٠٧.

٤٣٩

وأمّا ما ذكرت من أنّك خير لي من أخي فدع عنك أبا بكر وإيّاك وإيّاه لا تتعرّض له واتركه ما تركك! فقال عبد الملك : إنّ فيه لثلاث خصال لا يسود بها أبدا : عجب قد ملأه ، واستغناء برأيه ، وبخل قد التزمه! فلا يسود بهذه أبدا (١)!

ثمّ تخلّى عن مصعب من كان معه من مضر واليمن! وبقي في نفر يسير منهم ابنه عيسى فقال له : يا بني دعني فإنّي مقتول واركب فرسك فانج بنفسك والحق بمكّة بعمك فأخبره بما صنع بي أهل العراق! فأبى وتقدّم فقاتل حتّى قتل أمامه.

وكان علي بن عبد الله بن العباس بعد وفاة أبيه قد التحق بعبد الملك! وكان خالد بن يزيد بن معاوية صهر ابن الزبير مع عبد الملك ، وكأنّ محمّد بن مروان رقّ لمصعب ، فسأل أخاه عبد الملك أن يؤمن مصعبا ، فاستشار عبد الملك من حضره ، فأبى علي بن عبد الله ، ووافق خالد وارتفع الكلام بينهما حتّى تسابّا ، ووافق عبد الملك خالدا وأخاه محمّدا فأمره أن يمضي إلى مصعب فيؤمّنه.

فمضى محمّد حتّى وقف قريبا من مصعب ثمّ ناداه : يا مصعب ، أنا ابن عمك! محمّد بن مروان وقد أمّنك أمير المؤمنين! على نفسك ومالك وكلّ ما أحدثت ، وأن تنزل أيّ البلاد شئت ، فانشدك الله في نفسك! فأبى ، وقاتل حتّى اثخن بالجراح وعرقب فرسه فترجّل ، فأقبل عليه عبيد الله بن ظبيان البكري فضربه مصعب على رأسه وضربه عبيد الله فقتله ، واحتزّ رأسه وأتى به عبد الملك ، فسجد عبد الملك! وذلك في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة (٧٢ ه‍). وأمر عبد الملك بمصعب وابنه عيسى فدفنا بدير الجاثليق (الكاثوليك) (٢).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ٢٨.

(٢) مروج الذهب ٣ : ١٠٧.

٤٤٠