مصباح الفقيه - ج ١٤

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٩

وهذه الرواية صريحة في الترتيب ، وظاهرها الوجوب ، ولكن رفع اليد عن هذا الظاهر بالحمل على الاستحباب أهون من ارتكاب خلاف الظاهر في جميع الروايات السابقة : بحملها على الإجمال والإهمال غير المنافي لاعتبار الترتيب ، خصوصا المستفيضة التي اقتصر فيها على الإطعام أو الصيام ؛ فإنّ حملها على إرادته في خصوص العاجز عمّا عداه مع ما فيها من إطلاق السؤال بعيد في الغاية.

هذا ، مع اعتضاد ظواهر تلك الأخبار بموافقة المشهور ومخالفة الجمهور.

وقد حمل في الحدائق خبر علي بن جعفر على التقية (١) ؛ وحملها على الاستحباب أشبه بالقواعد.

حجّة القول بالتفصيل بين الإفطار بالمحرّم والمحلّل : رواية عبد السّلام ابن صالح الهروي ـ الموصوفة بالصحيحة في الروضة (٢) وغيرها (٣) ـ عن أبي الحسن الرضا ـ عليه‌السلام ـ ، قال : قلت له : يا ابن رسول الله قد روي عن آبائك في من جامع في شهر رمضان أو أفطر فيه ثلاث كفّارات ، وروي عنهم أيضا كفّارة واحدة ، فبأيّ الحديثين نأخذ؟قال : بهما جميعا ، متى جامع الرجل حراما أو أفطر على حرام في شهر رمضان فعليه ثلاث كفّارات : عتق رقبة وصيام شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكينا ، وقضاء ذلك اليوم ، وإن كان نكح حلالا أو أفطر على حلال فعليه كفّارة واحدة وقضاء ذلك اليوم ، وإن كان ناسيا

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١٣ : ٢٢٠.

(٢) الروضة البهية ٢ : ١٢٠.

(٣) كتحرير الأحكام ٢ : ١١٠.

٤٨١

فلا شي‌ء عليه (١).

وقضية الجمع بينها وبين الأخبار المتقدّمة : تقييد تلك الأخبار بهذه الرواية.

وربما يؤيّده أيضا : ما عن الصدوق في الفقيه ، أنّه قال : وأمّا الخبر الذي روي في من أفطر يوما من شهر رمضان متعمّدا أنّ عليه ثلاث كفّارات ؛ فإنّي افتي به في من أفطر بجماع محرّم عليه أو بطعام محرّم عليه لوجود ذلك في روايات أبي الحسين الأسدي ـ رضي‌الله‌عنه ـ في ما ورد عليه من الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري (٢). انتهى.

ومن الواضح أنّ العمري ـ رضي‌الله‌عنه ـ لا يفتي بذلك من قبل نفسه ، فالظاهر كونه مأخوذا من صاحب الزمان ـ عجّل الله فرجه ـ ، فالقول به لا يخلو عن قوّة وإن كان ارتكاب التقييد في المطلقات الكثيرة الواردة في مقام البيان ، المعتضدة بالشهرة بمثل هذه الرواية المسوقة لتوجيه الأخبار المختلفة التي ليس لها قوة ظهور في إرادة الوجوب لا يخلو عن إشكال.

خصوصا لو أريد بالحرام ما يعمّ الحرام بالعرض ، كالمغصوب ونحوه ، كما صرّح به في الروضة ، حيث قال في شرح عبارة الشهيد ـ رحمه‌الله ـ : لو أفطر على محرّم مطلقا ، فثلاث كفّارات : أصليا كان تحريمه ؛ كالزنا والاستمناء وتناول مال الغير بغير إذنه وغبار ما لا يجوز تناوله ونخامة الرأس إذا صارت في الفم ، أو عارضيّا ، كوطء الزوجة

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٠٩ / ٦٠٥ ، الاستبصار ٢ : ٩٧ / ٣١٦ ، الفقيه ٣ : ٢٣٨ / ١١٢٨ ، الوسائل :الباب ١٠ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ١.

(٢) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٢٦٩ ـ ٢٧٠ ، وراجع : الفقيه ٢ : ٧٣ ـ ٧٤ / ٣١٧.

٤٨٢

في الحيض وأكل ماله النجس (١). انتهى.

ولكنّه لا يخلو عن نظر ؛ فإنّا إن قلنا بهذا التفصيل ، فالمتّجه تخصيص كفّارة الجمع بالجماع المحرّم بالذات أو الإفطار على حرام ذاتي بمعنى أكله وشربه ، كما حكي (٢) عن ظاهر الصدوق ، لا الحرام بالعرض ، كوطء أهله في حال الحيض أو أكل مال الغير بغير إذنه أو الاستمناء ؛ لانصراف النصّ عن الحرام بالعرض ، وعدم شموله للاستمناء ؛ إذ لا يصدق عليه اسم النكاح حقيقة ، فضلا عن انصرافه عنه ، ولا يطلق عليه عرفا أنّه أفطر على الاستمناء ، خصوصا مع جعل الإفطار على الحرام قسيما للنكاح ، فلا يراد منه في مثل هذا الإطلاق بحسب الظاهر إلّا الأكل والشرب.

وأمّا نخامة الرأس فلم تثبت حرمتها ما لم تخرج من الفم ، بل ولا مفسديتها للصوم ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

المسألة (الرابعة : إذا أفطر زمانا نذر صومه على التعيين ، كان عليه القضاء.)

