شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار - ج ٢

القاضي النعمان بن محمّد التميميّ المغربي

شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار - ج ٢

المؤلف:

القاضي النعمان بن محمّد التميميّ المغربي


المحقق: السيد محمّد الحسيني الجلالي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١١

فكان علي صلوات الله عليه أفضل [ الناس في ] هذه الأعمال.

وكان أتم الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلاة وأخشعهم فيها ، وجاء أن أحدا لم يقدر أن يحكي صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من بعده إلاّ علي صلوات الله عليه ، ولا صلاة علي عليه‌السلام إلا علي بن الحسين ، كذلك الائمة بعده.

وكان أول من صلّى القبلتين.

وكان أكثر الناس إعراضا عن اللغو.

وكان أكثر الناس محافظة على إخراج زكاة ماله ، وفيه أنزل الله عزّ وجلّ كما تقدم بذلك في هذا الكتاب : ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (١) وجرى ذلك في الائمة من ولده كما جاء القول بذلك فيما تقدم من هذا الكتاب.

وكان أحفظ الناس لفرجه ، وقد ذكرنا ما شهد به جبرائيل عليه‌السلام له عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أن ملكيه يفخران على غيرهما ، بأنهما لم يكتبا عليه قط خطيئة ، ولأنه صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طفلا فلم يعبد غير الله ، ولم يشرك به شيئا ، ولم يتخذ من دونه وليا ولا عبد صنما ، ولا اقترف إثما. وكان أورع الامة ، وقد عدّوا فيمن ذكروا بالورع جماعة من الصحابة فمنهم فيما قالوا : علي صلوات الله عليه ، وأبو بكر ، وعمرو بن مسعود (٢) ، وأبو ذر ، وسلمان ، وعمار ، والمقداد ، وعبد الله بن عمر. وعلي أفضلهم في ذلك مع ما حازه ـ دونهم ـ من الفضل الذي تقدم ذكره.

__________________

(١) المائدة : ٥٥.

(٢) وأظنه عمرو بن مسعود بن معتب أخو عروة بن مسعود الصحابي.

٢٢١

[ ٧ ـ الزهد ]

ثم ذكروا بعد ذلك فضل الزهد في الدنيا لقول الله عزّ وجلّ : ( أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ ) (١) وقوله تعالى : ( إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) (٢) وقوله تعالى : ( فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ) (٣) فوصف عزّ وجلّ الدنيا ومتاعها وما فيها بالفناء والانقطاع ، والآخرة ونعيمها وما فيها بالبقاء والدوام ، ولم يحظر مع ذلك طلب الدنيا من وجهها وبحقها لأن معايش العباد منها بل قد اباح ذلك ، فقال سبحانه : ( وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ) (٤) وقال تعالى : ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً ) (٥) وقال تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) (٦) وكرر ذلك في كثير من كتابه ، ولكنه إنما ذكر ما ذكر من صفة الدنيا ، وانقطاعها ، وذهاب متاعها لئلاّ يغتبط بها أهلها ويتشاغلون عن الآخرة التي هي دار البقاء والحيوان بها ، ولينظروا إليها ، والى ما بأيديهم منها بعين الزهادة فيه وفيها ، فلا يغتبطوا بشيء من ذلك فيشحّوا به عما أوجبه الله عزّ وجلّ عليهم فيه ، أو أن يقدموا منه الى

__________________

(١) الحديد : ٢٠.

(٢) يونس : ٢٤.

(٣) لقمان : ٣٣.

(٤) الأعراف : ١٠.

(٥) المائدة : ٨٨.

(٦) الجاثية : ١٣.

٢٢٢

الآخرة ما يجدونه منه. فهذه حقيقة الزهد في الدنيا ليس على أنها تطرح بأسرها ، أو يكره كسب شيء منها ، ولو كان ذلك هو الفضل ، وإليه ندب الله عزّ وجلّ لم يكن أنبياؤه وأولياؤه ليملكوا منها علقا ولا يكتسبوا منها ، وقد ملكوا منها ، واكتسبوا كثيرا ، ولكنهم ينظرون الى ذلك بعين القلة والاحتقار ، وبها وصفه الله عزّ وجلّ به من الفناء والانقطاع ، ويزهدون فيه ويرغبون في الآخرة ومتاعها التي رغبهم الله عزّ وجلّ فيها ، ويقدمون بما في أيديهم من الدنيا لها ، ويقومون بما افترض الله عزّ وجلّ عليهم فيها ، ولو كانت الدنيا وما فيها مرفوضا لا ينبغي طلابه ولا اكتسابه لكان الواجب على العباد ذلك أن يفعلوه. وإذا ما فعلوا أخربوها وانقرضوا وشيكا منها ، وقد أمر الله عزّ وجلّ بالاستعداد منها لارهاب أعدائه وما يقوى على جهادهم به ، والنفقة في سبيله ، فقال سبحانه : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ) (١) وقال تعالى : ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (٢). وافترض النفقات على الزوجات ، فقال تعالى : ( وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) (٣) وقال تعالى : ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ ) (٤) فهل تكون النفقات إلا من اكتساب الدنيا ومتاعها ، والتصرف فيها وابتغاء الرزق منها ، وهذا ما لا يدفعه أحد من أهل العلم ولا ينكره.

