مصباح الفقيه - ج ١٤

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٩

بني هاشم وإن قلنا بانحصار مصرفه في الصدقة ؛ إذ الظاهر عدم حرمة هذه الصدقة عليهم ، بل في خبر السكوني ، الذي هو مستند هذا القول إيماء إليه ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

وقد ظهر بما أشرنا إليه ـ من أنّ الخمس في هذا القسم ليس من قبيل خمس الكنوز وسائر أقسام الغنيمة في كونه حقّا فعليا ثابتا لبني هاشم ـ أنّه لا منافاة بين هذا الخمس وبين الأخبار الحاصرة للخمس في ما عداه ؛ إذ ليس في الحلال المختلط بالحرام من حيث هو الخمس ، ولكن الشارع جعل صرف خمسه إلى أرباب الخمس بمنزلة إيصال مال الغير إليه في كونه مطهّرا لهذا المال ، وكفى بكونه كذلك مصحّحا لأن يعدّ في عداد ما فيه الخمس ، كما في خبر ابن مروان ، وإلّا فهو في الحقيقة ليس منها.

وكون عدده في هذا الخبر مع اشتماله على هذا القسم خمسة لا ينافي ما في بعض الأخبار الحاصرة له في ما عداه من ثبوته أيضا في خمسة ، مع خلوّه عن هذا القسم ، فإنّ أحد الخمسة التي أريد من تلك الأخبار : الملاحة ؛ وهي في هذه الرواية مندرجة في المعادن فلا منافاة ، فليتأمّل.

تنبيهان

الأوّل : قال شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ لو ظهر المالك بعد إخراج الخمس فهل يضمن الدافع ، كما صرّح به الشهيدان في الروضة والبيان ، أم لا ، كما عن الرياض والمدارك والذخيرة؟ قولان : من قاعدة اليد ؛ وكون الإذن في التخميس في مقام بيان سبب إباحة التصرّف في الباقي ، فلا يفيد رفع الضمان.

نعم ، غايته رفع الإثم ، مضافا إلى النصّ بالضمان في أمثاله من

١٦١

التصدّق بمجهول المالك واللقطة ، ومن أنّ ظاهر التعليل في قوله ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الله رضي من الأموال بالخمس» أنّ ولاية الخليط المجهول مالكه انتقل مع جهل المالك إلى الله سبحانه وقد رضي عن الخليط بالخمس ، فإخراجه مطهّر للمال ، ومبرئ للذمة بحكم المراضاة الحاصلة بين مالك الحلال وبين الشارع تقدّس ذكره ، وهذا بخلاف مسألة التصدّق بمجهول المالك واللقطة ، فإنّ الظاهر أنّ التصدّق بهما إنّما هو عن صاحبه بإذن الشارع في إيقاع هذا العمل للمالك شبه الفضولي ، وأين هو من إيصال المال إلى ولي مالكه؟ كما يستفاد من تعليل أخبار الباب.

مع أنّ التصدّق بمجهول المالك جائز ؛ لجواز إبقائه أمانة ، أو تسليمه إلى الحاكم ، فلا ينافي الضمان ، بخلاف دفع هذا الخمس ، فإنّه واجب ، ويبعد معه الضمان (١). انتهى كلامه ـ قدس‌سره.

وهو جيّد ، إلّا أنّ ما ذكره في ذيل عبارته من أنّ هذا الخمس واجب ، ويبعد معه الضمان ؛ ينافيه ما ذكره في وجه الضمان من أنّ الإذن في التخميس في مقام بيان سبب إباحة التصرّف في الباقي ؛ لأنّ وجوبه على هذا التقدير شرطي لا شرعي ، وثبوت الضمان معه أقرب من ثبوته مع الصدقة الصادرة عن إذن الشارع ، خصوصا مع عدم كون يده في الموارد التي ورد فيها الأمر بالصدقة يد ضمان ، بخلاف المقام.

مع أنّا قد أشرنا آنفا إلى إمكان الالتزام بعدم تعيّنه بل كونه مخيّرا بين التصدّق وصرف خمسه في بني هاشم إن لم ينعقد الإجماع على خلافه ، فعمدة ما يصح الاستناد إليه لرفع الضمان هو ما ادّعاه من استفادته من

__________________

(١) كتاب الخمس : ٥٤٠ ، وراجع : الروضة البهية ٢ : ٦٨ ، والبيان : ٢١٨ ، ورياض المسائل ١ : ٢٩٥ ، ومدارك الأحكام ٥ : ٣٨٩ ، وذخيرة المعاد : ٤٨٤.

١٦٢

الأخبار بالتقريب الذي ذكره ، فليتأمّل.

الثاني : قال شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ وفاقا لغير واحد ـ ما لفظه : لو كان الحلال ممّا فيه الخمس لم يسقط بإخراج هذا الخمس ؛ لعدم الدليل على سقوطه ، فيجب حينئذ أوّلا هذا الخمس ، فإذا حلّ لمالكه وطهر عن الحرام أخرج خمسه ، ولو عكس صحّ ، لكن تظهر الفائدة في ما لو جعلنا مصرف هذا الخمس غير الهاشمي ، وحينئذ فليس له العكس ، وكيف كان فالقول بوحدة الخمس ـ كما يحكى (١) ـ ضعيف جدّا.

ولعلّه لإطلاق قوله ـ عليه‌السلام ـ : «وسائر المال لك حلال».

ولا يخفى أنّه من حيث اختلاط الحرام ، لا من كلّ جهة ، ولذا لو كان زكويّا لم تسقط زكاته (٢). انتهى.

