• الفهرس
  • عدد النتائج:

(ثالثها) أن الدارس لتاريخ هذه الفتاة يعلم أن أعصابها كانت ثائرة لتلك الانقسامات الداخلية التى مزقت فرنسا ، والتى كانت تراها وتسمعها كل يوم بين أهلها وفى بلدها (جوارد ورمى) مع ما شاع فى عهدها من خرافات كان لها أثرها فى نفسها وعقلها ومخها. من تلك الخرافات أن فتاة عذراء ستبعث فى هذا الزمن تخلص فرنسا من عدوها. يضاف إلى هذا أن الفتاة كانت بعيدة الخيال تسبح فيه يقظة ومناما ، وتتوهم منذ حداثتها بأنها ترى وتسمع ما لم تر ولم تسمع حتى خيل إليها أنها دعيت لتخلص بلادها وتتوج ملكها. ولما تعدى البرغنيور على قريتها التى ولدت فيها قوى عندها هذا الخيال حتى صار عقيدة إلى غير ذلك مما يدل على أن الفتاة كانت أعصابها متهيجة تهيجا ناشئا عن تألمها من الحال السياسية السيئة فى بلادها ، وعن تأثرها بالاعتقادات الخرافية التى سادت زمنها.

وليس هذا بدعا ، فكم رأينا وسمعنا أصحاب دعايات عريضة يعتمدون فيها على مثل هذه الخيالات الباطلة ، كالذين قاموا باسم المهدى المنتظر يدعون ويحاربون ، وكغلام أحمد الفاديانى والباب البهائى اللذين أقام كل منهما نحلته الباطلة على أوهام فارغة.

لكن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يك عصبيا ثائرا مهتاجا. بل كان وقورا متزن العقل ثابت الفؤاد قوى الأعصاب. يثور الشجعان من حوله وهو لا يثور ، ويشطح الناس ويسرفون فى الخيال وهو واقف مع الحجة يكره الشطح والإسراف فى الخيال ؛ بل يحارب الإسراف فى الخيال وما يستلزمه ، ويرد هؤلاء المسرفين إلى حظيرة الحقائق ويحاكمهم إلى العقل. ألم تر إلى القرآن كيف يذم الشعراء الذين يركبون مطايا الخيال إلى حد الغواية ويقول : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا).

(٢١ ـ مناهل العرفان ـ ٢)