موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

رجل من جذام ، وسآمرهم أن يبادروا غدا إلى المسجد ، فيقوم ابنك عبد العزيز فيخطبهم ويدعوهم إليك ، فيصدّقه الجذاميون ، فيظن الناس أن أمرهم واحد. فتوافقوا على ذلك.

قال خليفة : وكان مع مروان ثلاثة عشر ألفا ، والضحّاك في ستّين ألفا ، فأقاموا يقتتلون كلّ يوم حتّى عشرين يوما. وكان ابن زياد مع مروان فقال له : إنّ الضحّاك في فرسان قيس ، ولن ننال منهم ما نريد إلّا بمكيدة! فاسألهم الموادعة واكفف عن القتال وأعدّ الخيل ، فإذا كفّوا فارمهم بها. فمشى السفراء بينهم حتّى كفّ الضحّاك عن القتال ، ثمّ شدّ عليهم مروان بخيله ، ففزعوا إلى راياتهم في غير تعبئة ، فقتل جماعة من فرسان قيس والضحّاك بن قيس ، وفيهم ثلاثة من أبناء زفر بن الحارث الكلابي (١) وقتل خلق من أصحابهم وهرب من بقي منهم.

وبلغ الخبر النعمان بن بشير في حمص فخرج هاربا بأهله وولده وثقله ، فتبعه قوم من باهلة وحمير إلى البريّة فقتلوه بها واحتزّوا رأسه ووجّهوا به إلى مروان بن الحكم (قتله خالد بن خلي الكلاعي).

وهرب زفر بن الحارث الكلابي وتبعه خيل ، حتّى لجأ إلى حصن قرقيسا (٢).

ودخل مروان دمشق فاتحا ، وأشار عليه أصحابه أن يتزوج امرأة يزيد امّ خالد ليكسره ، فخطبها وتزوّجها (٣) ودخل دار معاوية بن أبي سفيان (٤).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ١٦١ ، وفي التنبيه والإشراف : ٢٦٦ : كان الفهري في ٣٠ ألفا ومروان في ١٣ ألفا رجّالة.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥٦.

(٣) الإمامة والسياسة ٢ : ١٦.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٦٦.

٢٨١

وبعد عودة جنود ابن النمير عن مكّة وقد هدموا أطراف الكعبة ، بعدهم بشهرين في شهر جمادى الآخرة سنة (٦٤ ه‍) هدم ابن الزبير الكعبة حتّى ألصقها بالأرض. وكان الحجر الأسود لما أصابه الحريق تصدّع بثلاث قطع ، فشدّها ابن الزبير بالفضة وجعلها في داره.

فقال له ابن عباس : اضرب حوالي الكعبة الخشب لا يبقى الناس بغير قبلة! ثمّ خرج هو من مكّة إعظاما للمقام بها! وفعل ابن الزبير ما قال له.

فلمّا بلغ ابن الزبير بالهدم إلى قواعد إبراهيم أدخل الحجر في البناء ورفعه.

وروى عن خالته عائشة زوج النبيّ أنها قالت : قال لي رسول الله : يا عائشة إن بدا لقومك أن يهدموا الكعبة ثمّ يبنوها فليصيّروا لها بابين ولا يرفعوها عن الأرض. وكان لباب الكعبة الأول مصراع واحد ، فجعل ابن الزبير لها بابين من الأرض شرقيا وغربيا بمصراعين بطول إحدى عشرة ذراعا ، وكان ارتفاع الكعبة ثماني عشرة ذراعا فجعلها تسعا وعشرين ذراعا! وكساها كسوة قباطية (مصرية سوداء) ودهّن داخلها بالخلوق والطيب. وأمر أن يحفر في الأحجار موضع الحجر الأسود ، وأراد قطع النزاع فأمر ابنه عبّادا أن يأتي بالحجر ظهرا إذا صلّى بالناس فيضعه في موضعه. ثمّ صلّى بالناس وكان يوما شديد الحرّ ، فجاء عبّاد بالحجر وشقّ الصفوف حتّى صار إلى موضع الحجر ، وطوّل ابن الزبير صلاته حتّى وضعه ثمّ وقف على رأس أبيه وكبّر ، فسلّم ابن الزبير! فلمّا رأت قريش ذلك غضبت وقالت : والله اهكذا فعل رسول الله! ولقد حكّمته قريش فجعل لكلّ القبائل نصيبا (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٦٠ وفيه كما مرّ نسب البابين من الأرض إلى خالته عائشة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٥٣ ت : نسب إدخال سنة أذرع من الحجر إلى ذلك ، وقال : وهو الخليفة ، ومروان باغ عليه ، كما قاله الذهبي.

