الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٧
بنو جذيمة السلاح ، فقال خالد : اخلعوا السلاح(١) فإن الناس قد أسلموا ، فوضعوا فأمربهم خالد عند ذلك فكتفوا ثم عرضهم على السيف ، فقتل من قتل منهم ، فلما انتهى الخبر إلى النبي صلىاللهعليهوآله رفع يديه ثم قال : « اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد » ثم أرسل عليا عليهالسلام ومعه مال ، وأمره أن ينظر في أمرهم فودى لهم النساء والاموال حتى أنه ليدي ميلغة(٢) الكلب ، ففضل معه من المال فضلة فقال لهم علي عليهالسلام : هل بقي لكم مال أودم لم يؤد؟ قالوا : لا ، قال : إني أعطيكم هذه البقية احتياطا لرسول الله (ص) ، ففعل ثم رجع إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله فأخبره فقال : أصبت وأحسنت(٣).
٤ ـ ل : بإسناده عن عامر بن واثلة قال : قال أميرالمؤمنين عليهالسلام يوم الشورى نشدتكم بالله هل علمتم أن رسول الله عليهالسلام بعث خالد بن الوليد إلى بني خزيمة(٤) ففعل ما فعل ، فصعد رسول الله صلىاللهعليهوآله المنبر فقال : « اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد » ثلاث مرات ، ثم قال : « اذهب يا علي » فذهبت فوديتهم ، ثم ناشدتهم بالله هل بقي شئ؟ فقالوا : إذا نشدتنا بالله فميلغة كلابنا ، وعقال بعيرنا فأعطيتهم لهما ، وبقي معي ذهب كثير فأعطيتهم إياه وقلت : وهذا لذمة رسول الله (ص) ولما تعملون ولما لا تعملون ، ولروعات النساء والصبيان ، ثم جئت إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله فأخبرته فقال : « والله لا يسرني(٥) يا علي أن لي بما صنعت حمر النعم » قالوا : اللهم نعم(٦).
____________________
(١) في المصدر : ضعوا السلاح.
(٢) الميلغ والميلغة : الاناء يلغ فيه الكلب أو يسقى فيه.
(٣) الكامل ٢ : ١٧٣ وفيه : وكان بين عبدالرحمن بن عوف وخالد كلام في ذلك ، فقال له : علمت بأمرالجاهلية في الاسلام ، فقال خالد : إنما ثأرت بأبيك ، فقال عبدالرحمن : كذبت قد قتلت انا قاتل ابى ، ولكنك انما ثأرت بعمك الفاكه ، حتى كان بينهما شر ، فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : مهلا يا خالد دع عنك اصحابى ، فوالله لوكان لك احد ذهبا ثم انفقته في سبيل الله ما ادركت غدوة احدهم ولا روحته.
(٤) كذا في الكتاب ومصدره والصحيح كما استظهره المنصف في الهامش وتقدم : جذيمة.
(٥) في المصدر : ما يسرنى. (٦) الخصال ٢ : ١٢٥.
٥ ـ ل ، لى : ابن الوليد ، عن الصفار ، عن ابن معروف ، عن ابن مهزيار ، عن فضالة ، عن أبان ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر الباقر عليهالسلام قال : بعث رسول الله صلىاللهعليهوآله خالد بن الوليد إلى حي يقال لهم : بنو المصطلق من بني جذيمة ، وكان بينهم وبينه وبين بني مخزوم إحنة في الجاهلية [ فلما ورد عليهم ] كانوا قد أطاعوا رسول الله صلىاللهعليهوآله وأخذوا منه كتابا ، فلما ورد عليهم خالد أمر مناديا فنادى بالصلاة فصلى وصلوا ، فلما كان صلاة الفجر أمر مناديه فنادى فصلى وصلوا ، ثم أمر الخيل فشنوا فيهم الغارة فقتل وأصاب ، فطلبوا كتابهم فوجدوه فأتوا به النبي صلىاللهعليهوآله و حدثوه بما صنع خالد بن الوليد ، فاستقبل صلىاللهعليهوآله القبلة ثم قال : « اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد » قال : ثم قدم على رسول الله صلىاللهعليهوآله تبرو متاع فقال لعلي عليهالسلام : « يا علي ائت بني جذيمة من بني المصطلق فأرضهم مماصنع خالد » ثم رفع عليهالسلام قدميه فقال : « يا علي اجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك » فأتاهم علي عليهالسلام فلما انتهى إليهم حكم فيهم بحكم الله ، فلما رجع إلى النبي صلىاللهعليهوآله قال : « يا علي أخبرني بما صنعت » فقال : يا رسول الله عمدت فأعطيت لكل دم دية ولكل جنين غرة ، ولكل مال مالا ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم وحبلة رعاتهم ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لما يعلمون ولما لايعلمون ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله ، فقال صلىاللهعليهوآله : يا علي أعطيتهم ليرضوا عني ، رضي الله عنك ، يا علي إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعدي(١).
بيان : قال الجزري : في حديث علي عليهالسلام إن رسول الله صلىاللهعليهوآله بعثه ليدي قوما قتلهم خالد بن الوليد فأعطاهم ميلغة الكلب ، هي الاناء الذي يلغ فيه الكلب يعني أعطاهم قيمة كل ما ذهب لهم حتى قيمة الميلغة انتهى. والحبلة : هنا الرسن أو بالتحريك ، أي الجنين الساقط من دوابهم ومواشيهم ، والاول أظهر.
____________________
(١) امالي الصدوق : ١٠٤ و ١٠٥.
٦ ـ ما : جماعة ، عن أبي المفضل ، عن القاسم بن زكريا(١) عن محمد بن تسنيم الحضرمي ، عن عمرو بن معمر ، عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى عليهالسلام عن أبيه جعفر ، عن أبيه محمد بن علي عليهمالسلام عن جابر بن عبدالله قال : بعث النبي (ص) خالد بن الوليد على صدقات بني المصطلق حي من خزاعة ، وكان بينه وبينهم في الجاهلية ذحل فأوقع بهم خالد فقتل منهم ، واستاق أموالهم ، فبلغ النبي صلىاللهعليهوآله ما فعل فقال : « اللهم أبرأ إليك(٢) مما صنع خالد » وبعث إليهم علي بن أبي طالب عليهالسلام بمال وأمره أن يؤدي إليهم ديات رجالهم(٣) وما ذهب من أموالهم ، وبقيت معه من المال زعبة ، فقال لهم : هل تفقدون شيئا من متاعكم(٤)؟ فقالوا : ما نفقد شيئا إلا ميلغة كلابنا ، فدفع إليهم ما بقي من المال ، فقال : هذا لميلغة كلابكم وما أنيستم من متاعكم ، وأقبل إلى النبي صلىاللهعليهوآله فقال : ما صنعت؟ فأخبره بخبره حتى أتى على حديثه ، فقال النبي صلىاللهعليهوآله : أرضيتني رضي الله عنك يا علي أنت هادي أمتي ، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبك وأخذ بطريقتك ، ألا إن الشقي كل الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلى يوم القيامة(٥).