أقول : تعدّد الخمس بتعدّد أسبابه هو الذي تقتضيه إطلاقات أدلّته ، ولكن قد يشكل ذلك بناء على إرادة الخمس المصطلح من خبر السكوني ، الذي ورد فيه الأمر بالتصدّق بخمس ماله ، فإنّ حمله على إرادته من حيث الاختلاط مع وروده في المال المجتمع بالكسب في الأزمنة السابقة ، الذي يتعلّق به خمس الاكتساب أيضا غالبا لا يخلو عن بعد ، خصوصا مع ما فيه من التعليل بـ «إنّ الله رضي من الأشياء بالخمس».

وقياسه على سائر الحقوق المتعلّقة بماله ممّا يختلف معه نوعا ومستحقّا قياس مع الفارق.

نعم ، هذا متّجه في ما لو أريد به الصدقة لا الخمس المصطلح ، كما نفينا البعد عنه.

وكيف كان ، فالأظهر ما ذكروه من عدم سقوط خمس الاكتساب ونحوه

__________________

(١) راجع : الجواهر ١٦ : ٧٦.

(٢) كتاب الخمس : ٥٤١.

١٦٣

بهذا الخمس وإن قلنا بظهور الخبر المزبور في الاكتفاء به بناء على إرادة الخمس منه ؛ إذ لم تثبت إرادة هذا المعنى منه ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، والله العالم.

الصورة الثانية : ما إذا علم مقدار الحرام ولم يعرف صاحبه ، فقد صرّح غير واحد بأنّه يتصدّق به سواء كان بقدر الخمس أو أقلّ أو أكثر ، بل ربّما يظهر عدم الخلاف فيه.

واستدلّ له : بجملة من الأخبار ، كرواية عليّ بن أبي حمزة ، قال : كان لي صديق من كتّاب بني أميّة ، فقال لي : استأذن لي على أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ؛ فاستأذنت له عليه ، فأذن له ، فلمّا أن دخل سلّم وجلس ، ثمّ قال : جعلت فداك إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم ، فأصبت من دنياهم مالا كثيرا أغمضت في مطالبه ، فقال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : «لو لا أنّ بني أميّة وجدوا لهم من يكتب ، ويجبي لهم الفي‌ء ، ويقاتل عنهم ، ويشهد جماعتهم لما سلبوا حقّنا ، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئا» قال : فقال الفتى : جعلت فداك فهل لي مخرج منه؟ قال : «إن قلت لك تفعل»؟ قال : أفعل ؛ قال له : «فاخرج من جميع ما اكتسبت (١) في ديوانهم ، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله ، ومن لم تعرف تصدّقت به ، وأنا أضمن لك على الله عزوجل الجنّة» فأطرق الفتى طويلا ، ثمّ قال له : لقد فعلت جعلت فداك. قال ابن أبي حمزة فرجع الفتى معنا إلى الكوفة ، فما ترك شيئا على وجه الأرض إلّا خرج منه حتى ثيابه التي كانت على بدنه ، قال :فقسمت له قسمة واشترينا له ثيابا وبعثنا إليه بنفقة ، قال : فما أتى عليه إلّا أشهر قلائل حتى مرض ، فكنّا نعوده ، قال : فدخلت يوما وهو في السّوق ،

__________________

(١) في التهذيب وهامش النسخة والحجرية : كسبت.

١٦٤

قال : ففتح عينيه ، ثم قال لي : يا علي وفي لي والله صاحبك ، قال : ثم مات ، فتولينا أمره فخرجت حتى دخلت على أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، فلما نظر إليّ قال لي «يا علي وفينا والله لصاحبك» قال ، فقلت : جعلت فداك والله هكذا قال والله لي عند موته (١).

وصحيحة يونس بن عبد الرحمن ، المرويّة عن الكافي والتهذيب ، قال :سئل أبو الحسن الرضا ـ عليه‌السلام ـ وأنا حاضر ، فقال له السائل : جعلت فداك ، رفيق كان لنا بمكة فرحل منها إلى منزله ، ورحلنا إلى منازلنا ، فلمّا أن صرنا في الطريق أصبنا بعض متاعه معنا ، فأيّ شي‌ء نصنع به؟ قال : «تحملونه حتى تحملوه إلى الكوفة» قال : لسنا نعرفه ، ولا نعرف بلده ، ولا نعرف كيف نصنع ، قال : «إذا كان كذا فبعه وتصدّق بثمنه» قال له : على من جعلت فداك؟ قال : «على أهل الولاية» (٢).

ورواية فيض بن حبيب صاحب الخان ، قال : كتبت إلى العبد الصالح ـ عليه‌السلام ـ : قد وقعت عندي مائتا درهم وأربعة دراهم وأنا صاحب فندق ومات صاحبها ولم أعرف له ورثة فرأيك (٣) في إعلامي حالها وما أصنع بها وقد ضقت بها ذرعا؟ فكتب «اعمل بها وأخرجها صدقة قليلا قليلا حتى تخرج» (٤).

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٠٦ / ٤ ، التهذيب ٦ : ٣٣١ / ٩٢٠ ، الوسائل : الباب ٤٧ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

(٢) الكافي ٥ : ٣٠٩ / ٢٢ ، التهذيب ٦ : ٣٩٥ / ١١٨٩ ، الوسائل : الباب ٧ من أبواب كتاب اللقطة ، الحديث ٢.

(٣) في النسخة الخطية والطبع الحجرية : ورأيك. وما أثبتناه من المصادر.

