• الفهرس
  • عدد النتائج:

وإذا افترضنا أن بليغا كتب له التوفيق بين هاتين الغايتين ـ وهما القصد فى اللفظ مع الوفاء بالمعنى ـ فى جملة أو جملتين من كلامه ، فإن الكلال والإعياء لا بد لا حقا به فى بقية هذا الكلام ، وندر أن يصادفه هذا التوفيق مرة ثانية ، إلا فى الفينة بعد الفينة ، كما تصادف الإنسان قطعة من الذهب أو الماس فى الحين بعد الحين ، وهو يبحث فى التراب أو ينقب بين الصخور.

وإن كنت فى شك فسائل أئمة البيان وصيارفته : هل ظفرتم بقطعة من النثر ، أو بقصيدة من الشعر ، كانت كلها أو أكثرها جامعا بين وفاء المعنى وقصد اللفظ؟. ها هم أولاء يعلنون حكمهم صريحا بأن أبرع الشعراء لم يكتب له التبريز والإجادة ، والجمع بين المعنى الناصع واللفظ الجامع إلا فى أبيات معدودة من قصائد محدودة أما سائر شعرهم بعد ، فبين متوسط وردىء. وها هم أولاء يعلنون حكمهم هذا نفسه أو أقل منه ، على الناثرين من الخطباء والكتاب.

وإن أردت أن تلمس بيدك هذه الخاصة ، فافتح المصحف الشريف مرة ، واعمد إلى جملة من كتاب الله ، وأحصها عددا ، ثم خذ بعدد تلك الكلمات من أى كلام آخر ، وقارن بين الجملتين ، ووازن بين الكلامين ، وانظر أيهما أملأ بالمعانى مع القصد فى الألفاظ؟ ثم انظر أى كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها بما هو خير منها فى ذلك الكلام الإلهى؟ وكم كلمة يجب أن تسقطها أو تبدلها فى ذلك الكلام البشرى؟ إنك إذا حاولت هذه المحاولة ، فستنتهى إلى هذه الحقيقة التى أعلنها ابن عطية فيما يحكى السيوطى عنه وهو يتحدث عن القرآن الكريم إذ يقول : لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم توجد» اه. وذلك بخلاف كلام الناس مهما سما وعلا ، حتى كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذى أوتى جوامع الكلم ، وأشرقت نفسه بنور النبوة والوحى ، وصيغ على أكمل ما خلق الله ، فإنه مع تحليقه فى سماء البيان ، وسموه على كلام كل إنسان ، لا يزال هناك بون بعيد بينه وبين القرآن. وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم!.