[ نظرة علي الى الدنيا ]

[٥٤٤] وقد جاء أن قوما ذموا الدنيا عند علي صلوات الله عليه ، فقام فيهم

__________________

(١) الانفال : ٦٠.

(٢) البقرة : ١٩٥.

(٣) النساء : ٥.

(٤) الطلاق : ٧.

٢٢٣

خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال :

علام تذموا الدنيا ، وفيها تعملون ، الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار غنى لمن تزود منها ، ودار عافيه لمن فهم عنها ، مساجد أولياء الله ومهبط وحيه ومصلى ملائكته ، اكتسبوا منها الجنة ، وربحوا فيها المرحمة ، فمن ذا يذمها ، وقد آذنت بينها ، وحذرا من بلائها ، وشوقت بسرورها ترغيبا وترهيبا ، وإعذارا وإنذارا.

أيها الذام للدنيا المعتل بتغييرها متى استدمت إليك بل متى غرتك؟ أبمصارع آبائك من البلاء ، أم بمضاجع امهاتك من الثرى؟ كم مرضت بيديك من حبيب؟ وكم دعوت له من طبيب تبغي له الشفاء وتكرهه على مرّ الدواء؟ مثلت لك به الدنيا نفسك وبمصرعه مصرعك ، غداة لا ينفعك أحباؤك ، ولا يغني عنك بكاؤك. في خطبة له معروفة.

[ شبهة الرهبانية ]

وقد ذكر بعض المتكلمين رهبانية النصارى وتركهم النكاح واطراحهم الدنيا وما فيها ، وما يدعوا إليها.

فقال : إن الله عزّ وجلّ إنما يبعث أنبياءه بإحياء شرائعه ، هذا لو كان من دين المسيح لكان ممّا تنقطع الشريعة لأنه إذا كان ممّا دعي إليه فواجب على الناس اتباعه فيه ، وإذا كان كذلك لم يتناسلوا ، فينقطعوا عمّا قليل ، وتنقطع الشريعة بانقطاعهم. قال : فدل ذلك على أن ليس الذي ابتدعه النصارى من ذلك ممّا جاءهم به المسيح عليه‌السلام.

والأخبار والشواهد على مثل هذا كثيرة ، وقد اعطى الله عزّ وجلّ كثيرا

٢٢٤

من أنبيائه وأوليائه كثيرا من الدنيا ، ولو كان ذلك مكروها ما أعطاهم إياه ، وسأله سليمان عليه‌السلام ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فما أعاب ذلك عليه من سؤله ، بل ذكر عزّ وجلّ أنه أعطاه ذلك ، ونحن نشاهد ونرى في أيدي أولياء الله كثيرا ممّا خولهم الله عزّ وجلّ إياه ، وأعطاهم من الدنيا. ونعلم أن ذلك ممّا يعظم عندهم من فضل الله عزّ وجلّ لديهم ويكثر شكرهم إياه عليه ، وإن كانوا لا ينظرون إليه بعين الغبطة به ولا الرغبة فيه. ولا يلهيهم عظيم ما عندهم منه عما افترضه الله عزّ وجلّ عليهم واستخدمهم فيه من أمر دنياهم واخراهم بل ذلك في أعينهم أجل وفي صدورهم أعظم.

فهذه سبيل الزهد في الدنيا ومتاعها المحمود من فعله فيما اوتي منها ليس أن يكون ذلك رفضها وما فيها بالكلية وكراهته وتحريمه ، ومن حرم أو كره ما أحله الله عزّ وجلّ فقد خالف أمره وتعداه.

وقد ذكروا أيضا بالزهد من الصحابة رجالا ، فكان ممن ذكروه : علي عليه‌السلام ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن مظعون (١) ، وأبو ذر ، وسلمان ، والمقداد. وعلي عليه‌السلام أفضلهم في ذلك مع ما بان به من الفضائل المتقدم ذكرها دونهم ، وقد ذكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك فقال : علي لا يرزأ من الدنيا ولا ترزأ الدنيا منه ، يعني أنه لا يأخذ منها ما ليس له ولا تفتنه فتنقصه.

