شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار - ج ٢

القاضي النعمان بن محمّد التميميّ المغربي

شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار - ج ٢

المؤلف:

القاضي النعمان بن محمّد التميميّ المغربي


المحقق: السيد محمّد الحسيني الجلالي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١١

نادى منادي أهل الشام بصفين أصحاب علي عليه‌السلام ـ وهم ما لم يحص عددهم يومئذ كثرة ـ : ادفعوا إلينا قتلة عثمان.

فقال أصحاب علي عليه‌السلام ـ عن آخرهم بلسان واحد ـ : كلنا قتلة عثمان.

أفكان يمكنه دفعهم كلهم الى أهل الشام ، فيقتلونهم؟ أو أن يقول لأهل الشام : هم مصيبون في قتلهم إياه؟ وليس كل من قال قولا بما لا يجب له يجب جوابه عليه ، ولو كان ذلك لوجب على كل سامع يسمع ـ محالا من الكلام ـ أن يجيب عنه ، أو يحتج على قائليه.

[ من يطالب بالدم؟ ]

والطلب بالحقوق إنما يكون لأهلها عند إمام المسلمين ، وذلك ممّا أجمعوا عليه ، وعلى أن عليا عليه‌السلام إمامهم يومئذ ، وليس من أهل الشام ، ولا من غيرهم من يستحق القيام بدم عثمان ، ولا طلب ذلك أحد ممن يستحقه عند علي عليه‌السلام فيحكم له فيه بما يوجب الحق له عنده.

ولكن الذين قاموا عليه ، ونكثوا بيعته ، وقعدوا أمره جعلوا ذلك سببا يستدعون به الجهال الى القيام معهم لما أرادوه التغلب على ظاهر أمر الدنيا (١) ، والتوثب على أولياء الله.

وسنذكر جميع ما احتجوا به ، وأوهموا أهل الضعف من العوام أنهم على حق من أجله. ونقض ذلك وبيان فساده إن شاء الله.

__________________

(١) كما سيأتي أن معاوية اعتذر لابنة عثمان عند ما طلبت منه الثأر لأبيها ، وقد كان دم عثمان سلاحه ووسيلته لاشعال الحروب وقتل المسلمين في الأمس.

٨١

[ المتخلّفون عن أمير المؤمنين ]

فأما المتخلفون عن الجهاد مع علي صلوات الله عليه ، وقتال من نكث بيعته ، ومن حاربه وناصبه ، فإنه تخلف عنه في ذلك من المعروفين من الصحابة :

سعد بن أبي وقاص ، وكان أحد الستة الذين سماهم عمر للشورى. وعبد الله بن عمر بن الخطاب. ومحمّد بن سلمة.

[ المرجئة ]

واقتدى بهم جماعة ، فقعدوا بقعودهم عنه ، ولم يشهدوا شيئا من حروبه معه ، ولا مع من حاربه هذه الفرقة هم أصل ـ المرجئة ـ وبهم اقتدوا ، وذهب الى ذلك من رأيهم (١) جماعة من الناس ، وصوبوهم فيه ، وذهبوا الى ما ذهبوا إليه ، فقالوا في الفريقين ـ في علي عليه‌السلام ، ومن قاتل معه ، وفي الذين حاربوه وناصبوه ـ ومن قتل من الفريقين إنهم يخافون عليهم العذاب ، ويرجون لهم الخلاص والثواب ، ولم يقطعوا عليهم بغير ذلك ، وتخلفوا عنهم.

والإرجاء : في اللغة التأخير. فسموا : مرجئة لتأخيرهم القول فيهم ،

__________________

(١) كذا في جميع النسخ.

٨٢

وتأخرهم عنهم ، ولم يقطعوا عليهم بثواب ولا عقاب لأنهم زعموا [ انهم ] كلهم موحدون ، ولا عذاب عندهم على من قال : لا إله إلاّ الله ، فقدموا المقال وأخروا الأعمال ، فكان هذا أصل الارجاء.

ثم تفرق أهله فرقا الى اليوم يزيدون على ذلك من القول وينقصون.