(٤) الكافي ٧ : ١٥٣ (باب ميراث المفقود) الحديث ٣ ، وفيه : نصر بن حبيب ، التهذيب ٩ : ٣٨٩ / ١٣٨٩ ، الإستبصار ٤ : ١٩٧ / ٧٤٠ ، الوسائل : الباب ٦ من أبواب ميراث الخنثى ، الحديث ٣.

١٦٥

ولعلّ أمره بالعمل بها وإخراجها قليلا قليلا ؛ لعلمه بحاجته ، فأمره بالعمل لينتفع به.

ويحتمل أن يكون من قبيل ميراث من لا وارث له ممّا هو ملك للإمام ـ عليه‌السلام ـ ، فيكون أمره بهذا النحو من التصدّق ترخيصا له بهذا النحو من التصرّف.

كما يؤيّد هذا الاحتمال : رواية محمد بن القاسم بن الفضيل بن يسار عن أبي الحسن ـ عليه‌السلام ـ ، عن رجل صار في يده مال لرجل ميت لا يعرف له وارثا كيف يصنع بالمال؟ قال : «ما أعرفك لمن هو» يعني لنفسه (١) (٢).

وقد ورد أيضا في بعض الأخبار الواردة في ميراث من لا وارث له : الأمر بالتصدّق ، فيحتمل أن تكون هذه الرواية أيضا منها.

ويؤيّد المطلوب أيضا بعض الروايات الواردة في بيع تراب الصياغة والتصدّق بثمنه ، مثل : خبر علي بن ميمون الصائغ ، المروي عن الكافي ، قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عمّا يكنس من التراب فأبيعه فما أصنع به؟ قال : «تصدّق به فإمّا لك وإمّا لأهله» (٣) الحديث.

وعن الشيخ بإسناده عن علي الصائغ ، قال : سألته عن تراب الصوّاغين وإنّا نبيعه ، قال «أما تستطيع أن تستحلّه من صاحبه؟» قال ، قلت : لا ، إذا أخبرته اتّهمني ؛ قال : «بعه» قلت : بأيّ شي‌ء؟ قال : «بطعام» قلت : فأيّ شي‌ء

__________________

(١) في المصادر : نفسه.

(٢) التهذيب ٩ : ٣٩٠ / ١٣٩٣ ، الإستبصار ٤ : ١٩٨ / ٧٤١ ، الوسائل : الباب ٦ من أبواب ميراث الخنثى ، الحديث ١٢.

(٣) الكافي ٥ : ٢٥٠ / ٢٤ ، الوسائل : الباب ١٦ من أبواب الصرف ، الحديث ١.

١٦٦

أصنع به؟ قال : «تصدّق به إمّا لك وإمّا لأهله» (١) الحديث.

وربما يستشعر من بعض الأخبار كون الصدقة بالمال الذي يتعذّر إيصاله إلى صاحبه من الأمور المعروفة لدى السائلين ، مثل : ما رواه الشيخ بإسناده عن معاوية بن وهب قال : سئل أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن رجل كان له على رجل حق ففقد ولا يدري أحيّ هو أم ميّت ، ولا يعرف له وارث ولا نسب ولا بلد ، قال : «اطلبه» قال : إنّ ذلك قد طال فأصدّق به؟ قال :«اطلبه» (٢) فإنّه يستشعر منه أنّ أمره بالطلب لرجاء إيصاله إليه ، وإلّا لكان يرخّصه في التصدّق.

ويؤيّده أيضا : الأخبار الكثيرة الواردة في التصدّق باللقطة وما هو بمنزلتها.

منها : رواية حفص بن غياث ، قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعا ، واللصّ مسلم أيردّه عليه؟ قال : «لا يردّه ، فإن أمكنه أن يردّه على أصحابه فعل ، وإلّا كان في يده بمنزلة اللقطة يصيبها فيعرّفها حولا ، فإن أصاب صاحبها ردّها عليه ، وإلّا تصدّق بها ، فإن جاء طالبها بعد ذلك خيّره بين الأجر والغرم ، فإن اختار الأجر فله الأجر ، وإن اختار الغرم غرم له ، وكان الأجر له» (٣) إلى غير ذلك من الأخبار المشعرة أو الظاهرة في أنّ حكم المال المجهول مالكه الصدقة ممّا يقف عليه المتتبّع.

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٨٣ / ١١٣١ ، الوسائل : الباب ١٦ من أبواب الصرف ، الحديث ٢.

(٢) الكافي ٧ : ١٥٣ / ٢ ، الفقيه ٤ : ٢٤١ / ٧٦٩ ، التهذيب ٩ : ٣٨٩ / ١٣٨٨ ، الوسائل : الباب ٦ من أبواب ميراث الخنثى ، الحديث ٢.

(٣) التهذيب ٦ : ٣٩٦ / ١١٩١ ، الفقيه ٣ : ١٩٠ / ٨٥٦ ، الوسائل : الباب ١٨ من أبواب كتاب اللقطة ، الحديث ١.

١٦٧

ولكن ربّما يظهر من صحيحة ابن مهزيار ـ الطويلة ـ أنّ المال الذي لا يعرف صاحبه يجوز تملّكه حيث عدّه من جملة الغنائم والفوائد التي يجب فيها الخمس ، فقال فيها : «والغنائم والفوائد يرحمك الله فهي الغنيمة يغنمها المرء ، والفائدة يفيدها ، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر ، والميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن ، ومثل عدوّ يصطلم فيؤخذ ماله ، ومثل مال يوجد ولا يعرف له صاحب» (١) الحديث.

