مصباح الفقيه - ج ١٤

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٩

الجواب الواقع قبله على خصوص مورده ؛ إذ لو كان لخصوصيتها مدخلية في الحكم ، لكان مقتضاها الاستفصال عنه قبل الجواب.

واحتمال كونها معهودة لديهم في السؤال الأوّل أيضا مدفوع بالأصل ، وإلّا لمنع ذلك عن الاستدلال بالإطلاق ولو لم يكن يصدر منه سؤاله الثاني والثالث أيضا ، كما لا يخفى.

وأمّا صحيحة الحلبي : فهي صريحة في نفي القضاء في المضمضة لخصوص صلاة الفريضة ، وثبوته في الوضوء للنافلة ، فيفهم منه ثبوته في المضمضة عبثا ونحوه بالأولى.

ويؤيّده أيضا : خبر يونس ، فإنّه كاد أن يكون صريحا في ثبوته في المضمضة لغير الطهارة مطلقا ، بل ظاهره اختصاص نفي القضاء بالمضمضة للفريضة في وقتها دون ما عداها حتى المقضية والنافلة ، فضلا عن المضمضة لغير الطهارة.

ولكن هذه الرواية لضعف سندها واحتمال كونها كلام يونس لا يصلح إلّا للتأييد لما تضمّنته صحيحة الحلبي.

فعمدة ما يصحّ الاستناد إليه للقول باختصاص نفي القضاء بالمضمضة لصلاة الفريضة ـ كما قال به أو مال إليه غير واحد من المتأخّرين ـ هي : هذه الصحيحة ، ولا يصلح لمعارضتها شي‌ء ممّا ذكر من الأصل ، والإطلاق ، وقاعدة ترك الاستفصال ؛ لوجوب رفع اليد عن جميع ذلك بالنصّ على ثبوته في وضوء النافلة.

ولكن استفاضة نقل الإجماع على نفي القضاء في المضمضة للطهارة مطلقا ، وشذوذ القول بالتفصيل بين الوضوء للفريضة والنافلة ، وإمكان ارتكاب التأويل في الصحيحة : بحمل القضاء على الاستحباب ، أشكل الاعتماد على ظاهرها في مقابل ما عرفت ، إلّا أنّ رفع اليد عن هذا

٥٢١

الظاهر من غير معارض مكافئ ما لم يتحقّق إعراض المشهور عنها أشكل ، فالقول بثبوت القضاء في وضوء النافلة إن لم يكن أقوى فلا ريب في أنّه أحوط.

ولكن التعدّي إلى غيره ، كالمضمضة عبثا أو للتداوي ونحوه موقوف على دعوى الأولويّة وتنقيح المناط ونحوه ، وهي بالنسبة إلى العبث ونحوه غير بعيدة ، وفي ما كان للتداوي قابلة للمنع ، والله العالم.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من وجوب القضاء بدخول الماء إلى الجوف لا عن عمد بالمضمضة للتبرّد وغيره إنّما هو في ما لو سبق الماء إلى جوفه قهرا ، وأمّا لو وصل إليه سهوا بأن وضع الماء في فيه للمضمضة أو لغرض آخر ولو عبثا ثمّ نسي صومه ، أو وجود الماء في فيه فابتلعه ، فلا شي‌ء عليه ؛ لعموم ما دلّ على عدم مفطريّة ما صدر سهوا ، وانصراف النصوص المتقدّمة الدالّة على القضاء عنه.

فما عن ظاهر المعتبر أو صريحه من ثبوت القضاء في السهو أيضا (١) ؛ ضعيف.

ونظيره في الضعف : ما عن غير واحد من إلحاق الاستنشاق بالمضمضة في الحكم المزبور ؛ إذ لا دليل عليه عدا القياس الذي لا نقول به.

واعلم أنّ المعروف من مذهب الأصحاب : جواز المضمضة للصائم مطلقا ، سواء كانت في الطهارة أو في غيرها ولو للتبرّد أو عبثا ، خلافا لظاهر كلام الشيخ في محكي الإستبصار ، حيث إنّه بعد أن روي خبر زيد الشحّام عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ في صائم يتمضمض ، قال :

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٢٩٠ ، وراجع : المعتبر ٢ : ٦٦٣.

٥٢٢

لا يبلع ريقه حتّى بزق ثلاث مرات ، قال ما لفظه :

قال محمد بن الحسن : هذا الخبر مختصّ بالمضمضة إذا كانت لأجل الصلاة ، فأمّا للتبرّد ، فإنّه لا يجوز على حال.

