مصباح الفقيه - ج ١٤

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٩

أمارة معتبرة ، وهو محلّ نظر.

وليس مبنى هذا الأصل عموم الناس مسلّطون على أموالهم (١) أو قوله ـ عليه‌السلام ـ في التوقيع المرويّ عن صاحب الزمان ـ عجّل الله فرجه ـ :«لا يجوز لأحد أن يتصرّف في مال غيره إلّا بإذنه» (٢) ونحوه حتّى يقال : إنّ هذه العمومات مخصّصة بالنسبة إلى الحربي ، فلا يجوز التمسّك بها في الشبهات المصداقيّة ؛ ضرورة عدم ابتناء اعتبار مثل هذا الأصل الذي هو من الضروريات على مثل هذه المراسيل التي قد لا يقول بحجيّتها أكثر العلماء ، بل هو أصل عقلائي ممضى في الشريعة ، كقاعدة اليد ، وسلطنة الناس على أموالهم ، وغيرها من القواعد العقلائيّة.

فما في المدارك من الاستدلال على جواز تملّك ما يوجد في دار الحرب ، بل مطلقا : بأنّ الأصل في الأشياء الإباحة ، والتصرّف في مال الغير إنّما يثبت تحريمه إذا ثبت كون المال لمحترم ، أو تعلّق به نهي خصوصا أو عموما ، والكلّ هنا منتف (٣). انتهى ، ضعيف ؛ فإنّ أصل الإباحة إنّما هو في غير مال الغير ، وأمّا مال الغير فالأصل فيه الحرمة.

وأما قوله : والتصرّف في مال الغير إنّما يثبت تحريمه ؛ إلى آخره ، ففيه : أنّ كونه مال الغير بنفسه دليل على حرمة التصرّف فيه من غير رضا مالكه عقلا ونقلا ، فإنّ معنى الملكيّة كون المال له واختصاصه به ، فإباحة تصرّف الغير فيه واستيلائه عليه على الإطلاق من غير استناد إلى طيب نفس مالكه حقيقة أو حكما ينافي حقيقته ، فيمتنع ثبوتها شرعا إلّا

__________________

(١) عوالي اللآلي ٣ : ٢٠٨ / ٤٩.

(٢) كمال الدين : ٥٢١ ، الاحتجاج : ٤٨٠ ، الوسائل : الباب ١ من أبواب كتاب الغصب ، الحديث ٤.

(٣) مدارك الأحكام ٥ : ٣٧٠.

٦١

بتصرّف من الشارع إمّا في موضوعه بأن ينفي ملكيّة موضوعه ، كما في مال العبد ، بناء على أنّه لا يملك ، أو يجعل للمتصرّف هذا الحقّ كحقّ المارّة والمولى على العبد ، بناء على أنّه يملك ، والمسلمين على الكفّار حيث جعلهم وما في أيديهم فيئا للمسلمين ، أو يرخّصه فيه من باب الولاية على المالك ، وإلّا فالتصرّف فيه ظلم وعدوان ؛ إذ لا معنى للظلم والعدوان الذي قضى ضرورة العقل والشرع بحرمته إلّا مزاحمة الغير في ما هو له لا عن استحقاق.

واحتمال استحقاقه له كما في المارّة ، أو عدم استحقاق مالكه للتصرّف فيه ، وكون ملكيّته صوريّة في الواقع وفي نظر الشارع ، كما في مال العبد ، كاحتمال كونه مأذونا من قبل المالك أو الشارع من باب الولاية ممّا لا يلتفت إليه في مقابل الأصول والقواعد المعتبرة في الشريعة.

والحاصل : أنّ ما جرى عليه يد الغير يحكم بملكيّته له بمقتضى اليد ، وقضية ملكيّته له حرمة تصرّف غيره فيه حتّى يثبت جوازه ، فلا يبقى حينئذ مجال لجريان أصالة عدم الاحترام في المال المذخور قصدا إلّا أنّ الملكيّة علاقة اعتباريّة عرفيّة يدور أحكامها مدار بقاء تلك العلاقة عرفا ، كما في النسب ، فعند انقطاعها عن صاحبها إمّا اختيارا ، كما في صورة الإعراض ، أو قهرا ، كما في ما يوجد في البلاد الخربة في الأعصار القديمة ممّا لا يحفظ إضافته إلى مالك مخصوص إمّا لهلاكه أو ضياع النسبة بحيث لو وجده مالكه لا يرى اختصاصه به ولا يحفظ نسبته إليه بواسطة الاضمحلال لا اشتباهه عليه ، فحينئذ يعامل مع ذلك المال في العرف والعادة معاملة المباحات الأصليّة ، كما يقضي بذلك استقرار سيرة العقلاء قاطبة عليه ، فضلا عن المتشرّعة ، ولذا استقرّت السيرة على حيازة الآثار الباقية في البلاد القديمة ، المعلوم كونها للمسلمين ، مثل

٦٢

الكوفة ونحوها ممّا يوجد فيها من آثار بني أميّة وبني العبّاس ونظرائهم ممّن يحكم ظاهرا بإسلامهم ؛ فإن أحدا من المتشرّعة لا يتوقّف في تملّك ما بقي من آثارهم من الأحجار والأخشاب والكنوز وغيرها.

ويؤيّده أيضا ، بل يشهد له : الأخبار الواردة في الكنز ونحوه ، فإنّها وإن لم تكن مسوقة لبيان الحكم من هذه الجهة ، ولكنّه يفهم منها مفروغيّة صيرورة الكنز ملكا لواجده عند حيازته على حسب ما جرت العادة في تملّكه.