في الجواهر قال : بلا خلاف ولا إشكال ، نصّا وفتوى (٣).

وفي المدارك قال : أمّا وجوب القضاء : فمقطوع به في كلام الأصحاب.

ويدلّ عليه ما رواه الشيخ ـ في الصحيح ـ عن علي بن مهزيار أنّه كتب إلى أبي الحسن ـ عليه‌السلام ـ : يا سيدي رجل نذر أن يصوم يوما من الجمعة دائما ما بقي ، فوافق ذلك اليوم يوم عيد فطر أو أضحى أو

__________________

(١) الروضة البهية ٢ : ١٢٠.

(٢) الحاكي عنه هو الشيخ الأنصاري في كتاب الصوم : ٥٨١.

(٣) جواهر الكلام ١٦ : ٢٧١.

٤٨٣

يوم جمعة أو أيام التشريق أو سفرا أو مرضا ، هل عليه صوم ذلك اليوم أو قضاؤه أو كيف يصنع يا سيدي؟ فكتب إليه : قد وضع الله الصيام في هذه الأيام كلّها ، ويصوم يوما بدل يوم إن شاء الله (١).

ثم قال : ويمكن المناقشة في هذه الرواية من حيث المتن : باشتمالها على ما أجمع الأصحاب على خلافه من تحريم صوم يوم الجمعة ، فتضعف بذلك عن أن تكون حجّة (٢).

أقول : الرواية بهذا المتن مروية عن التهذيب ، ولكن عن الكافي (٣) نقلها بلا لفظ «أو يوم جمعة» فلا يتوجّه عليها المناقشة المزبورة ، مع أنّ وجود هذه الفقرة في الرواية لا يوهنها عن الحجية ؛ لوضوح أنّ وقوعها في كلام السائل : إمّا من باب سبق اللسان ، أو أريد به جمعة معهودة لديهم عدم صحّة الصوم فيها ؛ لعوارض خارجية ، وإلّا فمتعلّق النذر هو صوم يوم الجمعة (٤) ؛ إذ الظاهر أنّ قوله : «من الجمعة» بيان لليوم الذي تعلّق به النذر.

وكيف كان ، فلا يتوجّه الإشكال من هذه الجهة ، ولكن الاستدلال بها للمدّعي موقوف على الالتزام بالقضاء في موردها ، وإلحاق ما نحن فيه به بتنقيح المناط ، فمن لا يقول بالقضاء في ما لو صادف يوم العيد ونحوه ـ كالمصنّف في الكتاب ، كما يأتي في كتاب النذر إن شاء

__________________

(١) التهذيب ٨ : ٣٠٥ / ١١٣٥ ، الإستبصار ٢ : ١٠١ / ٣٢٨ ، الوسائل : الباب ١٠ من أبواب النذر ، الحديث ١.

(٢) مدارك الأحكام ٦ : ٨٥.

(٣) الكافي ٧ : ٤٥٦ / ١٢.

(٤) هذا بناء على نسخة الكافي لا التهذيب ؛ لأنّ فيه «يوما من الجمعة» ويحتمل أن يراد من الجمعة : الأسبوع لا اليوم المعهود.

٤٨٤

الله ـ يشكل عليه الاستدلال بهذه الرواية لما نحن فيه.

مع أنّ إلحاق العامد به قياس. ودعوى القطع بالمناط عهدته على مدّعيه.

والأولى الاستدلال له : بما عن الشيخ والكليني بإسنادهما عن علي بن مهزيار أنّه كتب إليه يسأله : يا سيدي رجل نذر أن يصوم يوما بعينه ، فوقع في ذلك اليوم على أهله ، ما عليه من الكفّارة؟ فكتب ـ عليه‌السلام ـ : يصوم يوما بدل يوم ، وتحرير رقبة (١).

والمناقشة فيه : بالإضمار ؛ بعد وضوح أنّ علي بن مهزيار لا يستفتي عن غير المعصوم ، خصوصا بهذه العبارة التي ليس احتمال إرادة غير المعصوم منه إلّا كاحتمال إرادته من سائر الكنى والألقاب التي يتعارف لديهم إطلاقها على الأئمّة ـ عليهم‌السلام ـ ؛ ممّا لا ينبغي الالتفات إليه.

مع أنّه في الجواهر فسّره بالهادي ـ عليه‌السلام ـ (٢).

وكذا الخدشة في سنده : بأنّ في طريقه محمد بن جعفر الرزّاز ، وهو غير موثّق أيضا ؛ ممّا لا ينبغي الاعتناء به بعد اعتماد الكليني والشيخ عليه ، واشتهار مضمونه بين الأصحاب من غير نقل خلاف فيه عن أحد.

ونحوه خبر القاسم بن الفضيل (٣) ، قال : كتبت إليه : يا سيدي رجل نذر أن يصوم يوما لله ، فوقع ذلك اليوم على أهله ، ما عليه من

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٨٦ / ٨٦٦ ، الإستبصار ٢ : ١٢٥ / ٤٠٧ ، الكافي ٧ : ٤٥٦ / ١٢ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب بقية الصوم الواجب ، الحديث ١.

(٢) جواهر الكلام ١٦ : ٣٢٥.

(٣) في الاستبصار والوسائل : القاسم الصيقل. وفي التهذيب : عن الصيقل.