يدلّ على ذلك : ما رواه محمد بن يعقوب عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن الريّان بن الصلت عن يونس ، قال : الصائم في شهر رمضان يستاك متى شاء ، وإن تمضمض في وقت فريضة فدخل الماء حلقه ، فلا شي‌ء عليه ، والأفضل للصائم أن لا يتمضمض (١). انتهى.

هكذا نقل كلام الشيخ في نسخة المدارك الموجودة عندي.

ولعلّها مشتملة على السقط ؛ فإنّه روى في الوسائل هذه الرواية عن محمد بن يعقوب عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن الريّان بن الصلت عن يونس ، ثم ساق الحديث كما نقلناه سابقا.

ثم قال : محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن يعقوب مثله (٢).

فالظاهر أنّ استدلال الشيخ بهذه الرواية ليس بما في ذيلها من أنّ الأفضل للصائم أن لا يتمضمض كما توهّم ؛ فإنّه على خلاف مطلوبه أدلّ ، بل بالفقرة الساقطة من العبارة المزبورة ، وهو : وإن تمضمض في غير وقت فريضة فدخل الماء حلقه فعليه الإعادة ؛ بناء منه على ما يظهر من كلمات غير واحد منهم من دعوى الملازمة بين الرخصة في المضمضة وعدم سببية ما وصل إلى الجوف منها قهرا للإفساد ، وإلّا لكان مقتضى وجوب الصوم إيجاب الكفّ عنه بترك مقدّمته الاختيارية ، وهي :المضمضة.

__________________

(١) مدارك الأحكام ٦ : ١٠١ ، وراجع : الاستبصار ٢ : ٩٤ ، الحديث ٣٠٣ وذيله ، والحديث ٣٠٤.

(٢) الوسائل : الباب ٢٣ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٣ وذيله.

٥٢٣

وفيه : منع الملازمة ، بعد أنّ الفعل ـ أي الوصول إلى الجوف ـ لا يخرج عادة بهذه المقدّمة عن اختياره ، بل غاية ما يلزم (١) الرخصة في المضمضة قبح المؤاخذة على ما يترتّب عليها قهرا ، لا عدم بطلان الصوم بوصول الماء إلى الجوف قهرا من باب الاتّفاق.

وكيف كان ، فالاستدلال بالرواية المزبورة لمدّعاه ضعيف دلالة وسندا ، فالقول بالحرمة مع شذوذه ممّا لا دليل عليه.

وأضعف منه ما حكي (٢) عنه في التهذيب من القول بأنّه لو تمضمض لغير الصلاة فدخل حلقه ، فعليه الكفّارة والقضاء ؛ إذ لا مقتضى للكفّارة حتى في نحو التبرّد الذي أوجبنا القضاء فيه ؛ لاشتراطها بحصول الشرب عمدا ، كما عرفته في ما سبق ، وهو منتف في الفرض.

وأمّا خبر المروزي ، قال : سمعته يقول : إذا تمضمض الصائم أو استنشق متعمّدا أو كنس بيتا فدخل في أنفه وحلقه غبار ، فعليه صوم شهرين متتابعين ، فإنّ ذلك له فطر مثل الأكل والشرب والنكاح (٣) فلا يصلح أن يكون مستندا له ؛ فإنّه لا يقول بظاهره من الإطلاق ، وباب التأويل واسع ، فكما يحتمل أن يكون المراد به ما لو تمضمض واستنشق متعمّدا فوصل الماء إلى جوفه قهرا ، كذلك يحتمل أن يكون المراد به ما إذا أوصل الماء إلى جوفه بالمضمضة والاستنشاق متعمّدا ، بل حمله على إرادة هذا المعنى أوفق بما يقتضيه الجمع بينه وبين غيره ممّا

__________________

(١) في النسخة الخطية والطبعة الحجرية : يلزمه. والصحيح ما أثبتناه.

(٢) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٢٩٢.

(٣) التهذيب ٤ : ٢١٤ / ٦٢١ ، الإستبصار ٢ : ٩٤ / ٣٠٥ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ١.