فهذه الفضائل التي عددتها ، وشهد الكتاب بها ، وأخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عنها قد تكامل في علي عليه‌السلام منها ما افترق في الناس ، وكان أفضلهم فيها ، وقد ذكرنا فضل من زاد الفضل فيه على من نقص منه ، والكامل الفضائل من اجتمعت فيه ولا يقاس به من لم تجتمع فيه ، وقد

__________________

(١) أبو السائب القرشي الجمحي ، صحابي من الشجعان ، كان من حكماء العرب في الجاهلية هاجر الى الحبشة قاتل في بدر وتوفي بالمدينة ٢ ه‍.

٢٢٥

أجهد بنو أمية أنفسهم في أن يستروا فضائل أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه في أيام تغلبهم ، وظهور سلطانهم ، فأظهروا لعنه على المنابر ، وأخافوا كل من حمل من فضائله ، أو روى من مناقبه شيئا أن يذكرها فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعاقبوا بأشد العقوبات من نشر شيئا منها ، أو ذكره أو حدّث به ، وأبى الله جلّ ذكره إلا إظهار فضله ومناقبه ، وما زاده لعنهم إياه إلا تعظيما له في قلوب الامة ، وإجلالا ومعرفة بحقه ، وإقرارا بفضله.

وقد ذكر محمّد بن عبد الله الاسكافي (١) ، وهو من أهل الكلام والجدل من العامة ـ اختلاف الفرق في تفضيل علي عليه‌السلام على سائر الصحابة والتفضيل عليه بعد أن ذكر فضله.

فقال : ونحن ذاكرون قول الذين قدموا غيره عليه وأفرطوا وقصروا فيه بين حروري وخارجي وبين حشوي ومعتزلي.

فقال هذا القائل : ففرقة زعمت أن أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبعده عمر بن الخطاب ، وبعد عمر عثمان ، ثم أمسكت. وفرقة دانت بفضل أبي بكر وعمر ثم توقفت في عثمان وعلي. وفرقة دانت بفضل أبي بكر ووقفت فيمن بعده. وفرقة وقفت في الجميع ، وقالت : الله أعلم بالفضل أين هو. وفرقة دانت بإكفار عليّ والبراءة منه. قال : وهم الخوارج جميعا هذا قولهم. قال : وعلة إكفارهم إياه بزعمهم تحكيم الحكمين (٢). قال : وفرقة أظهرت الطعن على علي عليه‌السلام وتولت معاوية. قال : وفرقة تولت عليا في ظاهر قولها ، ثم أظهرت له البغض فيما عرف من لحن قولها كما قال الله عزّ وجلّ : ( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) (٣).

__________________

(١) في كتابه المعيار والموازنة وقد طبع اخيرا وقام بتحقيقه ونشره الشيخ محمّد باقر المحمودي. أما المؤلف فهو أبو جعفر وأصله من سمرقند توفي ٢٤٠ ه‍.

(٢) المعيار والموازنة : ص ٣١.

(٣) محمّد : ٣٠.

٢٢٦

[ الفاضل والمفضول ]

فذكر هذا القائل من العامة هذه الفرق ، وما انتحلته رادا عليها بعد أن أثبت أن عليا عليه‌السلام أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا القائل ممن ينتحل إمامة أبي بكر ، ويزعم أنه جائز أن يلي المفضول على الفاضل للذي هو أصلح. وقد تقدم القول في هذا الكتاب بفساد هذه المقالة من نصّ الكتاب والسنّة ، ولكنا أردنا أن نذكر إقرار هذا القائل بفضل علي عليه‌السلام ، ومن يقول بقوله وهم أكثر العامة لنبين بذلك ما قدمنا ذكره من أنا لم نثبت في كتابنا هذا من فضائل علي عليه‌السلام إلا ما روته العامة وأثبتته دون ما انفردت به الشيعة.

فقال هذا القائل الذي حكينا قوله : وأما الذين زعموا أن أبا بكر أفضل هذه الامة بعد نبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله بالإمامة وإجماع الامة على توليته لما قد ذكرنا من إجازة أن يلي المفضول على الفاضل للذي هو أصلح ، فقال : والاحتجاج على هؤلاء أن نذكر فضائل القوم ، ومناقبهم ، وأحوالهم ، فنجمع بعضها إلى بعض وننظر في ذلك نظر من يريد التماس الحق لأن الله عزّ وجلّ قد جعل لكل شيء من العلم طريقا لا يعلم الحق إلا به ، ولا يستدل عليه إلا من قبله.