٤٨٥

الكفّارة؟ فأجاب : يصوم يوما بدل يوم ، وتحرير رقبة مؤمنة (١).

وعن الشيخ بإسناده عن الحسين بن عبده (٢) أيضا نحوه (٣).

ونوقش فيه أيضا : بالإضمار وجهالة القاسم.

وجوابه يظهر ممّا مرّ ، مع اعتضادهما بالرواية الاولى وغيرها ممّا دلّ على القضاء في ما لو فاته بسفر ونحوه ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى ، فلا ينبغي الاستشكال فيه ، كما أنّه لا ينبغي الارتياب في وجوب الكفّارة عليه بمخالفة النذر.

(و) هل هي (كفّارة كبرى) أي : عتق رقبة مؤمنة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا (مخيّرة) كشهر رمضان ، أو أنّها كفّارة يمين؟ قولان ، نسب (٤) أوّلهما إلى المشهور ، بل عن الغنية والانتصار : دعوى الإجماع عليه (٥).

(وقيل : كفّارة يمين) وحكي هذا القول عن الصدوق والمصنّف في النافع (٦). واختاره بعض المتأخّرين كصاحب المدارك (٧) وغيره ، بل

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٨٦ / ٨٦٥ ، الإستبصار ٢ : ١٢٥ / ٤٠٦ ، الوسائل : الباب ٧ من أبواب بقية الصوم الواجب ، الحديث ٣.

(٢) في المصدر : الحسين بن عبيد. أو : عبيدة.

(٣) التهذيب ٤ : ٣٣٠ / ١٠٢٩ ، الوسائل : الباب ٥٦ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٢ ، والباب ٧ من أبواب بقية الصوم الواجب ، الحديث ٢.

(٤) الناسب هو صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٢٧١.

(٥) حكاه عنهما صاحب الرياض فيها ٢ : ٢٠٥ ، وراجع : الغنية (الجوامع الفقهية) : ٥١٠ والانتصار : ٦٩.

(٦) حكاه عنهما العاملي في مدارك الأحكام ٦ : ٨٥ ، وراجع : الفقيه ٢ : ٢٣٢ ، والمختصر النافع : ٢٠٨.

(٧) مدارك الأحكام ٦ : ٨٦.

٤٨٦

في كتاب النذر من الكتاب نسب القول بكفّارة اليمين في مخالفة النذر مطلقا من غير تفصيل بين نذر الصوم وغيره إلى الأشهر (١) مشعرا بميله إليه.

واستدلّ للمشهور : بخبر عبد الملك بن عمرو عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال : سألته عمّن جعل لله أن لا يركب محرّما سمّاه فركبه ، قال : لا ـ ولا أعلمه إلّا قال ـ فليعتق رقبة أو ليصم شهرين متتابعين أو ليطعم ستين مسكينا (٢) فيتمّ في ما عدا مورد النصّ بعدم القول بالفصل.

ومكاتبة علي بن مهزيار والقاسم بن الفضيل المتقدّمتين (٣) ، اللتين ورد فيهما الأمر بعتق الرقبة.

حجّة القول بكفّارة اليمين : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال : سألته عن الرجل يجعل عليه نذرا ولا يسمّيه ، قال : إن سمّيت فهو ما سمّيت ، وإن لم تسمّ فليس بشي‌ء ، فإن قلت : لله عليّ ؛ فكفّارة يمين (٤).

وصحيح علي بن مهزيار ، قال : كتب بندار مولى إدريس : يا سيدي إنّي نذرت أن أصوم كلّ سبت وإن أنا لم أصمه ما يلزمني من الكفّارة؟ فكتب وقرأته لا تتركه إلّا من علّة ، وليس عليك صوم في سفر ولا مرض إلّا أن تكون نويت ذلك ، وإن كنت أفطرت فيه من

__________________

(١) شرائع الإسلام ٣ : ١٩١ ـ ١٩٢.

(٢) التهذيب ٨ : ٣١٤ / ١١٦٥ ، الإستبصار ٤ : ٥٤ / ١٨٨ ، الوسائل : الباب ٢٣ من أبواب الكفّارات ، الحديث ٧.

(٣) تقدّمتا في صفحة ٤٨٥.

(٤) الفقيه ٣ : ٢٣٠ / ١٠٨٧ ، الوسائل : الباب ٢ من أبواب كتاب النذر والعهد ، الحديث ٥.

٤٨٧

غير علّة ، فتصدّق بعدد كلّ يوم على سبعة مساكين ، نسأل الله التوفيق لما يحبّ ويرضى (١) بناء على كون السبعة من سهو النسّاخ بإبدال العشرة بالسبعة.

كما يؤيّده : ما عن الصدوق في المقنع (٢) ـ الذي من شأنه التعبير بمتون الأخبار فيه ـ التعبير بمضمونه مبدّلا للسبعة بالعشرة.

وخبر حفص بن غياث عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال : سألته عن كفّارة النذر ، فقال : كفّارة النذر كفّارة اليمين (٣) وهو بإطلاقه كالصحيح الأول يعمّ نذر الصوم وغيره.

وربما يؤيّده أيضا : أخبار أخر واردة في مطلق النذر يأتي التعرّض لها إن شاء الله تعالى في محلّه.