٢٨٢

حوادث

السنة الخامسة والستّين

وثورة التوّابين

٢٨٣
٢٨٤

استخلاف مروان لعبد الملك :

ما أن استقر الأمر لمروان ـ من دون العراقين ومصر والحجاز ـ وخرج من السنة (٦٤ ه‍) ودخل في سنة (٦٥ ه‍) وقد كسر رقيبه خالد بن يزيد بزواجه بأمّ خالد ، فلم يعبأ به حتّى جدّد البيعة لنفسه ولابنه بعده عبد الملك ثمّ ابنه الآخر عبد العزيز (١) غير آبه بعمرو بن سعيد الأشدق. ثمّ وجّه ابن زياد إلى العراق في ستّين ألفا في شهر ربيع الأوّل (٢).

استيلاؤه على فلسطين ومصر :

ثمّ أراد استرداد مصر لطاعة المروانية من اميّة ، وكان لدى خالد بن يزيد سلاح لأبيه يزيد فقال له مروان : أعرني سلاحا كان عندك ، فأعاره إياه ، فخرج

__________________

(١) تاريخ خليفة : ١٦٢.

(٢) تاريخ خليفة : ١٦٣ وفيه : ربيع الآخر ، وينافي ما يأتي.

٢٨٥

إلى مصر (١) من فلسطين ، وكان مروان أرسل عليها روح بن زنباغ الجذامي فوجد ناتل ابن قيس الجذامي قد تغلّب عليه وأخرجه ، فحاربه مروان فهرب إلى ابن الزبير (٢).

وخرج إلى مصر فقاتلهم وأسر منهم ناسا كثيرا فافتدوا أنفسهم منه بأموال استعان بها (٣) وكانت مصر قد دانت لابن الزبير ، فكانت لمروان معهم حروب عظيمة فقتل فيها خلق كثير من الفريقين ، إلى أن أخرجوا عامل ابن الزبير عبد الرحمان بن جحدم الفهري عنهم (٤) ودخلها فصالحه أهلها وأطاعوه. واغتال الفهريّ عامل ابن الزبير ، وقتل أكيدر بن حمام اللخمي ، ثمّ استعمل عليها ابنه عبد العزيز وانصرف (٥).

دخلها في أوّل شهر ربيع الثاني ، فمكث بها أكثر من شهرين وخرج في جمادى الثانية (٦٥ ه‍) (٦).

ووجّه مروان حبيش بن دلجة القيني إلى الحجاز لمحاربة ابن الزبير بدءا بالمدينة ، وكان عليها لابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف الزهري ، وعلى البصرة لابن الزبير الحارث بن عبد الله المخزومي ، فلمّا توجّه القينيّ إلى المدينة كتب ابن الزبير إلى الحارث بالبصرة أن يوجّه بجيش إلى جيش الشام مع القينيّ ، فلقي أهل البصرة حبيشا وجيشه فقاتلوهم فقتلوهم ، وكان فيهم الحجّاج بن يوسف الثقفي مع أبيه يوسف بن الحكم فأفلتا مع من شرد منهم (٧).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

(٣) الإمامة والسياسة ٢ : ١٧.

(٤) التنبيه والاشراف : ٢٦٩.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥٧.

(٦) تاريخ خليفة : ١٦٢.

(٧) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥٦.

٢٨٦

بداية وثبة التوّابين

عن تقصيرهم في شأن الحسين عليه‌السلام

الكوفة بعد موت يزيد :

كان يزيد قد جمع لابن زياد العراقين الكوفة والبصرة ، فكان يتردّد بينهما كلّ ستة أشهر ويستنيب في الأخرى ، وفي أوائل سنة (٦٤ ه‍) في منتصف شهر ربيع الأول حين هلاك يزيد كان ابن زياد بالبصرة وخليفته على الكوفة عمرو بن حريث المخزومي. فلمّا رضي البصريون بإمارته حتّى يجتمع أمر الناس ، أرسل وافدين من قبله إلى الكوفة : عمرو بن مسمع وسعيد بن القرحا المازني التميمي ، ليعلما أهل الكوفة بما صنع أهل البصرة ويسألانهم له مثلها حتّى يصطلح الناس على أحد.

فجمع عمرو بن حريث الناس ثمّ حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم : إنّ هذين الرجلين قد أتياكم من قبل أميركم يدعوانكم إلى أمر يجمع الله به كلمتكم ويصلح به ذات بينكم ، فاسمعوا منهما واقبلوا عنهما.

فقام عمرو بن مسمع فحمد الله وأثنى عليه (ونعى إليهم يزيد) وذكر اجتماع رأي أهل البصرة على تأمير عبيد الله بن زياد حتّى يرى الناس رأيهم فيمن يولّون عليهم وقال : وقد جئناكم لنجمع أمرنا وأمركم فيكون أميرنا وأميركم واحدا ، فإنّما الكوفة من البصرة والبصرة من الكوفة! وقام ابن القرحا فقال مثل صاحبه.