قال : فاذا جمعنا هذه المناقب ، وذكرنا هذه الفضائل ، أرينا من خالفنا أن

٢٢٧

الفضائل في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه مجتمعة ، وأن مناقبه منها أعظمها قدرا ، وأرجحها وزنا ، وأعلاها في وجه الحق ، ولسنا نذكر عن ذلك شيئا إلا مشهورا معروفا يعرفه من خالفنا ، ولا ينكره من نظر في كتابنا.

قال : فأما فضل أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه على جميع المؤمنين فقد بان عندنا وصح بحجج قائمة باهرة ظاهرة ولا يذهب عنها عند كشفنا لها والإخبار بها إلا معاند أو جاهل قد غلب عليه الجهل.

قال هذا القائل للذين زعموا أن أبا بكر أفضل من علي عليه‌السلام لإجماع الناس على بيعته : لسنا نحتج عليكم بما روته الرافضة من أن بيعة أبي بكر كانت على المغالبة والقهر دون الاجتماع ، ولكنا نحتج عليكم بما رويتم أنتم أن القوم لما بلغهم اجتماع الأنصار بادروا لبيعة أبي بكر مخافة الفتنة. وذكر هذا القائل حديثهم في ذلك.

[ وقفة عند السقيفة ]

[٥٤٥] عن ابن عيينة ، باسناده ، عن عمر ، أنه قال : لما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة (١) ليبايعوا سعد بن عبادة (٢).

قال عمر : فمشيت إليهم مع أبي بكر وأبي عبيدة بن الجراح (٣).

__________________

(١) وهي ظلة كانوا يجلسون تحتها عند بئر بضاعة وهي السقيفة التي كانت بيعة أبي بكر ، قرية بني ساعدة عند بئر بضاعة والبئر وسط بيوتهم ، وشمالي البئر الى جهة المغرب بقية اطام المدينة ( عمدة الاخبار ص ٣٣٦ ).

(٢) الصحابي الخزرجي من الامراء الاشراف في الجاهلية والاسلام أحد النقباء في بيعة العقبة شهد أحدا والخندق ، ارتحل الى حوران حيث قتل فيها سنة ١٤ ه‍.

(٣) وهو عامر بن عبد الله القرشي الفهري توفي بطاعون عمواس ودفن في غور بيسان سنة ١٨ ه‍.

٢٢٨

فقال لهم أبو بكر : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن هذا الأمر لا يكون إلا في قريش ، فبايعوا أي الرجلين شئتم ، عمر أو أبا عبيدة.

قال : ولم يحضر الموضع حينئذ من المهاجرين غيرنا.

قال عمر : فجعلت كلما ارتفعت الأصوات وخشيت الفتنة أقول لأبي بكر : مد يدك حتى ابايعك.

فمدّ يده ، فبايعته ، وبايعه أبو عبيدة ، ومن حضر من الأنصار خلا سعد بن عبادة فإنه لم يبايع حتى مات.

قال : وذلك أن التنازع كان بين الأوس والخزرج من الأنصار.

فكان بعضهم يقول : نبايع لسعد. وبعضهم يقول : لا نبايع إلا لرجل من الأوس.

وقال آخرون : يكون من الأوس أمير ومن الخزرج أمير. فحملهم ما كان بينهم من التنازع أن أخرجوها منهم وجعلوها لأبي بكر لما حضر.

قال هذا القائل : وكذلك قال عمر : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها.

[ ضبط الغريب ]

الفلتة : الأمر الذي يقع على غير إحكام ويأتي مفاجأة.

قال : فلم يكن القوم مالوا الى أبي بكر بالتفضيل.

قال : وإنما دفع أبو بكر ما أراد به الأنصار بالقرابة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبأن الإمامة في قريش ، وإذا كان ذلك كما قال هذا القائل ، وكذلك كان ، والخبر به ثابت مشهور. وأن أبا بكر

٢٢٩

إنما دفع الأنصار عنها واستحقها دونهم بقرابته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن كان أقرب منه الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأفضل منه أولى بها منه مع نص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي قدمنا ذكره.

ثم قال هذا القائل : وممّا يحقق ما قلنا ويصدقه قول أبي بكر : ولّيتكم ولست بخيركم. يعنى نسبا كان التأويل خطأ لأن الخير شيء خرج مرسلا عاما ، ثم حمل على الخصوص ، وإذا كان ذلك بطلت حجة الأخبار ، وسقط الاحتجاج بالآثار ، ولم يجب علم ، إلا بما يوجد في القرآن ، وسقطت المناظرة وتعلق كل مبطل بمثل هذه العلة ، وجعل العام خاصا والخاص عاما.