كما أنّه قد يستشعر ذلك من بعض الأخبار المتقدمّة (٢) ، التي ورد فيها الأمر بتخميس المال الذي أغمض في مطالبه ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

فعلى هذا يكون حاله بعد اليأس عن صاحبه ـ كما هو مورد الأخبار ـ حال اللقطة التي ورد فيها أيضا أخبار مستفيضة دالّة على جواز تملّكها بعد التعريف متعهدا بالخروج عن عهدتها على تقدير مجي‌ء صاحبها.

ولكن قد يشكل التعويل على هذا الظاهر بعد مخالفته للمشهور أو المجمع عليه ؛ إذ لم ينقل القول بإباحة مال الغير عند تعذّر إيصاله إلى صاحبه عدا ما حكي (٣) عن المحقّق الأردبيلي في كتاب الصيد والذباحة من شرحه من نسبة القول بإباحة الحرام المختلط بالحلال الغير المتميّز عينه ولا المعروف صاحبه إلى القيل ؛ وهو مع أنه خارج عن مورد الصحيحة لا يخرجها عن الشذوذ.

هذا ، مع أنّ الصحيحة بنفسها منصرفة عمّا لو استولى على مال الغير عدوانا ، ثمّ جهل صاحبه ، فلا يبعد أن يكون المراد بالمال الذي يوجد

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٤١ / ٣٩٨ ، الإستبصار ٢ : ٦٠ / ١٩٨ ، الوسائل : الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٥.

(٢) تقدّمت في صفحة ١٥٣.

(٣) الحاكي هو النراقي في المستند ٢ : ٧٦.

١٦٨

ولا يعرف له صاحب ما كان مثل اللقطة والكنز ونحوه ممّا لا يبعد الالتزام بإباحته بعد اليأس عن صاحبه.

والأولى ردّ علمها إلى أهله ، والرجوع في حكم ما لا يعرف صاحبه إلى أخبار الصدقة ، كما هو المشهور.

ولكن قد يناقش في تناولها للمقام : بأنّ موردها المال المتميّز ، فإلحاق الممتزج به قياس.

ففي الحدائق بعد أن نقل القول بوجوب الصدقة بمقدار الحرام في هذه الصورة ، أي : صورة العلم بقدره ، سواء كان أقلّ من الخمس أو أكثر ، وحكى عن المدارك اختياره ، قال ما لفظه :وقيل بوجوب إخراج الخمس ثم الصدقة بالزائد في صورة الزيادة.

والظاهر أنّ مستند القول الأول هو الأخبار الدالّة على الأمر بالتصدّق بالمال المجهول المالك ، ومن أجل ذلك أخرجوا هذه الصورة من عموم النصوص المتقدّمة.

ولقائل أن يقول : إنّ مورد تلك الأخبار الدالّة على التصدّق إنّما هو المال المتميّز في حدّ ذاته لمالك مفقود الخبر ، وإلحاق المال المشترك به ، مع كونه [من ما] (١) لا دليل عليه قياس مع الفارق ؛ لأنّه لا يخفى أنّ الاشتراك في [هذا] (٢) المال سار في كلّ درهم درهم ، وجزء جزء منه ، فعزل هذا القدر المعلوم للمالك المجهول مع كون الشركة شائعة في أجزائه كما أنّها شائعة في أجزاء الباقي لا يوجب استحقاق المالك المجهول له حتى يتصدّق به عنه ، فهذا العزل لا ثمرة له ، بل الاشتراك باق مثله قبل العزل.

فإن قيل : إنّه متى كان المال مشتركا بين شريكين فإنّ لهما قسمته ،

__________________

(١) زيادة أثبتناها من المصدر.

(٢) زيادة أثبتناها من المصدر.

١٦٩

ويزول الاشتراك [بالقسمة] (١) ويتميّز حصة كلّ منهما عن الآخر.

قلنا : صحّة القسمة في الصورة المذكورة وزوال الاشتراك من حيث حصول التراضي من الطرفين على ما يستحقّه أحدهما في مال شريكه بما يستحقّه الآخر في حصّته ، كما صرّح به الأصحاب ، فهو في قوّة الصلح ، بل هو صلح موجب لنقل حصّة كلّ منهما للآخر ، وهذا غير ممكن في ما نحن فيه ، فقياس أحدهما على الآخر قياس مع الفارق ، كما لا يخفى.

وأمّا القول الآخر ، وهو : إخراج الخمس ثمّ الصدقة بالزائد في صورة الزيادة : ففيه ما في سابقه بالنسبة إلى الصدقة بالزائد في الصورة المذكورة.

وبما ذكرنا يظهر أنّ الأظهر دخول هذه الصورة تحت إطلاق الأخبار المتقدّمة ، وأنّه لا دليل على إخراجها (٢). انتهى.

وفيه أوّلا : أنّ ورود تلك الأخبار في المال المتميّز لا ينافي دلالتها على حكم ذلك المال من حيث هو ؛ فإنّ خصوصية كونه متميّزا ليست إلّا كسائر الخصوصيات التي لا مدخلية لها في الحكم.

نعم ، قد يتخيّل مانعية الامتزاج عن الاجتزاء بالصدقة بمقدار الحرام ؛ للوجه الذي ذكره في أثناء كلامه ، ولكنك ستعرف فساده ، خصوصا بعد الالتفات إلى ورود الأمر في بعض الأخبار المتقدّمة (٣) ببيعه والتصدّق بثمنه ، فإنّه لا يبقى معه مجال لهذا التوهّم.

هذا ، مع أنّ رواية ابن أبي حمزة (٤) موردها على الظاهر هو المال الممتزج ولو بمال غير المالك المجهول ؛ إذ العادة قاضية بأنّ مثل هذا

__________________

(١) زيادة أثبتناها من المصدر.