ويشهد له أيضا : عموم ما دلّ على حيازة المباحات ، مثل : (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له) (١) إذ ليس المقصود به عدم سبقه إليه أصلا ، وإلّا لم يجز التمسّك به في كثير من الموارد التي استدلّ به الأصحاب ، بل المقصود به كونه بالفعل بلا مالك عرفا ، فيعمّ مثل المقام.

وكون مثل هذه الأشياء في الواقع ملكا للإمام ـ على القول به ـ غير ضائر ؛ فإنّ مثل هذه العمومات أمّا إذن من الإمام ـ عليه‌السلام ـ ، أو إمضاء لما في أيدي الناس من معاملة المباحات في مثل هذه الأمور ولو من باب الإرفاق والتوسعة على شيعته.

والحاصل : أنّ الأموال التي ليس لها مالك معروف على قسمين :قسم يعدّ في العرف بلا مالك بحيث لو سئل عن مالكه ، يقال : بأنّه لا مالك له ، كالأمثلة المزبورة.

وقسم لا يسلب عرفا إضافته إلى مالك ، بل يقال : إنّ مالكه غير معروف ، فهذا القسم إمّا لقطة إن كان المال ضائعا على مالكه ، وإلّا

__________________

(١) عوالي اللآلي ٣ : ٤٨ / ٤.

٦٣

فمجهول المالك ، وحكمهما وجوب التعريف كما تقرّر في محلّه.

وأمّا القسم الأوّل : فمقتضى الأصل جواز التصرّف وتملّكه بالحيازة التي هي من الأسباب المملّكة للمباحات شرعا وعرفا ، ولا يجري فيه أصالة الاحترام ، أي : استصحاب حرمته (١) الثابتة له حال استيلاء (يد الغير عليه) (٢) لمن لم يثبت له إباحته ؛ فإنّ مستند تلك الحرمة إن كان العقل وبناء العقلاء ، فموردهما حال عدم قصور يد المالك ، وتمكّنه من استيفاء حقّه منه لا مطلقا ، وإن كان الأدلّة السمعيّة الدالّة على عدم جواز التصرّف في مال الغير إلّا عن طيب نفسه ، فقد تبدّل الموضوع ؛ لأنّ وصف المملوكيّة للغير من مقوّماته وقد انتفى في الفرض بشهادة العرف.

واحتمال عروض ملكيّة جديدة مقتضية لحرمة التصرّف فيه منفيّ بالأصل.

هذا ، مضافا إلى ما تقدّمت الإشارة إليه من شهادة السيرة وقضاء الأدلّة بالجواز.

وفي خصوص الكنز أيضا : الصحيحتين المتقدّمتين (٣) (٤).

فلا ينبغي الاستشكال في أنّ من وجد كنزا هو من هذا القبيل ، كما هو منصرف كلمات الأصحاب والأخبار ، سواء كان في أرض الكفّار أو المسلمين ممّا ليس له مالك مخصوص عدا الإمام ـ عليه‌السلام ـ ولو مع العلم بجريان يد مسلم عليه في الأعصار القديمة ، فضلا عمّا لو كان عليه

__________________

(١) في الطبعة الحجرية : الحرمة.

(٢) بدل ما بين القوسين في الطبعة الحجرية : اليد عليه.

(٣) كذا في النسخة الخطية المعتمدة في التحقيق ، وفي الطبعة الحجرية.

(٤) تقدّمتا في ص ٥٩.

٦٤

مجرّد أثر الإسلام ، الذي هو أعمّ من ذلك ، يملكه الواجد ويخرج خمسه ، وكذا لو وجده في أرض مملوكة له بإحياء ونحوه ، كما هو واضح.

(و) أمّا (لو وجده في ملك) له (مبتاع) مثلا ، أي منتقل إليه من غيره ببيع ونحوه ، ففي محكي المنتهى والتذكرة والمسالك (١) وغيرها (عرّفه البائع ، فإن عرفه فهو أحق به) وإلّا فالمالك الذي قبله ، وهكذا ، بل في الجواهر : لا أجد فيه خلافا بيننا (٢).

واستدلّ عليه في محكي المنتهى تارة : بأنّ يد المالك الأوّل على الدار يد على ما فيها ، واليد قاضية بالملك. واخرى : بوجوب الحكم له لو ادّعاه إجماعا قضاء لظاهر يده.

ونوقش فيه : بأنّه لو تمّ لدلّ ـ كصحيحتي محمّد بن مسلم ، السابقتين (٣) ـ على كونه له من غير تعريف ، بل وجب الحكم به ولو لم يكن قابلا للادّعاء كالصبي والمجنون والميّت ، فيدفع إلى ورثته إن عرفوا ، وإلّا فإلى الإمام ـ عليه‌السلام ـ ، مع أنّهم لا يقولون به.

ويمكن دفعه : بأنّ هذا النحو من اليد التبعيّة غير المستقلّة لا يتمّ ظهورها في الملكيّة لصاحب اليد إلّا بضميمة الادّعاء ، خصوصا مع ظهور فعله ـ وهو نقل الدار ـ في عدم اطّلاعه بما هو مدفون فيها ، وليس اعتبار اليد تعبّديّا محضا ؛ كي يقال : إنّها إن كانت معتبرة فمقتضاها ما ذكر ، وإلّا فلا عبرة بها ، بل عمدة مستندها بناء العقلاء ، وإمضاء الشارع على حسب ما جرت سيرتهم عليه ، وهم لا يرون لليد السابقة ـ الغير الباقية

__________________

(١) حكاه عنها صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٣١ ، وراجع : منتهى المطلب ١ : ٥٤٦ وتذكرة الفقهاء ٥ : ٤١٤ ، المسألة ٣١٢ ، ومسالك الأفهام ١ : ٤٦١.