قال : ولو جاز ذلك لجاز لقائل أن يقول : إنما عنى بقوله لست بخيركم دينا ، والكلام على عمومه ، فمن ادعى الأمر الذي لا يوصل الى علمه إلا بخبر منصوص كان عليه أن يأتي بذلك ، وقائل هذا لن يذهب الى معنى. وذلك أن نسب أبي بكر قد كان معروفا عند القوم غير مجهول ، ولم يكن بينهم مشاجرة في النسب فيحتاج أبو بكر الى ذكر نسبه ، وقد كانوا جميعا يعلمون أن أبا بكر ليس بخيرهم نسبا ، ولا معنى لهذا التاويل أكثر من اللفظ في الجملة.

قال هذا القائل : وإنما معنى قول أبي بكر عندنا على جهة الإبانة ، وإن بعض الناس توهموا أن ولايته كانت من جهة الفضل والتقدمة ، فأبان ذلك عن نفسه ، ونفى غلط من غلط من الناس في ذلك ، وخطّأهم وردّهم الى الحق لأن هذا أمر كان يجب عليه أن يحمل الناس على الصواب فيه (١) ، ويبين ما أخطئوا فيه. فقال : وليتكم

__________________

(١) وفي نسخة ـ ج ـ : على وجه الثواب فيه.

٢٣٠

ولست بخيركم ، فلا تجعلوا ولايتي سببا لغلطكم ، وقولكم : إني خير وأفضل من غيري.

قال هذا القائل : وقد احتال قوم لهذه الكلمة حيلة اخرى.

فقالوا : إنما كان ذلك منه على جهة التواضع والشفقة ، لأن المؤمن لا يمدح نفسه ولا يزكيها.

قال هذا القائل : وهذا التأويل أوضح خطأ من الأول مع ما يلزم قائله من النقص ، وذلك أن التواضع لا يكون في الكذب لأن هذا القول من غير أبي بكر كذب. فكيف يكون من غيره كذبا ومنه تواضعا ، وقد علمتم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أكثر الناس تواضعا ، وأشدهم شفقة ، ولا يجوز أن يقول : ارسلت إليكم ولست بخيركم ، على التواضع والشفقة.

قال : وليس من التواضع أن يقول الزكي لست بزكي ، والمؤمن لست بمؤمن ، والعاقل لست بعاقل ، فيكون ذلك من قائله كذبا. وإنما التواضع أن يسكت الإنسان عن ذكر فضله وحسن المحاورة والمواساة لحسن العشرة. وقول هذا القائل في صفة التواضع ، قول غير مقنع ، ومن كان في المحل الذي حله أبو بكر محل الإمامة لم ينبغ له إذا كان محقا أن يسكت عن ذكر فضله تواضعا ، وقد جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنه قال : أنا أفضل ولد آدم عليه‌السلام ولا فخر ، وأنا سيد النبيين ولا فخر. وقال علي عليه‌السلام : أنا أفضل الأوصياء. وسلوني قبل أن تفقدوني فلن تجدوا أعلم بما بين اللوحين مني.

وقد ذكرت في هذا الكتاب ما عدده من مناقبه وفضائله على أهل الشورى وغيرهم. فمن الواجب على أهل الفضل الذين تعبّد الله العباد بمعرفة فضلهم أن يذكروه لهم وليعلموه ويعتقدوه لا أن يسكتوا عنه كما قال هذا

٢٣١

القائل. ولا أن يضعوا من أنفسهم ما رفعه الله عزّ وجلّ وافترض على العباد أن يعرفوه لهم ولن يعرفوه إلا بتعرفهم إياه ، ولو كان أبو بكر عند نفسه من أهل ذلك لم يقل ما قاله من أنه ليس بخيرهم ، ولو قال : إنه خيرهم لم يصدقوه ولم يقبلوا ذلك منه ، فصدقهم عن نفسه بما علم أنه لو قال غيره لم يقبل منه.

ثم قال هذا القائل الذي حكينا قوله : ثم نرجع الى المقدمين لأبي بكر على علي عليه‌السلام في المسألة فنقول : ما حجتكم في تفضيل أبي بكر على علي عليه‌السلام؟

فإن لجئوا الى اجتماع الناس على اختياره ، وهو أكثر عللهم. قلنا لهم : إن تقديم أبي بكر باختيارهم لا يوجب له الفضل على غيره قبل الاختيار بلا فضل. وان قلتم : إنه إنما كان فاضلا باختيارهم. فإنما كان فاضلا بفعل غيره لا بفعل نفسه لأن اختيارهم له هو فعلهم ، فإذا كان إنما صار فاضلا باختيارهم ، فهو قبل اختيارهم غير فاضل.

فأرونا فضله على علي عليه‌السلام ، وتقدمه عليه بفضيلة يكون لاختيارهم بها مستحقا للامامة.

