تفسير المراغي - ج ٢٧

أحمد مصطفى المراغي

قصص بعض الأنبياء مع أممهم

(١) قصص قوم نوح

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧))

تفسير المفردات

وازدجر : أي وزجر عن التبليغ بأنواع الأذى والتخويف ، فانتصر : أي فانتقم لى منهم ، منهمر : أي كثير كما قال :

أعيناى جودا بالدموع الهوامر

على خير باد من معدّ وحاضر

فالتقى الماء : أي ماء السماء وماء الأرض ، على أمر : أي على حال ، قد قدر : أي قد قدّره الله فى الأزل ، ذات ألواح : أي ذات خشب عريضة ، دسر : أي مسامير واحدها دسار ككتب وكتاب ، بأعيننا : أي بمرأى منه والمراد بحراستنا وحفظنا ، كفر : أي جحد به وهو نوح عليه السلام ، تركناها : أي أبقينا السفينة ، آية : أي علامة ودليلا ، مدكر : أي متذكر ومعتبر ، ونذر : واحدها نذير بمعنى إنذار ، يسرنا : أي سهلنا ، للذكر : أي للعظة والاعتبار ، مدكر : أي متعظ بمواعظه.

(6 ـ مراغى ـ السابع والعشرون)

٨١

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنه جاءهم من الأخبار ما فيه زاجر لهم لو تذكروا لكن لم تغنهم تلك الزواجر شيئا ـ أردف هذا ذكر قصص من قبلهم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود ، ليبين لرسوله أنهم ليسوا ببدع فى الأمم ، بل كثير منهم فعلوا فعلهم بل كانوا أشد منهم عتوا واستكبارا ، وأن الأنبياء قبله قد لاقوا منهم من البلاء ما لا قيت ، فلا تأس على ما فرط منهم ، ولا تبتئس بما كانوا يفعلون كما جاء فى قوله سبحانه : «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً».

وفى هذا وعيد للمشركين من أهل مكة وغيرهم على تكذيبهم رسولهم ، وأنهم إن لم ينيبوا إلى ربهم فسيحل بهم من العذاب مثل ما حل بمن قبلهم ، وينجّى نبيه والمؤمنين كما نجّى من قبله من الرسل وأتباعهم من نقمه التي أحلها بأممهم.

الإيضاح

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) أي كذب قبل قومك قوم نوح فكانوا أسوة لمن بعدهم من المكذبين للرسل.

ثم فصّل هذا التكذيب بقوله :

(فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) أي فكذبوا عبدنا نوحا ونسبوه إلى الجنون ، وزجروه وتوعدوه ، لئن لم ينته ليكونن من المرجومين.

وأضاف العبد إليه فى قوله «عبدنا» للاشارة إلى أنه لم يعبد سواه ، فهو فى جميع أفعاله لله ؛ وإلى أنه صادق فى دعواه النبوة ، فهو لا ينطق عن الهوى ، فتكذيبهم له قبيح غاية القبح ، بالغ نهاية العتوّ والإنكار.

ثم بين أنه عيل بهم صبرا ، وضاق بهم ذرعا فدعا عليهم فقال :

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) أي فدعا نوح ربه قائلا إن قومى قد غلبونى لتمردهم وعتوهم ، ولا طاقة لى بهم ، فانتصر منهم بعقاب من عندك على كفرهم بك.

٨٢

وقصارى ذلك ـ انتصر لك ولدينك ، فإنى قد غلبت وعجزت عن الانتصار لهما.

ثم أخبر سبحانه أنه قد أجاب دعاءه فقال :

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) أي فصببنا عليهم ماء ثجاجا من السماء ، وتقول العرب فى المطر الوابل : جرت ميازيب السماء. روى أنهم طلبوا المطر سنين فأهلكهم الله بما طلبوا.

وفى الآية إيماء إلى أن الله انتصر منهم ، وانتقم بماء لا بجند أنزله.

(وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) أي وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة.

(فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي فالتقى الماء أي ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدره الله وهو هلاكهم بالطوفان.

والخلاصة ـ إن الله أرسل ماء السحاب مدرارا ، وأخرج من الأرض ماء ثجاجا فالتقى الماءان فأحدثا طوفانا على وجه الأرض ، فأغرق به قوم نوح ، ونجا نوح بركوب سفينته التي بناها كما أشار إلى ذلك فى هود بالتفصيل وأشار إليه هنا بقوله :

(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) أي وأنقذناه من الطوفان ، فحملناه على سفينة ذات خشب ومسامير.