وأجيب (٤) عن استدلال المشهور ، أمّا عن المكاتبتين : فبأنّهما إنّما تضمّنتا الأمر بتحرير الرقبة ، وهو غير متعين إجماعا ، فكما يحتمل التخيير بينه وبين نوعي الكبرى ، يحتمل التخيير بينه وبين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم ، كما تضمّنته صحيحة الحلبي.

وأمّا عن رواية عبد الملك : فبعد تسليم سندها : بإمكان حملها على الاستحباب ولو في خصوص موردها الذي يناسبه التغليظ في الكفّارة ، فلا تصلح معارضة للنصوص الدالّة على أنّ كفّارته كفّارة اليمين.

هذا ، مع أنّ إقحام قول السائل : ولا أعلمه إلّا قال ؛ ربما يوهن

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٨٦ / ٨٦٧ ، الإستبصار ٢ : ١٢٥ / ٤٠٨ ، الوسائل : الباب ٧ من أبواب بقية الصوم الواجب ، الحديث ٤.

(٢) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٦ : ٨٦ ، وراجع : المقنع (الجوامع الفقهية) : ٣٤.

(٣) الكافي ٧ : ٤٥٧ / ١٣ ، الوسائل : الباب ٢٣ من أبواب الكفّارات ، الحديث ٤.

(٤) المجيب هو العاملي في مدارك الأحكام ٦ : ٨٧.

٤٨٨

دلالتها على المدّعى ؛ لإشعاره أو ظهوره في أنّه صدر من الإمام ـ عليه‌السلام ـ حين مخاطبته في مقام الجواب كلام وراء هذا الذي حفظه الراوي ، فلعلّ ذلك الكلام كان شرطا آخر يترتّب عليه هذا الجزاء ، مثل قوله : إن أراد الفضل أو إن كان في شهر رمضان أو نحو ذلك.

ودعوى : أنّ المتبادر من مثل هذا التعبير إرادة المبالغة والتأكيد ، كقول القائل : لا أعلمه إلّا زيدا ، أو لا أعلمه إلّا قائلا بهذا القول ، أو إلّا فاسقا أو نحو ذلك ؛ لو سلّمت ففي غير المقام ، فإنّ سبق قوله :«لا» مع أنّه بظاهره لا يناسب المقام ممّا يؤيد كونه ملحوقا بكلمة «لم يحفظها الراوي».

وفي الوسائل : نقل في باب الكفّارات عن جماعة من الأصحاب أنّهم جمعوا بين هذه الأخبار : بأنّ المنذور إن كان صوما ، وجب بالحنث كفّارة شهر رمضان ، وإلّا فكفّارة اليمين.

ثم قال : وهو حسن (١). وفي كتاب الصوم أيضا صرّح بوجاهته (٢).

وأنت خبير بأنّه مجازفة محضة ؛ فإنّ عمدة ما يصح الاستدلال به للكفّارة الكبرى هي رواية عبد الملك بن عمرو ، التي موردها النذر على أن لا يركب محرّما ، فالاستشهاد بهذا الخبر لصوم النذر إنّما يتمّ بضميمة عدم القول بالفصل بعد الالتزام به في مورده.

وأمّا ما ورد في خصوص الصوم ، فمنها : مكاتبة بندار ، التي رواها ابن مهزيار (٣) ، وهي صريحة في خلافه.

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٣ من أبواب الكفّارات ، ذيل الحديث ٨.

(٢) الوسائل : الباب ٧ من أبواب بقية الصوم الواجب ، ذيل الحديث ٤.

(٣) تقدّمت في الصفحة ٤٨٧.

٤٨٩

وأمّا المكاتبات الأخر التي ورد فيها الأمر بتحرير رقبة : فقد عرفت أنّه يجتمع مع كلّ من القولين ، ولا ينافي شيئا منهما إن أريد بها الوجوب التخييري أو الاستحباب باعتبار كونه أفضل الأفراد ، وإن أريد به الوجوب العيني فهو مخالف لكليهما ، بل مخالف للإجماع ، كما ادّعاه غير واحد.

نعم ، حكي (١) عن بعض : القول في كفّارة النذر مطلقا ، لا في خصوص نذر الصوم بأنّها كفّارة الظهار.

وعليه يتّجه إبقاء الأمر بالعتق في المكاتبات على ظاهره من الوجوب العيني ، ولكن هذا القول مع شذوذه ممّا لا دليل عليه ، وهذه المكاتبات لا تفي بإثباتها.

مع أنّ مقتضى الجمع بينها وبين سائر الروايات الواردة في كفّارة النذر : حملها على الوجوب التخييري ، كما هو واضح ، فالقول بأنّ كفّارته كفّارة اليمين أشبه بالقواعد ، إلّا أنّ مخالفته للمشهور وموافقته للجمهور على ما حكي عنهم قد تضعّف الاعتماد على الروايات الدالّة عليه.

(و) من هنا قد يقوى في النظر القول (الأوّل) ولكن مع ذلك الأخير (أظهر) فإنّ طرح النصوص المستفيضة مع صحّة بعضها وصراحتها وسلامتها عن معارض مكافئ لأجل مخالفة المشهور ، أو موافقة الجمهور على تقدير تحقّقهما خلاف ما تقتضيه القواعد المقرّرة في محلّها ، والله العالم.

المسألة (الخامسة : الكذب على الله) تعالى (وعلى رسوله)

__________________

(١) الحاكي هو العلّامة الحلّي عن سلّار في المختلف : ٦٦٤ ، وراجع : المراسم : ١٨٧.