بيان : الدخل : العدواة ، وطلب المكافاة بالجناية ، والزعبة بفتح الزاي المعجمة وضمها : القطعة من المال.
٧ ـ أقول : قال الكازروني : كان فتح مكة يوم الجمعة لعشر بقين من شهر رمضان ، فأقام بها خمس عشرة ليلة يصلي ركعتين ، ثم خرج إلى حنين ، وقال في حوادث السنة الثامنة : وفي هذه السنة أسلم عكرمة بن أبي جهل ، روي عن عبدالله ابن الزبير قال : لما كان يوم فتح مكة هرب عكرة بن أبي جهل ، إلى اليمن ، و خاف أن يقتله رسول الله (ص) ، وكانت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة
____________________
(١) في المصدر : محمد بن القاسم بن زكريا المحاربى.
(٢) في المصدر : اللهم انى ابرأ إليك.
(٣) في المصدر : وامره ان يؤدى اليهم ديات من قتل من رجالهم ، وانطلق على فأدى اليهم ديات رجالهم.
(٤) في المصدر : من اموالكم وامتعتكم.
(٥) مجالس ابن الشيخ : ٣١٧ و ٣١٨.
لها عقل ، وكانت قد اتبعت رسول الله (ص) فجاءت إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله فقالت : إن ابن عمي عكرمة قد هرب منك إلى اليمن ، وخاف أن تقتله فآمنه ، قال : « قد آمنته بأمان الله ، فمن لقيه فلا يتعرض له » فخرجت في طلبه فأدركته في ساحل من سواحل تهامة وقد ركب البحر ، فجعلت تلوح إليه وتقول : يا ابن عم جئتك من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس ، لا تهلك نفسك وقد استأمنت لك فآمنك ، فقال : أنت فعلت ذلك؟ قلت : (١) نعم أنا كلمة فآمنك ، فرجع معها فلما دنا من مكة قال رسول الله صلىاللهعليهوآله لاصحابه : « يأتيكم عكرمة مهاجرا(٢) فلا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ » قال : فقدم عكرمة فانتهى إلى باب رسول الله (ص) وزوجته معه متنقبة قالت : فاستأذنت على رسول الله (ص فدخلت فأخبرت رسول الله بقدوم عكرمة فاستبشر ، وقال : أدخليه ، فقال : يا محمد إن هذه أخبرتني أنك آمنتني ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « صدقت(٣) فأنت آمن » قال عكرمة : فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أنك عبده ورسوله ، وقلت : أنت أبر الناس وأوفى الناس ، أقول ذلك وإني لمطأطئ الرأس استحياء منه ، ثم قلت : يا رسول الله استغفرلي كل عداوة عاديتكها أو مركب أوضعت فيه أريد به إظهار الشرك ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « اللهم اغفر لعكرمة كل عداوة عادانيها ، أو منطق تكلم به ، أو مركب أوضع فيه يريد أن يصد عن سبيلك » فقلت : يا رسول الله صلىاللهعليهوآله مرني بخيرما تعلم فأعمله(٤) ، قال : « قل : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وجاهد في سبيل الله » ثم قال عكرمة : أما والله(٥) لا أدع نفقة كنت أنفقها في صد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله ، ولا قتالا كنت أقاتل في صد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله ، ثم اجتهد في القتال حتى قتل في خلافة أبي بكر.
____________________
(١) قالت خ ل. (٢) في المصدر : مؤمنا مهاجرا.
(٣) زاد في المصدر : واصدق الناس. (٤) في المصدر. فأعلمه.
(٥) في المصدر : اما والله يا رسول الله.
وعن أبي مليكة قال : لما كان يوم الفتح ركب عكرمة البحر هاربا فخب(١) بهم البحر ، فجعل من في السفينة يدعون الله عزوجل ويوحدونه ، فقال : ما هذا؟ قالوا : هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله عزوجل ، قال : فهذا إله محمد الذي يدعونا إليه ، فارجعوا بنا فرجع فأسلم. وكانت امرإته أسلمت قبله ، فكانا على نكاحهما.
وفيها بعث رسول الله صلىاللهعليهوآله خالد بن الوليد إلى العزى لخمس بقين من رمضان ليهدمها فخرج حتى انتهى إليها في ثلاثين فهدمها ، ثم رجع إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله فأخبره فقال : هل رأيت شيئا؟ قال : لا ، قال : فإنك لم تهدمها(٢) فرجع متغيظا فجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس ، فجعل السادن يصيح بها فضربها خالد فقطعها(٣) باثنين ، ورجع ، فأخبر النبي صلىاللهعليهوآله فقال : « تلك العزى وقديئست أن تعبد ببلادكم أبدا » وكانت بنخلة ، وكانت لقريش وجميع بني كنانة وكانت أعظم أصنامهم ، وسدنتها بنوشيبان ، وقد اختلف في العزى فقيل : إنها شجرة كانت لغطفان يعبدونها ، وقيل : إنها صنم.
وفيها بعث رسول الله صلىاللهعليهوآله عمر وبن العاص إلى سواع وهو صنم هذيل ليهدمه ، وقال عمرو : فانتهيت إليه وعنده السادن فقال : ما تريد؟ قلت : أمرني رسول الله صلىاللهعليهوآله أن أهدمه ، قال : لا تقدر. قلت : لم؟ قال : تمنع ، قلت : ويحك هل يسمع أويبصر؟ فكسرته وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته ، فقلت للسادن : كيف رأيت(٤)؟ قال : أسلمت لله.
وفيها بعث سعد بن زيد إلى مناة بالمشلل ليهدمها ، وكانت للاوس والخزرج وسنان(٥) فخرج في عشرين ذلك حين فتح مكة فقال السادن : ما تريد؟ قال :
____________________
(١) أى هاج واضطراب. (٢) في المصدر : فارجع اليها فاهد مها فرجع.
(٣) في المصدر : فجزلها. (٤) في المصدر : كيف رأيته؟
(٥) في المصدر : وغسان.
