غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٣

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٣

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-251-3
الصفحات: ٥٦٧

والمجنون ، وولد الزنا ، والأعرابي (١).

وروى محمّد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال خمسة لا يؤمّون الناس ولا يصلّون بهم صلاة فريضة في جماعة : الأبرص ، والمجذوم ، وولد الزنا ، والأعرابي حتّى يهاجر ، والمحدود (٢).

وروى زرارة في الحسن لإبراهيم بن هاشم عنه عليه‌السلام قال ، قلت له : الصلاة خلف العبد ، فقال لا بأس به إذا كان فقيهاً ، ولم يكن هناك أفقه منه قال ، قلت له : أُصلّي خلف الأعمى؟ قال نعم إذا كان له من يسدّده وكان أفضلهم قال وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا يصلّين أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون والمحدود وولد الزنا ، والأعرابي لا يؤمّ المهاجرين (٣) ورواها الصدوق مرسلاً من قوله عليه‌السلام «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام» (٤) الحديث.

وتدلّ على الجواز مطلقاً رواية عبد الله بن يزيد قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المجذوم والأبرص يؤمّان المسلمين؟ فقال : «نعم» قلت : هل يبتلي الله بهما المؤمن؟ قال : «نعم ، وهل كتب الله البلاء إلّا على المؤمن» (٥) وحملها الشيخ على حال الضرورة ، أو إذا كانا يؤمان بأمثالهما.

والذي يقوى في نفسي من جهة الأخبار وكلام جمع من الأصحاب الحرمة.

وتأويل الأخبار الكثيرة المعتبرة المعمول بها عند جماعة بسبب خبرٍ لم يوثّق راويه (٦) مشكل ، وكون عمل الأصحاب عليه أكثر لينجبر به فيعارض تلك الأخبار

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٧٥ ح ١ ، والتهذيب ٣ : ٢٦ ح ٩٢ ، الاستبصار ١ : ٤٢٢ ح ١٦٢٦ ، الوسائل ٥ : ٣٩٩ أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ٥.

(٢) الفقيه ١ : ٢٤٧ ح ١١٠٥ ، الوسائل ٥ : ٣٩٩ أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ٣.

(٣) الكافي ٣ : ٣٧٥ ح ٤ ، الوسائل ٥ : ٤٠٠ أبواب صلاة الجماعة ب ١٦ ح ١ ، وب ١٥ ح ٦ ، وص ٤١٠ ب ٢١ ح ٥.

(٤) الفقيه ١ : ٢٤٧ ح ١١٠٦.

(٥) التهذيب ٣ : ٢٧ ح ٩٣ ، الاستبصار ١ : ٤٢٢ ح ١٦٢٧ ، الوسائل ٥ : ٣٩٩ أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ١.

(٦) انظر معجم رجال الحديث رقم ٧٢٢٦.

١٢١

محل كلام.

وقد عرفت ما ذكرنا في كلام السيّد ، سيّما مع ظهور دلالة تلك الأخبار ووضوحها وتأكدها بتأكيدات مثل قوله عليه‌السلام على كل حال ومثل النكرة في سياق النفي في رواية محمّد بن مسلم ، والنهي المؤكّد مع ذكر لفظ أحدكم في حسنة زرارة ، إلى غير ذلك ، مع أنّها أيضاً موافقة لأصالة عدم صحّة الصلاة وانعقاد الجماعة وسقوط القراءة.

وأما العمومات والإطلاقات كقولهم عليهم‌السلام يؤمّكم أقرؤكم (١) وغير ذلك ففي شمولها لما نحن فيه تأمّل ، لكونها من الأفراد النادرة ، سيّما مع صدور هذه الأخبار أيضاً ، وأيضاً يلزم القائلين بالجواز مع حمل تلك الأخبار على الكراهة استعمال اللفظ المشترك في معنييه ، للاتفاق على حرمة إمامة ولد الزنا ، إلّا أن يقال إنّه على سبيل عموم المجاز ، ولا ريب أنّه مجاز أيضاً ، والأصل الحقيقة ، وعدم جواز الجمع بين الأخبار بهذا النحو إلّا من دليل ، وقد عرفت ضعفه.

ولم أقف لتفصيل ابن إدريس على حجّة.

وأما تفصيل أبي الصلاح وابن البراج والشيخ في المبسوط فلم أقف فيه على نصّ بالخصوص ، ويمكن أن يكون نظرهما إلى القطع بالعلّة ، سيّما مع ملاحظة تقييدهم عليهم‌السلام إمامة الأعرابي بغير المهاجرين ، وعدم شمول أخبار المنع لذلك واندراجها تحت إطلاقات الجماعة ، فتأمّل.

وأما الأعمى فالأصحّ جواز إمامته ، وفاقاً للمشهور ، وقال في المنتهي : إنه مذهب أهل العلم ، ونسب المخالفة إلى أنس (٢) ، وهذا إذا كان من ورائه من يسدّده ويوجهه إلى القبلة ، وهكذا ادّعى عليه الإجماع في التذكرة (٣).

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٨٥ ح ٨٨٠ ، الوسائل ٤ : ٦٤٠ أبواب الأذان والإقامة ب ١٦ ح ٣.

(٢) المنتهي ١ : ٣٧١.

(٣) التذكرة ٤ : ٢٩٨ مسألة ٥٧٣.

١٢٢

ويدلّ عليه مضافاً إلى الإجماع (في التذكرة) (١) والإطلاقات حسنة زرارة المتقدّمة (٢)

وصحيحة الحلبي ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال لا بأس بأنّ يصلّي الأعمى بالقوم وإن كانوا هم الذين يوجّهونه (٣).

ورواية السكوني ، عن الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه عليه‌السلام ، قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا يؤمّ المقيّد المطلقين ، ولا يؤمّ صاحب الفالج الأصحّاء ، ولا صاحب التيمّم المتوضّئين ، ولا يؤمّ الأعمى في الصحراء إلّا أن يوجّه إلى القبلة» ؛ (٤).

ورواية ابن مسلم المتقدّمة ، وقال في آخرها : وقال الباقر عليه‌السلام والصّادق عليه‌السلام لا بأس أن يؤمّ الأعمى إذا رضوا به وكان أكثرهم قراءة وأفقههم (٥) ، وقال أبو جعفر عليه‌السلام إنّما العمى عمى القلب ، فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. روى هذا المقدار منه الصدوق أيضاً مرسلاً (٦).