(٢) جواهر الكلام ١٦ : ٣١.

(٣) سبقتا في ص ٥٩.

٦٥

بالفعل بالنسبة إلى مثل هذه الأموال التي لم يحرز استيلاء صاحب اليد عليها إلّا بمحض حصولها في ملكه وسلطنته عليها بالتبع لا على سبيل الاستقلال ، خصوصا مع ظهور فعله في ما ينافي ملكيّته لها ـ اعتبارا أزيد من قبول ادّعائه للملكيّة ، وتقديم قوله على قول خصمه في مقام التداعي ، وعدم جواز التعويل على أصالة عدم مملوكيّتها له ، الملحقة لها بالمباحات الأصليّة أو اللقطة أو مجهول المالك ـ على الخلاف الآتي ـ إلّا بعد الفحص والسؤال عنه.

هذا ، مع أنّ الالتزام بوجوب الحكم بكونه له من غير تعريف إلى آخر ما ذكر أمر هيّن ، ولم يعلم عدم التزامهم به ؛ فإنّ مرادهم بوجوب تعريف المالك : الوجوب الشرطي ، أي : اشتراط جواز تملّكه ، أو غير ذلك ممّا ذكروه.

ولا ينافيه حكمهم : بأنّه إن لم يعرّفه المالك فهو لواجده ، أو لقطة أو غير ذلك ؛ فإنّه جار مجرى العادة من الملازمة بين جهلهم به ، وعدم كونه ملكا لهم في العادة.

وفرض ثبوت المالك وانتقاله إلى ورثته الذين يمكن جهلهم به عادة خارج عن منصرف كلماتهم.

وكيف كان ، فالالتزام بما ذكر ليس بمستنكر ؛ كي يناقش في الدليل المزبور بذلك.

ولذا قال في الجواهر بعد أن استدلّ بهذا الدليل للمدّعى : بل قد يدّعى أنّه محكوم بملكيّته له ما لم ينفه عن نفسه من غير حاجة إلى دعواه إيّاه ، كما عساه يومئ إليه صحيحتا ابن مسلم السابقتان (١). انتهى ، وإن

__________________

(١) جواهر الكلام ١٦ : ٣١.

٦٦

كان الأظهر خلافه ؛ لما أشرنا إليه من عدم مساعدة الأدلّة على اعتبار مثل هذه اليد في أزيد ممّا ذكر.

نعم قد يتّجه الحكم بكونه مملوكا لصاحب اليد ما لم ينفه عن نفسه في ما لو كانت يده فعليّة ، كما لو وجده في دار الغير ؛ فإنّ الأظهر وجوب دفعه إليه ما لم ينفه عن نفسه ، بل وإن نفاه أيضا ما لم يعرف له مالك غيره بالفعل على أحد الوجهين الآتيين في مسألة ما لو وجد كنزا في ملك الغير.

وصحيحتا محمّد بن مسلم السابقتان (١) إنّما وردتا في هذا الفرض ، حيث قال ـ عليه‌السلام ـ في إحداهما : «إن كانت ـ أي الدار التي وجد فيها الورق ـ معمورة فيها أهلها فهي لهم» الحديث.

وفي الأخرى : «إن كانت معمورة فهي لأهلها» الحديث ، فالاستيناس بهما لما نحن فيه ، فضلا عن الاستشهاد بهما له في غير محلّه ، وسنشير إلى ما يصلح فارقا بين المقامين في المسألة الآتية إن شاء الله.

وقد يناقش في اقتضاء الدليل المزبور الترتيب المذكور للتعريف بالنسبة إلى الأيادي السابقة ، نظرا إلى تساوي الجميع في عدم اليد لهم وقت التعريف كمساواتهم فيها قبله ، وقرب زمان يد أحدهم من يد المعرّف لا يقتضي ترجيحه على غيره.

ويدفعه : أنّ قضيّة اعتبار اليد هو ترجيح اليد السابقة على القديمة ، وكون حال كلّ يد بالنسبة إلى سابقتها حال الأصل بالنسبة إلى الدليل.

ومن هنا يتّجه تقديم قوله في مقام التداعي ، وسرّه أنّ من كان يده على شي‌ء بالفعل مهما ألغى يده ونفي عن نفسه ملكيّة ذلك الشي‌ء فقد

__________________

(١) سبقتا في ص ٥٩.

٦٧

أحيا يد من تلقّاه منه ، وجعل يده بمنزلة إدامة تلك اليد ، كما لو أقرّ بأنّ استيلاءه على بعض الدار التي تلقّاه من «زيد» وهو من «عمرو» وهو من «خالد» أو جميعها ليس عن استحقاق ؛ فإنّه يحكم كونه بالفعل لـ «زيد» ، كما أنّه لو اعترف «زيد» أيضا بذلك يحكم بكونه لـ «عمرو» ، وهكذا ، كما لا يخفى.

واستدلّ شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ لوجوب تعريف البائع ـ بعد أن نفى الخلاف عنه ظاهرا ـ بما دلّ على وجوب تعريف ما وجد في بعض بيوت مكّة ، وما وجد في جوف الدابّة (١).

وهو موثّقة إسحاق بن عمّار ، الواردة في الأوّل ، قال : سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن رجل نزل بعض بيوت مكّة فوجد نحوا من سبعين درهما مدفونة ، فلم تزل معه ولم يذكرها حتّى قدم الكوفة كيف يصنع؟قال : «يسأل عنها أهل المنزل لعلّهم يعرفونها» قلت : فإن لم يعرفوها؟ قال :«يتصدّق بها» (٢).