هدمها قال أنت وذاك ، فأقبل يمشي إليها وخرجت امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها ، فضربها سعد فقتلها ، وهدموا الصنم(١).
٢٨
باب
*(غزوة حنين والطائف وأوطاس وسائر الحوادث)*
إلى غزوة تبوك
الايات : التوبة « ٩ » : لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين * ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ٢٥ ـ ٢٧.
وقال تعالى : ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذاهم يسخطون « ٥٨ ».
تفسير : قوله : « في مواطن كثيرة » قال الطبرسي رحمهالله : وردعن الصادقين عليهمالسلام أنهم قالوا : إنها كانت المواطن ثمانين « ويوم حنين » أي في يوم حنين « إذ
____________________
(١) المنتقى في مولد المصطفى : الباب الثامن فيما كان سنة ثمان من الهجرة. أقول : ذكر الكلبى في كتاب الاصنام : ١٤ و ١٥ : ومناة الثالثة الاخرى كانت لهذيل وخزاعة ، وكانت قريش وجميع العرب تعظمه فلم يزل على ذلك حتى خرج رسول الله صلىاللهعليهوآله من المدينة سنة ثمان من الهجرة وهو عام فتح الله عليه ، فلما سار من المدينة اربع ليال أو خمس ليال بعث عليا اليها فهدمها واخذ ما كان لها ، فاقبل به إلى النبى صلىاللهعليهوآله فكان فيما اخذ سفيان كان الحارث بن ابى شمر الغسانى ملك غسان اهداهما لها ، احدهما يسمى مخذما ، والاخر رسوبا فوهبهما النبى صلىاللهعليهوآلهوسلم لعلى عليهالسلام ، ويقال ، ان عليا وجد هذين السيفين في الفلس ، وهو صنم طيئ حيث بعثه النبى صلىاللهعليهوآله فهدمه.
أعجبتكم كثرتكم » أي سرتكم وصرتم معجبين بكثرتكم ، وكان سبب انهزام المسلمين يوم حنين أن بعضهم قال حين رأى كثرة المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة فانهزموا بعد ساعة ، وكانوا اثني عشر ألفا ، وقيل : عشرة آلاف ، وقيل : ثمانية آلاف والاول أصح « فلم تغن عنكم شيئا » أي فلم تدفع عنكم كثرتكم سوءا « وضاقت عليكم الارض بما رحبت » أى برحبها(١) والباء بمعنى « مع » والمعنى لم تجدوا من الارض موضعا للفرار إليه « ثم وليتم مدبرين » أي وليتم عن عدوكم منهزمين « ثم أنزل الله سكينته » أي رحمة التي تسكن إليها النفس ويزول معها الخوف « على رسوله وعلى المؤمنين » حين رجعوا إليهم وقاتلوهم ، وقيل : على المؤمنين الذين ثبتوا مع رسول الله صلىاللهعليهوآله : علي والعباس في نفر من بني هاشم عن الضحاك ، وروى الحسن بن علي بن فضال ، عن أبي الحسن الرضا عليهالسلام أنه قال : السكينة ريح من الجنة تخرج طيبة لها صورة كصورة وجه الانسان ، فتكون مع الانبياء أورده العياشي مسندا. « وأنزل جمودا لم تروها » أراد به جنودا من الملائكة ، وقيل : إن الملائكة نزلوا يوم حنين لتقوية قلوب المؤمنين وتشجيعهم ولم يباشروا القتال يومئذ ، ولم يقاتلوا إلا يوم بدر خاصة « وعذب الذين كفروا » بالقتل والاسرو سلب الاموال والاولاد « وذلك جزاء الكافرين » أي ذلك العذاب جزاؤهم على كفرهم « ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء » أي يقبل توبة من تاب عن الشرك ورجع إلى طاعة الله والاسلام ، وندم على ما فعل من القبيح ، أو توبة من انهزم من بعد هزيمته(٢).
وفي قوله تعالى : « ومنهم من يلمزك » قال : نزلت في قسمة غنائم حنين(٣) وذكر رواية أبي سعيد الخدري كما سيأتي بروايته في إعلام الورى ، وسيأتي تفسير الآية في باب جمل ماجرى بينه وبين أصحابه صلىاللهعليهوآله.
١ ـ فس : « ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت
____________________
(١) في المصدر : برحبتها. (٢) مجمع البيان ٥ : ١٧ و ١٨.
(٣) مجمع البيان ٥ : ٤٠.
عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين » فإنه كان سبب غزات(١) حنين أنه لما خرج رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى فتح مكة أظهر أنه يريد هوازن ، وبلغ الخبر الهوازن(٢) فتهيؤا وجمعوا الجموع والسلاح واجتمع رؤساء هوازن إلى مالك بن عوف النضري(٣) فرأ سوه عليهم ، وخرجوا وساقوا معهم أموالهم ونساءهم و ذراريهم ، ومروا حتى نزلوا بأوطاس ، وكان دريد بن الصمة الجشمي في القوم ، و كان رئيس جشم ، وكان شيخا كبيرا قد ذهب بصره(٤) فلمس الارض بيده فقال : في أي واد أنتم؟ قالوا : بوادي أوطاس ، قال : نعم مجال خيل ، لا حزن ضرس ، ولا سهل دهس ، مالي أسمع رغاء البعير ، ونهيق الحمار ، وخوار البقر ، وثغاء الشاة وبكاء الصبي؟ فقالوا(٥) : إن مالك بن عوف ساق مع الناس أموالهم ونساءهم و ذراريهم ليقاتل كل امرئ عن نفسه وماله وأهله ، فقال دريد : راعي ضأن ورب الكعبة ، ماله وللحرب؟ ثم قال : ادعوا لي مالكا ، فلما جاء(٦) قال له : يا مالك ما فعلت؟ قال : سقت مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم ليجعل كل رجل أهله وماله وراء ظهره فيكون أشد لحربه ، فقال : يا مالك إنك أصبحت رئيس(٧) قوم وإنك تقاتل رجلا كريما ، وهذا اليوم لما بعده(٨) ولم تصنع في تقدمة بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا ، ويحك وهل يلوي المنهزم على شئ؟ اردد بيضة هوازن إلى عليا بلادهم وممتنع محالهم ، والق الرجال على متون الخيل ، فإنه لا ينفعك إلا رجل بسيفه وفرسه ، فإن كان(٩) لك لحق بك من وراءك ، وإن كانت عليك لا تكون قد فضحت في أهلك وعيالك ، فقال له مالك : إنك قد كبرت وكبر
____________________
(١) غزوة خ ل.