(٢) الحدائق الناضرة ١٢ : ٣٦٤ ـ ٣٦٥ ، وراجع : مدارك الأحكام ٥ : ٣٨٩.

(٣) تقدم في صفحة ١٦٦.

(٤) تقدّمت الرواية في صفحة ١٦٤.

١٧٠

الشخص الذي وردت الرواية فيه لو لم يكن أصابه مال حلال خلطه بغيره في تلك المدة فلا أقلّ من خلط بعض ما اكتسبه من الحرام ببعض بحيث لم يبق أعيان أموال من يعرفه منهم متميّزة عمّا لا يعرف صاحبه ، فيتأتّى حينئذ إشكال التعيين ، كما لا يخفى ، بل مقتضى إطلاق ما ورد في المتميّز : عدم الفرق بين بقائه على صفة التمييز أو امتزاجه أو اشتباهه بغيره من أمواله ، غاية الأمر أنّ عليه حينئذ الاحتياط في مقام العمل لو لم تنفه قاعدة نفي الحرج ونحوه ، كما لا يخفى.

لا يقال : إطلاق تلك الأخبار إنّما يقتضي جواز التصدّق بعينه أو ثمنه لو عرضه الاختلاط بعد أن جهل صاحبه دون ما إذا امتزج أوّلا ، ثم جهل صاحبه ، كما هو الغالب في ما ورد فيه أخبار الخمس ، فيمكن الفرق بينهما بصيرورة الأوّل بواسطة تنجّز التكليف بالتصدّق به لدى الجهل بصاحبه بمنزلة معلوم الصاحب كمال الزكاة والخمس ، بخلاف الثاني.

لأنّا نقول : الأمر تعلّق بالتصدّق به بعنوان كونه مال الغير ، مع أنّه ليس إلّا من باب الترخيص ، كما تقدّمت الإشارة إليه آنفا في كلام شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ، فلا يجعله بالفعل ملكا للفقراء ، كالزكاة والخمس حتى يصير بمنزلة معلوم الصاحب.

وثانيا : سلّمنا أنّ أخبار التصدّق قاصرة عن إفادته بالنسبة إلى صورة الامتزاج ، ولكن أخبار الخمس أيضا كذلك بالنسبة إلى مثل الفرض ؛ فإنّ صورة العلم بمقدار الحرام تفصيلا خارجة عن منصرفها جزما.

نعم ، خبر ابن مروان (١) مطلق ، ولكن إطلاقه وارد مورد حكم آخر ، فلا يفهم منه إلّا ثبوت الخمس في الحلال المختلط بالحرام على سبيل

__________________

(١) تقدّم الخبر في صفحة ١٥٦.

١٧١

الإجمال ، والقدر المتيقّن من مورده صورة الجهل بمقدار الحرام.

هذا ، مع ما في إيجاب الخمس في ما لو كان الحرام المختلط أقلّ قليل كواحد من الألف ، أو الاكتفاء بالخمس في عكسه ما لا يخفى من البعد المانع من صرف الروايات إليه ، فصورة العلم بالمقدار خارجة عن مورد كلا الحكمين ، فيرجع في حكمها إلى الأصل ، وهو : حرمة التصرّف في ملك الغير من غير رضاه ، ولكن له تخليص ماله بالقسمة برفع أمره إلى الحاكم إن كان ، وإلّا فعدول المؤمنين ، وإن تعذّر يتولّاه بنفسه ؛ لقاعدة نفي الضرر ، كما لو امتزج ماله بمال شخص غائب أو صغير أو مجنون أو مجهول يرجى معرفته ، فإنّ وجوب الخمس أو الصدقة أو غير ذلك إنّما هو بعد اليأس عن صاحبه ، فقبله خصوصا مع غلبة الظنّ بوجدان صاحبه ليس له صرفه في الخمس أو الصدقة بلا شبهة ، بل عليه حفظه والفحص عن صاحبه ، وحيث إنّ إبقاءه كذلك مانع عن التصرّف في ماله ، وهو ضرر منفيّ في الشريعة ، له أن يرفع أمره إلى الحاكم ، ومطالبته بالتقسيم ، وتعيين مال الغائب المجهول ، ثم الفحص عن صاحبه ، فإن وجده فهو ، وإلّا فيندرج في موضوع أخبار الصدقة ، أو يفهم حكمه منها بتنقيح المناط.

فما ذكره في طيّ كلامه من توقّف تقسيمه على رضى الشريكين ، وبدونه يمتنع ، فلا يجدي التصدّق بمقدار الحرام في حلّية الباقي ، ضعيف ؛ فإنّ الحاكم يقوم مقام شريكه.

مع أنّ صحّة القسمة لا تنوط برضى كلّ من الشريكين ، بل لكلّ منهما إلزام صاحبه به ، فإن امتنع يتولّاه الحاكم الذي هو وليّ الممتنع.

فتلخّص لك أنّ القول بوجوب الخمس في هذه الصورة ، أي : صورة العلم بمقدار الحرام تفصيلا ، سواء كان أقلّ من الخمس أو أكثر في غاية الضعف.

١٧٢

مع أنّه بحسب الظاهر مخالف للإجماع وإن أوهمه إطلاق بعضهم الخمس في الحلال المختلط بالحرام ، ولكنه لا يظنّ بأحد منهم الالتزام به ، ولذا خصّ غير واحد من أساطين الأصحاب عنوان المسألة بصورة عدم تميّز المقدار والمستحق.