وصحيحة عبد الله بن جعفر ، الواردة في الثاني ، قال : كتبت إلى الرجل ـ عليه‌السلام ـ أسأله عن رجل اشترى جزورا أو بقرة للأضاحي ، فلمّا ذبحها وجد في جوفها صرّة دراهم أو دنانير أو جواهر ، لمن يكون ذلك؟ فوقّع ـ عليه‌السلام ـ «عرّفها البائع ، فإن لم يكن يعرفها فالشي‌ء لك رزقك الله إيّاه» (٣).

وفيه ما أشرنا إليه من أنّ موضوع البحث في هذا المقام ـ على ما

__________________

(١) كتاب الخمس للشيخ الأنصاري : ٥٢٧.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٩١ / ١١٧١ ، والوسائل : الباب ٥ من أبواب كتاب اللقطة ، الحديث ٣.

(٣) الكافي ٥ : ١٣٩ / ٩ ، التهذيب ٦ : ٣٩٢ / ١١٧٤ ، الوسائل : الباب ٩ من أبواب كتاب اللقطة ، الحديث ١.

٦٨

ينصرف إليه إطلاق النصوص والفتاوى ، ويومي إليه تفصيلهم بين ما لو كان عليه أثر الإسلام وعدمه ـ إنّما هو الكنوز التي توجد تحت الأرض ممّا لا يرى العرف اختصاصه بشخص ، بل يقال لها : مال بلا مالك ، فالخبران أجنبيّان عمّا نحن فيه ؛ فإنّ موردهما من قبيل مجهول المالك.

أمّا الأخير فواضح ؛ ضرورة عدم الفرق في ذلك بين ما لو وجد الصرّة في جوف الدابة ، أو في حلقها ، أو على ظهرها أو في الأرض في كونها في العرف مالا لا يعرف صاحبه ، فحكمه ـ لولا النص الخاصّ ـ وجوب التعريف مطلقا ، كنظائره ، ثمّ التصدّق أو التملّك بشرط الضمان أو غير ذلك ممّا فصّل في محلّه ، ولكن نلتزم في مورد النصّ بمفاده ؛ للنصّ.

وأمّا الأوّل فكذلك ؛ ضرورة أنّ الدراهم التي يجدها النازل ببعض بيوت مكّة في أوقات الحجّ ونحوها ليست بحسب العادة من قبيل الكنز الذي هو محلّ الكلام ؛ فإنّ العادة قاضية بأنّ مثل هذا الشخص لا يفحص عن عروق الأرض ومواضعها التي يمكن أن يوجد فيها مثل هذا الكنز ، بل يجدها مدفونة في زاوية البيت ونحوها من المواضع التي يعلم عادة بأنّها إمّا للنازلين بهذا البيت ، أو لأهل المنزل على أبعد الاحتمالين في مثل هذه المنازل المعدّة لنزول الحجّاج وغيرهم.

وكيف كان ، فلا ينبغي التأمّل في كون مورد النصّ من قبيل المال المجهول المالك الذي حكمه بمقتضى الأصل الذي قرّرناه في صدر الكلام : حرمة التصرّف فيه إلّا على الوجه المقرّر في الشريعة وهو حفظه مع التعريف ، والفحص عن صاحبه ، ومع اليأس عنه إمّا التصدّق أو غير ذلك ممّا ذكر في محلّه ، كما يفصح عن ذلك أمر الإمام ـ عليه‌السلام ـ

٦٩

بالتصدّق بعد التعريف (١).

ولا ينافيه قصر التعريف على أهل المنزل ؛ فإنّ في قوله ـ عليه‌السلام ـ : «لعلّهم يعرفونها» (٢) إشعارا ، بل دلالة على وجوب تعريف كلّ من يحتمل معرفته ممّن يمكن السؤال عنه ، إلّا أنّ ما يوجد مدفونا في بيوت مكّة لو لم يعرفه أهل المنزل الذي قد يراد منه الأعمّ من مالكه والأشخاص النازلين فيه معه ممّن يعرفهم لحصل غالبا اليأس عن الاطّلاع على صاحبه ، فعليه حينئذ إمّا التصدّق أو غير ذلك ممّا هو مدوّن في محلّه.

وقد يستدلّ أيضا لوجوب التعريف : بالإجماع ، وقضيّة ذلك : قصره على القدر المتيقّن من معقده ، وهو خصوص من انتقل الملك عنه إليه بلا واسطة ؛ إذ لم يتحقّق الإجماع بالنسبة إلى من عداه ؛ لإمكان أن يكون مراد المصنّف وغيره ممّن عبّر كعبارته خصوص من ابتاع منه بلا واسطة ، بل هذا هو منصرف لفظه.

وحمل لفظ «البائع» الواقع في كلامهم على إرادة الجنس تأويل بلا داعي ، بعد فرض انحصار مدرك الحكم في الإجماع ، كما أنّا لو عوّلنا في ثبوته على الخبرين السابقين ، لكان مقتضاه ذلك ، إلّا أن يستشعر من الخبر الثاني وجوب تعريف كلّ من يحتمل ملكيّته له بالتقريب المتقدّم ، فلا يختصّ حينئذ بخصوص من جرى يده على الدار ، بل كلّ من أمكن أن يكون ذلك مملوكا له وإن كان أجنبيّا ، إلّا أن ينفى وجوبه بالنسبة إلى من عداهم بالإجماع ، وكيف كان فالعمدة ما عرفت.

وملخّصه بتقريب آخر أسلم من الخدشة : أنّ مقتضى الأصل في ما

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في صفحة ٦٨ الهامش ٢.

(٢) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في صفحة ٦٨ الهامش ٢.