[ صلاة أبي بكر ]

قال : فإن قالوا الدليل على ما قلنا صلاته بالناس أيام حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مروا أبا بكر فيصلّي بالناس (١).

__________________

(١) المعيار والموازنة : ص ٤٢ ط ١.

٢٣٢

قلنا لهم : هذا خبر إنما جاء عن عائشة لم تقم به حجة ، ولم تنقله الأمة بالقبول له ، والاجتماع عليه. على أنا متى سلّمنا لكم هذا الحديث لم يجب به تقدمة لأبي بكر على علي عليه‌السلام. ومتى نظرنا الى آخر الحديث (١) احتجنا الى أن نطلب للحديث مخرجا من النقص والتقصير ، وذلك لأن في آخر الحديث : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما وجد إفاقة وأحسّ بقوة خرج حتى أتى المسجد ، وتقدم فأخذ بيد أبي بكر ، فنحاه عن مقامه ، وقام في موضعه فصلّى بهم.

فقال بعض الناس : هذا من فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يدل على أن تقديم أبي بكر للصلاة لم يكن عن أمره ، لأنه لو كان ذلك بأمره لما خرج مبادرا مع الضعف والعلة حتى نحاه وصار في موضعه ، ولو كان ذلك عن أمره لتركه في مقامه ، ولصلّى خلفه كما صلّى خلف عبد الرحمن بن عوف لما جاء ، فوجده يصلّي بالناس. وقد شهدتم جميعا أن صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خلف عبد الرحمن بن عوف (٢) لا يوجب له تقديما على النبي مع ما يدخل حديثكم هذا من الوهن والضعف والشذوذ.

[ باؤكم تجرّ وباؤنا لا تجرّ ]

وقد عارضتكم الرافضة في حديثكم هذا ، فقالوا لكم :

قبلتم قول عائشة في الصلاة وجعلتموها حجة ، ولم تقبلوا قول فاطمة عليها‌السلام في فدك! وشهادة أم أيمن لها ، وقد شهد لها رسول الله صلّى الله

__________________

(١) وفي نسخة ـ ج ـ بين قوسين : لم لا يجب به تقدمة لأبي بكر على علي.

(٢) وهو أبو محمّد عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث الزهري القرشي ، ولد بعد عام الفيل بعشر سنين ٤٤ قبل الهجرة ، ومات ٣٢ ه‍.

٢٣٣

عليه وآله بالجنة ، وقال : إنها سيّدة نساء العالمين.

فإن قلتم : لأن الحكم في الاموال لا يجب بشهادة امرأة.

قلنا لكم : وكذلك الحكم في الدين لا يقبل بقول امرأة.

ولئن كانت صلاة أبي بكر توجب له التقديم على من صلّى خلفه ، وأنه أفضل منهم ، فصلاة عمرو بن العاص بأبي بكر وعمر توجب له التقدمة عليهما.

فإن قال قائل : لعله قد كانت له فضائل لا نقف عليها ، وعلل لا نعرفها غير إنا نعلم أن اختيار الامة له عن تقديم وتفضيل.

قيل له : ما الفرق بينكم وبين من قال : إنهم اختاروا أبا بكر لعلة لا أقف عليها إلا أني أعلم أنهم لم يختاروه لأنه أفضل ، ولو كان قبل الاختيار أفضل من علي بن أبي طالب لبان ذلك وشهر ولكان ذلك ظاهرا غير مستتر. ولو كان اختيارهم له لعلة تفضيله ، وكانت إمامة المفضول غير جائزة لما حلّ للأنصار ـ وموضعهم من الدين والعلم ما قد علمتم ـ أن يقولوا : منا أمير ، ومنكم أمير ، ولكان حراما على أبي بكر أن يمدّ يده إلى عمر وأبي عبيدة ، ويقول : ابايع أيكما شاء فليمدّ يده ، وكيف يظن جاهل أن القوم قدموه لأنه كأن أفضلهم ، والأنصار لا تعرف له ذلك الفضل ، وتقول : منا أمير ، ومنكم أمير ، يا معشر المهاجرين. وأبو بكر أيضا قد أنكر ما ادعوا له من الفضل على غيره ، وكذب مقالتهم بقوله للأنصار : قد رضيت لكم أحد ذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ـ يعني عمر وأبا عبيدة ـ وكيف يظن جاهل أنهم قدموه لأنه كان أفضلهم ، وعمر يقول : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها ، فلم يكن عند أحد منهم حجة يدعيها في تقديم أبي بكر على علي عليه‌السلام.