وصحيحة محمّد بن مسلم ، قال : صلّى بنا أبو بصير في طريق مكّة فقال وهو ساجد وقد كانت ضلّت ناقة لجمّالهم : اللهم ردّ على فلان ناقته ، قال محمّد فدخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فأخبرته فقال : «وفعل» قلت : نعم ، قال : فسكت قلت : فأُعيد الصلاة؟ قال : «لا» (٧).

__________________

(١) في «ص» : في كر.

(٢) الكافي ٣ : ٣٧٥ ح ٤ ، الوسائل ٥ : ٤١٠ أبواب صلاة الجماعة ب ٢١ ح ٥.

(٣) التهذيب ٣ : ٣٠ ح ١٠٥ ، الوسائل ٥ : ٤٠٩ أبواب صلاة الجماعة ب ٢١ ح ١.

(٤) الكافي ٣ : ٣٧٥ ح ٢ ، التهذيب ٣ : ٢٧ ح ٩٤ ، الوسائل ٥ : ٤١٠ أبواب صلاة الجماعة ب ٢١ ح ٧.

(٥) تقدّمت في ص ١٢١ ، وهي في الفقيه ١ : ٢٤٨ ح ١١٠٩ ، والوسائل ٥ : ٤١٠ أبواب صلاة الجماعة ب ٢١ ح ٣ ، أقول : هذه التتمّة يبدو أنّها رواية مستقلّة مرسلة غير رواية محمّد بن مسلم.

(٦) الفقيه ١ : ٢٤٨ ح ١١١٠ ، الوسائل ٥ : ٤١٠ أبواب صلاة الجماعة ب ٢١ ح ٤.

(٧) الكافي ٣ : ٣٢٣ ح ٨ ، التهذيب ٢ : ٣٠٠ ح ١٢٠٨ ، الوسائل ٤ : ٩٧٣ أبواب السجود ب ١٧ ح ١.

١٢٣

ونقل عن العلامة في النهاية القول بالمنع (١) ، وعلّله في التذكرة بعدم التمكن من تحرّز النجاسات ، وأنّ الإمامة مرتبة جليلة وهو لا يليق بها (٢) ، وهو كما ترى.

وأما الأعرابي ، وهم سكّان البادية ، فيعمّ العرب وغيرهم.

وقال الفاضل المجلسي في شرح الفقيه : المراد بالتعرّب سكنى البادية مع الأعراب بعد أن هاجر منهم ، والظاهر من الأخبار سقوط وجوب الهجرة بعد فتح مكّة ، وألحق بعضهم سكنى القرى مع التمكن من سكنى الأمصار لاكتساب العلوم والكمالات ، وبعضهم ترك التعلم (٣).

ومما ذكرنا يظهر معنى الأعرابي والمهاجر.

واختلف الأصحاب في إمامة الأعرابي ، فلا تجوز إمامته عند الشيخ (٤) وجماعة (٥).

وذهب آخرون إلى الكراهيّة (٦).

وفصّل المحقّق رحمه‌الله في المعتبر تفصيلاً ، وارتضاه جماعة من المتأخّرين ، وهو أنّه إن كان وصل إليه ما يكفيه في اعتماده عليه ويدين به ولم يكن ممن يلزمه المهاجرة وجوباً جاز ؛ لقوله عليه‌السلام يؤمّكم أقرؤكم (٧) وقول الصادق عليه‌السلام ولا يتقدّ من أحدكم الرجل في منزله ولا سلطانه (٨) ، وإن لم يكن

__________________

(١) نهاية الإحكام ٢ : ١٥٠.

(٢) التذكرة ٤ : ٢٩٩.

(٣) روضة المتّقين ٩ : ٢٦١.

(٤) النهاية : ١١٢ ، المبسوط ١ : ١٥٥.

(٥) كالصدوق في المقنع (الجوامع الفقهيّة) : ١٠ ، والعلامة في التذكرة ٤ : ٢٩٧ مسألة ٥٧٢.

(٦) منهم الشهيد الأوّل في الدروس ١ : ٢١٩ ، والبيان : ٢٣٢ ، والشهيد الثاني في روض الجنان : ٣٦٨.

(٧) الفقيه ١ : ٢٨٥ ح ٨٨٠ ، الوسائل ٤ : ٦٤٠ أبواب الأذان ب ١٦ ح ٣.

(٨) الكافي ٣ : ٣٧٦ ح ٥ ، التهذيب ٣ : ٣١ ح ١١٣ ، علل الشرائع : ٣٢٦ ح ٢ ، الوسائل ٥ : ٤١٩ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٨ ح ١.

١٢٤

كذلك فلا يجوز (١).

ويدلّ على المنع في الجملة الأخبار الثلاثة المتقدّمة.

واعلم أنّ ظاهر الأصحاب أنّ محلّ النزاع هو إمامة الأعرابي بالمهاجرين ، وكأنّه لا نزاع لهم في إمامة الأعرابي بمثله ، حملاً للخبرين المطلقين على المقيّد ، بل الظاهر من رواية محمّد بن مسلم في نفسها أيضاً ذلك ، بل ويمكن القول بأنّه لا ينساق من صحيحة أبي بصير أيضاً إلّا ذلك.

وبالجملة التي وقعت (٢) من كلماتهم في هذا الباب هي صلاة الأعرابي بالمهاجر ، فحينئذٍ يصير حاصل الأخبار مع ملاحظة أنّ المقرّر في شرعنا أنّه تشترط الإمامة بالعدالة والفقه بأحكام الصلاة وسائر الشرائط ، وملاحظة التقييد المذكور ، واعتبار مفهومه ، وهو جواز الإمامة بمثلهم ، وأنّه لا فرق بين الأعرابي وغيره في سائر الشرائط أنّه لا تجوز صلاة الأعرابي بالمهاجر ، وإن كان الأعرابي عارفاً بالأحكام ، قادراً على شرائط الإمامة في الجملة.

(فحينئذٍ لا يبقى [وجه] لتفصيل المحقّق رحمه‌الله في المعتبر ، وأنّ ذلك محمول على الغالب ، لأنّ غالب الأعراب) (٣) أنّهم غير عارفين بالأحكام ، فيكون للمنع (٤) لذلك قوام وحقيقة. وكذلك تحسين جماعة من المتأخّرين لذلك.