٧٠

جرت عليه يد الغير التي لم يعلم عدم احترامها شرعا : حرمة التصرّف فيه حتّى يعلم انقطاع علاقته عنه وعدم اختصاصه به بالفعل ، كما في الآثار الباقية في البلاد الخربة من أهل الأعصار القديمة ممّا ليس لأحد علاقة اختصاص بها بحيث تعدّ عرفا مالا (١) بلا مالك ، ويعامل معها في العرف والعادة معاملة المباحات ، وأمّا في مثل هذه الآثار فمقتضى الأصل وغيره ـ ممّا تقدّمت الإشارة إليه ـ جواز التصرّف فيه وتملّكه بالحيازة.

فالكنز الذي يوجد تحت الأرض إن علم كونه من تلك الآثار ولم يتجدّد عليه يد لم ينقطع علاقتها ولو بحكم الأصل هو من هذا القبيل ، يجوز تملّكه بالحيازة ، سواء كان عليه أثر الإسلام أم لم يكن ، من غير فرق بين أن يجده في الأراضي غير المملوكة لشخص خاصّ أو في أرضه التي ملكها بالإحياء ، أو الشراء ، أو غير ذلك ، بل وفي ملك الغير أيضا على أحد الاحتمالين الآتيين.

وأمّا إن لم يعلم ذلك بأن احتمل حدوثه أو حدوث يد مستقلّة عليها في هذه الأعصار ، وكان في الأراضي المباحة ونحوها ممّا لا يد لأحد عليها بالفعل ، ولم يكن الكنز محفوفا بأمارات الحدوث من حيث السكّة ونحوها بحيث يعدّ عرفا من قبيل المال المجهول المالك فهو أيضا كذلك ؛ إذ لا يعتنى بشي‌ء من الاحتمالين لدى العرف والعقلاء.

أمّا الأخير : فواضح ؛ لمخالفته للأصل.

وأمّا الأوّل : فالأصل فيه وإن كان معارضا بأصالة عدم حدوثه في الأعصار المتقدّمة ، مع أنّه لا يجدي في إثبات كونه من أهل الأعصار السابقة ممّن انقطعت علاقته عنه ؛ كي يرفع اليد بواسطته عن

__________________

(١) ورد في النسخة الخطية الطبعة الحجرية : مال. والصحيح ما أثبتناه

٧١

استصحاب بقاء علاقة واضعه ؛ إذ لا اعتماد على الأصول المثبتة ، ولكن لأجل مخالفة هذا الاحتمال للظاهر حيث إنّ كونه مذخورا في مثل هذه الأراضي التي لا يد لأحد من أهل العصر عليها بالفعل أمارة عدم اختصاصه بهم ، فلا يراه العرف بالفعل مملوكا لشخص ، بل يرونه بلا مالك ، ولا يعتنون بهذا الاحتمال ، وقد أشرنا إلى أنّ هذا هو الملاك في جواز حيازته ، بل هذا هو القدر المتيقّن من الكنز الذي فهم إجمالا من الأدلّة الشرعية جواز حيازته ؛ إذ قلّما يوجد كنز لا يتطرّق فيه هذا الاحتمال ولو بعيدا ، كما لا يخفى.

وأما لو وجد في مكان تواردت عليه أيادي أشخاص خاصّة محصورة ، فحاله بالنسبة إلى من عدا هذه الأشخاص ـ ممّن احتمل كونه ملكا له ، وكونه موضوعا في هذا المكان بوضعه ـ كما عرفت من عدم اعتبار العرف والعقلاء باحتماله.

وأمّا بالنسبة إلى هذه الأشخاص فلا يساعد العرف على إلغاء احتمال حصوله بفعلهم ، بل ولا على إلغاء احتمال حدوث استيلائهم عليه ؛ كي يرونه مالا بلا مالك ؛ لأنّ كونه كذلك موقوف على سلب إضافتهم عن هذه الأشخاص ، وهو مخالف لقواعد اليد ؛ لأنّ مقتضاها الحكم بكون المال الموضوع في موضع ملكا لمالك هذا الموضع ولو بضميمة ادّعائه ، فلا يصحّ للأجنبي وضع يده عليه ما لم يعلم بانقطاعه عنهم.

فما في المدارك من أنّه يمكن المناقشة في وجوب تعريفه لذي اليد السابقة إذا احتمل عدم جريان يده عليه ؛ لأصالة البراءة من هذا التكليف ، مضافا إلى أصالة عدم التقدّم (١) ؛ ضعيف ؛ لما أشرنا إليه غير

__________________

(١) مدارك الأحكام ٥ : ٣٧٢.

٧٢

مرّة من أنّ مقتضى الأصل ـ بعد العلم بجريان يد عليه ـ حرمة التصرّف حتّى يعلم انقطاع علاقتها عنه.

وأمّا أصالة عدم التقدّم فهي مجدية في ما لو وقعت الخصومة بين صاحب الأيادي المترتّبة لا في ما إذا أراد الأجنبي أن يضع يده عليه ؛ فإنّ عليه الحكم إجمالا بكونه ملكا لصاحب الأيادي ولو بضميمة ادّعائهم على الترتيب الذي تقتضيه قاعدة اليد ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

فتلخّص ممّا ذكر أنّه يجب عليه أن يعرّف البائع ، بل كلّ من جرت يده عليه في ما سبق ، فإن عرفه ، فهو له (وإن جهله فهو للمشتري) لما أشرنا إليه آنفا من أنّ حاله حينئذ حال غيره ممّا يوجد في أرض مباحة ، وقد عرفت أنّ الأظهر صيرورته ملكا لواجده (وعليه الخمس) والقول بكونه لقطة على تقدير أن يكون عليه أثر الإسلام من سكّة ونحوها ـ كما ربّما يظهر من غير واحد ، بل لعلّه المشهور ـ ضعيف.