ورووا في الوقوف الذي وقفه من تقدم ذكرهم عن علي عليه‌السلام ، وعن الذين حاربوه ، وما ذكرناه عن أبي موسى الأشعري مما رواه أهل الكوفة ، لما أتاهم الحسن عليه‌السلام وعمار بن ياسر رضي‌الله‌عنه برسالة علي صلوات الله عليه ليستنفرهم ، فلما قرأ كتابه عليه‌السلام على جماعتهم قام أبو موسى الأشعري ، فقال : أما إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إنه سيكون من بعدي فتنة ، القائم فيها خير من الساعي ، والجالس خير من القائم ، فاقطعوا أوتار قسيكم ، واغمدوا سيوفكم ، وكونوا أحلاس بيوتكم.

فقال عمار بن ياسر رضي‌الله‌عنه : تلك التي تكون أنت منها ، أما والله لقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد لعنك.

فقال أبو موسى : كان ذلك ، ولكنه استغفر لي.

فقال عمار : اللعنة فقد سمعتها ، وأما الاستغفار فلم أسمعه. وقال عمّار رضوان الله عليه : أشهد لقد أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن أقاتل مع علي الناكثين والقاسطين.

فتعلق أهل الارجاء بالحديث الذي رواه أبو موسى ، وقد أجابه عمار رضي‌الله‌عنه بجملة تفسيره بقوله : تلك التي تكون أنت منها ، يعني : من أهل الفتنة التي نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن القيام مع أهلها.

وأهل الفتنة هم أهل البغي ، وأهل التخلف عن الجهاد ، وقد أبان الله عزّ وجلّ ذلك فيما أنزله في الذين سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

٨٣

الإذن في التخلف عن الجهاد معه ، فقال جلّ من قائل : ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) (١).

[ جهاد أهل البغي ]

وقتل أهل البغي جهاد ، وقد أمر الله عزّ وجلّ به في كتابه وافترضه على المؤمنين من عباده كما افترض عليهم قتال المشركين بقوله تعالى : ( فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ ) (٢) ، والفتنة إلى أمره الدخول في طاعة من أوجب عزّ وجلّ طاعته ، ولو كان القعود واجبا عن كل مفتون ، وقائم بفتنته لسقط فرض جهاد أهل البغي ، وهذا أوضح وأبين من أن يحتاج الى بيانه لما فيه من نصّ القرآن ، فمن قعد عن الخروج مع علي عليه‌السلام وعن محاربة من حاربه معه لغير عذر يوجب ذلك فقد خالف أمر الله عزّ وجلّ ، وترك فرضه الذي افترضه على المؤمنين من عباده من جهاد أهل البغي ، وليس ذلك ممّا يلزم جميع الناس أن يخرجوا فيه ، ولا في جهاد المشركين ، إذا قامت به طائفة منهم لقول الله عزّ وجلّ ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ) (٣).

وأما قوله جلّ من قائل : ( انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً ) (٤). وقوله تعالى : ( وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ) (٥). فهو إذا دهم المسلمين من عدوهم ما يحتاجون فيه الى ذلك ، وهذا قول أهل البيت صلوات الله

__________________

(١) التوبة : ٤٩.

(٢) الحجرات : ٩.

(٣) التوبة : ١٢٢.

(٤) التوبة : ٤١.

(٥) التوبة : ٣٦.

٨٤

عليهم ، وجملة المنسوبين الى الفتيا من العوام ولو لا ذلك لهلك كل من لم يجاهد في سبيل الله وكذلك من له عذر لم يطق الجهاد معه فلا شيء عليه في التخلف عنه إذا صدقت نيته. ومن ذلك ما روي :

[٤٤٣] عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنه قال لأصحابه ، وقد انصرف من غزاة ـ : إن بالمدينة قوما ما قطعتم واديا ، ولا شهدتم مشهدا إلا وهم معكم فيه.

قالوا : من هم يا رسول الله؟ قال : قوم قعد بهم العذر ، وصدقت نياتهم.

وقد بيّن الله عزّ وجلّ هذا في كتابه فقال جلّ من قائل : ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ ) (١). فقد يكون لمن تخلف عن علي صلوات الله عليه من الصحابة الذين اقتدى بهم غيرهم بتخلفهم عنه ، وجعلوا ذلك حجة لما ذهبوا إليه عذر في التخلف لا يعلم الناس به. أو أنهم رأوا ان عليا عليه‌السلام مكتف بمن خرج ، وقام معه من المسلمين ، فوسعهم التخلف عنه ، وإن كان الخروج معه أفضل من القعود عنه. ومن ذلك ما تقدم ذكره من ندامة عبد الله بن عمر على تركه جهاد الفئة الباغية مع علي عليه‌السلام ، وعلى تخلفه عنه ، وذلك من الأخبار المأثورة المشهورة عنه.