٤٩٠

صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ (وعلى الأئمّة ـ عليهم‌السلام ـ حرام على الصائم وغيره وإن تأكّد على (١) الصائم ، لكن لا يجب به قضاء ولا كفّارة.)

وقيل : تجبان به ؛ وقد تقدّم الكلام فيه مشروحا ، وعرفت في ما تقدّم أنّ الأوّل أشبه (٢) بالقواعد.

المسألة (السادسة : الارتماس حرام على الأظهر) عند المصنّف ـ رحمه‌الله ـ (ولا يجب به قضاء ولا كفّارة وقيل : تجبان به.)

وقيل : يجب القضاء خاصة.

وقيل : هو مكروه ؛ وقد تقدّم الكلام فيه مفصّلا (و) عرفت في ما تقدّم أنّ الأخير لا (الأوّل أشبه) بالقواعد ، فراجع (٣).

المسألة (السابعة : لا بأس بالحقنة بالجامد على الأصح ، ويحرم بالمائع ، ويجب به القضاء على الأظهر) كما عرفته في ما مرّ.

المسألة (الثامنة : من أجنب ونام ناويا للغسل ، ثم انتبه ثم نام كذلك ، ثم انتبه ونام ثالثة ناويا حتى طلع الفجر ، لزمته الكفّارة على قول مشهور) بل عن الخلاف والغنية والوسيلة وجامع المقاصد :دعوى الإجماع عليه (٤).

(وفيه تردّد) ينشأ من الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة ، ومن عدم حجّية نقل الإجماع وانتفاء دليل آخر صالح لإثباته ، كما عرفته

__________________

(١) في الشرائع : «في» بدل «على».

(٢) في الشرائع بعد قوله : ولا كفّارة : على الأشبه.

(٣) راجع ص ٩٤ ـ ٩٥ من هذا الكتاب.

(٤) حكاه عنها صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٢٧٥ ، وراجع : الخلاف ٢ : ٢٢٢ ، المسألة ٨٧ ، والغنية (الجوامع الفقهية) : ٥٠٩ ، والوسيلة : ١٤٢ ، وجامع المقاصد ٣ : ٧٠.

٤٩١

مشروحا في ما سبق ، فالقول بعدمها ـ كما ذهب إليه بعض المتأخّرين (١) ، وفاقا لما حكي (٢) عن المصنّف في المعتبر والعلّامة في المنتهى ـ أشبه ، والله العالم.

المسألة (التاسعة : يجب القضاء) خاصة (في الصوم الواجب المتعيّن بتسعة أشياء.)

في المدارك نقل عن المصنّف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر أنّه قال : إنّما اشترطنا الوجوب والتعيين ؛ لأنّ ما ليس بمتعيّن وإن فسد صومه فليس الإتيان ببدله قضاء ؛ لأنّ القضاء اسم لفعل مثل المقضي بعد خروج وقته ، وإلّا فكلّ صوم صادفه أحد ما نذكره ، فإنّه يفسد ، فإن كان واجبا غير متعيّن أتى بالبدل ، ولا يسمى قضاء ، وإن كان متعيّنا فالبدل قضاء.

ثم قال : وهو جيّد ؛ وقد ذكر المصنّف ـ رحمه‌الله ـ وغيره أنّ من أخّر صيام الثلاثة الأيّام من الشهر ، استحبّ له قضاؤها ، وعلى هذا يستحب قضاؤها إذا صادفها أحد هذه الأمور التسعة (٣). انتهى.

وهو جيّد ، ولكن لا يرد به النّقض على المدّعى ؛ لأنّ قضاءه ليس بواجب.

الأوّل (فعل المفطر قبل مراعاة الفجر مع القدرة) عليها ثم ظهر سبق طلوعه ، فيجب عليه حينئذ القضاء دون الكفّارة.

وأمّا نفس فعله قبل المراعاة ما لم يتبيّن الفجر فسائغ ؛ لموافقته

__________________

(١) هو العاملي في مدارك الأحكام ٦ : ٩٠.

(٢) الحاكي هو العاملي في مدارك الأحكام ٦ : ٩٠ ، وراجع : المعتبر ٢ : ٦٧٥ ، ومنتهى المطلب ٢ : ٥٧٤.

(٣) مدارك الأحكام ٦ : ٩١ ، وراجع : المعتبر ٢ : ٦٧٥.

٤٩٢

للأصل غير المتوقّف جريانه في الشبهات الموضوعية على الفحص ، كما تقرّر في محلّه.

ولا منافاة بينه وبين وجوب القضاء عند انكشاف سبق الطلوع كسائر الشبهات الموضوعيّة التي يباح له الفعل في مرحلة الظاهر.

وربما يستدلّ له أيضا : بظاهر الآية (١).

وخبر إسحاق بن عمّار ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ :آكل في شهر رمضان بالليل حتى أشكّ؟ قال : كل حتى لا تشك (٢).

وعن الصدوق مرسلا ، قال : سأل رجل عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، فقال : آكل في شهر رمضان وأنا أشكّ في الفجر؟فقال : كل حتى لا تشكّ (٣).