وجاء فى سورة العنكبوت «فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ».

وفى هذا إيماء إلى أنه تعالى يوجد الأسباب لتحقيق ما يريد من المسببات ، بحسب السنن التي وضعها فى الخليقة ، وأنه يمهل الظالمين ، ولا يهملهم كما جاء فى الحديث «إن ربك لا يهمل ولكن يمهل».

ثم أشار إلى أنه كان محروسا بعناية الله وكلاءته فقال :

(تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي تجرى محفوظة بحراستنا ، فقد كانت بمرأى منافنحن نكلؤها ونرعاها ، كما يرعى المرء ما يراه بعينه ، ويقع تحت سمعه وبصره ، ويقول القائل إذا وصّى آخر بأمر وشدد عليه : اجعله نصب عينيك أي اهتمّ به ، ولا تهمله.

٨٣

ثم بين أن هذا هو الجزاء العادل على سوء صنيعهم ، وكفرهم بربهم فقال :

(جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أي فعلنا ذلك بهم جزاء كفرهم بآياتنا ، وجحودهم بنعمائنا ، وتكذيبهم برسولنا.

ثم ذكر أنه أبقى السفينة عبرة لمن بعدهم على كر الدهور والأعوام فقال :

(وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) أي ولقد جعلنا السفينة التي حملنا فيها نوحا ومن معه ـ عبرة لمن بعده من الأمم ، ليدبروا ويتعظوا ، ويرعووا أن يسلكوا مسلكهم وينهجوا نهجهم فى الكفر بالله وتكذيب رسله ، فيصيبهم مثل ما أصابهم من العقوبة ؛ وقد رووا أن الله حفظها آمادا طويلة بأرض الجزيرة على جبل الجودىّ. وقال قتادة : أبقاها الله بباقر دى من أرض الجزيرة حتى أدركتها أوائل هذه الأمة.

ونحو الآية قوله تعالى : «إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ. لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ».

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) أي فهل من معتبر بتلك الآية الحريّة بالاعتبار ، الجديرة بطويل التفكير والتأمل فى عواقب المكذبين برسل الله ، الجاحدين بوحدانيته ، المتخذين له الأنداد والأوثان.

ثم بين سبحانه شديد نكاله وعقابه فقال :

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟) أي ما أشد ما أنزلته بهم من البوار والهلاك ، وما أفظع إنذارى لهم بما أحللته بهم من النقمة بعد النعمة ، وهكذا عاقبة كل مكذب جبار.

ولا يخفى ما فى هذا من شديد الوعيد ، وعظيم التهديد ، لكل باغ عنيد ، ساخط على الرسل ، مكذب بربه.

والخلاصة ـ انظر كيف كان عذابى لمن كفر بي ، وكذب رسلى ، وكيف انتصرت لهم ، وأخذت أعداءهم بما يستحقون؟.

٨٤

ثم ذكر أن هذا القصص وأمثاله إنما ذكر فى القرآن للعبرة ، لا ليكون قصصا تاريخيا يتلى ، فقال :

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي ولقد سهلنا لفظه ، ويسرنا معناه ، وملأناه بأنواع العبر والمواعظ ، ليتعظ به من شاء ، ويتدبر من أراد «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ».

ونحو الآية قوله : «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» وقوله : «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» روى الضحاك عن ابن عباس قال : لو لا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل.

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي فهل من متعظ به ، مزدجر عن معاصيه ، أي ما أقل من تذكر به ، واتعظ بأمره ونهيه.

(٢) قصص عاد قوم هود

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢))

تفسير المفردات

الريح الصرصر : الباردة أشد البرد ، والنحس : الشؤم ، منقعر : أي مقتلع من أصوله ؛ يقال قعرت النخلة : أي قلعتها من أصلها فانقعرت.

٨٥

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قصص قوم نوح وما فيه من العبرة لمن تدبر وفكر ، أعقبه بقصص عاد قوم هود ، ليبين للمكذبين أن عاقبة كل مكذب الهلاك والبوار وإن تعددت أسبابه.