__________________

(١) التوبة : ٩١ و ٩٢.

٨٥

وجاء ذلك عنه من غير طريق ، وفي غير مقام.

وجاء مفسرا من قوله ، انه قال : ما آسي (١) على شيء إلا إني لم اكن قاتلت مع علي عليه‌السلام الناكثين ـ وهم أهل البصرة ـ ، والقاسطين ـ وهم أهل الشام ـ ، والمارقين ـ وهم أهل النهروان ـ. فذكرهم صنفا صنفا وشهد عليهم بما يوجب قتالهم ويحل دماءهم.

روى ذلك ، الوليد بن صبيح ، باسناده ، عن حبيب بن أبي ثابت ، أنه سمع عبد الله بن عمر بن الخطاب يقوله. فقد يكون غيره كذلك ندم على تخلفه عن علي عليه‌السلام ، إذ كان له عذر في التخلف ، أو تخلف لعلمه باستضلاع علي عليه‌السلام بمن معه دون أن يرى أن التخلف عنه لغير عذر تبعة.

وقد اعتذر الى علي عليه‌السلام جماعة ممن تخلف عنه ، فقبل عذر من اعتذر منهم. وقد ذكرت فيما مضى من هذا الكتاب ندامة عائشة على خروجها ، ورجوع طلحة والزبير لما ذكرهما علي عليه‌السلام قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه (٢). وقول سعد بن أبي وقاص بفضله وأنه على الحق (٣).

فأما من تخلف عنه لغير عذر ، أو حاربه فقد عصى الله عزّ وجلّ ، وعصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد ذكرت الأخبار المشهورة في ذلك ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله فيه :

اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله.

__________________

(١) وفي نسخة ـ ج ـ : ما أسى أو قال : ما أسفت.

(٢) قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للزبير : ... تقاتله وأنت ظالم.

(٣) لقد ذكر المؤلف الحديث مفصلا ، الحديث ٤٢٩.

٨٦

فمن تخلف عنه لغير عذر فقد خذله ، ومن خذله فقد عاداه.

وقوله له : سلمك سلمي ، وحربك حربي. فمن حاربه فقد حارب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن حارب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد حارب الله سبحانه.

وقوله : من آذى عليا فقد آذاني. ولا أذى أشد من المحاربة في غير ذلك ممّا ذكرناه ، ونذكره في هذا الكتاب ممّا هو في معنى ذلك.

وما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من نصه على من يقاتله من بعده وأنهم الناكثون والقاسطون والمارقون ، ووصفه إياهم بصفاتهم ، وما يكون منهم وما يؤول إليه أمرهم ممّا جاء عن الله عزّ وجلّ.

فرؤساء الناكثين : ـ وهم أصحاب الجمل ـ طلحة والزبير وعائشة ـ قد تابوا من خروجهم عليه ، ورجعوا عليه وندموا على ما فرط منهم فيه ، فلم يجد أحد بعدهم سببا لذلك يتعلق به في أن يقول بقولهم ، أو يصوّب فعلهم ، أو أن يتخذ قولا يقول به ، ومذهبا يذهب إليه ، وهم قد رجعوا عنه.

وأما معاوية ، وأتباعه ، والخوارج ومن قال بقولهم ، فأصروا على باطلهم ، ولم يرجعوا عنه كما رجع من تقدمهم ، وأن معاوية وأصحابه ، إنما احتذوا على مثال أصحاب الجمل في انتحالهم القيام بطلب دم عثمان فلم يرعهم رجوع من استنّ ذلك لهم عن الرجوع عنه ، بل تمادوا على غيّهم ، وساعدتهم الدنيا فاستمالوا بها كثيرا من الناس ، فذهبوا الى مذهبهم ، وقالوا بمثل قولهم ، وتابع الخوارج على ما ذهبت إليه كل من أبغض عليا صلوات الله عليه أو ذهب الى التقصير به. وكل من أراد أن يأكل أموال الامة ، وسفك دمائها ، فجعل القول بذلك وسيلة الى ما أراده من ذلك.