اللهم إلّا أن يكون نظره إلى العموم كما في صحيحة أبي بصير ، وهو مع ما ذكرنا من الظهور غير جيّد في نفسه ، لما عرفت من لزوم التقييد.

إلّا أن يقال : إنّ المنع الوارد في الأخبار من جهة التنبيه على أنه فاسق من جهة ترك هذا الواجب ، وإن كان حصّل ما يجب عليه من معرفة الصلاة وغيرها ، وحينئذٍ

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٤٤٣.

(٢) في «ص» ، «م» : وقفت.

(٣) ما بين القوسين ليس في «ص» ، وما بين المعقوفين أثبتناه ليستقيم الكلام استفادة من كلامه الآتي.

(٤) قد تقرأ في النسخ : المنع.

١٢٥

فلا وجه لجوازه لمثله كما ذهب إليه أيضاً.

فيبقى الكلام في أنّ النهي هل هو بظاهره أم لا؟ والأنسب بظاهر الحقيقة والمرجّحات التي ذكرناها في الأجذم والأبرص هو عدم الجواز ، بل البطلان ، ولعلّ المجوّز رجّح العمومات ، وحمل النهي على المجاز لعدم المقاومة ، أو لأنّه بنى الأمر في المجذوم وغيره على الكراهة ، فيحصل بسبب ذلك وهن في الدلالة ، وهو مشكل.

وأسند في المدارك إطلاق المنع من إمامة الأغلف إلى الأكثر (١) ، وذهب بعضهم إلى الكراهة (٢) ، ونقل عن أبي الصلاح تجويزه لمثله (٣).

وصرّح الفاضلان في المختلف والمعتبر بتفصيل آخر (٤) وارتضاه بعض من تأخّر عنهما (٥) ، وهو أنّه إن كان فرّط في ذلك مع القدرة فلا تجوز إمامته باعتبار فسوقه ، وإلّا فتجوز ، وليس بذلك البعيد.

وعلى الأوّل فهل تبطل الصلاة أم لا؟ وجهان ، بالنظر إلى القول بأنّ الأمر بالشي‌ء نهي عن ضدّه أم لا ، فعلى الثاني يصحّ ، لأنّ النهي متعلّق بخارج.

وأما رواية عمرو بن خالد ، عن زيد بن عليّ ، عن آبائه ، عن عليّ عليه‌السلام ، قال الأغلف لا يؤمّ القوم وإن كان أقرأهم ، لأنّه ضيّع من السنّة أعظمها ، ولا تقبل له شهادة ، ولا يصلّى عليه ، إلّا أن يكون منع ذلك خوفاً على نفسه (٦) فهي على الدلالة على الجواز أشبه لكن على التفصيل المذكور.

__________________

(١) المدارك ٤ : ٣٦٩.

(٢) كالعلامة في القواعد ١ : ٣١٧ ، والشهيد الأوّل في البيان : ٢٣٢ ، والشهيد الثاني في روض الجنان : ٣٦٨.

(٣) الكافي في الفقه : ١٤٤ ، ونقله في المختلف ٣ : ٦٠.

(٤) المعتبر ٢ : ٤٤٢ ، المختلف ٣ : ٦٠.

(٥) كصاحب المدارك ٤ : ٣٧٠.

(٦) الفقيه ١ : ٢٤٨ ح ١١٠٧ ، التهذيب ٣ : ٣٠ ح ١٠٨ ، علل الشرائع : ٣٢٧ ح ١ ، الوسائل ٥ : ٣٩٦ أبواب صلاة الجماعة ب ١٣ ح ١.

١٢٦

ولعلّ الأوجه الكراهة أيضاً ، والاحتياط في الترك.

واختلف الأصحاب في المحدود بالحدّ الشرعي ، ولعلّ النزاع إنّما هو بعد توبته ؛ إذ قبله فاسق. وعدم الجواز ليس من جهة خصوص الحدّ ، فنقل عن أبي الصلاح المنع عن إمامة المحدود بعد توبته إلّا بمثله (١).

ولكن العلامة رحمه‌الله في المختلف لم يقيّد كلامه ببعد التوبة (٢) ، والظاهر أنّ مراده ذلك كما ذكرنا.

والمنقول عن الأكثر الجواز ، لأنّه عدل حينئذٍ بحسب المفروض ، فتشمله العمومات ، وليس أسوأ حالاً من كافرٍ أسلم ، وعلّل المحقّق كراهته بأنها منصب جليل ومرتبته تنقص عن ذلك (٣).

ولعلّ ما عليه الأكثر أقوى ، ولا بدّ من حمل رواية ابن مسلم وحسنة زرارة المتقدّمتين (٤) على من لم يتب بعد ، ولكنه يشكل ببعض ما ذكرنا سابقاً ، ويظهر ذلك بالتأمّل.

وبهذا يظهروهن في أحكام الأبرص والمجذوم وغيرهما أيضاً ، والأحوط في الكلّ الترك.

ولا يجوز أن يؤمّ الأُمي أي من لا يحسن واجب القراءة على ما نقل عن المعتبر (٥) بالقارئ ، والمراد هنا الذي يعجز عن التعلّم مع السعي ، وإلّا فصلاته باطلة في نفسها ، لأصالة عدم الصحّة ، وعدم سقوط القراءة ، ولا يتحقّق تحمّل القراءة عن الإمام حينئذٍ ، ومنع شمول الإطلاقات والعمومات لذلك.

__________________

(١) الكافي في الفقه : ١٤٤.

(٢) المختلف ٣ : ٦١.

(٣) المعتبر ٢ : ٤٤٢.

(٤) في ص ١٢١.

(٥) المعتبر ٢ : ٤٣٧.

١٢٧

والظاهر جواز إمامته بمن يساويه ، وقطع بذلك جماعة من الأصحاب (١).

وهل يجب على الأُمّي العاجز عن التعلّم الايتمام بالقارئ المتقن؟ فيه وجهان ، والمشهور وجوبه ، ودليله غير واضح.

وعلّله بعضهم بأنّه يتمكّن حينئذٍ من الصلاة بقراءة صحيحة فتجب عليه (٢).

ويشكل بمنع شمول أدلّة وجوب القراءة له ، إلّا أنّ الاحتياط وحصول اليقين بالبراءة إنما يكون بذلك.