ثم نسق هذا القائل على قوله هذا ذكر فضائل أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، وجاء بمثل ما ذكرناه ونذكره في هذا الكتاب ممّا روى من

٢٣٤

فضائله ومناقبه ، ونحن نقول : إنه من لم يستقص ذكر حجج خصمه عند ذكر الرد عليه ، أو ترك منها شيئا تعمدا له ، أو عن جهالة به فقد جعل لخصمه السبيل الى رد قوله والطعن عليه. ونرى هذا القائل قد ذكر أن حديث صلاة أبي بكر لم تأت إلا عن عائشة ، وضعفه من أجل ذلك بحجة غيره ، وأكثر مدار الحديث على عائشة كما وصف (١) ، ولكنه قد جاء من غير ذلك الطريق.

ونحن نذكر الطريق التي جاء منها لئلا يبقى لقائل في ذلك مقال ، ونؤيد قول هذا القائل في فساد الاحتجاج بالصلاة بما هو أقوى منه ، وكذلك حذف ذكره ما احتجوا به من فضائل أبي بكر ومناقبه بزعمهم ، فلم يذكر شيئا منها.

وقال : فإن قالوا : لعله قد كانت لأبي بكر فضائل لم نقف عليها.

قلنا لهم : كذا ، وهم يروون لأبي بكر فضائل كثيرة.

ونحن نذكر ما رووه منها ، واحتجوا به لفضله وإثبات إمامته ، وما يفسد ذلك من قولهم ، وإنما غرضنا في ذلك ذكر فضائل علي صلوات الله عليه ، ولأنا قد أثبتنا في هذا الكتاب أنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم نقصد فيه تأكيد الإمامة لأن ذلك يخرج كما قلنا عن حدّ هذا الكتاب ، وقد بسطناه في كتاب غيره.

فمن زعم كما زعم هذا القائل أن أبا بكر لم يستحق الإمامة بالفضل لأن عليا عليه‌السلام أفضل منه فقد كفانا مؤونة الردّ عليه في هذا الكتاب.

ومن زعم أن أبا بكر أفضل منه فلا بدّ لنا من بيان فساد قوله فيه ليثبت له ما أصلناه عليه من فضله عليه‌السلام على سائر الامة بعد رسول الله صلّى

__________________

(١) راجع ص ٤١ من كتاب المعيار والموازنة ط ١.

٢٣٥

الله عليه وآله.

[ طرق اخرى للحديث ]

فأما ما ذكرناه من روايتهم في صلاة أبي بكر بالناس ، فقد روي ذلك كما قال هذا القائل.

[ ١ ـ ] عن عائشة.

[ ٢ ـ ] وعن أنس بن مالك.

[ ٣ ـ ] وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب.

[ ٤ ـ ] وعن عبيد [ الله بن عبد الله ] بن عتبة.

[ فأما حديث عائشة ]

[٥٤٦] فرواه علي بن عاصم (١) ، عن عبد الله بن سعيد ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن عائشة ، أنها قالت : ثقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة الاثنين ، وناداه بلال بالصلاة.

فقال : قولوا له ، فليقل لأبي بكر ، فليصلّ بالناس.

فقال بلال لأبي بكر : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يأمرك أن تصلّي بالناس.

قالت : فتقدم أبو بكر ، وكان إذا صلّى لم يلتفت ، ولم يرفع رأسه ، فتقدم ، فكبّر ، ووجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خفة.

قالت : فخرج يتهادى بين رجلين.

__________________

(١) وهو أبو الحسن علي بن عاصم بن صهيب الواسطي ولد ١٠٥ أصله من واسط وسكن بغداد ومات فيها ٢٠١ ه‍.

٢٣٦

قال علي بن عاصم : الرجلان علي بن أبي طالب عليه‌السلام واسامة بن زيد (١).

وقال غيره : علي والفضل بن العباس.

قالت : فلما رآه الناس تفرجت الصفوف ، فعلم أبو بكر أنه لا يتقدم ذلك التقدم إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فذهب ليتأخر ، فدفعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأقامه مقامه.

ثم جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقعد الى جانبه فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يكبّر ، وأبو بكر يكبّر بتكبيره ، والناس يكبّرون بتكبير أبي بكر.

قالت : فصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالناس ، فلما سلّم استقبلهم بوجهه وأسند ظهره الى حجرتي ، فقام إليه أبو بكر.

فقال : يا رسول الله ، أراك أصبحت صالحا ، وهذا يوم بنت خارجة ، وكان منزلها خارجا من المدينة ، فائذن لي إن شئت.

قال : نعم ، أذنت لك.

قالت : فخرج أبو بكر الى منزل بنت خارجة ، وكان منزلها خارجا من المدينة ، وجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحدّث الناس ويحذرهم الفتن ، ويقول :

أيها الناس ، لا تمسكوا عليّ بشيء ، فإني لا احلّ إلا ما أحلّ الله عزّ وجلّ في القرآن ، ولا احرم إلا ما حرم فيه.