وأمّا لو وجده في ملك الغير ، فقال شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ :الظاهر أنّ حكمه بعد الأخذ كما تقدّم في ما لو وجده في ما انتقل إليه بالبيع من وجوب تعريف المالك ، فإن لم يعرفه فهو له (١) ؛ وربّما يظهر ذلك من غيره أيضا.

وحكي عن الخلاف أنّه قال : إذا وجد ركازا في ملك مسلم أو ذمّي فلا يتعرّض له إجماعا. (٢) انتهى.

وقد حمله شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ على إرادة الحكم التكليفي

__________________

(١) كتاب الخمس للشيخ الأنصاري : ٥٦١.

(٢) كما في كتاب الخمس للشيخ الأنصاري : ٥٦١ ، وراجع : الخلاف ٢ : ١٢٣ ، المسألة ١٥٠.

٧٣

المحض ، وقال : وحينئذ فيمكن أن يكون ما ذكروه من الحكم بوجوب التعريف بعد حصوله بيد الواجد إمّا معصية أو اتّفاقا (١).

ولكنّك خبير بأنّ حمل كلام الشيخ المحكي عن الخلاف على إرادة محض التكليف بعيد عمّا ينسبق إلى الذهن من كلماتهم في نظائر المقام.

اللهمّ إلّا أن يكون في كلماته شواهد عليه ، أو يكون هو أيضا ممّن ذكر الحكم بوجوب التعريف في المقام ؛ كي يكون شاهدا على التأويل ، وإلّا فظاهر هذه العبارة المحكية عنه عدم جواز تملّكه بمعنى عدم نفوذه مدّعيا عليه الإجماع.

وكيف كان فلا شبهة في أنّه يحرم عليه أخذه من ملك الغير ما لم يكن راضيا بتصرّفه فيه ، كما أنّه لا شبهة في أنّه بعد الأخذ أيضا لا يجوز له تملّكه من غير أن يعرّف من وجده في ملكه ، وأنّه لو ادّعاه يجب دفعه إليه.

وإنّما الإشكال في أنّه ـ [هل] (٢) يجب على الواجد دفعه إلى مالك الأرض مطلقا ما لم يعلم بسلبه عنه أم له حيازته لدى جهل المالك بحاله؟ وكذلك في تكليف المالك من أنّه هل يجوز له أخذه من الواجد لدى جهله بحاله أم لا؟أمّا حكم المالك ؛ فإنّه إمّا عارف بحال الكنز ، وأنّه بالفعل ملك له ، وأنّه حاصل بوضعه أو وضع غيره ممّن انتقل إليه بإرث ونحوه ، فحكمه حينئذ واضح.

وإمّا أنّه جاهل بحاله ، ولكنّه يحتمل حصوله بفعله وعروض النسيان

__________________

(١) كتاب الخمس للشيخ الأنصاري : ٥٦٢.

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

٧٤

له ، وإمّا أنّه لا يحتمل ذلك ، بل يعلم بأنّه لم يحصل بفعله أو فعل غيره ممّن انتقل إليه بإرث ونحوه ، ولكنّه لا يعلم بأنّه هل هو حادث في ملكه بفعل الغير أو أنّه من الكنوز القديمة الباقية في ملكه ممّا هو ملحق بالمباحات الأصلية ، وقد أشرنا ـ في ما سبق ـ إلى أنّ احتمال حدوث مثل هذا الكنز بفعل الغير ما لم يكن عليه أثر الحدوث الموجب لإلحاقه بمجهول المالك غير معتنى به شرعا وعرفا ، فحكم هذه الصورة أيضا حكم ما لو علم بأنّه من الكنوز القديمة التي لم يجر عليها يد استقلاليّة حادثة.

فالكلام حينئذ يقع في أنّ مثل هذا الكنز ونظائره ممّا هو بالفعل من المباحات الغير المملوكة لأحد هل هو كأجزاء الأرض وتوابعها يدخل في ملك من ملك الأرض بإحياء أو شراء ونحوه ، أو أنّه باق على إباحته؟فيجوز لكلّ أحد تملّكه بالحيازة.

وسنشير في مسألة ما لو وجد درّة في جوف سمكة أنّ القول بالتبعيّة المانعة عن جواز حيازة الأجنبي لا يخلو عن وجه ، كما ربّما يؤيّده إطلاق قوله ـ عليه‌السلام ـ في صحيحتي محمّد بن مسلم المتقدّمتين (١) : «إن كانت ـ أي الدار ـ معمورة فيها أهلها فهي لهم» فعلى هذا لا إشكال في أنّه يجب على الواجد دفعه إلى المالك مطلقا إلّا أن يعلم بأنّه بالفعل ملك لغيره ، فيجب صرفه حينئذ إلى ذلك الغير ، وليس له تملّكه على أيّ تقدير.

وأمّا إن نفينا التبعيّة ، وقلنا ببقائه على إباحته فيتّضح حكم هذه الصورة من أنّه ليس للمالك أخذه من الواجد بعد أن وجده وحازه ناويا به التملّك ، فيبقى الإشكال حينئذ في ما لو كان جاهلا بحاله واحتمل حصوله بفعله وعروض النسيان له ، فيندرج في موضوع المسألة الباحثة

__________________

(١) تقدّمتا في صفحة ٥٩.

٧٥

عمّا لو وجد في داره شيئا لم يعلم بأنّه له ، فهل يحكم بكونه له بمقتضى يده على الدار ، أم بعدمه كما يقتضيه الأصل ، ويشهد به أيضا رواية (١) واردة فيه ، أو التفصيل بين ما لو احتمل كونه بوضعه اختيارا ، وعرض له النسيان ، وبين غيره ممّا كان حصوله في هذا المكان على تقدير كونه له بغير اختياره ، كما لعلّه مورد النصّ؟ وجوه ، تحقيقها موكول إلى محلّه من كتاب اللقطة.