فقام يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني ـ من قوّاد ابن زياد في قتل الحسين عليه‌السلام ـ فقال : الحمد الله الذي أراحنا من ابن سميّة ، لا ولا كرامة! أو : حصبهما وقال لهما : أنحن نبايع لابن مرجانة! لا ولا كرامة! ثمّ حصبهما الناس

٢٨٧

بعده ، فأمر عمرو الشرطة أن يذهبوا به إلى السجن ، فقام بنو بكر بن وائل وعاقوهم عنه وانطلقوا به إلى أهله. وصعد عمرو المنبر فحصبوه ، فدخل داره.

واجتمع ناس في المسجد قالوا : نؤمّر رجلا إلى أن يجتمع الناس على خليفة ، ثمّ توافقوا على عمر بن سعد! فمضى محمّد بن الأشعث الكندي إلى ابن سعد فجاء به حتّى أصعده المنبر! وجاء الخبر إلى همدان فاجتمع نساؤهم وخرجن مع رجال منهم متقلّدين سيوفهم ، وهنّ يندبن ويبكين حسينا عليه‌السلام حتّى دخلوا المسجد وأطافوا بابن سعد وابن الأشعث فأخذ يقول : جاء غير ما كنّا عليه! وانصرفوا. وإنّما كان ابن الأشعث وكندة تقوم بأمر ابن سعد ؛ لأن امّه منهم فهم أخواله.

ثمّ اجتمع جمع من أهل الكوفة على عامر بن مسعود الجمحي ، وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير فأقرّه.

وعاد الوافدان إلى البصرة فأعلموا الناس الخبر ، فقال رجال منهم فيما بينهم : أهل الكوفة يخلعونه وأنتم تولّونه وتبايعونه؟! فوثب الناس على ابن زياد فخافهم وخرج من قصره مستجيرا بدار مسعود بن عمرو شيخ الأزد بالبصرة ، فأجاره ومنع الناس عنه ثلاثة أشهر ثمّ استخلف مسعود بن عمرو على البصرة وشايعه رجال منهم إلى الشام (١).

فصلّى بالكوفة عامر الجمحي إلى ثلاثة أشهر ، ثمّ قدم عليهم للصلاة والحرب عبد الله بن يزيد الأنصاري ، وعلى الخراج : إبراهيم بن محمّد بن طلحة التيمي (٢) بعد أن بويع ابن الزبير بالخلافة لسبع أو تسع خلون من شهر رجب (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٢٤ ـ ٥٢٥.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٥٣.

(٣) تاريخ خليفة : ١٦٠.

٢٨٨

وفي أيام عامر بن مسعود الجمحي جمح أهل الريّ برئاسة البرجان ، والريّ من ثغور الكوفة ، فوجّه عامر الجمحي ـ باسم ابن الزبير ـ جيشا بإمرة محمّد بن عمير بن عطارد فهزمه البرجان ، فوجّه بعده آخر بإمرة عتّاب بن ورقاء التميمي الرياحي فهزموا المتمرّدين وقتلوا البرجان (١).

أوائل أقاويل الشيعة بالكوفة :

كانت لسليمان بن صرد الخزاعي صحبة معروفة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ كان هو والمسيّب بن نجبة الفزاري ، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي ، وعبد الله بن وال التّيمي ، ورفاعة بن شدّاد البجلي من خيار أصحاب علي عليه‌السلام ومعهم اناس من وجوه «الشيعة» وخيارهم. وقد مرّ خبر اجتماعهم في دار سليمان الخزاعي بعد موت معاوية ونزوح الحسين عليه‌السلام إلى مكّة ، وتداعيهم إلى أن يكتبوا إليه باقتدائهم به في إباء بيعة يزيد ودعوته إليهم ليبايعوه ويتابعوه.

وعليه فمن الطبيعي ما رواه أبو مخنف الأزدي عن عبد الله بن عوف الأزدي : أنّ اولئك «الشيعة» بعد قتل الحسين عليه‌السلام إلى جانبهم ولم ينصروه ، تلاقوا فيما بينهم بالندم والتلاوم! وأنّهم أخطؤوا خطأ كبيرا بدعوتهم إيّاه لنصرته ثمّ تركهم إجابته لذلك! وأنّ عليهم في ذلك الإثم والعار! وأنّ ذلك لا يغسل عنهم إلّا بقتال قاتليه أو يقتلوا في سبيل ذلك. وكان من الطبيعي أن يعودوا للاجتماع في دار سليمان الخزاعي ، فاجتمعوا إليه (٢).