ويمكن إجراء هذا الحكم فيما لو وَجَدَ الأُمّي أقلّ لحناً منه ، فإنّ الميسور لا يسقط بالمعسور.

وبما ذكرنا من المنع تنقدح أولوية عدم الوجوب في الأخرس ، والظاهر أنّ الأخرس كالامي في جواز ائتمام أحدهما بالآخر.

وفي جواز ائتمام الأُمّي بالأخرس وجهان ، لقدرته على التكبير فلا يجوز ، ولعدم تحمّل الإمام ذلك فيجوز ، ويشكل الترجيح في مثل تلك المسألة ، والأحوط الترك.

وأما عكسه فلعلّه لا بأس به مع ثبوت الإشكال فيه أيضاً.

ولا تجوز إمامة اللاحن بالمتقن ، سواء كان مغيّراً للمعنى كتبديل فتحة تاء أنعمت بالضمة ، أو لا كعكسه في الحمد ، وكذا المبدل لحرف بحرف على المشهور بين الأصحاب. والدليل عليه ما تقدّم في الأُمّي ، فإنّ اليقين بمسقط القراءة لا يحصل بذلك.

وللعلامة قول بالصحّة ، لأنّ صلاته صحيحة ، لانحصار تكليفه في ذلك ،

__________________

(١) كالعلامة في التذكرة ٤ : ٢٩٢ ، والشهيد في الدروس ١ : ٢١٩ ، والكركي في جامع المقاصد ٢ : ٤٩٧ ، وصاحب المدارك ٤ : ٣٤٩.

(٢) كالعلامة في التذكرة ٤ : ٢٩٢ ، والمختلف ٣ : ٦٥.

١٢٨

فيجوز الائتمام (١).

واستضعفه بعض الأصحاب ، وألزمه بجواز إمامة الأُمّي والأخرس (٢) ، ولا قائل به من الأصحاب.

وأما مثل التمتام ، أي من يتردّد في التاء المثنّاة من فوق ، والفأفاء أي من يتردّد في الباء الموحدة ؛ ففيه إشكال ، فنسب جواز إمامتهما إلى غير واحدٍ من الأصحاب ، لأنّ هذه زيادة غير مخرجة عن صحّة القراءة (٣). ويبقى الإشكال بعد تسليم الصحّة في أنّ مطلق صحّة القراءة كيف يكفي في جواز مطلق الإمامة.

وأما مثل الأرت ، وهو من يلحقه في أوّل كلامه ريح فيتعذّر بيانه ، فإذا تكلّم انطلق لسانه كما ذكره في المبسوط (٤) ، فهو لا يمنع عن الصحّة على الظاهر ، وتجوز إمامته.

والكلام في وجوب ائتمام هؤلاء بالمتقن الوجهان المتقدّمان.

ويؤيّد ما ذكرنا من الدليل على عدم الوجوب صحيحة الفضلاء المتقدّمة في أوائل المبحث ، قال وليست الجماعة بمفروضة في الصلوات كلها (٥) وجعلناها مؤيّدة لعدم ظهور السنّة في المستحبّ ، ولاحتمال الخبر للسلب الجزئي ، فتدبّر.

ولا تجوز إمامة القاعد بالقائم ، للأصل ، وإجماع علمائنا كما ذكره في التذكرة (٦) ، ولما رواه ابن بابويه مرسلاً عن الباقر عليه‌السلام ، قال إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى بأصحابه جالساً ، فلما فرغ قال : لا يؤمّن أحد

__________________

(١) التذكرة ٤ : ٢٩٤ ، المختلف ٣ : ٦٤.

(٢) المدارك ٤ : ٣٥٤.

(٣) كما في المدارك ٤ : ٣٥٤.

(٤) المبسوط ١ : ١٥٣ ، وانظر المصباح المنير : ٢١٨.

(٥) الكافي ٣ : ٣٧٢ ح ٦ ، التهذيب ٣ : ٢٤ ح ٨٣ ، الوسائل ٥ : ٣٧١ أبواب صلاة الجماعة ب ١ ح ٢.

(٦) التذكرة ٤ : ٢٨٧ مسألة ٥٦٧.

١٢٩

بعدي جالساً(١).

ويمكن القول باطراد الحكم في جميع مراتب النقص والكمال ، والإشكال في إمامة القاعد بمثله ههنا موجود ، لعدم ظهور الخبر فيه ، وكذا الإجماع ، ولأصالة عدم الصحّة ، وسيجي‌ء تمام الكلام إن شاء الله تعالى.

الرابع : لا تجوز الصلاة مع وجود حائل بين الإمام والمأموم يمنع المشاهدة بالإجماع ، نقله غير واحد من أصحابنا (٢).

ويدلّ عليه مضافاً إلى الإجماع والأصل صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال ينبغي للصفوف أن تكون تامّة متواصلة بعضها إلى بعض ، ولا يكون بين الصفّين ما لا يتخطّى ، يكون قدر ذلك مسقط جسد إنسان إذا سجد.

وقال أبو جعفر عليه‌السلام إن صلّى قوم بينهم وبين الإمام ما لا يتخطّى فليس ذلك الإمام لهم بإمام ، وأيّ صفّ كان أهله يصلّون بصلاة إمام وبينهم وبين الصفّ الذي يتقدّمهم ما لا يتخطّى فليس تلك لهم بصلاة ، وإن كان ستراً أو جداراً فليس تلك لهم بصلاة ، إلّا من كان بحيال الباب قال ، وقال هذه المقاصير إنّما أحدثها الجبّارون ، فليس لمن صلّى خلفها مقتدياً بصلاة من فيها صلاة (٣) الحديث ، هكذا رواه ابن بابويه.

ورواه الشيخ أيضاً في الحسن من قوله عليه‌السلام «وقال أبو جعفر عليه‌السلام» بأدنى تفاوت في اللفظ ، ففيما رواه الشيخ إن كان بينهم سترة أو جدار وقال :

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٤٩ ح ١١١٩ ، الوسائل ٥ : ٤١٥ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٥ ح ١ ، سنن الدارقطني ١ : ٣٩٨ ح ٦ ، سنن البيهقي ٣ : ٨٠.

(٢) التذكرة ٤ : ٢٥٦.