٥٢٤

دلّ على شرطيّة العمد في سببيّة الشرب للكفّارة ، بل أنسب بإقحام لفظ «متعمّدا» في البين ؛ فإنّه لو أريد به تقييد نفس المضمضة والاستنشاق من حيث هما بالعمد ، لكان ذكره مستدركا ؛ إذ المتبادر من قوله : «إذا تمضمض واستنشق» ليس إلّا صورة العمد. ولو أريد به ما يقابل ناسي الصوم ، لكان الأنسب ذكره بعد «أو كنس بيتا» لاشتراك الجميع في ذلك ، فإقحامه في البين مشعر بإرادته بالنسبة إلى وصوله إلى الجوف الذي هو سبب للبطلان ، حيث إنّ سببيّة المضمضة والاستنشاق له ليست قهريّة حتى تكون عمديتهما كافية في اتّصاف الوصول إلى الجوف بالعمد ، بخلاف كنس البيت ونحوه.

هذا كلّه ، مضافا إلى ضعف الرواية وعدم صلاحيتها في حدّ ذاتها لإثبات مثل هذا الحكم ، كما عرفته في محلّه.

(و) التاسع ممّا يوجب القضاء خاصّة : (معاودة الجنب النوم ثانيا حتى يطلع الفجر ناويا للغسل) بل وكذا ثالثا فما زاد على الأظهر ، كما تقدّم تحقيقه ، وشرح حال ما لو استمرّ نومته الاولى ، وأنّها لا توجب قضاء ولا كفّارة في ما مرّ ، فلا نطيل بالإعادة.

(ومن نظر إلى من يحرم عليه نظرها بشهوة فأمنى ، قيل : إنّ عليه القضاء. وقيل : لا يجب. و) هذا (هو الأشبه ، وكذا لو كانت محلّلة لم يجب) كما تقدّم شرح ذلك كلّه في ما سبق.

وأشرنا في ما تقدّم إلى أنّ هذا في ما إذا لم يكن الإمناء مقصودا له بالنظر ، أو كان يعرفه من عادته ، وإلّا اندرج في موضوع الاستمناء والجنابة العمدية الموجبة للقضاء والكفّارة ، بل لا يبعد الالتزام بهما مع الاعتياد وإن لم يكن على وجه يجزم بسببيته له حتى يندرج في الجنابة العمدية بدعوى استفادته من الأخبار الواردة في الملاعبة ونحوها ببعض

٥٢٥

التقريبات التي تقدّمت الإشارة إليه في ما سبق ، فراجع.

(فروع :)

(الأول : لو تمضمض متداويا ، أو طرح في فيه خرزا أو غيره لغرض صحيح فسبق إلى حلقه ، لم يفسد صومه) كما ظهر وجهه ممّا مرّ آنفا.

(ولو فعل ذلك عبثا ، قيل : عليه القضاء. وقيل : لا. وهو الأشبه) لو لم نقل بثبوته في وضوء النافلة ، وإلّا فلا يخلو القول بوجوبه في المضمضة عبثا عن وجه ، كما عرفته في ما مرّ.

(الثاني : ما يخرج من بقايا الغذاء من بين أسنانه) ولو بمخرج (يحرم ابتلاعه للصائم) وإن لم يبرز إلى خارج الفم (فإن ابتلعه عمدا ، وجب عليه القضاء) قولا واحدا عندنا ، خلافا لأبي حنيفة على ما صرّح به في الجواهر (١).

وفي المدارك بعد أن نسب القول بوجوب القضاء من غير تعرّض للكفّارة إلى الشيخ في الخلاف والمبسوط ، ووجّه وجوبه مع الكفّارة : بأنّه تناول المفطر عامدا ، فساوى ما لو ازدرده من خارج ، قال ما لفظه : ويمكن المناقشة في فساد الصوم بذلك ؛ لعدم تسميته أكلا.

ولما رواه الشيخ ـ في الصحيح ـ عن عبد الله بن سنان ، قال : سئل أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن الرجل الصائم يقلس (٢) فيخرج منه الشي‌ء أيفطره ذلك؟ قال : لا ، قلت : فإن ازدرده بعد أن صار على لسانه؟

__________________

(١) جواهر الكلام ١٦ : ٢٩٤.

(٢) القلس : ما خرج من الجوف مل‌ء الفم أو دونه وليس بقي‌ء ، فإن عاد فهو القي‌ء. النهاية لابن الأثير ٤ : ١٠٠.

٥٢٦

قال : لا يفطره ذلك (١) (٢). انتهى.