ويتلوه في الضعف : القول بوجوب دفع ذلك المقدار خمسا لا صدقة ، قلّ أو كثر.

ولعلّه لدعوى استفادته من الأخبار التي ورد الأمر فيها بالخمس بتنقيح المناط ، نظرا إلى أنّ الجهل بالمقدار إنّما يناسب تحديد مقداره بالخمس لا تخصيص مصرفه بأرباب الخمس ، فيستكشف من ذلك أن قصره عليهم دون سائر الفقراء منشؤه عدم تميّز عينه لا الجهل بقدره.

وفيه : أنّ كون الخمس الثابت في الحلال المختلط بالحرام تحديدا لمقدار الحرام المختلط ، لا كونه حكما تعبديّا أمر حدسي غير مقطوع به ، كما تقدّمت الإشارة إليه مرارا ، فضلا عن أن يقطع أنّ مناط أصل الاستحقاق محض الاختلاط ، والجهل بمالكه من غير أن يكون للجهل بمقداره دخل فيه.

وأضعف منه : القول بأنّه على تقدير زيادته على الخمس يصرف خمسه في مصرف الخمس ، والزائد صدقة ؛ إذ لا مقتضى لهذا التفصيل ، فإنّه إمّا أن تتناوله أخبار الصدقة ولو بتنقيح المناط أو أخبار الخمس كذلك ، أو لا يتناوله شي‌ء منهما ، ويرجع في حكمه إلى الأصول ، وعلى أيّ التقادير لا يتّجه هذا التفصيل ، كما لا يخفى.

ولو كان مقدار الحرام مجهولا تفصيلا ، ولكنه يعلم إجمالا بأنّه أقلّ من الخمس أو أكثر ، فالظاهر كونه بحكم ما لو علم كونه كذلك تفصيلا في كونه خارجا عن مورد أخبار الخمس.

١٧٣

أمّا صورة العلم بكونه أقلّ : فلظهور التعليل الوارد في الأخبار بـ «إنّ الله رضي من الأشياء بالخمس» في إرادته في غير هذه الصورة ؛ لأنّ سوقه يشهد بوروده في مقام بيان التوسعة والتخفيف ، فلا يناسبه الإلزام بالأكثر.

اللهمّ إلّا أن يحمل الخمس على التعبّد المحض من غير أن يكون مربوطا بقدر الحرام ، ومنزّلا إيصاله إلى صاحبه ؛ كي ينافيه العلم بكونه أقلّ.

ولكنّك عرفت أنّ الالتزام بكونه كذلك في غاية الإشكال ، مع مخالفته لظاهر المشهور أو المجمع عليه ، فما استقربه في المناهل ـ على ما حكي (١) عنه من وجوب الخمس في هذه الصورة ؛ لإطلاق الأخبار والفتاوي ـ ضعيف.

ويستكشف من عدم شمول النصوص والفتاوى لهذه الصورة : أنّ صورة العلم بكون الحرام أكثر من الخمس أيضا كصورة العلم بأنّه أقلّ غير مقصودة بالروايات ؛ إذ التفكيك بين الصورتين في إرادتهما من الروايات لا يخلو عن بعد ، بل المقصود بها بحسب الظاهر هو صورة الجهل الذي يناسبه التحديد بالخمس شرعا ، أي ما كان حرامه مردّدا بين الأقلّ من الخمس والأكثر ، كما لعلّه الغالب في موارد النصوص ، دون ما إذا علم بأنّه أقلّ أو أكثر.

هذا ، مع ما في إرادة صورة العلم بكونه أكثر كصورة العلم بكونه أقلّ من البعد حيث إنّ مقتضاها تحليل مال الغير مجّانا ، وهو كإلزامه بدفع الأكثر في صورة العلم بكونه أقلّ بعيد ، فلا يكاد ينسبق إلى الذهن

__________________

(١) حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الخمس : ٥٤١.

١٧٤

إرادتها من مثل هذه النصوص.

فالأظهر خروج كلّ من الصورتين عن مورد النصوص ، فيتّجه فيهما ما عرفته في صورة العلم التفصيلي بمقدار الحرام من الصدقة.

ثم لو قلنا بشمول أخبار الخمس لصورة العلم بالزيادة ، فمقتضاه الاقتصار على إخراج خمسه ؛ لما في الأخبار من التصريح بأنّ سائر المال لك حلال (١) فاحتمال وجوب دفع الجميع خمسا ، أو صرف خمسه في مصرف الخمس والزائد صدقة ضعيف.

وعلى المختار من وجوب الصدقة ، فهل يقتصر على القدر المتيقّن ، أو يتصدّق بما تيقّن معه بالبراءة؟ وجهان ، قضية الأصل والاقتصار في رفع اليد عمّا تقتضيه اليد على المتيقّن هو الأول ، ولكن الاعتماد على الأصول والقواعد بعد أن علم إجمالا بامتزاج ما في يده بالحرام مشكل.

وما يقال من أنّ العلم الإجمالي بامتزاج ما في يده بالحرام ينحلّ إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، فيرجع في المشكوك إلى الأصول والقواعد ؛ على إطلاقه لا يخلو عن نظر ، كما أوضحناه في الأصول ، فالأحوط ـ إن لم يكن أقوى ـ هو التصدّق بما يحصل معه اليقين بالبراءة ، والله العالم.

الصورة الثالثة : أن يعرف قدر الحرام وصاحبه ، وحكمه الشركة في العين بنسبة المالين ، فهذا ممّا لا إشكال فيه إذا كان صاحبه معروفا بعينه.