وكان ممّا تهيأ لمعاوية بن أبي سفيان ممّا قوي به على مقاومة علي عليه‌السلام ، والخلاف عليه ، ووجد به أنصارا وأعوانا على ما أراده من ذلك ،

٨٧

أنه كان مع أخيه يزيد بن أبي سفيان (١) ومع أبي عبيدة بن الجراح (٢) ، وقد شهد فتوح الشام. والشام دار مملكة الروم ، وموضع أموالها وكنوزها وذخائرها وخيراتها.

ومعاوية من المؤلفة قلوبهم كما ذكرنا فيما تقدم ، وثبت ذلك ، وفيمن أعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأباه يوم حنين من غنائم هوازان ما أعطاهما مع جملة المؤلفة قلوبهم لرقة اسلامهم ليسترضيهم ويتألفهم على الإسلام ، ولم يكن ممن نزع عن الغلول ، والاستيثار بما قدر عليه من الفيء.

ثم هلك أخوه يزيد ، فاستعمله عمر بن الخطاب مكانه ، فاحتوى على مملكة الشام ، وبيوت أموال ملوك الروم ، وأموال أشرافهم ، فاكتسب من ذلك أموالا عظيمة وذخائر نفيسة ، فكان يرضي بها من معه ، ويستميلهم الى ما يريده ، ويعطي من أتاه.

ونزع إليه ممن يرغب في الدنيا ، وهم عامة الناس. واتفق له أن عليا صلوات الله عليه طالب عمال عثمان ، وكان من أقطعه عثمان قطيعة من مال المسلمين بما في أيديهم ممّا أقطعوه ، واقتطعوه ، ومن مثل ذلك خاف معاوية على ما في يديه ، ولعلمه بأن عليا صلوات الله عليه لا يدع له شيئا منه. فنزع إليه من كانت هذه حاله ومن خاف عليا عليه‌السلام واتقى جانبه أو من علم أنه ليس له من الدنيا عنده ما يريده.

وكان ممّا يشنعون به عليه وينذرون منه به ، أن بعضهم سأله (٣) للحسن والحسين عليهما‌السلام متكلفا لذلك من غير أن يسألاه فيه ولا أن يعلما بسؤاله ذلك لهما ، إلا أنه أراد الشناعة (٤) عليه بذلك إذ قد علم أنه لا يفعله ، في أن

__________________

(١) أسلم يوم الفتح ، توفي في دمشق بالطاعون ١٨ ه‍.

(٢) وهو عامر بن عبد الله الصحابي القرشي الفهري توفي بطاعون عمواس ودفن في غوربيسان ١٨ ه‍.

(٣) كما يأتي في الجزء السادس وهو خالد بن العمر.

(٤) وفي نسخة ـ ج ـ الشفاعة.

٨٨

يزيدهما دراهم في عطائهما ، فانتهره من ذلك ، ولم يجبه إليه ، فجعل يبث ذلك عنه ، ويشنعه عليه ، ليؤنس أبناء الطمع منه (١) فلم يبق مع علي صلوات الله عليه إلا أهل البصائر في الدين الذين يجاهدون معه بأموالهم وأنفسهم ، كما افترض الله عزّ وجلّ كذلك الجهاد على كافة المؤمنين.

ولحق بمعاوية أبناء الدنيا ، وأهل الطمع ، وكل سخيف الدين عار من الورع ، وكل من استثقل العدل عليه ، وإقامة الحق فيه ، وعلم أن له عند معاوية ما يحبه من ذلك ويرضيه.

فلم يخلص مع علي صلوات الله عليه إلا أهل البصائر والورع من المهاجرين والأنصار ، والتابعين لهم بإحسان ، وأشراف العرب ـ من ربيعة ومضر ـ ممّن سمت همته إليه ، وأنف من الكون مع معاوية والانحياش إليه. حتى كان أكثر عسكره الرؤساء والأشراف والوجوه. حتى كان لكل رئيس منهم لواء ، ولكل سيد معسكر ، وقلّ ما تستقيم الامور على هذه الحال ، وقد قيل إن الشركة في الرئاسة شركة في الملك ، والشركة في الملك كالشركة في الزوجة.