(٣) الفقيه ١ : ٢٥٣ ح ١١٤٤ ، التهذيب ٣ : ٥٢ ح ١٨٢ ، الوسائل ٥ : ٤٦٢ أبواب صلاة الجماعة ب ٦٢ ح ٢ ، وص ٤٦٠ ب ٥٩ ح ١.

١٣٠

هذه المقاصير لم تكن في زمن أحدٍ من الناس ، وإنّما أحدثها...

وإنّما قيّدنا بالمنع من المشاهدة لأنّ المشهور أنّه لا مانع من الحائل إذا كان مشبّكاً لا يمنع المشاهدة ، خلافاً للشيخ في الخلاف فحكم بالبطلان (١) ، واستدلّ بهذه الصحيحة.

وربّما يقال : وجه الدلالة أنّ المقاصير في الأغلب كانت مخرّمة.

وقد يضعّف بأنّ المقاصير المشار إليها لعلّها لم تكن مشبّكة ، فلا يعلم كونها باطلة مع ذلك.

ويمكن أن يقال : إنّ هذا إنّما يرد لو أراد المعصوم أشخاصاً معيّنين ، بل الظاهر أنّ مراده حينئذٍ جنس المقاصير المستحدثة ، فإذا كان أغلبها كذلك فيلحق الظن الشي‌ء بالأعمّ الأغلب ، ولكن الشأن في إثبات الأغلبية.

وربّما يقال : وجه الدلالة قوله عليه‌السلام : «إن صلّى قوم بينهم وبين الإمام ما لا يتخطّى» ، فإنّ الشبكة مانعة عن التخطّي. وهو بعيد ، لظهور إرادة مقدار المسافة ، لا إمكان التخطّي وعدمه من جهة الحائل.

وتشكل المسألة بأنّ إطلاق الجدار في الحديث يشمل الجدار المشبّك أيضاً.

وأنّ الأنسب كان أن يستثني عليه‌السلام ذلك أيضاً ، حيث استثنى من كان بحيال الباب ، والاحتياط في عدم الاكتفاء بالجدار المشبّك وإن لم يدلّ دليل على بطلان الصلاة به ، سيّما وأكثر أحكام هذه الصحيحة على سبيل الاستحباب ، وسياقها أيضاً ذلك.

وأن الظاهر أنّ الجدار مفسّر للستر ، ولذلك اكتفى بعض المتأخّرين بما لو كان بينهما حائط قصير لا يمنع المشاهدة ولو في بعض الأحوال (٢) ، ولا يبعد ما ذكره في

__________________

(١) الخلاف ١ : ٥٥٦ مسألة ٣٠٠.

(٢) كالمحقّق في المعتبر ٢ : ٤١٨ ، والشهيد في البيان : ٢٣٦ ، والكركي في جامع المقاصد ٢ : ٤٩٩ ، وصاحب المدارك ٤ : ٣١٧.

١٣١

صورة اختفاء الإمام في حال السجود فقط بأن يكون الحائل قصيراً بهذا المقدار.

وعلى القول بالبطلان فالمنسوب إلى أصحابنا هو بطلان صلاة المأموم فقط ، وإلى بعض العامّة تعميم البطلان.

ويكفي للمأموم مشاهدة الإمام أو من يشاهده من المأمومين ، وإلّا لبطلت صلاة الصفّ الثاني إذا لم يروا الإمام ، وهو باطل. وقال في المنتهي : إنّه لا نعرف فيه خلافاً (١).

ولكن الإشكال فيما إذا كان المأمومون قياماً خارج الباب ، وفي أنّ صلاة من على يمينهم ويسارهم وخلفهم صحيحة أم لا ، والظاهر بملاحظة ما ذكرنا من كفاية مشاهدة من يشاهد الإمام في الصفوف الكثيرة في المسجد الصحّة ههنا أيضاً ، كما هو المشهور ، ولم نقف لأحد من الأصحاب على حكم ببطلانها أيضاً ، ولكن الدليل على ما ذكرنا هو الإجماع ، ومعهوديّة ذلك من زمن الأئمّة.

والإجماع لم يعلم ثبوته فيما نحن فيه ، وكذا المعهوديّة.

وتضعفه الصحيحة المتقدّمة أيضاً ، لأنّ الصفّ الخارج من الباب إن صار مستطيلاً فلا يصدق عليه عرفاً في الأغلب أنّ بينه وبين الصفّ المتقدّم أو الإمام قدر ما يتخطّى ، بل ربما كان أزيد بمراتب شتّى.

وملاحظة البينة بالنسبة إلى جزء منه الذي في خلف من كان بحيال الباب والاكتفاء به مشكل ، ولأنّ الظاهر من قوله عليه‌السلام من كان بحيال الباب هو المحاذي لها من الأشخاص.

والحمل على إرادة الصفّ وكون الحصر إضافيّاً بالنسبة إلى من كان على يمين الباب وشماله مجاز.

فيبقى المنع من الصلاة عقيب الجدار والستر بحاله ، إلّا أنّ يخدش في دلالة

__________________

(١) المنتهي ١ : ٣٦٥.

١٣٢

الصحيحة ، وانصرافها إلى ما نحن فيه ، وفي دلالتها على الوجوب كما أشرنا ، أو قيل بعدم مقاومتها للعمومات من جهة اعتضادها بالعمل.

وبالجملة المسألة محلّ إشكال ، فلو ثبت الإجماع فهو ، وإلّا فالأحوط الاجتناب ، سيّما إذا طال الصفّ كثيراً.

وأما التجاوز القليل بمثل شخص أو شخصين فلعلّه لا مجال للتأمّل فيه ، سيّما مع ما ورد في صحيحة الحلبي عن الصادق عليه‌السلام ، قال لا أرى بالوقوف بين الأساطين بأساً (١).

ويظهر التوقّف في صحّة صلاة القائمين على يمين من بحيال الباب ويساره وخلفه من بعض المتأخّرين (٢).

ولعلّ ما ذكرنا من الأحكام لا يتفاوت بين الصفّ والإمام وبين الصفّ والصفّ الأخر أيضاً.

ومنع أبو الصلاح (٣) وابن زهرة (٤) عن حيلولة النهر بين الإمام والمأموم ، ولم نقف على مأخذه ، فإن اعتبرا عدم كونه أزيد ممّا يتخطّى فهو ، وإلّا فيطالبان بالدليل. هكذا ردّ هذا القول صاحبا المدارك والذخيرة (٥) ، إلّا أنّ صاحب الذخيرة تأمّل في الأوّل أيضاً ، وسيجي‌ء الكلام فيه.