(٢) هكذا في نسخة المنصف معرفا باللام ، والصحيح بالاحرف تعريف.
(٣) هكذا في الكتاب ومصدره ، والصحيح : النصرى بالصاد المهملة ، نسبة إلى نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن. (٤) قد ذهب بصره من الكبر خ.
(٥) فقالوا له خ ل. (٦) فلما جاءه خ ل.
(٧) رئيس قومك خ ل. أقول : ذلك في المصدر.
(٨) في المصدر : وهذا يوم له ما بعده. (٩) فان كانت خ ل.
علمك(١) فلم يقبل من دريد ، فقال دريد : ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا : لم يحضر منهم أحد ، قال : غاب الجد والحزم ، لو كان يوم علاء وسعادة ما كانت تغيب كعب ولا كلاب ، فمن حضرها من هوازن؟ قال : (٢) عمرو بن عامر وعوف ابن عامر ، قال : ذينك الجذعان(٣) لا ينفعان ولا يضران ، ثم تنفس دريد وقال : حرب عوان.
ليتني(٤) فيها جذع * أخب فيها وأضع أقود واطفاء(٥) الزمع * كأنها شاة صدع وبلغ رسول الله صلىاللهعليهوآله اجتماع هوازن بأوطاس فجمع القبائل ورغبهم في الجهاد ، ووعدهم النصر ، وأن الله قد وعده أن يغنمه أموالهم ونساءهم وذراريهم فرغب الناس وخرجوا على رآياتهم ، وعقد اللواء الاكبر ، ودفعه إلى أميرالمؤمنين عليهالسلام ، وكل من دخل مكة براية أمره أن يحملها ، وخرج في اثني عشر ألف رجل ، عشرة آلاف ممن كانوا معه.
وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليهالسلام قال : وكان معه من بني سليم ألف رجل رئيسهم عباس بن مرداس السلمي ، ومن مزينة ألف رجل ، قال : فمضوا حتى كان من القوم على مسيرة بعض ليلة ، قال : وقال مالك بن عوف لقومه : ليصير كل رجل منكم أهله وماله خلف ظهره واكسروا جفون سيوفكم ، واكمنوا(٦) في شعاب هذا الوادي وهذا الوادي وفي الشجر ، فإذا كان في غبش الصبح(٧) فاحملوا حملة رجل واحد ، وهدوا القوم ، فإن محمدا لم يلق أحدا يحسن الحرب ، قال : فلما صلى
____________________
(١) في المصدر : وذهب علمك وعقلك. (٢) قالوا خ ل.
(٣) في المصدر : ذانك الجذعان. أقول : الجذعان. يريد انهما ضعيفان بمنزلة الجذع في ضعفه.
(٤) في المصدر : يا ليتنى.
(٥) واطفى خ ل. أقول : يوجد في المصدر ، وفى السيرة : اقود وطفاء الزم والوطفاء : الطويلة الشعر. والزمع : الشعر الذى فوق مربط قيد الدابة : يريد فرسا هذه صفتها.
(٦) وامكثوا خ.
(٧) غلس الفجر خ ل أقول : الغلس والغبش : الظلمة. وفي المصدر : غلس الفجر.
رسول الله صلىاللهعليهوآله الغداة انحدر في وادي حنين وهو واد له انحدار بعيد ، وكانت بنو سليم على مقدمته فخرج عليهم(١) كتائب هوازن من كل ناحية ، فانهزمت بنو سليم ، وانهزم من وراءهم ، ولم يبق أحد إلا انهزم ، وبقي أميرالمؤمنين عليهالسلام يقاتلهم في نفر قليل(٢) ومر المنهزمون برسول الله صلىاللهعليهوآله لا يلوون على شئ ، وكان العباس آخذا بلجام بلغة رسول الله صلىاللهعليهوآله عن يمينه ، وأبوسفيان بن الحارث بن عبدالمطلب عن يساره ، فأقبل رسول الله صلىاللهعليهوآله ينادي ، « يا معشر الانصار أين إلي(٣) ، أنا رسول الله » فلم يلو أحد عليه ، وكانت نسيبة بنت كعب المازنية تحثو في وجوه المنهزمين التراب ، وتقول ، أين(٤) تفرون؟ عن الله وعن رسوله؟ ومر بها عمر فقالت له : ويلك ما هذا الذي صنعت؟ فقال لها : هذا أمر الله ، فلما رأى رسول الله صلىاللهعليهوآله الهزيمة ركض نحو علي بلغته فرآه(٥) قد شهر سيفه فقال : (٦) يا عباس اصعد هذا الظرب ، وناد : يا أصحاب البقرة(٧) ويا أصحاب الشجرة ، إلى أين تفرون؟ هذا رسول الله ، ثم رفع رسول الله صلىاللهعليهوآله يده فقال : « اللهم لك الحمد إليك المشتكى وأنت المستعان » فنزل(٨) جبرئيل فقال : يا رسول الله دعوت بما دعا به موسى حيث فلق له البحر ، ونجاه من فرعون ، ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوآله لاني سفيان بن الحارث : ناولني كفا من حصى ، فناوله فرماه في وجوه المشركين ثم قال : « شاهت الوجوه » ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : « اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد
____________________
(١) فخرجت خ ل. أقول : في المصدر : فخرجت عليها.
(٢) قال اليعقوبى : وانهزم المسلمون عن رسول الله صلىاللهعليهوآله حتى بقى عشرة من بنى هاشم : وقيل : تسعة ، وهم على بن ابى طالب والعباس بن عبدالمطلب وابوسفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وربيعة بن الحارث وعتبة ومعتب ابنا ابى لهب والفضل بن العباس وعبدالله بن الزبير بن عبدالمطلب ، وقيل ، ايمن بن ام ايمن أقول : ذكره المفيد ايضا على ما يأتى قريبا.
(٣) في المصدر : إلى اين؟ ألا أنا.
(٤) إلى اين خ. (٥) المصدر خال عن قوله : فرآه.
(٦) يحوم على بغلته وقال خ ل. (٧) سورة البقرة خ ل.
(٨) فنزل عليه خ.
وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد » فلما سمعت الانصار نداء العباس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم وهم يقولون : لبيك ، ومروا برسول الله صلىاللهعليهوآله واستحيوا أن يرجعوا إليه ولحقوا بالراية ، فقال رسول الله ، للعباس : من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقال : يا رسول الله هؤلاء الانصار ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « الآن حمي الوطيس(١) » ونزل النصر من السماء ، وانهزمت هوازن ، وكانوا يسمعون قعقعة السلاح في الجو و انهزموا(٢) في كل وجه وغنم الله(٣) رسوله أموالهم ونساءهم وذراريهم ، وهو قول الله تعالى : « لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين(٤) ».
وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليهالسلام في قوله : « ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفرواً وهو القتل « وذلك جزاء الكافرين(٥) » قال : وقال رجل من بني نضر بن معاوية يقال له شجرة بن ربيعة ، للمؤمنين وهو أسير في أيديهم : أين الخيل البلق ، والرجال عليهم الثياب البيض؟ فإنما كان قتلنا بأيديهم ، وما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة(٦) قالوا : تلك الملائكة(٧).
بيان : أوطاس : موضع على ثلاث مراحل من مكة. والحزن : ما غلظ من الارض. والضرس بالكسر : الاكمة الخشنة. والدهس بالفتح : المكان السهل اللين. والرغاء بالضم : صوت البعير. والثغاء بالفتح : صوت الشاة والمعز وما شاكلهما. وبيضة القوم : مجتمعهم وموضع سلطانهم. ويقال : لا يلوي أحد على أحد ، أي لا يلتفت ولا يعطف عليه. وقوله : وكبر علمك أي ضعف علمك وأصابه ضعف الكبر ، وفي بعض النسخ : وساخ علمك ، أي غار ، وفي مجمع البيان : و ذهب علمك(٨) وقال الجزري : فيه : ليتني فيها جذعا ، أي ليتني كنت شابا عند
____________________
(١) الوطيس ، التنور ، واراد ههنا الحرب. اى اشتدت الحرب.
(٢) وتفرقواخ. (٣) واغنم الله خ.
(٤ و ٥) تقدم ذكر محلهما في اول الباب.
(٦) الشامة : الخال. اراد بذلك قلتهم وكثرة الملائكة.
(٧) تفسير القمى : ص ٢٦١ ـ ٢٦٣. (٨) وفي سيرة ابن هشام : كبر عقلك.
ظهور النبوة حتى أبالغ في نصرتها(١). وقال الجوهري : الخبب : ضرب من العده ، تقول : خب الفرس يخب خبا وخبيبا : إذا راوح بين يديه ورجليه ، و أخبه صاحبه ، وقال : وضع البعير وغيره : أسرع في سيره ، وقال دريد :
يا ليتني فيها جذع |
|
أخب فيها وأضع |
وقال الفيروز آبادي : الزمع محركة : شبه الرعدة تأخذ الانسان ، والدهش والخوف ، وقال : الصدع محركة من الاوعال والظباء والحمر والابل : المتى الشاب القوي ، وتسكن الداب. والغبش محركة : بقية الليل ، أو ظلمة آخره. والكتائب جمع كتيبة وهي الجيش. والظرب ككتف : الجبل المنبسط أو الصغير. ٢ ـ ما : جماعة عن أبي المفضل ، عن الحسن بن موسى بن خلف ، عن جعفر بن محمد بن فضل ، عن عبدالله(٢) بن موسى العبسي ، عن طلحة بن خير(٣) المكي ، عن المطلب بن عبدالله ، عن مصعب بن عبدالرحمن بن عوف عن أبيه قال : لما افتتح النبي صلىاللهعليهوآله مكة انصرف إلى الطائف ، يعني إلى حنين فحاصرهم ثم إلى عشرة أو سبع عشرة ، فلم يفتحها ، ثم أوغل روحة أو غدوة(٤) ثم نزل ثم هجر ، فقال : « أيها الناس إني لكم فرط ، وإن موعدكم الحوض ، وأوصيكم بعترتي خيرا » ثم قال : « والذي نفسي بيده لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة أو لابعثن إليكم رجلا مني أو كنفسي فليضربن أعناق مقاتليكم وليسبين ذراريكم » فرأى أناس أنه يعني أبابكر أو عمر ، فأخذ بيد علي عليهالسلام فقال : هو هذا ، قال المطلب بن عبدالله : فقلت لمعصب بن عبدالرحمن : فما حمل أباك على ما صنع؟ قال : أنا والله أعجب من ذلك(٥).
وأخبرنا جماعة أبي المفضل ، عن محمد بن إسحاق بن فروخ ، عن محمد بن
____________________
(١) هذا معنى كلام ورقة بن نوفل الاسدى.
(٢) في نسختى : عبيدالله. (٣) في نسختى من المصدر : جبر.
(٤) في المصدر : فحاصرهم ثمانى عشر او تسع ( سبع خ ) عشر فلم يفتحها. وفي نسختى : فحاصرهم ثم اتى غرة فلم اوغل غدوة اوروحة.
(٥) امالى ابن الشيخ : ٣٢١.
عثمان بن كرامة في مسند عبيدالله بن موسى قال : وحدثني محمد بن أحمد بن عبدالله ابن صفوة الضرير ، وكتبه من أصل كتابه عن يوسف بن سعيد بن مسلم المصيصي عن عبيدالله بن موسى ، عن علي بن خير(١) عن المطلب بن عبدالله ، عن مصعب ، عن أبيه وذكر نحوه(٢).
٣ ـ ما : جماعة ، عن أبي المفضل ، عن إبراهيم بن حفض العسكري ، عن عبيد ابن الهيثم عن عباد بن صهيب الكلبي عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهماالسلام عن جابر بن عبدالله الانصاري قال : لما أوقع ـ وربما قال : فزع ـ رسول الله صلىاللهعليهوآله من هوازن سار حتى نزل الطائف فحصر أهل وج(٣) أياما فسأله القوم أن يبرح(٤) عنهم ليقدم عليه وفدهم فيشترط له ويشترطون لانفسهم ، فسار صلىاللهعليهوآله حتى نزل مكة فقدم عليه : نفر منهم بإسلام قومهم ، ولم يبخع القوم له بالصلاة ولا الزكاة ، فقال صلىاللهعليهوآله : « إنه لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود ، أما والذي نفسي بيده ليقيمن الصلاة و ليؤتن الزكاة أو لابعثن إليهم رجلا هو مني كنفسي فليضرب(٥) أعناق مقاتليهم وليسبين ذراريهم ، هو هذا » وأخذ بيد علي عليهالسلام فأشالها(٦) فلما صار القوم إلى قومهم بالطائف أخبروهم بما سمعوا من رسول الله صلىاللهعليهوآله فإقر واله بالصلاة ، وأقروا له بما شرط عليهم ، فقال صلىاللهعليهوآله : « ما استعصى علي أهل مملكة ولا أمة إلا رميتهم بسهم الله عزوجل » قالوا : يا رسول الله وما سهم الله؟ قال : علي بن أبي طالب ما بعثه في سريه إلا رأيت جبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، وملكا أمامه وسحابة تظله حتى يعطي الله عزوجل حبيبي النصر والظفر(٧).