وكان أصحاب معاوية الرؤساء منهم يطيعونه ويتبعونه لما يرجون من دنياه ، وسائرهم رعاع ، واتباع ، وبالطاعة تستقيم الامور.

[ تقييم المواقف ]

[٤٤٤] ومن ذلك ما قد روي عن علي صلوات الله عليه ، أنه امتحن أصحاب معاوية وأصحابه ، قبل أن يخرج الى معاوية ، فأرسل رجلا من الكوفة إلى حمص (٢) وبها معاوية ، وقال للرجل :

__________________

(١) الى هنا تنتهي نسخة ـ ج ـ :.

(٢) مدينة بين دمشق وحلب في الجمهورية العربية السورية.

٨٩

اركب راحلتك وسر ، فاذا دخلت حمص ، فلا تعرج على شيء ، ولا تغيّر ثيابك ، واقصد المسجد الجامع ، فانخ راحلتك واعقلها ببابه ، وادخل المسجد على هيئتك. فإن الناس سيسألونك من أين قدمت؟

فقل : من الكوفة. فهم يسألونك عن امري ، فقل : تركته معتزما على غزوكم قد فرغ من عامة ما يحتاج إليه لذلك ، وما أظنه إلا وقد خرج على أثري. وانظر ما يكون منهم ، وارجع إليّ بالخبر.

ففعل الرجل ذلك.

فلما سمع أهل المسجد قوله خاضوا في ذلك وخاض الناس ، واتصل الخبر معاوية ، فأتى المسجد ، فرقى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم قال :

أيها الناس إنه قد انتهى إليّ ما قد فشى فيكم ، وانتهى إليكم من قدوم علي في أهل العراق إليكم لغزوكم ، فما أنتم قائلون في ذلك ، وصانعون؟

فسكتوا حتى كأن الطير على رءوسهم.

ثم قا [ م ] (١) رجل من سادات حمير ، فقال : أيها الأمير عليك المقال وعلينا انفعال.

( انفعال لغة حميرية يدخلون النون مكان اللام ).

فقال : أرى أن تبرزوا في غد على بركة الله.

ثمّ نزل ، فأصلحوا مبرزين.

وانصرف الرجل الى علي صلوات الله عليه وأخبره الخبر.

فأمر بالنداء في الناس بأن الصلاة جامعة ، وخرج الى المسجد

__________________

(١) وفي الاصل : قال رجل.

٩٠

الجامع ، وقد اجتمع الناس فيه. فرقى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال :

أيها الناس إنه قد انتهى إليّ أن معاوية قد برز من حمص في أهل الشام ، ومن معه يريد حربكم ، فما أنتم في ذلك قائلون وصانعون؟

فقام رجل ، فقال : يكون الأمر كذا. وقال الآخر : بل الرأي كذا. وقام آخر فقال غير ذلك. حتى قام منهم عدة ، واعتكر الكلام.

فنزل علي صلوات الله عليه ، وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، غلب والله ابن آكلة الأكباد.

وقيل أيضا : إن الناس خاضوا بصفين ، فاختلط أصحاب معاوية ، وترك أكثرهم مراكزهم ، فخرج منهم ، فوقف بينهم ، فأشار بكمه عن يمينه ، فرجع كل من كان في تلك الناحية ، وأشار عن يساره ، ففعلوا كذلك.

فقال له بعض من شهده : إن هذه للطاعة.

فقال : إني ما أخلفتهم قط في وعد ولا وعيد.

فمن أجل هذا وما قدمنا قبله ممّا يجري (١) مجراه تهيأ لمعاوية أن يقاوم عليا عليه‌السلام. وعلي صلوات الله عليه في الفضل والاستحقاق بحيث لا يخفى مكانه على أحد أن يقيسه بمعاوية في خصلة من خصال الخير.

حتى أن بعض أهل التمييز والمعرفة سمع من يقول علي أفضل من معاوية.

فقال : هذا من فاسد القول ، إنه ليس يقال إن العسل أحلى من

__________________

(١) هكذا في نسخة ـ أ ـ وفي الاصل : وما يجري.

٩١

الصبر ، ولا إن الحنظل أمر من السكر ، [ فـ ] معاوية أقلّ من أن يقاس بعلي عليه‌السلام.