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره

تعددت الأسباب والموت واحد

فقد أرسل الله عليهم ريحا عاصفا ، لصوتها صرير حين هبوطها فى يوم شؤم عليهم ، واستمر بهم البلاء حتى حل بهم الدمار ، وكانت الريح لشدتها تقتلع الناس من الأرض وترفعهم إلى السماء ثم ترمى بهم على رءوسهم ، فتندقّ رقابهم ، وتبين من أجسامهم ، فانظروا أيها المكذبون إلى ما حل بهم من العذاب جزاء تكذيبهم لرسوله ، كما هى سنة الله فى أمثالهم من المكذبين.

الإيضاح

(كَذَّبَتْ عادٌ) أي كذبت عاد نبيهم هودا فيما أتاهم به عن الله ، كما كذبت قوم نوح من قبلهم نبيهم.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي فانظروا معشر قريش ، كيف كان عذابى إياهم ، وعقابى لهم على كفرهم بالله ، وتكذيبهم رسوله هودا ، وإنذارى من سلك سبيلهم وتمادى فى الغىّ والضلال بحلول مثل ذلك العقاب به.

وفى هذا توجيه لقلوب السامعين إلى الإصغاء لما يلقى عليهم قبل ذكره ، وتعجيب من حالهم بعد بيانه ، كأنه قيل : كذبت عاد فانظروا كيف كان عذابى وإنذارى لهم به قبل نزوله.

ثم فصّل ما أجمله أولا فقال :

٨٦

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) أي إنا بعثنا إلى عاد إذ تمادوا فى طغيانهم وكفرهم بربهم ريحا شديدة العصوف فى برد ، لصوتها صرير ، فى زمن شؤم ونحس عليهم ، إذ ما زالت مستمرة حتى أهلكتهم.

ونحو الآية قوله : «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ» وقوله : «سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً» أي متتابعة. وما روى من شؤم بعض الأيام فلا يصح شىء منه ، فالأيام كلها لله ، لا ضرر فيها لذاتها ، ولا محذور منها ، ولا سعد فيها ولا نحس ، فما من يوم يمر إلا وهو سعد على قوم ونحس على آخرين ، باعتبار ما يحدثه الله فيه من الخير والشر لهم ، فكل منها يتصف بالأمرين :

ألا إنما الأيام أبناء واحد

وهذى الليالى كلها أخوات

وتخصيص كل يوم بعمل كما يزعم بعض الناس وينسبون فى ذلك أبياتا إلى على كرم الله وجهه ، لا يصح منه شىء ، وإنما هو نزغات شيعيّة لا تستند إلى ركن من الدين ركين.

(تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أي تقتلعهم حتى يصيروا كأنهم أعجاز نخل قد انقلع من مغارسه فى الأرض.

وفى الآية إيماء إلى أن الريح كانت تقتلع رءوسهم فتبقى الأجسام ولا رءوس لها ، وإلى أنهم كانوا ذوى جثث عظام طوال كالنخل ، وإلى أنهم أعملوا أرجلهم فى الأرض وقصدوا بذلك مقاومة الريح ، وإلى أن الريح جعلتهم كأنهم خشب يابسة لشدة بردها.

ثم هوّل من أمر العذاب والإنذار بعد بيانهما فقال :

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي فانظروا كيف كان عذابى وإنذارى ، وقد كرره تعظيما لشأنه ، وهذه سنة فى بليغ الكلام ، فى باب النصح والإرشاد ، وباب

٨٧

التهديد والوعيد ، وقد يكون الأول إشارة إلى عذاب الدنيا ، والثاني إلى عذاب الآخرة كما جاء فى قصصهم فى آية أخرى «لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ».

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) الكلام فيه كسابقه فلا نعيده.