وعن العياشي في تفسيره عن سعد عن أصحابه عنهم ـ عليهم‌السلام ـ ، في رجل تسحّر وهو يشكّ في الفجر ، قال : لا بأس «كلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر» (٤) وأرى أن يستظهر في رمضان ويتسحّر قبل ذلك (٥) ، وغير ذلك من الروايات الدالّة على جواز تناول المفطر ما لم يتبيّن الفجر ، فليتأمّل.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٧.

(٢) التهذيب ٤ : ٣١٨ / ٩٦٩ ، الوسائل : الباب ٤٩ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ١.

(٣) الفقيه ٢ : ٨٧ / ٣٩٠ ، الوسائل : الباب ٤٩ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٢.

(٤) البقرة : ٢ : ١٨٧.

(٥) تفسير العياشي ١ : ٨٣ / ١٩٨ وفيه : عن بعض أصحابه عنهما. الوسائل : الباب ٤٩ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٤. وفيه : عن أصحابه عنهما عليهما‌السلام.

٤٩٣

وحكي (١) عن الشيخ في الخلاف أنّه لم يجوّز فعل المفطر مع الشكّ.

واستدلّ له : بقاعدة المقدّمية.

وفيه : بعد الغضّ عن مخالفتها لظاهر الآية والروايات ، أنّ استصحاب بقاء الليل حاكم على قاعدة الاحتياط. مع انّه إن تمّت القاعدة ، فلا فرق بين الشكّ والظنّ الذي لم يدلّ دليل على اعتباره ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وأمّا وجوب القضاء : فيدلّ عليه ، مضافا إلى الأصل المقرّر في صيام شهر رمضان من كونه فرع فوات الصوم الذي هو عبارة عن الإمساك في مجموع النهار : جملة من الروايات :

منها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ أنّه سئل عن رجل تسحّر ثم خرج من بيته وقد طلع الفجر وتبيّن ، قال : يتمّ صومه ذلك ثم ليقضه ، فإن تسحّر في غير شهر رمضان بعد الفجر أفطر (٢) الحديث.

وموثّقة سماعة ، قال : سألته عن رجل أكل أو شرب بعد ما طلع الفجر في شهر رمضان ، فقال : إن كان قام فنظر فلم ير الفجر فأكل ثم عاد فرأى الفجر فليتمّ صومه ولا إعادة عليه ، وإن كان قام فأكل وشرب ثم نظر إلى الفجر فرأى أنّه قد طلع الفجر فليتمّ صومه ويقضي يوما آخر لأنّه بدأ بالأكل قبل النظر فعليه الإعادة (٣).

__________________

(١) الحاكي عنه صاحب الرياض فيها ١ : ٣١٢ ، وراجع : الخلاف ٢ : ١٧٤ ، المسألة ١٤.

(٢) الكافي ٤ : ٩٦ / ١ ، التهذيب ٤ : ٢٦٩ / ٨١١ ، الإستبصار ٢ : ١١٦ / ٣٧٨ ، الوسائل : الباب ٤٤ و ٤٥ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ١.

(٣) التهذيب ٤ : ٢٦٩ / ٨١١ ، الإستبصار ٢ : ١١٦ / ٣٧٨ ، الوسائل : الباب ٤٤ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٣.

٤٩٤

ورواية علي بن أبي حمزة عن أبي إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، قال : سألته عن رجل شرب بعد ما طلع الفجر وهو لا يعلم في شهر رمضان ، قال :يصوم يومه ذلك ، ويقضي يوما آخر ، وإن كان قضاء لرمضان في شوّال أو غيره فشرب بعد ما طلع الفجر فليفطر يومه ذلك ويقضي (١).

إلى غير ذلك من الأخبار الآتية في المسائل الآتية.

وأمّا نفي الكفّارة : فللأصل.

ثمّ إنّ ظاهر المتن ـ كصريح المدارك (٢) وغيره (٣) ، بل المعروف بين الأصحاب كما في الجواهر (٤) ، بل عن الرياض (٥) : بلا خلاف أجده ـ أنّه لا قضاء على العاجز عن المراعاة كالمحبوس ونحوه ؛ للأصل ، واختصاص الروايات المتضمّنة لوجوب القضاء بحكم التبادر وغيره بالقادر على المراعاة ، فيبقى ما عداه على حكم الأصل.

وفيه : ما أشرنا إليه من تفريع القضاء على فوات الصوم في وقته ، ولذا لا يظنّ بأحد أن يلتزم ببطلان صومه ، وعدم وجوب القضاء عليه ، بل صرّح بعض (٦) بالإجماع على الملازمة بين البطلان والقضاء.

وأمّا بطلان الصوم بتناول المفطر بعد طلوع الفجر : فهو على وفق القاعدة ؛ لانتفاء حقيقة الصوم واقعا ، ولذا صرّح غير واحد بفساد الصوم بتناول المفطر بعد الفجر في غير شهر رمضان ولو مع المراعاة ،

__________________

(١) الكافي ٤ : ٩٧ / ٦ ، الوسائل : الباب ٤٥ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٣.

(٢) مدارك الأحكام ٦ : ٩٢.

(٣) كالحدائق الناضرة ١٣ : ٩٣ ـ ٩٤.

(٤) جواهر الكلام ١٦ : ٢٧٦.

(٥) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٢٧٦ ، وراجع : رياض المسائل ١ : ٣١١.

(٦) الشيخ الأنصاري في كتاب الصوم : ٥٧٥.