أقول : منع تسميته أكلا مجازفة إلّا بلحاظ قلّته وعدم الاعتداد به عرفا وهي غير قادحة في مفطرية المفطرات كما عرفته في محلّه ، مع أنّ المراد بالأكل المبطل عمدا للصوم أعمّ من الازدراد والبلع والتجرّع ونحوه ممّا لا يسمّى باسمه عرفا.

وتوهّم : أنّ لإيصاله إلى الجوف من الخارج دخلا في التسمية أو في انصراف النهي عن الأكل إليه ؛ مدفوع : بأنّ هذا إن سلّم فهو مجد في عدم قادحيّة مثل النخامة والجشاء (٣) ونحوه ممّا كان وصوله إلى الفم من الباطن ، لا في مثل الطعام الذي وضعه في فيه ، ولم يبتلع جميعه أو بعضه لمانع إلّا بعد مدّة كما في المقام ؛ فإنّه بعد أن ابتلعه صدق عليه أنّه أكل جميعه صدقا حقيقيّا بالنسبة إلى كلّ جزء منه حتى المتخلّف بين أسنانه على سبيل التواطؤ ، كما هو واضح.

وبما أشرنا إليه من الفرق بين ابتلاع ما وصل إلى الفم من الخارج أو من الجوف في إمكان منع التسمية أو الانصراف في الثاني دون الأول ظهر فساد الاستدلال لعدم الفساد في ما نحن فيه : بصحيحة ابن سنان ؛ إذ بعد تسليم العمل بإطلاق الصحيحة والالتزام بأنّ ابتلاع ما يتجشّأ بعد وصوله إلى فضاء الفم عمدا غير مفسد ، فهو حكم مخصوص بمورده ، والتعدّي عنه إلى ما نحن فيه قياس مع الفارق.

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٦٥ / ٧٩٦ ، الوسائل : الباب ٢٩ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٩.

(٢) مدارك الأحكام ٦ : ١٠٣ ـ ١٠٤ ، وراجع : الخلاف ٢ : ١٧٦ ، المسألة ١٦ ، والمبسوط ١ : ٢٧٢.

(٣) الجشاء : صوت يخرج من الفم عند شدّة الامتلاء. مجمع البحرين ١ : ٨٧.

٥٢٧

هذا ، مع أنّ الالتزام بجواز ابتلاع ما يخرج من الجوف إلى فضاء الفم بالجشاء والقي‌ء ثانيا في غاية الإشكال ؛ إذ الظاهر اندراجه في مسمّى الأكل والشرب عرفا ، والصحيحة المزبورة غير ناهضة بإثباته ؛ لقوة احتمال جريها مجرى الغالب من كون الازدراد بغير اختياره : إمّا لعدم وصوله إلى فضاء الفم ، بل إلى أصل اللسان وما دونه ، أو لسبق رجوعه إلى الجوف لا عن عمد ؛ لما فيه بعد وصوله إلى فضاء الفم من النفرة المانعة من تعمّد ابتلاعه ، خصوصا ممّن كان عازما على ترك جنس الأكل والشرب ؛ فإنّ شبهة اندراجه في موضوعهما كافية في الغالب لترك ابتلاعه عمدا ، فضلا عن شهادة العرف بذلك.

هذا ، مع أنّه لم ينقل القول بنفي البأس عنه عن أحد ، بل ظاهرهم الاتّفاق على فساد الصوم بتعمّد ابتلاع ما تخلّف في الفم من القي‌ء أو القلس وإن اختلفوا في أنّه يوجب القضاء خاصة ، كما عن صريح الغنية بل عن ظاهره : دعوى الإجماع عليه (١).

وعن الحلّي التصريح بوجوب الكفّارة (٢) أيضا (و) هذا هو الأشبه ، كما أنّ (الأشبه) في ابتلاع الغذاء الخارج من بين الأسنان عمدا (القضاء والكفّارة) لاندراجهما في ما دلّ عليهما ، أي في من أفطر متعمّدا.

ودعوى : انصراف أدلّة الكفّارة عن مثله ، كما لعلّه مستند القول بالعدم ؛ غير خالية عن النظر ، والله العالم.

(وفي السهو لا شي‌ء عليه) ولو مع تقصيره في التخليل ؛ إذ

__________________

(١) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٢٩٥ ، وراجع : الغنية (الجوامع الفقهية) : ٥٠٩.

(٢) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة : ٢٢٢ ، وراجع : السرائر ١ : ٣٧٧.

٥٢٨

لا ملازمة بينه وبين الوصول إلى الجوف قهرا ؛ كي يدّعى اندراجه حينئذ في العامد بإيجاد سببه اختيارا.