وإنّ منهم من كان تائبا ليس من خذلانه وترك نصرته للحسين عليه‌السلام بل من نصرته عليه كحميد بن مسلم الأزدي ، حيث يروى عنه أبو مخنف الأزدي

__________________

(١) تاريخ ابن الخياط : ١٦٢.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٥٥٢.

٢٨٩

قال : والله لقد كنت شاهدا معهم ذلك اليوم وإنّا يومئذ لأكثر من مئة رجل من وجوه «الشيعة» وفرسانهم في دار سليمان الخزاعي (١) سنة قتل الحسين عليه‌السلام سنة إحدى وستّين (٢) وجلّهم في نحو الستّين من أعمارهم ، كما يأتي آنفا ، وكان يوم جمعة (٣).

مؤتمر امراء التوابين الخمسة :

فلمّا اجتمعوا بدأ الكلام المسيّب بن نجبة : فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على نبيّه (وآله) ثمّ قال :

«أمّا بعد ، فإنّا قد ابتلينا بطول العمر والتعرّض لأنواع الفتن ، فنرغب إلى ربّنا أن لا يجعلنا ممّن يقول لهم غدا : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ)(٤) وقد قال أمير المؤمنين (علي عليه‌السلام) : «العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم (أي قطع به عذره) : ستّون سنة» وليس فينا رجل إلّا وقد بلغه.

وقد كنّا مغرمين بتزكية أنفسنا وتقريظ «شيعتنا» حتّى بلا الله أخبارنا فوجدنا كاذبين في موطنين من مواطن ابني ابنة نبيّنا صلّى الله عليه (وآله) وسلم (٥).

وقد بلغتنا قبل ذلك كتبه وقدمت علينا رسله ، وأعذر إلينا (قطع عذرنا) يسألنا نصره ، عودا وبدءا وعلانية وسرّا! فبخلنا عنه بأنفسنا حتّى قتل إلى جانبنا ، لا نحن نصرناه بأيدينا ولا جادلنا عنه بألسنتنا ، ولا قوّيناه بأموالنا ولا طلبنا له

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٥٤.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٥٥٨.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٥٥٤.

(٤) فاطر : ٣٧.

(٥) يعني موقفهم مع الحسن عليه‌السلام ثمّ موقفهم من الحسين عليه‌السلام.

٢٩٠

النصرة من عشائرنا! فما عذرنا إلى ربّنا وعند لقاء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد قتل فينا ولده وحبيبه وذريّته ونسله! لا والله لا عذر! دون أن تقتلوا قاتله والمؤلّبين عليه أو تقتلوا في طلب ذلك ، فعسى ربّنا أن يرضى عنّا عند ذلك ، وما أنا بعد لقائه بآمن من عقوبته!

أيّها القوم! ولّوا عليكم رجلا منكم فإنّه لا بدّ لكم من أمير تفزعون إليه وراية تحفّون بها. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم». ومن دون اقتراح لأمير خاصّ.

ثمّ بادر رفاعة بن شدّاد البجلي فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال :

أمّا بعد ، فإنّ الله قد هداك لأصوب القول ، ودعوت إلى أرشد الأمور : دعوت إلى التوبة من الذنب العظيم وإلى جهاد الفاسقين ، فمسموع منك مستجاب لك مقبول قولك.

وقلت : «ولّوا عليكم رجلا منكم تفزعون إليه وتحفّون برايته» وذلك رأي رأيناه مثل الذي رأيت ، فإن تكن أنت ذلك الرجل تكن عندنا مرضيّا وفينا متنصّحا وفي جماعتنا محبوبا. وإن رأى أصحابنا ولّينا هذا الأمر «شيخ الشيعة» صاحب رسول الله ، وذا السابقة والقدم سليمان بن صرد ، المحمود في بأسه ودينه والموثوق بحزمه ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

ثمّ تكلم عبد الله بن وال التيمي فذكر المسيّب بن نجبة بفضله ثمّ سليمان بن صرد بسابقته ، والرضا بتوليته. ثمّ تكلّم عبد الله بن سعد بنحوه.

فقال المسيّب بن نجبة : أصبتم ووفّقتم ، وأنا أرى مثل الذي رأيتم فولّوا أمركم سليمان بن صرد (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٥٢ ـ ٥٥٣.