ثمّ إنّ هذا الحكم الذي ذكرنا من لزوم عدم الحائل مختصّ بالرجل ، وأما لو كان المأموم مرأة فيجوز ، ولو كان الحائل غير مشبّك أيضاً ، وفاقاً للمشهور ، لموثّقة عمّار قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلّي بالقوم وخلفه دار فيها نساء ،

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٨٦ ح ٦ ، الفقيه ١ : ٢٥٣ ح ١١٤١ ، التهذيب ٣ : ٥٢ ح ١٨٠ ، الوسائل ٥ : ٤٦٠ أبواب صلاة الجماعة ب ٥٩ ح ٢.

(٢) كالسبزواري في الكفاية : ٣١ ، والذخيرة : ٣٩٤.

(٣) الكافي في الفقه : ١٤٤.

(٤) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٦٠.

(٥) المدارك ٤ : ٣١٩ ، الذخيرة : ٣٩٤.

١٣٣

هل يجوز لهنّ أن يصلّين خلفه؟ قال : «نعم إن كان الإمام أسفل منهنّ» قلت : فإنّ بينهن وبينه حائطاً أو طريقاً ، قال : «لا بأس» (١) فإنّ الصحيحة لا تدلّ على حكم المرأة ، ولو سلّم فالخاصّ مقدّم على العام ، وإن كان موثّقاً والعام صحيحاً ، لاعتضادها بعمل الجمهور.

وخالف في ذلك ابن إدريس قال : وقد وردت رخصة للنساء أن يصلّين وبينهن وبين الإمام حائط ، والأوّل أظهر وأصحّ (٢) ، وأراد به المساواة مع الرجال ، وطريق الاحتياط واضح.

ولا يجوز التباعد بين الإمام والمأموم إلّا بالصفوف المتخلّلة ، وهو إجماع أصحابنا وأكثر أهل العلم.

واختلفوا في تحديده ، فأحاله الأكثر إلى العرف.

وربما يستبعد ذلك ، ولا وجه له ، إذ المستفاد من الأخبار الكثيرة المتضافرة في صلاة الجماعة أنّه يتقدّم الإمام ويقوم المأموم خلفه أو يقوم قدّامه ونحو ذلك ، وهذه ألفاظ يرجع فيها إلى العرف.

ففي رواية محمّد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام : أنّه سئل عن الرجل يؤم الرجلين ، قال يتقدّمهما ، ولا يقوم بينهما وعن الرجلين يصليّان جماعة ، قال نعم يجعله عن يمينه (٣) الحديث.

وفي صحيحته عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال الرجلان يؤمّ أحدهما صاحبه يقوم عن يمينه ، فإن كانوا أكثر من ذلك قاموا خلفه (٤) إلى غير ذلك من الأخبار (٥).

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٥٣ ح ١٨٣ ، الوسائل ٥ : ٤٦١ أبواب صلاة الجماعة ب ٦٠ ح ١.

(٢) السرائر ١ : ٢٨٩.

(٣) الفقيه ١ : ٢٥٢ ح ١١٣٩ ، الوسائل ٥ : ٤١٣ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٣ ح ٧.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٦ ح ٨٩ ، الوسائل ٥ : ٤١١ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٣ ح ١.

(٥) الوسائل ٥ : ٤١١ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٣.

١٣٤

وقال في الخلاف : حدّه مع عدم اتصال الصفوف ما يمنع عن مشاهدته والاقتداء بأفعاله (١) ، ونقل عن المبسوط جواز البُعد بثلاثمائة ذراع (٢) ، وكلاهما بعيدان.

وحدّده أبو الصلاح (٣) وابن زهرة (٤) بما لا يتخطّى ، لصحيحة زرارة المتقدّمة (٥) ، ولا ريب أنّه أحوط.

ثمّ اعلم أنّ الذي يظهر من مجموع الإطلاقات وخصوص صحيحة زرارة المتقدّمة أنّه تصحّ صلاة من أحرم بالصلاة في الصفّ الأخير قبل إحرام مَن في الصفّ الأوّل على الإطلاق ، ولا يعتبر ذلك التباعد حينئذٍ بسبب عدم كونهم مصلّين في هذه الحالة ، إذ الذي ظهر من عدم جواز التباعد وأقلّ ما يجوز منه على سبيل التسليم والمماشاة هو ما يتخطّى كما في الصحيحة ، وذلك كما أنه يكفي في الفاصل بين المأموم والإمام ، فهو يكفي أيضاً بين الصفّين كما نصّ عليه في هذه الصحيحة ، فليس هذا المأموم مندرجاً في عنوان من لا صلاة لهم ، ولم يظهر من الأخبار وكلام الأصحاب مانع من ذلك من غير جهة التباعد ، فلا وجه لتقييد الأخبار الدالّة على عموم الاقتداء بغير دليل.

وأما على قول المشهور من بناء ذلك على العرف وأنّ ما يُفهم من الإطلاقات هو الحجّة ، فالأمر أسهل ، لأنّه يصدق عليه حينئذٍ أنّه صلّى خلف الإمام ، وأنّه يصلّي خلفه في الصفّ الأخير ونحو ذلك مما هو مذكور في الأخبار.

وقال السيّد الفاضل في المدارك : فاعلم أنّه ينبغي للبعيد من الصفوف أن لا يحرم بالصلاة حتّى يحرم قبله من المتقدّم من يزول معه التباعد (٦).

__________________

(١) الخلاف ١ : ٥٥٩.

(٢) المبسوط ١ : ١٥٦.

(٣) الكافي في الفقه : ١٤٤.

(٤) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٦٠.

(٥) الفقيه ١ : ٢٥٣ ح ١١٤٤ ، التهذيب ٣ : ٥٢ ح ١٨٢ ، الوسائل ٥ : ٤٦٢ أبواب صلاة الجماعة ب ٦٢ ح ٢.

(٦) المدارك ٤ : ٣٢٢.

١٣٥

أقول : وبعد ما ذكرنا فلا وجه له ، لعدم ظهور الدليل على ذلك ، وأما ما يظهر من تعليله ذلك الحكم برفع التباعد ففيه أيضاً ما عرفت.