٤٩٥

فلا يجوز رفع اليد عمّا يقتضيه هذا الأصل ، إلّا أن يدلّ دليل شرعي تعبّدي على مضيّ عمله ، كما في الناسي والمراعي للفجر في شهر رمضان ، وهو منتف في المقام.

مع أنّ دعوى اختصاص النصوص الدالّة على القضاء قابلة للمنع ، بل رواية علي بن حمزة ظاهرة في الإطلاق ، فالقول بوجوب القضاء عليه مع أنّه أحوط لا يخلو عن قوة.

(و) الثاني : (الإفطار إخلادا إلى من أخبره أنّ الفجر لم يطلع مع القدرة على عرفانه ويكون طالعا) بلا خلاف فيه في الجملة على الظاهر ، بل عن الغنية : الإجماع عليه (١) ، لأصالة عدم الكفّارة ، وثبوت القضاء بالتقريب الذي عرفته آنفا.

ويدلّ عليه ، مضافا إلى ذلك وإلى إطلاق بعض الأخبار المتقدّمة :خصوص خبر معاوية بن عمّار ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ :آمر الجارية أن تنظر أطلع الفجر أم لا ، فتقول : لم يطلع بعد ، فآكل ثم أنظر فأجده قد كان طلع حين نظرت ، قال : تتمّ يومك ثم تقضيه ، أما إنّك لو كنت أنت الذي نظرت ما كان عليك قضاؤه (٢).

وظاهره كظاهر الموثّقة : سقوط القضاء مع مراعاته بنفسه.

واحتمال إرادة «أنّك لو كنت نظرت» لم يكن يصدر منك الخطأ حتى تقع في كلفة القضاء ، وكذا في الموثّقة احتمال أنّه لم يكن يشتبه عليه الفجر مع المراعاة خلاف ظاهر الخبرين ، خصوصا بعد وقوع السؤال في

__________________

(١) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٢٧٧ ، وراجع : الغنية (الجوامع الفقهية) : ٥٠٩.

(٢) الكافي ٤ : ٩٧ / ٣ ، الفقيه ٢ : ٨٣ / ٣٦٨ ، التهذيب ٤ : ٢٦٩ / ٨١٣ ، الوسائل : الباب ٤٦ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ١.

٤٩٦

الموثّقة عن الأكل والشرب بعد ما طلع الفجر ، مع أنّه بحسب الظاهر ممّا لا خلاف فيه ، بل عن صريح الانتصار وظاهر المنتهى وغيره : دعوى الإجماع عليه (١).

وقضية إطلاق النصّ والفتوى : سقوط القضاء مع المراعاة التي يباح معها الأكل والشرب ، أي المراعاة التي لم يتبيّن له بها الفجر ، سواء جزم ببقاء الليل أو ظنّ به أو تردّد فيه أو ظنّ بخلافه بعد أن رخصة الشارع في الأكل حتى لا يشكّ ، كما وقع التصريح به في بعض الأخبار المتقدّمة ، بل الموثّقة المزبورة ـ بملاحظة التعليل الواقع في ذيلها ـ كادت تكون صريحة في ذلك.

فما في الجواهر من الاستشكال فيه مع الشك أو الظنّ بالطلوع ـ حيث قال بعد أن اعترف بظهور النصّ والفتوى في ذلك ، ما لفظه :ويشكل ذلك بإطلاق ما دلّ على القضاء بتناول المفطر وبأنّه أولى بذلك من الظانّ ببقاء الليل بإخبار الجارية والاستصحاب ، ومن هنا مال إليه في الروض ، وهو أحوط إن لم يكن أقوى (٢). انتهى ، كأنّه في غير محلّه ؛ لحكومة النصّ الخاصّ على إطلاق أدلّة القضاء ، وإلّا لسرى الإشكال إلى صورة الظنّ أو الجزم ببقاء الليل أيضا ، وليس فرض حصول الشك فرضا نادرا حتى يمكن دعوى انصراف النصّ عنه ، بل هو الغالب في الموارد التي يتبيّن الخلاف.

نعم ، لا يبعد أن يدّعى أنّ الغالب ترك الأكل مع الشكّ أو الظنّ

__________________

(١) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٢٧٧ ، وراجع : الانتصار : ٦٥ ـ ٦٦ ، ومنتهى المطلب ٢ : ٥٧٨.

(٢) جواهر الكلام ١٦ : ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

٤٩٧

بالفجر احتياطا ، وهذا إن سلّم فليس موجبا لانصراف النصّ عنه ، وعدم استفادة حكمه منه على تقدير تركه لهذا الاحتياط ، مع كون المورد من أشيع موارده.

وليس المدار في هذا الحكم على الظنّ حتى يدّعى أولويته من الظنّ الحاصل من إخبار الجارية أو الاستصحاب ، بل لنفس المراعاة من حيث هي دخل في هذا الحكم ، كما يومئ إليه التعليل الواقع في ذيل الموثّقة ، ولا أقلّ من احتماله المانع عن المقايسة المزبورة.

ومن هنا قد يقوى في النظر عدم الفرق في ثبوت القضاء لدى الاعتماد على قول الغير : بأنّ الفجر لم يطلع ؛ بين كون ذلك الغير فاسقا أو عادلا ، بل عدولا ، خلافا لما عن المحقّق والشهيد الثانيين وغيرهما (١) ، فأسقطوا القضاء بالعدلين ؛ لكونهما حجّة شرعية ، بل عن غيرهما (٢) الاكتفاء بالعدل الواحد بناء على حجّية قوله في الموضوعات.