بيان : قال الجوهري : بخع بالحق بخوعا : أقر به وخضع له.
____________________
(١) في نسختى : على بن جبر. (٢) امالى ابن الشيخ : ٣٢١.
(٣) وج : موضع بناحية الطائف ، اواسم جامع حصونها ، اواسم واحد منها.
(٤) في المصدر : ان ينزاح وفي نسخة : ان ينتزح والمعنى فسأله أن يبعد.
(٥) فليضربن : خ. (٦) اى رفعها وحملها.
(٧) امالى ابن الشيخ : ص ٣٢١ و ٣٢٢.
٤ ـ يج : روي أن شبية بن عثمان بن أبي طلحة قال : ما كان أحد أبغض إلي من محمد ، وكيف لا يكون وقد قتل منا ثمانية ، كل منهم يحمل اللواء ، فلما فتح مكة آيست مما كنت أتمناه من قتله ، وقلت في نفسي : قد دخلت العرب في دينه ، فمتى أدرك ثأري منه؟ فلما اجتمعت هوازن بحنين قصدتهم لآخذ(١) منه غرة فأقتله ودبرت في نفسي كيف أصنع ، فلما انهزم الناس وبقي محمد وحده ، و النفر الذين معه جئت من ورائه ورفعت السيف حتى إذا كدت أحطه غشي فؤادي فلم أطق ذلك ، فعلمت أنه ممنوع.
وروي أنه قال : رفع إلي شواظ من نار حتى كاد أن يمحيني(٢) ثم التفت إلي محمد فقال لي : ادن يا شيبة فقاتل ، ووضع يده في صدري ، فصار أحب الناس إلي ، وتقدمت(٣) وقاتلت بين يديه ، فلو عرض لي أبي لقتلته في نصرة رسول الله فلما انقضى القتال دخلنا على رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال لي : « الذي أراد الله بك خير مما أردته لنفسك » وحدثني بجميع ما رويته(٤) في نفسي ، فقلت : ما اطلع على هذا إلا الله وأسلمت(٥).
بيان : قوله : أن يمحيني ، أي يبطلني ويذهب بأثري ، يقال : محاه يمحوه محوا ، ويمحيه محيا ويمحاه وفي بعض النسخ : يحمسني بالحاء المهملة أي يقليني و يحرقني ، وهو أظهر ، وفي بعضها يمحشني كما سيأتي.
٥ ـ يج : روي أنه لما حاصر النبي صلىاللهعليهوآله أهل الطائف قال(٦) عتبة بن الحصين : ائذن لي حتى آتي حصن الطائف فأكلمهم ، فأذن رسول الله صلىاللهعليهوآله فجاءهم فقال : أدنو منكم وأنا آمن؟ قالوا : نعم ، وعرفه أبومحجن فقال : ادن(٧) فدخل
____________________
(١) لا جد خ ل.
(٢) يمحسنى خ ل. أقول : في المصدر : يمحقى وفي الامتاع : يمحشنى.
(٣) وتقدمت إلى محمد. خ ل. (٤) زورته خ ل. أقول : يوجد ذلك في المصدر.
(٥) الخرائج والجرائح : ص ١٨٥ و ١٨٦.
(٦) عيينة بن الحصن خ ل. أقول : هو عيينة بن حصن بن حذيفة الفزارى ابومالك ، كان من المؤلفة قلوبهم ومن الاعراب الجفاة. (٧) ادنه خ ل.
عليهم ، فقال : فداكم أبي. أمي لقد سرني ما رأيت منكم ، وما في العرب أحد غيركم ، والله ما في محمد مثلكم ، ولقد قل المقام وطعامكم كثير ، وماؤكم وافر لا تخافون قطعه ، فلما خرج قال ثقيف لابي محجن : فإنا قد كرهنا دخوله ، و خشينا أن يخبر محمدا بخلل إن رآه فينا أو في حصننا ، فقال أبومحجن : أنا كنت أعرف به ، ليس أحد منا أشد على محمد منه وإن كان معه ، فلما رجع إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : قلت لهم : ادخلوا في الاسلام ، فوالله لا يبرح محمد من عقر داركم حتى تنزلوا ، فخذوا لانفسكم أمانا فخذلتهم ما استطعت ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآله : لقد كذبت ، لقد قلت لهم : كذا وكذا ، وعاتبه جماعة من الصحابة ، وقال : أستغفر الله وأتوب إليه ولا أعود أبدا.
بيان : عقد الدار باضم : وسطها وأصلها قد يفتح.
٦ ـ شا : ثم كانت غزاة(١) حنين استظهر رسول الله فيها بكثرة الجمع فخرج صلىاللهعليهوآله متوجها إلى القوم في عشرة آلاف من المسلمين ، فظن أكثرهم أنهم لم يغلبوا(٢) لما شاهدوه من جمعهم وكثرة عدتهم(٣) وسلاحهم ، وأعجب أبابكر الكثرة يومئذ فقال : لن نغلب اليوم من قلة ، وكان الامر في ذلك بخلاف ما ظنوا(٤) وعانهم أبوبكر بعجبه بهم ، فلما التقوا مع المشركين لم يلبثوا حتى انهزموا بأجمعهم ، ولم يبق منهم مع النبي صلىاللهعليهوآله إلا عشرة أنفس : (٥) تسعة من بني هاشم خاصة ، وعاشرهم أيمن بن أم أيمن ، فقتل أيمن رحمة الله عليه ، وثبتت التسعة(٦) الهاشميون حتى ثاب إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله من كان انهزم ، فرجعوا أولا فأولا حتى تلاحقوا ، وكانت لهم الكرة على المشركين ، وفي ذلك أنزل الله تعالى وفي إعجاب أبي بكر بالكثرة : « ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على
____________________
(١) غزوة خ ل. (٢) لن يغبلوا خ ل.
(٣) عددهم خ ل. (٤) ما ظنوه خ ل.
(٥) نفر خ ل. (٦) النفر خ ل.