٢٩١

بيان سليمان الخزاعي :

فلمّا ولّوا عليهم سليمان بن صرد تكلّم فقال : «أثني على الله خيرا وأحمد آلاءه وبلاءه ، وأشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسوله. أمّا بعد ؛ فإنّي والله لخائف أن لا يكون آخرنا (آخر أمرنا) في هذا العصر ـ الذي نكدت فيه المعيشة ، وعظمت فيه الرزية ، وشمل فيه الجور أولي الفضل من هذه الشيعة ـ إلى ما هو خير! فإنّا كنّا نمدّ أعناقنا إلى قدوم «آل نبيّنا» ونمنّيهم النصر ، ونحثّهم على القدوم ، فلمّا قدموا ونينا وعجزنا! وادّهنّا وتربّصنا وانتظرنا ما يكون! حتّى قتل فينا ولد نبيّنا وسلالته وعصارته! وبضعة من لحمه ودمه! إذ جعل يستصرخ فلا يصرخ ويسأل النصف فلا يعطاه! اتّخذه الفاسقون غرضا للنّبل ، ودريئة للرماح حتّى أقصدوه ، وعدوا عليه فسلبوه (١).

ألا فانهضوا! فقد سخط ربّكم! ولا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتّى يرضى الله! وما أظنه راضيا دون أن تناجزوا من قتله أو تبيدوا! ألا لا تهابوا الموت! فو الله ما هابه امرؤ قط إلّا ذلّ! كونوا كالألى من بني إسرائيل إذ قال لهم نبيّهم : (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ)(٢) فما فعل القوم؟ جثوا على الركب ومدّوا الأعناق ، ورضوا بالقضاء حين علموا أنّه لا ينجيهم من عظيم الذنب إلّا الصبر على القتل! فكيف بكم لو قد دعيتم إلى مثل ما دعوا إليه؟! اشحذوا السيوف وركّبوا الأسنة (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ)(٣) حتّى تدعوا حين تدعون وتستنفرون».

__________________

(١) ولم يتكلّم بسلب بناته ونسائه وسبيهن!

(٢) البقرة : ٥٤.

(٣) الأنفال : ٦٠.

٢٩٢

فقام خالد بن سعد بن نفيل أخو عبد الله وقال : أمّا أنا فو الله لو أعلم أنّ قتلي نفسي يخرجني من «ذنبي» ويرضي ربّي لقتلتها! ولكن هذا أمر به قوم كانوا قبلنا ونهينا عنه. فاشهد الله ومن حضر من المسلمين أنّ كلّ ما أصبحت أملكه ـ سوى سلاحي الذي أقاتل به عدوّي ـ صدقة على المسلمين! اقوّيهم به على قتال القاسطين!

فلمّا تصدّق خالد بن سعيد الأزدي بما له على المسلمين قال له سليمان : أبشر بجزيل ثواب الله للذين لأنفسهم يمهدون. فقام حنش بن ربيعة الكناني وقال : وأنا أشهدكم على مثل ذلك.

فقال سليمان : من أراد شيئا من مثل هذا فليأت بماله إلى عبد الله بن وال من تيم بكر وائل ، فإذا اجتمع عنده كلّ ما أردتم إخراجه من أموالكم جهّزنا به ذوي الخلّة والمسكنة من أشياعكم (١).

فلم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال ودعاء الناس من «الشيعة» وغيرهم في السرّ إلى الطلب بدم الحسين عليه‌السلام فكان يجيبهم النفر بعد النفر والقوم بعد القوم (٢).

خطبة عبيد الله المزني :

وكان من أبلغ دعاتهم في منطقه ووعظه : عبيد الله بن عبد الله المزني ، وكان إذا اجتمع إليه جمع من الناس يبدأ بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ يقول :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٥٤ ـ ٥٥٥.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٥٥٨.

٢٩٣

«أمّا بعد ، فإنّ الله اصطفى محمّدا بنبوّته على خلقه ، وخصّه بالفضل كلّه ، وأعزّكم باتّباعه وأكرمكم بالإيمان به ، فحقن به دماءكم المسفوكة ، وأمّن به سبلكم المخوفة : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(١).

فهل خلق ربّكم في الأولّين والآخرين أعظم حقّا على هذه الأمّة من نبيّها؟! وهل «ذريّة» أحد من النبيّين والمرسلين أو غيرهم أعظم حقّا على هذه الأمّة من «ذريّة» رسولها؟! لا والله ما كان ولا يكون!

لله أنتم ، ألم تروا ويبلغكم ما اجترم إلى ابن بنت نبيّكم! أما رأيتم انتهاك القوم حرمته؟ واستضعافهم وحدته! وترميلهم إيّاه بالدم وجرّهم إيّاه على الأرض! لم يرقبوا فيه ربّهم ولا قرابته من الرسول ، اتّخذوه للنبل غرضا ، وغادروه للضباع جزرا (ذبيحا) فلله عينا من رأى مثله! ولله حسين بن عليّ ماذا غادروا به ذا صدق وصبر ، وذا أمانة ونجدة وحزم! ابن «أوّل المسلمين» إسلاما وابن بنت رسول ربّ العالمين ، قلّت حماته وكثرت حوله عداته ، فقتله عدوّه و «خذله وليّه» فويل للقاتل وملامة للخاذل.