تمّ الجزء الخامس من كتاب شرح الأخبار في فضائل الائمة الأطهار تأليف سيّدنا القاضي الأجلّ النعمان بن محمّد بن منصور قدّس الله روحه ورزقنا شفاعته وانسته.

٩٢

٩٣
٩٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[ عدلوا الى معاوية ]

فأما نزوع من نزع عن علي صلوات الله عليه الى معاوية ، فلم يكن أحد منهم نزع عنه إليه اختيارا لدينه ، ولا ناظرا لأمر آخرته ، وإنما نزع عنه إليه من نزع لما قدمنا ذكره من مطالبة علي صلوات الله عليه لهم بما أقطعوه واقتطعوه من مال الله ، وخوفهم من أن يقيم عليهم حدود الله ، ولما وثقوا به من إطعام معاوية إياهم مال الله وتبجيحهم (١) لديه في معاصي الله ، وتحرمهم (٢) به من إقامة حدود الله التي لزمتهم ، كنزوع عبيد الله بن عمر بن الخطاب إليه لقتله الهرمزان ـ وقد ذكرنا قصته ـ وما كان من تخلية عثمان إياه ، وتواعد علي عليه‌السلام له بالقتل إن قدر عليه ، وإقامة الحق فيه ، والقود منه ، فلحق بمعاوية ، فأمنه.

ومثل النجاشي (٣) لما شرب الخمر ، فأقام عليه علي عليه‌السلام الحد ، وخاف من ذلك ، فلحق بمعاوية ، فكان يشربها بالشام صراحا.

ومثل مصقلة بن هبيرة ، فإنه اشترى سبي بني ناجية (٤) وأعتقهم فطلبه

__________________

(١) أي تفاخرهم. وفي نسخة ـ ج ـ : تحبجهم.

(٢) وفي نسخة ـ أ ـ : وتحريمهم.

(٣) وهو قيس بن عمر الشاعر من بني الحارث بن كعب.

(٤) وهم قوم من النصارى من أهل البصرة أسلموا ، ثم ارتدوا ، فدعوهم الى الإسلام ، فأبوا ،

٩٥

علي عليه‌السلام بأثمانهم ، فهرب عنه الى معاوية في عامة بني شيبان ، وهم عدد كثير ، معروف كان عنده مقامهم ، ومشهورة أيامهم.

وكان يزيد بن حجبة من وجوه أصحاب علي عليه‌السلام فاستدرك عليه مالا من مال خراج المسلمين ، فطالبه به ، وحبسه لما له عن الأداء ، ففر من محبسه (١) ولحق بمعاوية في عدد كثير من قومه.

ولحق أيضا بمعاوية خالد بن معمر في عامة بني سدوس لأمر نقمه على علي صلوات الله عليه ، ولقدره ، وكثرة من جاء به الى معاوية من قومه. قال قائل شعرا :

معاوي أمر خالد بن معمر

فإنك لو لا خالد لم تؤمر

وممّن هرب عن علي (٢) صلوات الله عليه الى معاوية من مثل هؤلاء كثير من وجوه العرب ورؤسائهم ، ومن أهل البأس والنجدة والرئاسة في عشائرهم لما اتصل عن معاوية من بذله الأموال ، وإفضاله على الرجال ، وإقطاعه القطائع مثل إطعامه عمرو بن العاص خراج مصر ، وإقطاعه ذا الكلاع ، وحبيب بن سلمة (٣) ، ويزيد بن حجبة ، وغيرهم ما أقطعهم ، وأنا لهم إياه ، وعلموا ما عند علي عليه‌السلام من شدته على الخائن ، وقمعه الظالم ، وعدله بين الناس ، واسترجاعه ما أقطعه عثمان ، وفشى ذلك عنه ، وتفاوض أهل الطمع ، وقلة الورع فيه ، حتى قال خالد بن المعمر للعباس بن الهيثم :

__________________

فقاتلوهم ، واسروا منهم ، وأتوا بهم ، الى أمير المؤمنين ، فجاء مصقلة ، واشتراهم بخمسمائة الف درهم ، وهرب الى معاوية ، فقيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام : ألا تأخذ الذرية؟ فقال : لا. فلم يعرض لهم.