رسوله وعلى المؤمنين(١) » يعني أميرالمؤمنين عليا عليهالسلام ومن ثبت معه من بني هاشم ، وهم يومئذ ثمانية ، أميرالمؤمنين عليهالسلام تاسعهم : العباس(٢) بن عبدالمطلب عن يمين رسول الله صلىاللهعليهوآله ، والفضل بن العباس عن يساره ، وأبوسفيان بن الحارث ممسك بسرجه عند نفر بغلته(٣) وأميرالمؤمنين عليهالسلام بين يديه يضرب بالسيف ، و نوفل بن الحارث وربيعة بن الحارث وعبدالله بن الزبير بن عبدالمطلب وعتبة و معتب ابنا أبي لهب حوله ، وقد ولت الكافة مدبرين سوى من ذكرناه ، وفي ذلك يقول مالك بن عبادة الغافقي :
لم يواس النبي غير بني هاشم |
|
عند السيوف يوم حنين |
هرب الناس غير تسعة رهط |
|
فهم يهتفون بالناس أين(٤) |
ثم قاموا مع النبي على الموت |
|
فآتوا زينا لنا غير شين |
وسوى أيمن الامين من القوم |
|
شهيدا فاعتاض قرة عين |
وقال العباس بن عبدالمطلب في هذا المقام :
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة |
|
وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا |
وقولي إذا ما الفضل شد بسيفه |
|
على القوم أخرى يا بني ليرجعوا |
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه |
|
لما ناله في الله لم يتوجع(٥) |
يعني به أيمن بن أم أيمن رحمهالله ، ولما رأى رسول الله صلىاللهعليهوآله هزيمة القوم عنه قال للعباس وكان رجلا جهوريا صيتا : ناد بالقوم ، وذكرهم العهد ، فنادى العباس بأعلى صوته : يا أهل بيعة الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة ، إلى أين تفرون؟ اذكروا العهد الذي عاهدتم عليه رسول اله صلىاللهعليهوآله ، والقوم على وجوههم قد ولوا مدبرين ، وكانت ليلة ظلماء ، ورسول الله صلىاللهعليهوآله في الوادي ، والمشركون قد خرجوا عليه من شعاب الوادي ، وجنباته ومضايقه مصلتين سيوفهم(٦) وعمدهم وقسيهم
____________________
(١) اشرنا إلى موضع الاية في صدر الباب.
(٢) في المصدر : والعباس. (٣) في المصدر : عند ثفر بغلته.
(٤) أين أين خ ل. (٥) لا يتوجع خ ل.
(٦) بسيوفهم خ ل. أقول : يوجد ذلك في المصدر.
قال : فنظر رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى الناس ببعض وجهه في الظلماء فأضاء كأنه القمر ليلة البدر(١) ثم نادى المسلمين : « أين ما عاهدتم الله عليه؟ » فأسمع أولهم وآخرهم فلم يسمعها رجل إلا رمى بنفسه إلى الارض فانحدروا(٢) إلى حيث كانوا من الوادي حتى لحقوا بالعدو فقاتلوه.
قال : (٣) وأقبل رجل من هوازن(٤) على جمل(٥) أحمر ، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام القوم ، إذا أدرك ظفرا من المسلمين أكب عليهم ، وإذا فاته الناس رفعه لمن وراءه(٦) من المشركين فاتبعوه وهو يرتجز ويقول :
أنا أبوجرول لا براح |
|
حتى نبيح القوم(٧) أو نباح |
فصمد له أميرالمؤمنين عليهالسلام فضرب عجز بعيره فصرعه ثم ضربه فقطره ثم قال :
قد علم القوم لدى الصباح |
|
إني في الهيجاء(٨) ذونصاح |
فكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول لعنه الله ، ثم التأم الناس(٩) وصفوا للعدو ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « اللهم إنك أذقت أول قريش نكالا ، فأذق آخرها نوالا » وتجالد المسلمون والمشركون ، فلما رآهم النبي صلىاللهعليهوآله قام في ركابي سرجه حتى أشرف على جماعتهم ، قال : الآن حمي الوطيس.
أنا النبي لا كذب |
|
أنا ابن عبدالمطلب |
فما كان بأسرع من أن ولى القوم أدبارهم(١٠) وجئ بالاسرى(١١) إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله مكتفين(١٢) ولما قتل أميرالمؤمنين عليهالسلام أبا جرول وخذل القوم بقتله (١٣)
____________________
(١) في ليلة البدر خ ل (٢) وانحدروا خ ل.
(٣) في المصدر : قالوا. (٤) من بنى هوازن خ ل.
(٥) في المصدر : على جمل له. (٦) لمن رآه خ ل.
(٧) اليوم خ ل. (٨) لدى الهيجاء خ ل.
(٩) المسلمون خ ل أقول : يوجد ذلك في المصدر.
(١٠) على ادبارهم خ ل. (١١) بالا سارى خ ل.
(١٢) مكتوفين خ ل. (١٣) لقتله خ ل.
وضع القوم(١) سيوفهم فيهم ، وأميرالمؤمنين عليهالسلام يقدمهم حتى قتل بنفسه أربعين رجلا من القوم ، ثم كانت الهزيمة والاسر حينئذ ، وكان أبوسفيان صخر بن حرب ابن أمية في هذه الغزاة فانهزم في جملة من انهزم من المسلمين.
وروي(٢) عن معاوية بن أبي سفيان أنه قال : لقيت أبي منهزما مع بني أمية من أهل مكة ، فصحت به يا ابن حرب والله ما صبرت(٣) من ابن عمك ، ولا قاتلت عن دينك ، ولا كففت هؤلاء الاعراب عن حريمك ، فقال : من أنت؟ قلت : معاوية ، قال : ابن هند؟ قلت : نعم ، قال : بأبي وأمي ثم وقف ، واجتمع(٤) معه الناس من أهل مكة وانضمت إليهم ، ثم حملنا على القوم فضعضعناهم ومازال المسلمون يقتلون المشركين ويأسرون منهم حتى ارتفع النهار ، فأمر رسول الله صلىاللهعليهوآله بالكف(٥) ونادى أن لايقتل أسير من القوم ، وكانت هذيل بعث رسولا (٦) يقال له : ابن الاكوع(٧) أيام الفتح عينا على النبي صلىاللهعليهوآله حتى علم علمه فجاء إلى هذيل بخبره ، وأسر يوم حنين فمر به عمر بن الخطاب ، فلما رآه أقبل على رجل من الانصار وقال : هذا عدو الله الذي كان علينا عينا ، هاهو أسير ، فاقتله فضرب الانصاري عنقه ، وبلغ ذلك النبي صلىاللهعليهوآله فكره ذلك ، وقال : « ألم آمركم أن لا تقتلوا أسيرا؟ » وقتل بعده جميل بن معمر بن زهير وهو أسير ، فبعث رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى الانصار وهو مغضب فقال : « ما حملكم على قتله وقد جاءكم الرسول أن لا تقتلوا أسيرا؟ » فقالوا : إنما قتلناه بقول عمر ، فأعرض رسول الله صلىاللهعليهوآله حتى كلمه عمير بن وهب في الصفح عن ذلك ، وقسم رسول الله (ص) غنائم حنين في قريش خاصة ، وأجزل القسم(٨) للمؤلفة قلوبهم كأبي سفيان صخر بن حرب ، عكرمة
____________________
(١) المسلمون خ ل أقول : يوجد ذلك في المصدر.