وأمّا الواجد ، فإن قلنا بأنّه يجوز له تملّكه على تقدير كونه من الكنوز القديمة التي لم يجر عليها يد حادثة استقلاليّة ، فهل يجب عليه ما لم يحرز كونه كذلك الحكم بكونه ملكا لصاحب الدار حتى يتبيّن خلافه كسائر ما يجده تحت يده من أثاث بيته ونحوه ، أو أنّ حاله حال ما لو وجده في ملك مبتاع له في أنّ يده لضعفها لا دلالة لها على الملكيّة في مثل هذه الأشياء إلّا بضميمة الادّعاء؟ وجهان ، لا يخلو أوّلهما عن وجه ؛ إذ الظاهر أنّ اعتبار اليد الفعليّة ليس من باب محض الكاشفيّة والظهور النوعي ، كما في اليد القديمة المنقطعة ، بل هي كأصالة الصحّة في عمل الغير وفي أفعاله الماضية قاعدة عقلائية مقرّرة في الشريعة مبناها إيكال أمر ما هو تحت تصرّف الغير إلى ذلك الغير ، وحمل تصرّفه على كونه صحيحا ناشئا عن استحقاقه له ، وعدم الفحص والتفتيش عنه حتّى يتبيّن خلافه ، فليتأمّل.

(وكذا) يجب تعريف البائع (لو اشترى دابة ووجد في جوفها شيئا له قيمة) فإن عرفه فهو له ، وإلّا فهو للمشتري وعليه الخمس.

__________________

(١) راجع الكافي ٥ : ١٣٧ / ٣ ، والفقيه ٣ : ١٨٧ / ٨٤١ ، والتهذيب ٦ : ٣٩٠ / ١١٦٨ ، والوسائل :الباب ٣ من أبواب كتاب اللقطة ، الحديث ١.

٧٦

أمّا وجوب تعريف البائع ، وأنّه إن لم يعرفه فهو للمشتري : فيدلّ عليه صحيحة عبد الله بن جعفر قال : كتبت إلى الرجل أسأله عن رجل اشترى جزورا أو بقرة للأضاحي فلمّا ذبحها وجد في جوفها صرّة دراهم أو دنانير أو جواهر لمن يكون ذلك؟ فوقّع ـ عليه‌السلام ـ «عرّفها البائع ، فإن لم يكن يعرفها فالشي‌ء لك رزقك الله إيّاه» (١).

وقد أشرنا ـ في ما سبق ـ إلى أنّ هذا القسم من المال من قبيل المال المجهول المالك الذي حكمه ـ لولا النصّ الخاصّ ـ وجوب التعريف مطلقا حتّى يحصل اليأس من صاحبه ، ثمّ التصدّق أو غير ذلك ممّا هو مذكور في محلّه ، ولكن نلتزم في المقام بكفاية تعريف البائع ، وأنّه عند جهله به للمشتري ؛ للنصّ (٢) الخاص الوارد فيه.

والظاهر أنّ تخصيص البائع بالتعريف من باب خصوصيّة المورد ، وإلّا فالعبرة بكونه صاحب اليد عليها قبل انتقالها إلى الواجد من غير فرق بين أن يكون انتقالها إليه ببيع أو إرث أو هبة أو غير ذلك ، بل ولا بين أن تكون اليد السابقة حقّة أو عادية ، فلو كانت الدابّة مملوكة له ، ولكن غصبها شخص مدّة طويلة ، ثم ردّه فوجد في جوفها صرّة وجب أن يعرّف ذلك الغاصب لدى احتمال كونها له ، كما هو مقتضى الأصل.

وأما وجوب الخمس عليه : ففي المدارك : قد قطع الأصحاب به ، ولم ينقلوا دليلا عليه ، وظاهرهم اندراجه في مفهوم الكنز ، وهو بعيد ، نعم يمكن دخوله في قسم الأرباح (٣). انتهى.

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٣٩ / ٩ ، الفقيه ٣ : ١٨٩ / ٨٥٣ ، التهذيب ٦ : ٣٩٢ / ١١٧٤ ، الوسائل : الباب ٩ من أبواب كتاب اللقطة ، الحديث ١.

(٢) نفس المصادر.

(٣) مدارك الأحكام ٥ : ٣٧٣.

٧٧

أقول : لا شبهة في عدم اندراجه في مفهوم الكنز لا عرفا ولا لغة ، بل قد عرفت ـ في ما سبق ـ أنّ الكنز الذي هو من هذا القبيل ممّا يعدّ بالفعل عرفا مال مجهول المالك ليس له هذا الحكم ، فثبوت الخمس فيه إنّما يتّجه لو قلنا به في مطلق الفوائد والغنائم ، أو قلنا بدخوله في أرباح المكاسب ، كما يظهر من الحلّي في السرائر حيث قال في باب اللقطة ما لفظه : وكذلك إذا ابتاع بعيرا أو بقرة أو شاة وذبح شيئا من ذلك فوجد في جوفه شيئا أقلّ من مقدار الدرهم أو أكثر عرّفه من ابتاع ذلك الحيوان منه ، فإن عرفه أعطاه إيّاه ، وإن لم يعرفه أخرج منه الخمس بعد مئونة طول سنته ؛ لأنّه من جملة الغنائم والفوائد ، وكان له الباقي ، وكذلك حكم من ابتاع سمكة فوجد في جوفها درّة أو سبيكة وما أشبه ذلك ؛ لأنّ البائع باع هذه الأشياء ولم يبع ما وجد المشتري فلذلك وجب تعريف البائع.