(١) وفي نسخة ـ د ـ : من حبسه وهو يزيد بن حجبة التميمي من بني تيم بن ثعلبة.

(٢) وفي نسخة ـ ج ـ : اتى من هرب عن علي صلوات الله عليه.

(٣) هكذا في الاصل والصحيح حبيب بن مسلمة الفهري القرشي ولاه عثمان آذربايجان ، وولاه معاوية ارمينيا ومات فيها ٤٢ هـ وشارك في صفين بجنب معاوية.

٩٦

اتق الله في عشيرتك وانظر في نفسك ، ما تؤمل من رجل سألته أن يزيد في عطاء ابنيه الحسن والحسين دريهمات لما رأيته حالتهما (١) ، فأبى عليّ ، وغضب من سؤالي إياه ذلك.

فكان ذلك ممّا تهيأ به لمعاوية ما أراده ، وهو في ذلك مذموم غير مشكور ، بل مأثوم مأزور ، وممّا امتحن الله به عليا عليه‌السلام ، وهو فيه محمود مشكور ، مثاب مأجور ، وفيما منع منه معذور ، على أن أكثر من نزع عن علي عليه‌السلام ، ولحق بمعاوية لم يكونوا جهلوا فضل علي عليه‌السلام ، ولا غبي عنهم نقص معاوية ، ولكنهم إنما قصدوه للدنيا التي أرادوها وقصدوها.

وقد باين معاوية كثير منهم كالذي يحكى عن عمرو بن العاص ، أنه لما قدم عليه جعل يذكر له فضل القيام بدم عثمان ، وما في ذلك من الثواب والأجر (٢) ، وما في اتباعه في ذلك إذا قام به (٣).

فقال له عمرو : دعني من هذا يا معاوية إنما جئتك لطلب الدنيا ، ولو أردت الآخرة للحقت بعلي. فأقطعه مصر.

وكان ابنه قد كره له المسير (٤) الى معاوية ، فلما سمع منه ما سمع قال : يا أبة وما عسى أن يكون من مصر في أن تؤثر بها الباطل على الحق؟

فقال عمرو : وان لم يشبعك مصر فلا أشبع الله بطنك (٥).

وكالذي يحكى من قول معاوية للنجاشي ، وقد أقطعه وأرضاه : أينا (٦)

__________________

(١) هكذا في ب وفي نسخة الاصل : خلتهما.

(٢) وفي نسخة ـ أ ـ : من الأجر والثواب.

(٣) هكذا في نسخة ـ أ ـ وفي نسخة الاصل و ـ ج ـ : إذ قد قام بذلك.

(٤) وفي نسخة ـ ب ـ : المصير.

(٥) وفي نسخة ـ أ ـ : لك بطنا.

(٦) هكذا في نسخة د ، وفي بقية النسخ : أيهما.

٩٧

أفضل ، أنا أو علي بن أبي طالب؟ فقال النجاشي شعرا :

نعم الفتى أنت لو لا أن بينكما

كما تفاضل ضوء الشمس والقمر

فرضي معاوية منه بذلك.

واخذ هذا على النجاشي من انتقد قوله ، فقال : ما علمت أحدا من أهل التمييز يقول إنه ليس بين علي عليه‌السلام وبين معاوية من الفضل إلا بقدر ما بين الشمس والقمر ، ولا من يجعل لمعاوية في الفضل حظا (١) ولا نصيبا مع علي عليه‌السلام إلا مثل ما بين هاشم وعبد شمس ، وبين عبد المطلب وحرب ، وبين أبي طالب وأبي سفيان ممّا تفاضل به البرّ والفاجر ، وتساوى فيه الجاهلي والإسلامي ممّا تفتخر به العرب فيما بينهما.

وقد الّفت كتابا سميته كتاب المناقب والمثالب ، ذكرت فيه فضل هاشم وولده وما له ولهم من المناقب في الجاهلية والإسلام ، وفضلهم في ذلك على عبد شمس وولده ، ومثالب عبد شمس وولده في الجاهلية والإسلام على الموازنة رجلا برجل الى وقت تأليفي ذلك ، وبسطي له ، فمن أحب معرفة ذلك نظر فيه ، ولو ذكرت ذلك في هذا الكتاب لخرج عن حده ، وهو في مثل قدر نصف هذا الكتاب.