إنّ الله لم يجعل لقاتله حجّة «ولا لخاذله معذرة» إلّا أن يناصح لله في «التوبة» فيجاهد القاتلين وينابذ القاسطين ، فعسى الله عند ذلك أن يقبل «التوبة» ويقيل العثرة.

إنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ، و «الطلب بدماء أهل بيته» وإلى جهاد المحلّين والمارقين ، فإن قتلنا فما عند الله خير للأبرار ، وإن ظفرنا «رددنا هذا الأمر إلى أهل بيت نبيّنا» (٢).

__________________

(١) آل عمران : ١٠٣.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٥٥٩ ـ ٥٦٠ ، وهذه الخاتمة هو المبرّر الشرعي الوحيد لعملهم لو كان بإذن إمامهم يومئذ.

٢٩٤

فلمّا مات يزيد بن معاوية :

لم يزل هؤلاء على هذا حتّى مات يزيد لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأوّل سنة أربع وستّين.

فجاء جماعة من «الشيعة» إلى سليمان الخزاعي وقالوا له : قد مات هذا الطاغية ، والأمر الآن ضعيف ، فإن شئت وثبنا على عمرو بن حريث فأخرجناه من القصر ـ وكان خليفة ابن زياد بالكوفة ـ ثمّ أظهرنا الطلب بدم الحسين عليه‌السلام وتتبّعنا قتلته «ودعونا الناس إلى أهل هذا البيت» المستأثر عليهم و «المدفوعين عن حقّهم» فأكثروا من هذا القول ومثله.

فقال لهم سليمان الخزاعي : إنّي قد نظرت فيما تذكرون فرأيت أنّ قتلة الحسين هم أشراف أهل الكوفة ، وفرسان العرب هم المطالبون بدمه ، ومتى علموا ما تريدون وأنّهم هم المطلوبون كانوا هم أشدّ عليكم. ونظرت في من تبعني منكم فعلمت أنّهم لو خرجوا لم يدركوا «ثأرهم» ولم يشفوا أنفسهم ولم ينكوا في عدوّهم وكانوا لهم جزرا (ذبائح) ولكن بثّوا دعاتكم في المصر فادعوا إلى أمركم هذا «شيعتكم» وغيرهم ، فإنّي أرجو أن يكون الناس اليوم حيث هلك هذا الطاغية أسرع إلى أمركم استجابة منهم قبل هلاكه.

فخرجت طائفة منهم دعاة يدعون الناس ، فاستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك يزيد بن معاوية ، أضعاف من كان استجاب لهم قبل ذلك (١) ولم يزل أصحاب سليمان يدعون «شيعتهم» وغيرهم من أهل مصرهم ، حتّى كثر تبعهم ، وكان الناس بعد هلاك يزيد أسرع إلى اتباعهم منهم قبل ذلك (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٥٩.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٥٦٠.

٢٩٥

بلا تضمين لتعيين موعد لوثبتهم في هذا الخبر كما مرّ ، ونجد الأجل لأوّل شهر ربيع الآخر لسنة خمس وستّين في رسالة سليمان إلى سعيد بن حذيفة بن اليمان بلا تاريخ لها ، ولعلّها كانت نحو سنة قبل الموعد وبعد موت يزيد في أواخر ربيع الآخر لسنة (٦٤ ه‍) فإلى نصّها :

رسالة سليمان إلى سعيد بن حذيفة :

كان حذيفة بن اليمان الأنصاري عاملا على المدائن حتّى أوائل عهد الإمام عليّ عليه‌السلام ، وقتل ابنه سعيد شهيدا بصفّين مع الإمام عليه‌السلام ، وكان أخوه سعد بعد بالمدائن. وكان بها أقوام من أهل الكوفة قد أعجبتهم فتوطّنوا بها ، وكانوا في حين توزيع العطاء وتقسيم الأرزاق يعودون إلى الكوفة فيأخذون حقوقهم ويعودون إلى أوطانهم في المدائن (١).

فكتب سليمان الخزاعي كتابين نسخة واحدة ، بعث بواحدة مع ظبيان بن عمارة السعدي التميمي إلى المثنّى بن مخرّبة العبدي (البصري) فكتب إليه المثنّى : أمّا بعد ، فقد قرأت كتابك ، وأقرأته إخوانك ، فحمدوا رأيك واستجابوا لك ، فنحن موافوك للأجل الذي ضربت وفي الموطن الذي ذكرت ، والسلام عليك ، وكتب في أسفل الكتاب أربعة أبيات من شعر الحماسة (٢).