(٣) قصص ثمود

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢))

تفسير المفردات

بالنذر : أي بالرسل ، وتكذيب صالح تكذيب لهم جميعا لاتفاقهم على أصول الشرائع ، وسعر : أي جنون ، ومنه ناقة مسعورة : إذا كانت تفرط فى سيرها كأنها مجنونة ، والذكر : الوحى ؛ والمراد بالغد وقت نزول العذاب بهم ، والأشر : شديد البطر ، والبطر : دهش يعترى الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها ، فتنة : أي

٨٨

امتحانا واختبارا ، فارتقبهم : أي فانتظرهم ، واصطبر : أي واصبر على أذاهم ، والشّرب : النصيب ، محتضر : أي يحضره صاحبه فى نوبته ، فتحضر الناقة مرة ويحضرون أخرى ، صاحبهم : هو قدار بن سالف أحيمر ثمود ، فتعاطى : أي فاجترأ على تعاطى الأمر العظيم غير مكترث به ، فعقر : أي فضرب قوائم الناقة بالسيف ، صيحة واحدة : هى صيحة صاحها جبريل عليه السلام ، والهشيم : ما تهشم وتفتت من الشجر ، والمحتظر : الذي يعمل الحظيرة فتتساقط منه بعض أجزاء وتتفتت حال العمل.

المعنى الجملي

قص الله علينا قصص ثمود مع نبيها صالح ، إذ قالوا : أنحن العدد الجمّ ، والكثرة الساحقة ، نتبع واحدا منا لا امتياز له عنا؟ إنا إذا فعلنا ذلك لفى ضلال وبعد عن محجة الصواب ، وإنه لكاذب فيما يدّعيه من الوحى عن ربه ، وما هو إلا بشر وليس بملك ، فقال لهم ربهم ، ستعلمون بعد حين قريب من الكذاب البطر؟ وقد جعلنا ناقته فتنة واختبارا لهم ، فأمرناه أن يخبرهم بأن ماء البئر يقسم بينها وبينهم ، فلها يوم ولهم آخر ، فما ارتضوا هذا وقام فاسقهم قدا وعقر الناقة فخرت صريعة ، فجازاهم الله فأرسل عليهم العذاب فصاروا كالهشيم الذي يتفتت حين بناء حظيرة الماشية.

الإيضاح

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) أي كذبت ثمود بنذر الله ورسله الذين بعثهم لخلقه ، وهم وإن كذبوا صالحا فحسب ، فإن تكذيبه تكذيب لهم جميعا ، لاتفاقهم على الأصول العامة للتشريع ، وهى التوحيد ومجىء الرسل واليوم الآخر.

ثم فصل تكذيبهم وحكى عنهم مقالهم فقال :

(فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ؟) أي أنتبع واحدا من الدهماء ، لا من علية

٨٩

القوم ولا من أشرافهم ، وليس له ميزة عن امرئ منا بعلم ظاهر ، ولا ثروة وغنى ، تجعله يدّعى أن يكون الزعيم لنا.

ثم ذكروا وجه إصرارهم على تكذيبه بقولهم :

(إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي إنا لو اتبعناه نكون قد ضللنا الصراط السوىّ ، وجانبنا الصواب ، وصرنا لا محالة إلى الجنون الذي لا يرضى به عاقل لنفسه.

روى أن صالحا كان يقول لهم : إن لم تتبعونى كنتم فى ضلال عن الحق وسعر ، فعكسوا عليه مقاله بعتوّهم واستكبارهم فقالوا : إنا إن اتبعناك كنا كما تقول :

ثم بالغوا فى العتو والإنكار وتعجبوا من أمره ونسبوه إلى الاختلاق والكذب فقالوا :

(أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) أي أأنزل عليه الوحى من بيننا وأوتى النبوة وهو واحد منا؟ ولم اختصه الله بإنزال الشرائع عليه وهو ليس بملك مكرّم؟ الحق إنه لكذاب متجبر ، يريد أن تكون له السيطرة والسلطان علينا ، ويودّ أن يكون الرئيس المطاع ، وما ذاك إلا بما زينته له نفسه ، وأغواه به الشيطان ، ولا يستند إلى وحي سماوى ، ولا أمر إلهى.

ثم حكى سبحانه ما قاله لصالح وعدا له ووعيدا لقومه فقالوا :

(سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ؟) أي سيعلمون عن قريب حين يحل بهم الهلاك الدنيوي ـ من الكذاب البطر الذي حمله بطره على ما فعل ، أصالح فى دعواه الرسالة من ربه ، وأنه أمره بالتبليغ لهداية قومه إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، أم هم فى تكذيبهم إياه ودعواهم عليه الاختلاق والكذب؟.

وقصارى ذلك ـ سيتبين لهم أنهم هم الكذابون الأشرون.