وهو ضعيف ؛ إذ ليس المدار في سقوطه على كون التناول بحجّة شرعية ، وإلّا لكفى الأصل ، كما عرفت ، بل على مباشرة المراعاة ، فبدونها يبقى تحت إطلاق ما دلّ على القضاء ممّا عرفت.

وحجّية قول العدلين أو العدل لا تنافي ثبوت القضاء عند انكشاف الخطأ ، كما في الإخبار برؤية الهلال ونحوها من الموضوعات الخارجية.

(و) الثالث : (ترك العمل بقول المخبر بطلوعه) أي الفجر (والإفطار لظنّه كذبه) للسخرية ونحوها بلا خلاف فيه على الظاهر ،

__________________

(١) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٦ : ٩٣ وصاحب الجواهر فيها ١٦ : ٢٧٨ ، وراجع : جامع المقاصد ٣ : ٦٦ ، ومسالك الأفهام ١ : ٧٠.

(٢) كما في جواهر الكلام ١٦ : ٢٧٨.

٤٩٨

بل عن غير واحد : دعوى الإجماع عليه.

ويظهر وجهه ممّا مرّ.

ويدلّ أيضا على ثبوت القضاء : رواية عيص بن القاسم عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن رجل خرج في شهر رمضان وأصحابه يتسحّرون في بيت ، فنظر إلى الفجر فناداهم فكفّ بعضهم وظنّ بعضهم أنّه يسخر فأكل ، فقال : يتمّ صومه ويقضي (١).

وقضية إطلاق المتن وغيره : ع         دم الفرق في نفي الكفّارة بين تعدّد المخبر واتّحاده وعدالته [وفسقه] (٢) ، خلافا للمحكي عن جماعة (٣) ، فاستقربوا الكفّارة بإخبار العدلين ، بل بإخبار العدل الواحد ، بناء على حجّيته في الإخبار بدخول الوقت ؛ لعدم جواز التعويل على الأصل حينئذ ، وصيرورته بحكم العامد.

وفيه : ما عرفت في ما سبق من أنّ المدار في ثبوت الكفّارة على تعمّد الإفطار.

وعدم جواز فعله شرعا لا يجعله مندرجا في موضوع قوله ـ عليه‌السلام ـ : من أفطر متعمّدا (٤) إلى آخره.

نعم ، لو احتمل طلوع الفجر والتفت تفصيلا إلى حجّية قول المخبر ،

__________________

(١) الكافي ٤ : ٩٧ / ٣ ، الفقيه ٢ : ٨٣ / ٣٦٧ ، التهذيب ٤ : ٢٧٠ / ٨١٤ ، الوسائل : الباب ٤٧ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ١.

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

(٣) حكاه عنهم صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٢٧٨.

(٤) التهذيب ٤ : ٢٠٧ / ٦٠٠ ، الإستبصار ٢ : ٩٦ / ٣١١ ، الوسائل : الباب ٨ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ١١.

٤٩٩

وأنّه يثبت به الفجر شرعا ، ولا يجوز معه الاعتناء باحتمال السخرية أو تعمّد الكذب ونحوه وأقدم مع ذلك على الأكل ، اندرج بحسب الظاهر في موضوع الحكم ، ولكن هذا الفرض خارج عن موضوع كلماتهم ؛ لأنّ كلامهم في من هو عازم على الصوم ، ولكنه يأكل ولا يعتني بقول المخبر ، بناء منه على أنّ الفجر لا يثبت بقوله ، وإلّا لا يتأتّى منه العزم على الصوم ، فلا يتفاوت الحال حينئذ في عدم صدق تعمّد الإفطار بين كون هذا البناء صحيحا ، كما لو كان المخبر فاسقا ، أو فاسدا ، كما لو كان عدلا ، أو عدلين ، بناء على حجّية قول العدل أو العدلين في المقام.

نعم ، على تقدير الحجيّة لا يتوقّف ثبوت القضاء على تبيّن وقوع الأكل بعد الفجر ، بل يكفي فيه عدم ثبوت خلافه ، كما لا يخفى.

هذا كلّه في ما لو لم يباشر بنفسه المراعاة ، وأمّا مع مباشرته للمراعاة وعدم تبيّن الفجر عنده فلا شبهة في جواز فعله وإن كان المخبر عدلا أو عدولا ، فضلا عن لزوم الكفّارة عليه ؛ لأنّ حجّية خبر العدلين أو العدل الواحد على تقدير تسليمه في مثل المقام إنّما هو إذا لم يتبيّن مستنده.

وأمّا مع تبيّنه وعدم حصول الإذعان به ـ كما في الفرض ـ فلا ، فإنّه من قبيل تقليد أحد المجتهدين للآخر الذي يخطّئه في اجتهاده.

وربما يشهد لذلك أيضا ، مضافا إلى ذلك : موثّقة سماعة ، قال :سألته عن رجلين قاما فنظرا إلى الفجر ، فقال أحدهما : هو ذا ؛ وقال الآخر : ما أرى شيئا ، قال : فليأكل الذي لم يتبيّن له الفجر وقد حرم على الذي زعم أنّه رأى الفجر ، إنّ الله عزوجل يقول «كُلُوا وَاشْرَبُوا

٥٠٠