نعم يمكن أن يقول : شمول الصحيحة لذلك محلّ تأمّل ، وكذا فهم العُرف من الأخبار المطلقة ، فيحصل الاحتمال ، سيّما مع كثرة الصفوف وكون الصفّ الأخر أوّل من يحرم ، فيكون ترك ذلك أولى وأحوط ، فيكون مستحبّاً.

ولعلّه رحمه‌الله مراده أيضاً الاستحباب كما يشعر به كلامه ، ولكن تعارضه فضيلة المسارعة والمسابقة إلى الخير ، ومع ذلك فالأحوط سيّما فيما فرضناه التأخير.

ومما ذكرنا لعلّك تتنبّه على حال من تنقطع عنه الصفوف في حال الصلاة بأن تتمّ صلاتهم ، كما لو كانوا مسافرين ، أو مؤتمّين به بغير صنف صلاته ، أو يقصدون الانفراد ونحو ذلك ، فالظاهر أنّ صلاته صحيحة ، ولا عبرة بالتباعد أيضاً.

ولا يجب عليه العود إلى ما يتخطّى ونحوه إذا لم يكن فعلاً كثيراً ، ولا قصد تجديد القدوة بناءً على جواز تجديد المؤتمّ بإمام آخر إذا انتهت صلاة الإمام ، والذي يستفاد من الأخبار لا يزيد على اعتبار ذلك في أوّل الصلاة ، ولا دليل في غيره.

وقيل : تنفسخ القدوة ، ولا تعود بانتقاله إلى محلّ القرب (١).

ولقد أحسن السيّد الفاضل رحمه‌الله حيث قال : والأصحّ أنّ عدم التباعد ؛ إنّما يعتبر في ابتداء الصلاة خاصّة دون استدامتها كالجماعة والعدد في الجمعة ؛ تمسّكاً بمقتضى الأصل السالم عن المعارض (٢). والتشبّث بما ذكرنا من ظهور الصحّة من الإطلاقات أولى.

وبالجملة الاحتياط في أمثال تلك المسائل التي لا نص عليها بالخصوص أولى ، ولكن الاحتياط ههنا مع ما يأتي من الإشكال في إطلاق الحكم في جواز الانفراد ، ومع ثبوت الإشكال في العود إلى ما يقرب من الإمام أو قصد تجديد القدوة لعلّه

__________________

(١) البيان : ١٣٦.

(٢) المدارك ٤ : ٣٢٣.

١٣٦

لا يحصل إلّا بتعدد الصلاة.

الخامس : المشهور بين الأصحاب عدم جواز علوّ الإمام بما إذا كان شبه الدكان والأبنية ، لا في الأرض المنحدرة ويظهر من كلام بعضهم أنه نقل الإجماع على ذلك أيضاً (١).

واستدلّوا على ذلك بما رواه المشايخ الثلاثة في الموثّق ، عن عمّار ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يصلّي بقوم وهم في موضع أسفل من موضعه الذي يصلّي فيه ، فقال : «إن كان الإمام على شبه الدكّان أو على موضع أرفع من موضعهم لم تجز صلاتهم ، وإن كان أرفع منهم بقدر إصبع أو أكثر أو أقلّ إذا كان الارتفاع ببطن مسيل ، فإن كان أرضاً مبسوطة وكان في موضع منها ارتفاع فقام الإمام في الموضع المرتفع وقام من خلفه أسفل منه والأرض مبسوطة إلّا أنّهم في موضع منحدر فلا بأس به».

قال : وسئل فإن قام الإمام أسفل من موضع من يصلّي خلفه؟ قال : «لا بأس»

قال : «وإن كان رجل فوق بيت أو غير ذلك ، دكّاناً كان أو غيره ، وكان الإمام يصلّي على الأرض وأسفل منه جاز للرجل أن يصلّي خلفه ويقتدي بصلاته وإن كان أرفع منه بشي‌ء كثير» (٢).

وفي التهذيب مقام قوله ببطن مسيل «بقدر شبر». وقيل : وأكثر نسخ الفقيه مقام ببطن مسيل «بقطع سبيل» (٣).

والخبر وإن كان مختلط الألفاظ مشتبه المعاني مشتمل على ما يخالف ظاهر

__________________

(١) المنتهي ١ : ٣٦٦.

(٢) الكافي ٣ : ٣٨٦ ح ٩ ، الفقيه ١ : ٢٥٣ ح ١١٤٦ ، التهذيب ٣ : ٥٣ ح ١٨٥ ، الوسائل ٥ : ٤٦٣ أبواب صلاة الجماعة ب ٦٣ ح ١.

(٣) الموجود في المطبوع : بقطع سيل.

١٣٧

الأصحاب من اعتبار الإصبع وأقل منه اللهم إلّا أن يجعل المراد طول الإصبع ، ولكنه لا ينتفي بذلك الإشكال بالمرّة أيضاً إلّا أنّ فهم الأصحاب مع ظهورٍ ما لما فهموه من اللفظ يكفي في ذلك الحكم ، سيّما مع توقّف اليقين بالبراءة على ذلك ، هذا.

مع أنّ الظاهر من الخبر من قوله «فإن كان أرضاً مبسوطة» إلى أخره هو ذلك التفصيل ، ولا حاجة إلى صدر الخبر ، إلّا أنّ ارتباطه بما قبله يورث وهناً في الظهور.

وأظهر دلالات الخبر على المطلوب إنّما هو على ما في أكثر نسخ الكافي كما ذكرنا ، فحينئذٍ تكون كلمة «إن» في قوله «وإن كان أرفع منهم بقدر إصبع» وصلية ، ويكون قوله «إذا كان الارتفاع ببطن مسيل» تأكيداً للتمثيل السابق ، ولهذا لم يأت بكلمة «في» مكان الباء ، فيكون المطلوب من أوّل الخبر إلى هنا بيان عدم جواز الارتفاع لو كان من قبيل الدكّان أو بطن المسيل ونحو ذلك ، وما بعده لبيان جواز العلوّ في المنحدرة : وبما يقرب من هذا يوجّه ما في الفقيه أيضاً.

وأما ما في التهذيب فلم أجد له وجهاً وجيهاً.

وتردّد في ذلك الحكم المحقّق في المعتبر (١) ، ولعلّه لاضطراب الخبر.

وحكم الشيخ في الخلاف بالكراهة (٢) ، وارتضاه بعض المتأخرين (٣).