(٢) فروى خ ل. (٣) ضربت خ ل.
(٤) فاجتمع خ ل. (٥) ونادى بالكف خ ل.
(٦) بعثت رجلا خ ل. أقول : في المصدر : بعثت رسولا.
(٧) الانوع خ ل. وفي المصدر : الاكوع وفي نسخة منه : الانزع.
(٨) القسمة خ ل.
ابن أبي جهل ، وصفوان بن أمية ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وزهير ابن أبي أمية ، وعبد الله بن أبي اُميّة ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وهشام بن المغيرة والاقرع بن حابس ، وعبينة بن حصن في أمثالهم ، وقيل : إنه جعل للانصار شيئا يسيرا ، وأعطى الجمهور لمن سميناة ، فغضب قوم من الانصار لذلك ، وبلغ رسول الله صلىاللهعليهوآله عنهم مقال أسخطه ، فنادى فيهم فاجتمعوا وقال(١) لهم : اجلسوا ولا يقعد معكم أحد من غيركم ، فلما قعدوا جاء النبي صلىاللهعليهوآله يتبعه أميرالمؤمنين صلوات الله عليهما حتى جلس(٢) وسطهم وقال لهم : إني سائلكم عن أمر فأجيبوني عنه فقالوا : قل : يا رسول الله ، قال : « ألستم كنتم ضالين فهداكم الله بي؟ » فقالوا : بلى(٣) فلله المنة ولرسوله ، قال : « ألم تكونوا على شفا حفرة من النار فأنقذكم الله بي؟ » قالوا : بلى فلله المنة ولرسوله ، قال : « ألم تكونوا قليلا فكثركم الله بي؟ » قالوا : بلى فلله المنة ولرسوله ، قال : « ألم تكونوا أعداء فألف الله بين قلوبكم بي؟ » قالوا : بلى فلله المنة ولرسوله ، ثم سكت النبي صلىاللهعليهوآله هنيئة(٤) ثم قال : « ألا تجيبوني بما عندكم؟ » قالوا : بم نجيبك فداؤك آباؤنا وأمها تناقد أجبناك بأن لك الفضل والمن والطول علينا ، قال : « أما لو شئتم لقلتم : وأنت قد كنت جئتنا طريدا فآويناك ، وجئتنا خائفا فآمناك ، وجئتنا مكذ با فصد قناك » فارتفعت(٥) أصواتهم بالبكاء ، وقام شيوخهم وساداتهم إليه فقبلوا(٦) يديه ورجليه ثم قالوا : رضينا بالله وعنه ، وبرسوله وعنه ، وهذه أموالنا بين يديك ، فإن شئت فاقسمها على قومك ، وإنما قال من قال منا على غير وغر(٧) صدر وغل في قلب ولكنهم ظنوا سخطا عليهم وتقصيرا(٨) لهم ، وقد استغفروا الله من ذنوبهم فاستغفر لهم يا رسول الله ، فقال النبي صلىاللهعليهوآله : « اللهم اغفر للانصار ولابناء الانصار ، و
____________________
(١) فقال خ ل. (٢) جلسا في وسطهم خ ل. (٣) والله خ.
(٤) رسول الله هنيهة خ ل. (٥) قال : فارتفعت خ ل.
(٦) وقبلوا خ ل. (٧) الوغر : الحقد والضغن والعداوة.
(٨) بهم خ ل.
لابناء أبناء الانصار ، يا معشر الانصار أما ترضون أن يرجع غيركم بالشاء والنعم وترجعون(١) أنتم وفي سهمكم رسول الله؟ » قالوا : بلى رضينا ، قال النبي صلىاللهعليهوآله حنيئذ : « الانصار كرشي وعيبتي ، لوسلك الناس واديا وسلكت الانصار شعبا لسلكت شعب الانصار ، اللهم اغفر للانصار ».
وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوآله أعطى العباس بن مرداس أربعا(٢) من الابل فسخطها وأنشأ يقول :
أتجعل نهبي ونهب العبيد |
|
بين عيينة والاقرع |
فما كان حصن ولا حابس |
|
يفوقان شيخي في المجمع |
وما كنت دون امرئ منهما |
|
ومن تضع اليوم لم يرفع(٣) |
فبلغ النبي صلىاللهعليهوآله قوله فاستحضره وقال له : أنت القائل : أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الاقرع وعيينة؟ فقال له أبوبكر : بأبي أنت وأمي لست بشاعر ، فقال : وكيف؟ قال : قال : بين عيينة والاقرع ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله لاميرالمؤمنين عليهالسلام : قم يا علي واقطع لسانه ، قال : فقال العباس بن مرداس : والله(٤) لهذه الكلمة كانت أشد علي من يوم خثعم حين أتونا في ديارنا ، فأخذ بيدي علي بن أبي طالب عليهالسلام فانطلق بي واوأدري(٥) أن أحدا يخلصني منه لدعوته ، فقلت : يا علي إنك لقاطع لساني؟ قال : إني لممض فيك ما أمرت ، قال : ثم مضى بي فقلت : يا علي إنك لقاطع لساني؟ قال إني لممض فيك ما أمرت قال : فما زال بي حتي أدخلني الحظاير فقال لي اعقل(٦) ما بين أربع إلى مائة ، قال : فقلت : بأبي أنت وأمي ما أكرمكم وأحلمكم وأعلمكم؟ قال : فقال : إن رسول الله صلىاللهعليهوآله أعطاك أربعا وجعلك مع المهاجرين ، فإن شئت فخذها ، وإن شئت فخذ المائة و
____________________
(١) ورجعتم خ ل. اقول : يوجد ذلك في المصدر. (٢) اربعة خ ل.
(٣) لا يرفع خ ل. أقول : يوجد ذلك في سيرة ابن هشام.
(٤) في المصدر : فوالله. (٥) ارى خ ل.
(٦) اعتد خ ل. أقول : يوجد ذلك في المصدر.