وأورد الكلام على طريق الإبهام للإشارة إلى أنه مما لا يخفى ، جريا على أساليبهم كقوله تعالى آمرا رسوله أن يقول للمشركين : «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» وقوله :

٩٠

فلئن لقيتك خاليين لتعلمن

أيّى وأيك فارس الأحزاب

ثم ذكر مقدمات العذاب الموعود به فقال :

(إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) أي إنا مخرجو الناقة من الهضبة التي طلبوا من نبيهم بعثها منها ، لتكون آية لهم ، وحجة على صدقه فى ادعائه النبوة ، وتكون فتنة واختبارا لهم ، أيؤمنون بالله ويتبعونه فيما أمرهم به من توحيد ، أم يكذبونه ويكفرون به؟.

(فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) أي فانتظر ماذا يفعلون؟ وأبصر ماذا يصنعون؟ واصبر على أذاهم ولا تعجل حتى يأتى أمر الله ، فإن الله ناصرك ، ومهلك عدوك.

(وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) أي وأخبرهم أن ماء بئرهم مقسوم بينهم وبين الناقة ، لها يوم ولهم يوم ، وكل حصة منه يحضر صاحبها ليأخذها فى نوبته ، فتحضر الناقة تارة ، ويحضرون هم أخرى.

وقد جعلت القسمة على هذا الوجه لمنع الضرر ، لأن حيوان القوم كانت تنفر منها ، ولا ترد الماء وهى عليه ، فصعب ذلك عليهم.

(فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) أي فملّت ثمود هذه القسمة ، وأرادوا الخلاص منها ، فنادوا قدار بن سالف وكان أشقاهم ليعقرها وحضّوه على ذلك ، فلبّى طلبهم وتناولها بيده وأهوى بالسيف ضربا على قوائمها ، فخرت صريعة.

ثم ذكر عقابهم الفظيع فقال :

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟) قد سبق تفسير هذا.

ثم فصل هذا العذاب بقوله :

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) أي إنا أرسلنا جبريل فصاح بهم صيحة فصاروا كالحشيش البالي الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته ، وكأنهم هلكوا من أمد بعيد.

٩١

وقصارى ذلك ـ إنهم بادوا عن آخرهم ولم تبق منهم باقية ، وهمدوا كما يهمد يبيس الزرع والنبات.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) مرّ بيان هذا.

(٤) قصص قوم لوط

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠))

تفسير المفردات

حاصبا : أي ريحا ترميهم بالحصباء وهى الحصا ، قال فى الصحاح : الحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء ، والحصب (بفتحتين) ما تحصب به النار : أي ترمى ، وكل ما ألقيته فى النار فقد حصبتها به ، والسحر : السدس الأخير من الليل ، وقال الراغب : السحر والسّحرة : اختلاط ظلام آخر الليل بصفاء النهار ، والبطش : الأخذ الشديد بالعذاب ، فتماروا بالنذر : أي فشكوا فى الإنذارات ولم يصدقوها ، راودوه عن ضيفه : أي صرفوه عن رأيه فيهم فطلبوا منه أن يسلم إليهم أضيافه ليفجروا بهم ، فطمسنا أعينهم : أي فحجبناها عن الأبصار فلم تر شيئا ، بكرة : أي أول النهار ، مستقرّ : أي دائب بهم إلى أن يهلكوا.

٩٢

المعنى الجملي

ذكر هنا تكذيب قوم لوط لنبيهم ومخالفتهم إياه ، واجتراحهم من السيئات ما لم يسبقهم به أحد من العالمين ، بإتيانهم الذكران دون النساء ، ثم أردفه ذكر عذابهم بإرسال حجارة من سجيل عليهم إلا من آمن منهم ، فقد نجاهم بسحر ، وما أهلكهم إلا بعد أن أنذرهم عذابه على لسان رسوله فكذبوه.

الإيضاح

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) أي كذبت قوم لوط بآيات الله التي أنذرهم بها.

ثم أعقبه بذكر جزائهم على هذا التكذيب ونجاة من آمن منهم فقال :

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) أي إنا عاقبناهم بإرسال ريح تحمل الحصباء ، وما زالت بهم حتى دمرتهم ، إلا من آمن منهم ، فإنا أمرناهم بالخروج آخر الليل لينجوا من الهلاك.