وأمّا إذا كان مردّدا بين أشخاص محصورة ، فقد يشكل الأمر حيث إنّ مقتضي قاعدة اليد وجوب إيصال مقدار الحرام إلى صاحبه ، ولا يحصل

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٢٥ / ٥ ، الفقيه ٣ : ١١٧ / ٤٩٩ ، التهذيب ٦ : ٣٦٨ / ١٠٦٥. الوسائل : الباب ١٠ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٤.

١٧٥

الجزم به إلّا بدفع مثله إلى كلّ منهم ، وهو ضرر عظيم.

ولذا قد يقال ، بل قيل فيه : بالقرعة ؛ لأنّها لكلّ أمر مشكل.

وقيل : بالقسمة بينهم ؛ أخذا من بعض الأخبار الواردة في الوديعة المردّدة بين شخصين (١).

والأوجه : الالتزام بوجوب الاحتياط ، وتحصيل الجزم بتفريغ ذمته بصلح ونحوه ولو بدفع أمثال المال إلى الجميع لدى الإمكان ، كما صرّح به بعض ، بل لعلّه المشهور ، حيث إنّ تضرّره بذلك نشأ من سوء اختياره وتفريطه في مال الغير ، فيشكل أن يعارض ضرره ضرر ذلك الغير وإن كان أكثر ، فمقتضى قاعدة اليد ، المعتضدة بقاعدة نفي ضرر المالك : وجوب إيصال ماله إليه ، فيجب تحصيل مقدماته الوجودية والعلمية بحكم العقل وإن توقّف على بذل المال ، إلّا أن ينفيه قاعدة نفي الحرج والضرر ، وهو مشكل في مثال المقام الذي نشأ التكليف به من سوء اختياره ، وكون رفعه مستلزما لتضرّر الغير على تقدير عدم وصول ماله إليه ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، فإنّ شمول القاعدة لمثل هذا الضرر لا يخلو عن تأمّل.

نعم ، لو لم يكن استيلاؤه عليه على سبيل العدوان ، بل كان مال الغير عنده وديعة أو عارية فامتزج بماله من غير تعدّ أو تفريط ، أو كان استيلاؤه عليه لا على وجه يستند العدوان إليه ، بأن حصل بفعل الغير ، كما لو غصبه ثالث ، فخلطه بماله ، فيتّجه حينئذ نفي وجوب مقدّماته الوجودية والعلميّة بالقاعدة ، فلا يجب عليه حينئذ بذل الأزيد من مقدار

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٢٣ / ٦٣ ، التهذيب ٦ : ٢٠٨ / ٤٨٣ ، الوسائل : الباب ١٢ من أبواب كتاب الصلح ، الحديث ١.

١٧٦

الحرام ، ويرجع في تشخيص مالكه إلى القرعة ، أو أنّه يقسّمه بين محتملاته على الخلاف في ما هو من نظائر المقام.

واحتمل شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ في هذه الصورة ـ أي : صورة اشتباه صاحبه في قوم محصورين ـ القول بأنّه يدفع إلى الحاكم لهم من المال المذكور ما تيقّن معه بخلوّ ما في يده من الحرام ، فيكون المال في يد الحاكم مردّدا بين قوم محصورين.

ثم قال ما لفظه : وعليه ، فيرتفع ما ذكره بعضهم من حصول الإشكال حينئذ من جهة لزوم أن يدفع إلى كلّ واحد منهم ما يجب دفعه عليه مع الاتّحاد ، وهو خسران عظيم.

ثمّ قال : وأضعف من ذلك ما دفع به الإشكال من أنّه لا بعد في لزوم ذلك عليه عقوبة لما صنع من الخلط بالحرام (١). انتهى.

أقول : وجه الأضعفية : أنّه لا يكفي مجرّد نفي البعد عن إيقاع الغاصب في المشقّة والضرر من باب العقوبة في جواز الالتزام به ، ورفع اليد عمّا تقتضيه عمومات أدلّة نفي الحرج والضرر بالنسبة إليه ، كما هو واضح.

وأمّا ما ذكره رافعا للإشكال من دفعه إلى الحاكم ؛ ففيه : أنّه أشكل من أصله ؛ إذ لا ولاية للحاكم على صاحب المال مع حضوره وعدم امتناعه عن الحق ، فكيف يسوغ له دفع مال الغير إلى الحاكم ، وللحاكم قبوله مع حضور صاحبه في ضمن هذه الأشخاص المحصورة! خصوصا مع تصريح كلّ منهم بعدم رضاه بهذا التصرّف ، وعدم امتناعه عن التعبّد بحكم الشارع في حقّه.

نعم لو قيل : بأنّه لا يجب على من اختلط ماله بالحرام إلّا دفع مقدار

__________________

(١) كتاب الخمس : ٥٣٨ ـ ٥٣٩.

١٧٧

الحرام وإيصاله إليهم على سبيل التوزيع أو القرعة ، فامتنعوا (١) عن قبوله ، يقبله الحاكم ولاية عنهم ؛ لأنّه ولي الممتنع ، وهذا لا مدخلية له في دفع الإشكال ، بل الإشكال اندفع بتحكيم أدلّة نفي الحرج والضرر على قاعدة الشغل.

والحاصل : أنّه إن كان الدفع إلى الحاكم بعد الإفتاء بأنّه لا يجب عليه تحصيل القطع بإيصال الحرام إلى صاحبه ، بل يكفيه إيصاله إلى الجميع على سبيل التوزيع أو الموافقة الاحتمالية الحاصلة بالقرعة ، فلا دخل له في رفع الإشكال ؛ إذ لم يبق بعد إشكال ؛ كي يندفع بهذا ، وإن كان قبله فلا يجوز ؛ إذ لا ولاية للحاكم على صاحب الحق الذي لا يرضى إلّا بحقّه ؛ فليتأمّل.