فما عن فوائد الشرائع من أنّ الأقرب مع التقصير القضاء خاصّة ؛ لتعريضه صومه للإفطار (١) ؛ لا يخلو عن نظر ، مع أنّه تعريض لوصوله إلى الجوف سهوا ، وهو ليس بمفطر ولا دليل على وجوب التحفظ حتى يجعله بحكم العمد.

اللهم إلّا أن يقال بانصراف ما دلّ على العفو عن السهو عن مثله ، فيبقى مندرجا تحت القاعدة الأوّلية ، وهي سببيّة مطلق الأكل ولو سهوا لبطلان الصوم لولا الدليل الحاكم ، كما هو المفروض ، فليتأمّل.

(الثالث : لا يفسد الصوم ما يصل إلى الجوف بغير الحلق عدا) ما عرفته في ما سبق من (الحقنة بالمائع) للأصل بعد انتفاء مايدلّ على وجوب الكفّ عن مطلق ما يصل إلى الجوف ما لم يندرج في مسمّى الأكل والشرب والاحتقان ، بل ظهور الصحيح الحاصر لما يضرّ الصائم في أربع : الطعام والشراب والنساء والارتماس (٢) والروايات التي ورد فيها تعليل عدم الفطر بالكحل والذباب الداخل في الحلق : بأنّه ليس بطعام (٣) في خلافه (٤) ؛ إذ الغالب في ما يصل إلى الجوف من سائر المنافذ لا يسمّى طعاما ، مع أنّ المتبادر من الأمر باجتناب الطعام والشراب والنساء هو أن لا يطعم ولا يشرب ولا ينكح ، فوصول شي‌ء

__________________

(١) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٢٩٦.

(٢) التهذيب ٤ : ٣١٨ / ٩٧١ ، الفقيه ٢ : ٦٧ / ٢٧٦ ، الوسائل : الباب ١ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ذيل الحديث ١.

(٣) راجع : الوسائل : الباب ٢٥ و ٣٩ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الأحاديث ١ و ٢ و ٦.

(٤) يتعلّق بقوله : بل ظهور الصحيح.

٥٢٩

إلى الجوف حيث لا يكون مندرجا في مسمّيات هذه الأفعال لا يضرّ بالصوم ؛ قضية للحصر الوارد في الصحيح.

(وقيل) كما عن الشيخ في المبسوط وجماعة منهم العلّامة في المختلف (١) : إن (صبّ الدواء في الإحليل حتى يصل الجوف يفسده.)

واستدلّ عليه : بأنّه قد أوصل إلى جوفه مفطرا بأحد المسلكين ، فإنّ المثانة تنفذ إلى الجوف ، فكان موجبا للإفطار كما في الحقنة.

وفي المدارك نقل عن المصنّف في المعتبر أنّه أجاب عن هذا الدليل :بأنّ المثانة ليس موضوعا (٢) للاغتذاء.

وقولهم : إنّ للمثانة منفذا إلى الجوف. قلنا : لا نسلّم ، بل ربّما كان ما يرد إليها من الماء على سبيل الترشّح ، ولا يبطل الصوم بالأمر المحتمل (٣). انتهى.

وظاهره كون الكبرى عنده مسلّمة ، وإنّما مناقشته في الصغرى.

ولعلّه لذا ـ أي : لأجل مناقشة في الصغرى ، وعدم الجزم بأنّ ما يصل إلى المثانة على سبيل الترشّح دون الكبرى ـ قال هاهنا : (وفيه تردّد.)

ولا ينافيه : تصريحه في ما سبق بأنّ ما يصل إلى الجوف بغير الحلق غير مفسد ؛ لإمكان أن يكون تسليمه للكبرى في خصوص الفرض من باب الإلحاق بالحقنة بتنقيح المناط من غير أن يلتزم به في مطلق ما يصل إلى الجوف ، أو يكون تسليمه في ما إذا كان وصوله إلى الجوف

__________________

(١) الحاكي عنهم هو العاملي في مدارك الأحكام ٦ : ١٠٤ ، وراجع : المبسوط ١ : ٢٧٣ ومختلف الشيعة : ٢٢١.

(٢) في المصدر الحاكي والمحكي عنه : ليست موضعا.

(٣) مدارك الأحكام ٦ : ١٠٤ ـ ١٠٥ ، وراجع : المعتبر ٢ : ٦٦١.