وبعث بنسخة اخرى منه مع عبد الله بن مالك الطائي إلى سعد بن حذيفة بن اليمان ، وفيه :

بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة ومن قبله من المؤمنين ، سلام عليكم.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٥٧.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٥٥٨.

٢٩٦

أمّا بعد ؛ فإنّ الدنيا قد أدبر منها ما كان معروفا ، وأقبل منها ما كان منكرا ، وأزمع الترحال عباد الله الأخيار ، وباعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بجزيل مثوبة عند الله لا تفنى (١).

إنّ أولياءكم من إخوانكم و «شيعة آل نبيّكم» نظروا لأنفسهم فيما ابتلوا به من أمر ابن بنت نبيّهم ، الذي دعي فأجاب ودعا فلم يجب ، وأراد الرجعة فحبس ، وسأل الأمان فمنع ، وترك الناس فلم يتركوه ، وعدوا عليه فقتلوه ثمّ سلبوه وجرّدوه ظلما وعدوانا ، وغرّة بالله وجهلا. وبعين الله ما يعملون وإلى الله يرجعون (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(٢).

فلما نظر إخوانكم وتدبّروا عواقب ما استقبلوا رأوا أن قد أخطؤوا بخذلان الزكيّ الطيّب ، وإسلامه وترك مواساته والنصر له خطأ كبيرا ، ليس لهم منه مخرج ولا «توبة» دون قتل قاتليه أو قتلهم ، حتّى تفنى على ذلك أرواحهم ، وقد جدّ إخوانكم فجدّوا ، وأعدّوا واستعدّوا.

وقد ضربنا لإخواننا أجلا يوافوننا إليه ، وموطنا يلقوننا فيه :

فأمّا الأجل : فغرّة شهر ربيع الآخر سنة خمس وستّين. وأمّا الموطن الذي تلقوننا فيه فالنخيلة.

أنتم الذين لم تزالوا لنا «شيعة» وإخوانا ، ألا وقد رأينا أن ندعوكم إلى هذا الأمر الذي أراد الله به إخوانكم فيما يزعمون ، ويظهرون لنا أنّهم «يتوبون» وإنّكم جدراء بتطلاب الفضل والتماس الأجر ، و «التوبة» إلى ربّكم من الذنب ، ولو كان في ذلك حزّ الرقاب وقتل الأولاد واستيفاء الأموال وهلاك العشائر.

__________________

(١) اقتباس من الخطبة : ١٨٢ في نهج البلاغة.

(٢) الشعراء : ٢٢٧. ولم يذكر السبي أيضا.

٢٩٧

ما ضرّ «أهل عذراء» (حجرا وأصحابه) الذين قتلوا أن يكونوا اليوم أحياء عند ربهم يرزقون ، شهداء قد لقوا الله صابرين محتسبين ، فأثابهم ثواب الصابرين. وما ضرّ إخوانكم المقتّلين صبرا المصلّبين ظلما ، والممثّل بهم والمعتدى عليهم أن لا يكونوا أحياء مبتلين بخطاياكم ، قد خير لهم فلقوا ربّهم ووفّاهم الله أجرهم إن شاء الله!

فاصبروا ـ رحمكم الله ـ على البأساء والضرّاء وحين البأس وتوبوا إلى الله عن قريب ، فو الله إنّكم لأحرياء أن لا يكون أحد من إخوانكم صبر على شيء من البلاء إرادة ثوابه ، إلّا صبرتم التماس الأجر فيه على مثله ، ولا يطلب رضا الله طالب بشيء من الأشياء إلّا طلبتم رضا الله به ولو أنّه القتل!

إنّ التقوى أفضل الزاد في الدنيا ، وما سوى ذلك يبور ويفنى ، فلتعزف عنها أنفسكم ، ولتكن رغبتكم في دار عاقبتكم ، وفي جهاد عدوّ الله وعدوّكم وعدو «أهل بيت نبيّكم» حتّى تقدموا على الله «تائبين» راغبين.

أحيانا الله وإياكم حياة طيّبة ، وأجارنا وإيّاكم من النار ، وجعل منايانا قتلا في سبيله على يدي أبغض خلقه إليه وأشدّهم عداوة له ، إنّه القدير على ما يشاء ، والصانع لأوليائه في الأشياء ، والسلام عليكم.

ولمّا قرأ سعد بن حذيفة الكتاب بعث إلى «الشيعة» بالمدائن فقرأه عليهم ، ثمّ حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد ؛ فإنّكم قد كنتم مجتمعين مزمعين على نصر الحسين وقتال عدوّه ، فلم يفجأكم شيء قبل قتله ، والله مثيبكم على حسن النيّة ، وعلى ما أجمعتم عليه من النصر ، بأحسن المثوبة. وقد بعث إخوانكم يستنجدونكم ويستمدّونكم ، ويدعونكم إلى الحقّ ، وإلى ما ترجون لكم به عند الله أفضل الأجر والحظّ ، فماذا تريدون وماذا تقولون؟!