على أن في قول النجاشي معنى لطيفا ، وذلك أن نور القمر إنما يكون عن نور الشمس ، كذلك معاوية إنما إسلامه من حسنات علي عليه‌السلام.

وعلى أن معاوية في كثير من مجالسه (٢) ومقاماته لم ينكر ، ولا دفع فضل علي عليه‌السلام ، كالذي روي عنه أن رجلا (٣) من أصحاب علي

__________________

(١) وفي نسخة ـ ج ـ : حصا.

(٢) وفي نسخة ـ أ ـ : مجلسه.

(٣) ذكره ابن قتيبة في الإمامة والسياسة باسم : عبد الله بن أبي محجن الثقفي. وذكره المجلسي في

٩٨

عليه‌السلام نزع إليه ، فأدخله عليه وعنده جماعة من أهل الشام ووجوه من معه من غيرهم ، فقال له : من أين أقبلت؟

قال : من عند هذا العي الجبان البخيل ـ يعني عليا عليه‌السلام ـ. فسكت معاوية.

وقام عمرو بن العاص ، فقال لمعاوية : أيها الأمير لا يسرك من يغرك.

فقال له معاوية : اجلس يا أبا عبد الله وأنت كما قال الأول شعرا :

مهما تسرك من تميم خصلة

فلما يسؤك من تميم أكثر

وكره أن يسمع ذلك من حضره ، فلما انصرفوا احضر عمرو بن العاص ، وأمر بالرجل ، فادخل إليه (١).

ثم قال له : من عنيت بالعي الجبان البخيل؟

قال : علي بن أبي طالب.

قال : كذبت والله فيما قلت ، ولو لم يكن للامة إلا لسان علي لكفاها (٢). وما انهزم علي قط ولا جبن في مشهد من مشاهد حروبه ، ولا بارزه أحد إلا قتله. ولو كان له بيتان ، بيت من تبن ، وبيت من تبر لأنفق تبره قبل تبنه.

قال الرجل : فإذا كان علي عندك بهذه المنزلة ، فلم حاربته؟

قال : لأجل هذا الخاتم الذي من غلب عليه جازت طينته (٣).

__________________

بحار الأنوار مجلد ٩ ص ٥٧٨ نقلا عن الموفقيات للزبير بن بكار الزبيري باسم : مجفن بن أبي مجفن الضبي.

(١) وفي نسخة ـ أ ـ : فادخل عليه.

(٢) هكذا في نسخة ـ ج ـ : وفي الأصل : لكفيتها.

(٣) طنت الكتاب أي جعلت عليه الطعن والختم.

٩٩

[ وأما عقيل ]

وكالذي جاء من خبر عقيل بن أبي طالب ، وذلك أنه أتى الى علي عليه‌السلام يسأله أن يعطيه ، فقال له علي عليه‌السلام : تلزم عليّ حتى يخرج عطائي فاعطيك.

فقال : وما عندك غير هذا؟

قال : لا.

فلحق معاوية فلما صار إليه ، حفل به (١) وسرّ بقدومه ، وأجزل العطاء له ، وأكرم نزله.

ثم جمع وجوه الناس ممن معه وجلس وذكر لهم قدوم عقيل ، وقال : ما ظنكم برجل لم يصلح لأخيه حتى فارقه وآثرنا عليه ، ودعا به.

فلما دخل رحب به وقربه ، وأقبل عليه ، ومازحه ، وقال : يا أبا يزيد من خير لك أنا أو علي؟

فقال له عقيل : أنت خير لنا من علي ، وعلي خير لنفسه منك لنفسك.

فضحك معاوية ـ وأراد أن يستر بضحكه ما قاله عقيل عمن حضر ـ وسكت عنه.

فجعل عقيل ينظر الى من في مجلس معاوية ويضحك.

فقال له معاوية : ما يضحك (٢) يا أبا يزيد؟

فقال : ضحكت والله إني كنت عند علي ، والتفت الى جلسائه فلم أر غير المهاجرين ، والأنصار ، والبدريين ، وأهل بيعة الرضوان ، وأخاير

__________________

(١) حفل القوم حفولا : اذا اجتمعوا.

(٢) وفي نسخة ـ ج ـ ما يضحك. وفي نسخة ـ أ ـ : ما أضحلك.

١٠٠