٥٣٠

من المنافذ الموجودة في البدن بمقتضى الخلقة الأصلية ، وهي منحصرة في الطرفين الأسفلين وفي منافذ الرأس التي طريقها إلى الجوف من الحلق ، وهو بحسب الظاهر ملتزم بأنّ ما يصل إلى الجوف من الحلق عمدا مفسد للصوم ، سواء كان من الفم أو غيره من المنافذ ، كما يفصح عن ذلك تقييد الحكم بكراهة السعوط في ما سيأتي بما إذا لم يصل إلى الحلق ، حيث يظهر من ذلك التزامه بالمنع على تقدير وصوله إلى الحلق ، فمراده في ما سبق بما يصل إلى الجوف بغير الحلق : ما كان من قبيل ما لو طعن نفسه فوصل إلى جوفه أو وضع دواء على جرح في بدنه ، فوصل إلى الجوف ، أو نحو ذلك ، خلافا لما عن الشيخ في المبسوط من القول بفساد الصوم بذلك (١).

وعن العلّامة في المختلف بعد حكاية القول به عن المبسوط :اختياره (٢).

ولكن نقل عن خلاف الشيخ التصريح بموافقة المشهور وعدم الإفطار بالتقطير في الذكر ولا بوصول الدواء إلى جوفه من جرحه ، ولا بوصول الرمح مثلا إليه ، رطبا كان أو يابسا ، استقرّ في الجوف أو لا ، مقتصرا في حكاية الخلاف في ذلك على العامّة (٣).

ولكن الأظهر : عدم ابتناء تردّد المصنّف في هذا الكتاب على ما ظهر من معتبره من التردّد في الوصول إلى الجوف وعدمه ؛ لأنّه فرض موضوع المسألة هاهنا في ما لو وصل إلى الجوف ، فلا يبقى معه مجال للتردّد في

__________________

(١) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة : ٢٢١ ، وراجع : المبسوط ١ : ٢٧٣.

(٢) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٢٩٧ ، وراجع : مختلف الشيعة : ٢٢١.

(٣) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٢٩٧ ، وراجع : الخلاف ٢ : ٢١٤ ، المسألة ٧٤.

٥٣١

حكمه بعد تسليم الكبرى لو لم يكن الفرض مبنيّا على المسامحة في التعبير ، فكان منشأ تردّده هاهنا عدم كون ما يستدخله إلى الجوف من أسفله مثل ما يوصله إلى جوفه من حلقه عمدا في إمكان استفادة حرمته ممّا دلّ على الأكل والشرب بالتقريب الآتي. ومن إمكان إلحاق ما يصل إلى الجوف من الإحليل بالاحتقان بتنقيح المناط.

وكيف كان ، فالحقّ في المقام هو ما عرفت من عدم فساد الصوم بما يصل إلى الجوف بغير الحلق مطلقا عدا الحقنة بالمائع من غير فرق بين أن يكون من الإحليل أو من غيره. وإلحاق الأول بالحقنة قياس لا نقول به.

ودعوى : أنّ مناط الحكم هو وصوله إلى الجوف من غير مدخلية لطريقة ؛ ممّا لا ينبغي الالتفات إليها.

وأمّا ما يصل إلى الجوف من الحلق ، فإن كان من طريق الفم ، فهو مفسد مطلقا ، سواء سمّي في العرف أكلا وشربا ، أو بلعا أو تجرّعا أو ازدرادا ونحوه ؛ إذ المراد بالأكل والشرب في هذا الباب ما يتناول ذلك كلّه بلا شبهة.

ولا نعني بالإطلاق ما يتناول مثل إدخال إصبعه أو رمح أو عصا ونحوه في حلقه ؛ فإنّ مثل ذلك أجنبي عن مفهوم الأكل والشرب ، كما أنّ إخراجه من الحلق أجنبي عن مفهوم القي‌ء ، فلا ينبغي الارتياب في عدم قادحية مثله بالصوم لا إدخالا ولا إخراجا ؛ إذ لا ربط له بماهية المفطرات التي دلّت الأدلّة على وجوب الكفّ عنها ، كما هو واضح ، وإنّما المراد بالتعميم المعنى الذي لا يتحقّق معه عرفا صدق اسم الاجتناب عن الطعام والشراب ، بل يعدّ تناولا للمطعوم والمشروب وإن لم يطلق عليه خصوص اسم الأكل والشرب ، أو انصرف عنه إطلاقه.