٢٩٨

فقالوا بأجمعهم : رأينا في ذلك مثل رأيهم ، فنجيبهم ونقاتل معهم!

فقال : استعدّوا للعدوّ وأعدّوا له الحرب ، ثمّ نسير وتسيرون (١).

واختار المختار أن يعود للديار :

مرّ في أخبار خروج مسلم بن عقيل : أنّ المختار بن عبيد الثقفي خرج براية لنصرته ، وكان عمرو بن حريث المخزومي يحمل راية أمان لابن زياد ، فدعا المختار إليه وأجاب المختار فشتر عينه ابن زياد وحبسه. وكان عبد الله بن عمر قد بايع ليزيد وكان هو زوج اخت المختار : صفيّة ، فبعث المختار ابن عمه زائدة بن قدامة الثقفي إلى ابن عمر يسأله أن يكتب إلى يزيد ليكتب إلى ابن زياد بإطلاقه ، ففعل وأطلقه ابن زياد ولكنّه أخرجه من الكوفة ، فخرج إلى مكّة.

فروى الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي ، وكان مع ابن الزبير ، وتواعد مع المختار الثقفي في حجر إسماعيل بعد العتمة ، فالتقى به وذهب به إلى منزل ابن الزبير فقال له المختار :

إنّي قد جئتك لأبايعك على أن لا تقضي الأمور دوني وإذا ظهرت استعنت بي على أفضل عملك! ولا ابايعك أبدا إلّا على هذه الخصال! فقال له ابن الزبير : فلك ما سألته! فبسط يده فبايعه (٢) وأقام معه خمسة أشهر ، فلمّا رآه لا يستعمله جعل لا يقدم عليه أحد من الكوفة إلّا سأله عن حالهم.

فمّمن قدم مكّة يريد عمرة رمضان هانئ بن أبي حيّة الوادعي الهمداني فسأله المختار عن حال الناس ، فأخبره أنّهم تصالحوا واتّسقوا على طاعة

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٥٥ ـ ٥٥٧.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٥٧٥.

٢٩٩

ابن الزبير ، ولكن طائفة من أهل المصر لو كان لهم رجل يجمعهم على رأيهم لأكل بهم الأرض إلى يوم مّا! فقال المختار : أنا والله لهم! أنا أجمعهم على مرّ الحقّ وأنفي بهم ركبان الباطل وأقتل بهم كلّ جبّار عنيد! أما وإنّي لا أدعو إلى الفتنة وإنّما أدعو إلى الهدى والجماعة! ثمّ ركب رواحله وخرج نحو الكوفة (١).

ودخل المختار الكوفة :

قدم المختار الكوفة يوم الجمعة النصف من شهر رمضان (٦٤ ه‍) (٢) فمرّ بمسجد السّكون وجبّانة كندة فسلّم عليهم وقال لهم : أبشروا فقد أتاكم ما تحبّون من النصر والفلج! ثمّ أقبل حتّى مرّ بمسجد بني ذهل وبني حجر فوجدهم قد راحوا إلى الجمعة.

فأقبل حتّى مرّ ببني بدّاء من كندة فوجد منهم عبيدة بن عمرو شاعرا شجاعا وأشدّهم حبّا لعلي عليه‌السلام ولكنّه لا يصبر عن الشراب ، فسلّم عليه المختار ثمّ قال له : يا أبا عمرو إنك على رأي حسن لن يدع الله معه مأثما إلّا غفره ولا ذنبا إلّا ستره! أبشر بالنصر واليسر والفلج! فقال عبيدة : بشّرك الله بخير ، فهل تفسّره لنا؟ قال : نعم ، الليلة في رحلي! فالقني في رحلي ، وبلّغ أهل مسجدكم هذا عنّي : أنّهم قوم أخذ الله ميثاقهم على طاعته ، يقتلون المحلّين ، ويطلبون بدماء أولاد النبيّين ، ويهديهم للنور المبين! ثمّ قال : أين الطريق إلى بني هند؟ فدعى عبيدة بفرسه وركبه ومضى معه إلى بني هند إلى منزل إسماعيل بن كثير فقال له : القني أنت

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٥٧٧ ـ ٥٧٨ ، ولا يصحّ ما أرسله المسعودي في مروج الذهب ٣ : ٧٣ : أنّه قالها لابن الزبير فأرسله إلى الكوفة لذلك!

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٥٦٠.

٣٠٠