واختلفوا في قدر العلوّ المانع ، فقيل : ما يعتدّ به (٤) ، وقيل : قدر شبر (٥) ، وقيل : ما لا يتخطّى (٦).

ولعلّ نظر القائل بالآخرين إلى رواية عمّار على بعض الطرق ، وصحيحة زرارة

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٤٢٠.

(٢) الخلاف ١ : ٥٥٦ مسألة ٣٠١.

(٣) المدارك ٤ : ٣٢٠.

(٤) المبسوط ١ : ١٥٦ ، المعتبر ٢ : ٤١٩ ، الشرائع ١ : ١١٣ ، التذكرة ٤ : ٢٦٠ ، المسالك ١ : ٣٠٦.

(٥) حكاه في الذخيرة : ٣٩٤ ، والبحار ٨٥ : ٥٢.

(٦) الكافي في الفقه : ١٤٤.

١٣٨

المتقدّمة على بعض الوجوه ، ولا يخفى أنّهما لا تدلّان على أحدهما كما عرفت.

وقال في التذكرة : لو كان العلوّ يسيراً جاز إجماعاً ، والاحتياط الاجتناب عن العلوّ مطلقاً (١).

ثمّ إنّه نسب إلى الأصحاب أنّ الباطل حينئذٍ هو صلاة المأموم دون الإمام ، وإلى بعض العامّة تعميم البطلان (٢).

وأما المأموم فيجوز علوّه على الإمام ، ولعلّه إجماعيّ ، وأسنده في المنتهي إلى علمائنا (٣) ، ولم نقف فيه من الأصحاب على مخالف ، ويدلّ عليه مضافاً إلى الإطلاقات خصوص الموثّقة المتقدّمة.

وأما ما رواه محمّد بن عبد الله ، عن الرضا عليه‌السلام ، قال : سألته عن الإمام يصلّي في موضع والذين يصلّون خلفه في موضع أرفع منه ، فقال يكون مكانهم مستوياً (٤) فلا بدّ من حمله على الاستحباب ، لعدم مقاومته لما ذكرنا ، لجهالة الراوي ؛ وإن كان الراوي عنه صفوان بن يحيى ، وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه ، ولمتروكيّة ظاهره عند الأصحاب ، والاحتياط في ذلك ما لم يتضيّق المكان.

ولا يجوز تقدّم المأموم على الإمام ؛ للإجماع ، ولعدم توظيف ذلك من الشارع ، بل وتوظيف خلافه ، ويظهر ذلك من الأخبار الكثيرة.

وهل يكفي التساوي أو يجب التأخّر؟ فالمنسوب إلى أكثر الأصحاب والمشهور بينهم هو عدم وجوب التأخّر (٥) ، والمنقول عن ظاهر ابن إدريس لزوم التأخّر (٦) ،

__________________

(١) التذكرة ٤ : ٢٦٣.

(٢) التذكرة ٤ : ٢٦٣ ، وانظر المغني والشرح الكبير لابني قدامة ٢ : ٤٢ ، ٧٩.

(٣) المنتهي ١ : ٣٦٦.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٨٢ ح ٨٣٥ ، الوسائل ٥ : ٤٦٣ أبواب صلاة الجماعة ب ٦٣ ح ٣.

(٥) المدارك ٤ : ٣٣٠.

(٦) السرائر ١ : ٢٨٣.

١٣٩

والأوّل أقرب.

لنا : مضافاً إلى ظاهر الإطلاقات إطلاق صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة (١) ، ولكنها تثبت التفصيل بالنسبة إلى الرجلين والأكثر ، وأنّ الوقوف على اليمين إنّما هو إذا كانا رجلين. وفي معناها روايته الأُخرى المتقدّمة (٢).

وتدلّ على جواز التساوي أيضاً موثّقة سعيد الأعرج عن الصادق عليه‌السلام : في الرجل يأتي الصلاة فلا يجد في الصفّ مقاماً ، ويقوم وحده حتى يفرغ من صلاته ، قال نعم لا بأس ، يقوم بحذاء الإمام (٣) وفي معناها رواية أُخرى (٤).

ولفظ «الحذاء» وإن كان بملاحظة اللغة والأخبار الواردة في صلاة المرأة بحذاء الرجل هو كونها على جنبه (٥) ، ولكن إرادة المحاذاة خلف الإمام هنا لا يخلو من رجحان ، وسيجي‌ء أيضاً ما يشير إلى ذلك.

وهذه الأخبار أيضاً للرجل الواحد في الموادّ المعينة. اللهم إلّا أن يقال : إنّ القول الثالث منتفٍ ، فإذا ثبت جواز التساوي في الرجلين ثبت في الأكثر ، فلا بدّ من حمل تتمة الصحيحة وما في معناها من الأخبار على الاستحباب ، إلّا أنّ الرّواية وغيرها من الأخبار أظهر دلالة على مذهب ابن إدريس.

وفي مرفوعة عليّ بن إبراهيم رفعه ، قال : رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام يصلّي بقوم وهو إلى زاوية في بيته بقرب الحائط وكلّهم عن يمينه ، وليس على يساره أحد (٦) تأييد ما لما اخترناه.

__________________

(١) ص ١٣٤ وهي في التهذيب ٣ : ٢٦ ح ٨٩ ، والوسائل ٥ : ٤١١ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٣ ح ١.

(٢) ص ١٣٤ وهي في الفقيه ١ : ٢٥٢ ح ١١٣٩ ، والوسائل ٥ : ٤١٣ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٣ ح ٧.

(٣) الكافي ٣ : ٣٨٥ ح ٣ ، التهذيب ٣ : ٢٧٢ ح ٧٨٦ ، الوسائل ٥ : ٤٥٩ أبواب صلاة الجماعة ب ٥٧ ح ٣.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٨٢ ح ٨٣٨ ، الوسائل ٥ : ٤٦٠ أبواب صلاة الجماعة ب ٥٨ ح ١.

(٥) قال ابن الأثير في النهاية ١ : ٣٥٨ الحذو والحذاء : الإزاء والمقابل ، وقال في المصباح المنير : ١٢٦ محاذاة وحذاء : الموازاة.

(٦) الكافي ٣ : ٣٨٦ ح ٨ ، التهذيب ٣ : ٥٣ ح ١٨٤ ، الوسائل ٥ : ٤١٢ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٣ ح ٦.

١٤٠