٥٣٢

ومن هنا قد يقوى في النظر عدم الفرق في ما يصل إلى الجوف من الحلق بين كون وصوله إلى الحلق من الفم أو الأنف أو غيره من المنافذ الموجودة في الرأس أصالة أو لعارض ؛ إذ لا يقال على من استوفى حظّه من الطعام والشراب بتجرّعه من أنفه : إنّه اجتنب عن الطعام والشراب ، وإن لم يطلق على فعله أنّه أكل أو شرب.

لا يقال : إنّ المتبادر من الأمر باجتناب الصائم عن الطعام والشراب إنّما هو إرادة الاجتناب عن أكله وشربه ، لا مطلق إيصاله إلى جوفه ، وإلّا لفهم منه حرمة الاحتقان وصبّ الدواء في الإحليل ونحوه ، مع أنّه ليس كذلك جزما.

لأنّا نقول : المتبادر منه إرادة الأكل والشرب بهذا المعنى العام ، لا خصوص ما وضع له لفظهما ، أو انصرف إليه إطلاق اسمهما ، بل المتبادر من الأمر بالصوم والكفّ عن الأكل والشرب لأجل المناسبة بين الحكم وموضوعه ليس إلّا إرادتهما بهذا المعنى ، كما أنّه لا يتبادر من نهي الشارع عن شرب الخمر وأكل لحم الخنزير إلّا إرادتهما بهذا المعنى ، ولذا لا يرتاب أحد من المتشرّعة في حرمة الاستنشاق بهما على وجه يوصلهما بذلك إلى جوفه عمدا ، ولذا لم يظهر من أحد من الأصحاب ـ عدا بعض متأخّري المتأخّرين ـ التشكيك في فساد الصوم : بإيصال شي‌ء إلى جوفه عمدا من أنفه ، لو لم ينعقد الإجماع على الفساد ؛ لخروجه عن مسمّى الأكل والشرب ، وعدم صحّة دعوى القطع بالمناط في الأحكام التعبديّة ، وهو في غير محلّه ، كما عرفت.

وأمّا تشكيك كثير منهم أو جزمهم بعدم الإفساد في ما يصل إلى الحلق بالاكتحال أو التقطير في الاذن ، فهو في محلّه ؛ فإنّ ما يصل إلى الحلق من طريق العين والاذن لا يصل إليه إلّا بعد الاستهلاك

٥٣٣

والاضمحلال ، وعدم بقاء حقيقته عرفا ، فمن اكتحل بالنبات ـ مثلا ـ أو قطر في اذنه شيئا ، فوصل إلى جوفه ، لا يكون ذلك على وجه صدق عليه أنّه ابتلع أو ازدرد ذلك الشي‌ء ، بل يقال : إنّه اكتحل بالنبات ، فوجد طعمه في حلقه ، ولا يقال : وصل عينه إليه ؛ إلّا تجوّزا.

وما يقال : من أنّ وصول طعمه ملزوم لوصول جرمه الحامل للطعم على تقدير تسليمه ، غير مجد في المقام ؛ لعدم ابتناء الأحكام الشرعية على التدقيقات الحكمية ، فالمدار على صدق ازدراد النبات ، وإيصاله إلى الجوف من الحلق ، وهو منتف في الفرض.

نعم ، لو فرض كون العين والأذن أيضا كالأنف والفم بحيث يجري ما يصبّ فيهما إلى الحلق مع بقائه على حقيقته عرفا ، أو فرض وجود منفذ عارضي كذلك ، لا ينبغي الارتياب في مفطريته ، كما أنّه لا ينبغي الارتياب في حرمة تناول سائر المحرّمات التي نهى الله تعالى عن أكله وشربه كذلك ؛ لحصول معنى الأكل والشرب الذي يناسبه الحكم بذلك وإن لم يندرج في مسمّاهما عرفا ، بل قد يقال : باندراجه في مسمّاهما حقيقة ، وإنّما ينصرف عنه إطلاق اسمهما ؛ لعدم تعارفه أو ندرة وجوده ، وفيه تأمّل.

(الرابع : لا يفسد الصوم ابتلاع النخامة.)

وفي القاموس : النخمة والنخامة بالضم : النخاعة ، ونخم ـ كفرح ـ نخما ، ويحرّك ، وتنخم : دفع بشي‌ء من صدره أو أنفه (١).