الصورة الرابعة : أن يكون قدر الحرام مجهولا وصاحبه معلوما ،

فهل يقتصر على القدر المتيقّن اقتصارا في رفع اليد عمّا يقتضيه ظاهر يده على ما علم خلافه ، ولأصالة براءة الذمة عن التكليف بدفع أزيد ممّا علم التكليف به ، أو يدفع ما تيقّن معه البراءة تحصيلا للجزم بالخروج عن عهدة ما علم تنجّز التكليف به على سبيل الإجمال؟ فيه تردّد ، أحوطهما :الثاني.

وحكي (٢) عن التذكرة القول بدفع الخمس ، فكأنّ مستنده دعوى دلالة الأخبار المزبورة الواردة في مجهول المالك على أنّ الخمس تحديد شرعي لمقدار الحرام الممتزج الذي لا يعرف مقداره ، من غير مدخلية

__________________

(١) كذا في النسخة الخطية المعتمدة في التحقيق ، وفي الطبعة الحجرية ، والأنسب بالعبارة : فإن امتنعوا.

(٢) حكاه البحراني في الحدائق الناضرة ١٢ : ٣٦٥ ، والشيخ الأنصاري في كتاب الخمس :٥٣٨ ، وراجع : تذكرة الفقهاء ٥ : ٤٢٢.

١٧٨

للجهل بمالكه فيه.

وفيه نظر ، بل منع.

وقد يقال : بأنّه يدفع إلى الغير ما يعلم بكونه له ، ويأخذ لنفسه أيضا المقدار الذي يعلم بكونه له ، ويعامل في المشكوك معاملة المال المردّد بين شخصين من الرجوع إلى القرعة أو التنصيف ، على الخلاف فيه ، ومبناه تسليم عدم اقتضاء العلم الإجمالي وجوب الاحتياط بالنسبة إلى المشكوك ، بل يعمل فيه بالبراءة ، فينفي التكليف بدفعه إلى الغير بالأصل.

ولكن لا يجدي ذلك في الحكم بكونه مملوكا له ؛ إذ لا تعويل على الأصول المثبتة.

وجريان يده عليه غير مجد بعد أن علم بشيوع الحرام في المجموع ، وكون يده على المجموع عادية.

ولعلّه إلى هذا يرجع ما عن كشف الغطاء من أنّه قال : لو عرف المالك دون المقدار وجب صلح الإجبار (١). انتهى.

ويتوجّه عليه إنّا إن بنينا على أنّ العلم الإجمالي باشتماله على الحرام لا يصلح مانعا عن الرجوع إلى البراءة في ما زاد على المتيقّن ، فعدم ممانعته عن الأخذ بما يقتضيه اليد من الحكم بملكية المشكوك ما لم يعلم خلافه أولى ؛ إذ لا يبعد أن يقال : إنّ حال اليد حال الأصول اللفظية ، وسائر الأمارات التعبّدية التي قد تقرّر في محلّه أنّه لو ورد عليها التخصيص بمجمل مردّد بين الأقلّ والأكثر يقتصر في رفع اليد عمّا يقتضيها على الأقل ، فما نحن فيه ليس إلّا من هذا القبيل.

فمن هنا قد يتّجه الالتزام بملكية المشكوك في المقام وإن أوجبنا عليه

__________________

(١) حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الخمس : ٥٣٨ ، وراجع : كشف الغطاء : ٣٦١.

١٧٩

الاحتياط في نظائره ممّا علم إجمالا باشتغال ذمته بتكليف مردّد بين الأقلّ والأكثر ، كقضاء فوائت لا يعلم عددها ونظائره ، ولكنه لا يخلو عن تأمّل.

فالوجه أن يقال إنّا إن بنينا على أنّ العلم الإجمالي في مثل هذه الموارد يوجب تنجّز التكليف بمتعلّقه على إجماله فلا محيص عن الالتزام بالاحتياط بدفع مقدار يعلم بعدم زيادة الحرام عنه ، وإن قلنا بأنّ العلم الإجمالي مآله لدى التحليل إلى علم تفصيلي وشك بدوي ، فالمتّجه الرجوع إلى البراءة ، والأخذ بمقتضى اليد بالنسبة إلى المشكوك دون سائر الاحتمالات التي تقدّمت الإشارة إليها.

وقد أشرنا آنفا إلى أنّ دعوى الانحلال على إطلاقه ـ أي : في ما إذا لم يحصل بعد التأمّل انحلال حقيقي بحيث لم يبق معه العلم على إجماله ـ لا تخلو عن تأمّل ، فرفع اليد بالنسبة إليه عمّا تقتضيه قاعدة الشغل مشكل ، والله العالم.

تنبيه

صرّح شيخنا المرتضى (١) ـ رحمه‌الله ـ وغيره (٢) بأنّه لو تصرّف في المال المختلط بالحرام بحيث صار في ذمته تعلّق الخمس بذمته ، ولو تصرّف في الحرام المعلوم فصار في ذمته ، وجب دفعه صدقة.

ويشكل ذلك : بما عرفت في ما سبق من أنّ تعلّق الخمس بهذا القسم ليس على حسب تعلّقه بسائر ما يتعلّق به الخمس في كونه حقّا

__________________

(١) كتاب الخمس : ٥٤١.

(٢) انظر : جواهر الكلام ١٦ : ٧٦ ـ ٧٧.

١٨٠