يا صفية بنت عبد المطلب يا عمة رسول الله ، يا فاطمة بنت محمّد ،

__________________

(١) أبو محمّد اسامة بن زيد ولد بمكة ٧ قبل الهجرة وأمّره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن يبلغ العشرين من عمره ، ولما توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رحل اسامة الى وادي القرى فسكنه ثم الشام ثم عاد الى المدينة فاقام الى أن توفي بالجوف ٥٤ ه‍.

٢٣٧

اعملا لما عند الله فإني لا اغني عنكما من الله شيئا.

قالت : وثقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فدخل الى بيتي فمات عليه أفضل السّلام.

وأما حديث أنس :

[٥٤٧] فرواه يريد بن هارون ، عن سفيان ، عن الزهري ، عن أنس ، أنه قال : لما مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرضه الذي مات فيه ، أتى بلال ، فنادى بالصلاة. فقال : قد بلغت فمن شاء ، فليصلّ.

قال : يا رسول الله ، فمن يصلّي بالناس؟

قال : مر أبا بكر فيصلّ بالناس.

فقال بلال لأبي بكر : قد أمرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن تصلّي بالناس.

فلما تقدم أبو بكر ، رفعت الستور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنظرنا إليه كأنه ورقة بيضاء وعليه قميصه ، فظن أبو بكر أنه يريد الخروج فتأخر ، فأشار إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن صلّ مكانك ، فصلّى أبو بكر ، وما رأينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ذلك ، ومات من يومه عليه أفضل السّلام.

وأما حديث عبد الله بن عمر :

[٥٤٨] فرواه مكي بن إبراهيم ، عن موسى ، عن أبي عبيدة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه قال : جاء ابن أمّ مكتوم ، فأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في موضعه الذي قبض فيه بالصلاة الاولى ، فلم يستطع أن

٢٣٨

يقوم من شدة المرض ، فقال له : قل لأبي بكر يقيم للناس صلاتهم.

فقالت عائشة : يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق القلب ، وإنه متى يقوم مقامك تخنقه العبرة.

قال : وانتظر ما يكون من جواب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لها.

فقالت له : مر أبا بكر أن يقيم للناس صلاتهم.

ولم يجب عائشة بشيء. فنظرت عائشة الى حفصة ، وأشارت إليها أن تسأله أن يأمر أباها عمر.

فقالت حفصة : يا رسول الله ، لو أمرت عمر.

فصفق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيده ، وقال : إنكن صويحبات يوسف عليه‌السلام ، فاشتد ذلك على حفصة.

قال : فكان أبو بكر يقيم للناس صلاتهم أياما حتى قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأما حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة :

[٥٤٩] فرواه سهل بن محمّد ، عن سفيان ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، أنه قال : كان أول شكوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيت ميمونة. فقال لعبد الله بن عتبة : قل للناس فليصلّوا.

فخرج ، فلقي عمر بن الخطاب ، فقال : صلّ بالناس. فتقدم عمر ، فسمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صوته.

فقال : أليس هذا صوت عمر؟

قالوا : نعم.

قال : يأبى الله ذلك والمسلمون ليصلّ بالناس أبو بكر.

٢٣٩

ثم استأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة.

قالت : يا رسول الله إن أبا بكر رقيق القلب لا يملك دمعه إن قام مقامك ، فلو أمرت غيره أن يصلّي بالناس ، فو الله ما أشاء أن يكون أول من يقوم مقامك.

فأبى عليها ، فراجعته في ذلك مرتين أو ثلاثا.

فقال : ليصلّ بالناس أبو بكر ، فانكنّ صويحبات يوسف عليه‌السلام.

فهذا الذي انتهى إلينا عمّن حمل هذا الحديث من العامة. وقد اختلف فيه الذين نقلوه ـ هذا الاختلاف ـ.

[ بحث حول الحديث ]

ففي بعض النقل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بلالا أن يأمر أبا بكر بالصلاة وأنه افتتحها ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخرجه ، وقام مقامه. وهذا حديث عائشة.

ولو ثبت هذا الحديث لكان الذي في آخره من إخراج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إياه من الصلاة ما يبين أن تقديمه لم يكن عن أمره ، لأنه لو قدمه لم يخرجه.

[٥٥٠] وكذلك جاء الخبر عن الائمة صلوات الله عليهم : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما ثقل جاء بلال ليؤذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصلاة.

فقالت له عائشة : إن رسول الله ثقيل (١) ، قد اغمي عليه ، فلا

__________________

(١) ضد الخفة ومعناه المرض.

٢٤٠