وشيخنا أبو جعفر الطوسي ـ رحمه‌الله ـ لم يعرّف بائع السمكة الدرّة ، بل ملّكها المشتري من دون تعريف البائع.

ولم يرد بهذا خبر من أصحابنا ولا رواه عن الأئمّة أحد منهم ، والفقيه سلّار في رسالته يذهب إلى ما اخترناه ، وهو الذي تقتضيه أصول مذهبنا (١). انتهى.

ولكنّك ستعرف أنّ الالتزام بثبوته في مطلق الفائدة لا يخلو عن إشكال ، وإدراج مثل الفرض على إطلاقه في قسم الأرباح أشكل ، نعم لا يبعد اندراجه فيه لو كان التكسّب مقصورا بأصل الشراء ، والله العالم.

(ولو ابتاع سمكة فوجد في جوفها شيئا أخرج خمسه ، وكان له

__________________

(١) السرائر ٢ : ١٠٦ ، وراجع : النهاية : ٣٢١ ـ ٣٢٢ ، والمراسم : ٢٠٦.

٧٨

الباقي ولا يعرّف.)

أمّا عدم وجوب تعريف غير البائع وإن كان ذلك الشي‌ء مثل الدراهم والدنانير التي عليها أثر الإسلام فضلا عن غيرها ممّا ليس عليه أثر الإسلام أو يتكوّن في البحر مثل الدرّة ونحوها : فيدل عليه الصحيحة المتقدّمة (١) الواردة في ما يوجد في جوف الدابّة بالفحوى.

وأمّا بائع السمكة فليس له خصوصيّة مقتضية لاختصاصه بالتعريف ؛ إذ العادة قاضية بعدم دخوله في جوفها بعد دخولها في ملك البائع ، فلا يتطرّق احتمال كونه من أمواله بمقتضى العادة ، إلّا إذا احتمل كونه كغيره من آحاد الناس ممّن عبر ذلك الماء واحتمل وقوع هذا الشي‌ء منه قبل حيازة السمكة ، ومن الواضح أنّ هذا الاحتمال مع كونه في حدّ ذاته بالنسبة إلى كلّ واحد واحد من آحاد الناس احتمالا غير معتنى به لدى العقلاء ممّا لا يقتضي اختصاص البائع بتعريفه.

وفرض كون السمكة في ماء محصور في ملك البائع خلاف ما ينصرف إليه إطلاق فتاوى الأصحاب ، فحكمه في مثل الفرض حكم ما يوجد في جوف الدابّة ، كما أنّ حكم ما يوجد في جوف الدابّة عند فرض كونها كالسمكة ـ كما لو اصطاد غزالا فباعه ووجد المشتري في جوفه شيئا علم بتقدّمه على الاصطياد ـ حكم السمكة في عدم وجوب تعريفه كما أشار إليهما في الجواهر (٢).

وحكي (٣) عن العلامة في التذكرة الميل إلى إلحاق السمكة بالدابّة في

__________________

(١) تقدّمت في صفحة ٧٧.

(٢) جواهر الكلام ١٦ : ٣٧ ـ ٣٨.

(٣) كما في جواهر الكلام ١٦ : ٣٨ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٣٧٤ ، وراجع :تذكرة الفقهاء ٢ : ٢٦٥ (الطبعة الحجرية).

٧٩

تعريف البائع مطلقا ؛ لأنّ القصد إلى حيازتها يستلزم القصد إلى حيازة جميع أجزائها ، وما يتعلّق بها.

وفيه : أنّ البائع أيضا لم يقصد بالبيع إلّا شراء هذه الجملة التي ملكها الحائز بالحيازة ، وعرضها للبيع ، فإن كان هذا القصد التبعي مقتضيا لدخوله في ملك المحيز بالحيازة ـ كما هو الحقّ ـ فكذلك يقتضي خروجه عن ملكه وانتقاله إلى المشتري بالبيع ، فليست الملكيّة الناشئة من هذا السبب ما لم يستقلّ ذلك الشي‌ء بالملاحظة والقصد إلّا ملكيّة تبعيّة غير مؤثّرة إلّا في إجراء أحكام المتبوع عليه ، كصيرورته جزءا من المبيع عند إرادة نقله بالبيع ، وتعيين وزنه ، وجعل الثمن في مقابل المجموع ، وحرمة استيلاء الأجنبي عليه عدوانا كسائر أجزاء المبيع وغير ذلك ، كما في التراب المستهلك في الحنطة ، أو الموجود في عروق الحشيش ، والحطب الذي يحوزه وينقله إلى الغير ببيع ونحوه.

فليس حال هذا النحو من الأموال ـ التي منها المعادن المتكوّنة في باطن الأرض المملوكة لشخص خاصّ ما لم تكن بعنوانها الخاصّ معروضة للملكيّة ؛ كي تستقلّ بالموضوعيّة لأحكامها الخاصّة التي منها سببيّتها للغرر والغبن ، وعدم تبعيّتها للمبيع في الانتقال إلى المشتري ـ إلّا حال المعاني الحرفيّة لا استقلال لها بالملاحظة إلّا تبعا لمتعلّقاتها.

والحاصل : أنّ هذه الملكيّة التبعيّة ـ إن سلّمناها ، كما هو الحقّ ـ غير مقتضية لتعريف البائع ، وإنّما المقتضي له احتمال كونه بخصوصه مملوكا له لا بالتبع ، وهذا الاحتمال غير معتنى به في ما يوجد في جوف السمكة ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، فلا يوجب ذلك إلحاق السمكة بالدابّة في تعريف البائع.

اللهمّ إلّا أن يقال : بأنّ جريان يده عليها ، وصيرورة ما في جوفها

٨٠