وفي المجمع : النخامة بالضم : النخاعة ؛ يقال : تنخّم الرجل : إذا انتخع ، والنخاعة ما يخرجه الإنسان من حلقه من مخرج الخاء (٢).

__________________

(١) القاموس المحيط ٤ : ١٨٠.

(٢) مجمع البحرين ٦ : ١٧٤.

٥٣٤

وعن الصحاح : النخامة : النخاعة ، وبالعكس (١).

وعن المغرب : أنّها ما تخرج من الخيشوم عند التنخّع (٢).

فهي على الظاهر اسم لمطلق ما يخرج من أقصى الحلق من مخرج الخاء المعجمة ، سواء نزل في الأصل من الرأس أو خرج من الصدر ، ولكن المراد بها في المتن على الظاهر خصوص الأخير ، حيث جعل ما ينزل من الرأس قسيما لها.

وكيف كان ، فما يخرج من الصدر لا يفسد ابتلاعه.

(و) كذا (البصاق) المجتمع في الفم ، فضلا عن غير المجتمع (ولو كان عمدا) (٣).

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ١٦ : ٢٩٧ ـ ٢٩٨ ، وراجع : الصحاح ٥ : ٢٠٤٠.

(٢) كما في جواهر الكلام ١٦ : ٢٩٨ ، وراجع : المغرب ٢ : ٢٠٤.

(٣) قد تمّ الى هنا ما صدر عن المصنّف ـ قدس‌سره ـ من كتاب الصوم ، والحمد لله أوّلا وآخرا ويتلوه كتاب الرهن.

٥٣٥
٥٣٦

كتاب الرّهن

٥٣٧
٥٣٨

بسم الله الرّحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

(كتاب الرهن والنظر فيه)

أي في الكتاب (يستدعي فصولا) لبيان ماهيّة الرهن وشرائطه ، والحقّ الذي يجوز أخذ الرهن عليه ، وما يشترط في الراهن وفي المرتهن ، وما يستدعيه من اللواحق.

الفصل (الأول)

في حقيقة (الرهن)

(وهو) لغة : الثبات والدوام (١) ؛ يقال : رهن الشي‌ء إذا ثبت.

والنعمة الراهنة هي الثابتة الدائمة.

__________________

(١) القاموس المحيط ٤ : ٢٣٠ ، الصحاح ٥ : ٢١٢٨ ، مجمع البحرين ٦ : ٢٥٨.

٥٣٩

وعن المصباح المنير : أو الحبس بأيّ سبب كان (١).

قال الله تعالى «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» (٢) أي : محبوسة بما كسبت من المعاصي ، غير مفكوكة ، كذا نسب إلى جماعة منهم العلّامة ـ قدس‌سره ـ في التذكرة (٣).

ولكنّه حكي عن الزمخشري أنّه فسّره بقوله : كأنّ نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو يطالب به ، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه ، فإن عمل صالحا ، فكّها وخلّصها ، وإلّا أوثقها (٤).

ولعلّ التفسير الأوّل أوفق بظاهر الآية والاستثناء الواقع عقيبها في سورة المدثّر ، وهو قوله تعالى «إِلّا أَصْحابَ الْيَمِينِ» (٥) والله العالم ؛ لظهور قوله : «كسبت» في الماضي ، وكونها صادرة عن إرادته النفسانية.

وكذا الاستثناء الواقع عقيبها في سورة المدّثّر ، وهو قوله تعالى «إِلّا أَصْحابَ الْيَمِينِ» إذ الظاهر أنّها ليست مرهونة ، لا أنّها مفكوكة عن الرهن. وحملها على المنقطع أبعد.

وكيف كان ، فقد يظهر عن بعضهم معنى ثالث للرهن ، وهو :المخاطرة ، كما يقال : أرهن ابنه : إذا جعل في معرض المخاطرة.

وظنّي أنّ المعنيين الأخيرين تعبير عن معنى واحد مرتكز في الذهن

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ٢٥ : ٩٤ وحكاه العاملي في مفتاح الكرامة ٥ : ٦٩ ، وراجع : المصباح المنير : ٢٩٤.

(٢) المدّثّر ٧٤ الآية ٣٨.

(٣) لم نعثر على الناسب ، وراجع : تذكرة الفقهاء ٢ : ١١.

(٤) تفسير الرازي ٣٠ : ٢١٠ ، والكشاف ٤ : ٦٥٤ و ٦٥٥.

(٥) المدّثّر ٧٤ الآية ٣٩.

٥٤٠