ثم بين أن سبب إنجاء المؤمنين هو شكرانهم للنعمة فقال :

(نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) أي أنعمنا عليهم بالنجاة كرامة لهم منا ، وهكذا نجزى من شكرنا على نعمتنا وأطاعنا فائتمر بأمرنا ، وانتهى عما نهينا عنه.

ثم ذكر أنه ما أهلك من أهلك إلا بعد أن أنذرهم عذابه وخوفهم بأسه فقال :

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) أي ولقد أنذرهم نبيهم بأس الله وعذابه ، قبل حلوله بهم ، فما التفتوا إلى ذلك ولا أصغوا إليه ، بل شكّوا فيه وتماروا به.

ثم بين جرمهم الذي استحقوا به العذاب فقال :

(وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) أي طلبوا منه ضيوفه وهم الملائكة الذين جاءوا فى صورة شباب مرد حسان ، محنة من الله لهم ، إذ قد بعثت إليهم امرأته العجوز السوء

٩٣

فأعلمتهم بأضيافه ، فأقبلوا إليه يهرعون من كل مكان ، فأغلق لوط عليهم الباب ، فجعلوا يعالجونه ليكسروه ، وهو يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه ويقول لهم : هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم ، فقالوا له : لقد علمت مالنا فى بناتك من أرب ، وإنك لتعلم ما نريد ، فلما اشتد بينهم الصراع وأبوا إلا الدخول ـ طمس الله أبصارهم فلم يروا شيئا ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :

(فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) فجعل بعضهم يجول فى بعض ولا يرون شيئا ، ويقولون : أين ضيوفك؟ وقد تقدم تفصيل ذلك فى سورة هود.

(فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي فقلنا لهم على ألسنة ملائكتنا : ذوقوا هذا العذاب عذاب طمس الأعين وما بعده بعد أن أنذرتكم على سوء أفعالكم ، وقبيح خلالكم.

ثم بين وقت مجىء العذاب فقال :

(وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) أي ولقد نزل بهم العذاب وقت البكور وما زال ملحّا عليهم حتى أخمدهم ، وبلغ غايته فى دمارهم وهلاكهم.

ثم حكى ما قيل لهم بعد التصبيح من جهته تعالى تشديدا للعذاب فقال :

(فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي فذوقوا جزاء أفعالكم من عذاب عاجل ، وما لزم من إنذاركم من عذاب آجل.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) هذه الجملة القسمية وردت فى آخر كل قصة من القصص الأربع ، تقريرا لمضمون ما سبق من قوله : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) وتنبيها إلى أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الادّكار ، كافية فى الازدجار ، ولم يحصل بها مع هذا عظة واعتبار.

وقد جاء هذا التكرير فيما سيأتى فى سورة الرحمن من قوله : «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» وقوله فى سورة المرسلات : «فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ».

٩٤

وهذا كثير فى كلام العرب إذا أرادوا العناية بما فيه من هامّ الأمور ، كقول مهلهل فى رثاء أخيه كليب حين قتل :

قرّبا مربط النعامة منّى

لقحت حرب وائل عن حيالى

قرّبا مربط النعامة منّى

شاب رأسى وأنكرتنى عيالى

وهى طويلة جارية على هذا السنن ، والنعامة فرسه ، ولقحت : أي حملت.

(٥) قصص آل فرعون

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢))

تفسير المفردات

النذر : واحدها نذير بمعنى إنذار ؛ وهى الآيات التسع التي أنذرهم بها موسى صلوات الله عليه ، عزيز : أي لا يغالب ولا يغلب ، مقتدر : أي لا يعجزه شىء.

الإيضاح

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) أي تالله لقد توالت عليهم الإنذارات ، وجاءتهم الآية تلو الآية فكذبوا بها.

ثم أبان ما فعلوه على توالى النذر فقال :

(كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) أي كذبوا بأدلتنا وبرهاناتنا التي أرسلناها إلى موسى ، وقد تقدم ذكرها فى سورة الأعراف.

ثم ذكر جزاءهم على ذلك فقال :

٩٥

(فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) أي فعاقبناهم بكفرهم بالله ـ عقوبة مقتدر على ما يشاء غير عاجز ولا ضعيف.

توبيخ قريش على كفرهم بربهم

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦))

تفسير المفردات

براءة : أي صك مكتوب بالنجاة من العذاب ، والزبر : الكتب السماوية واحدها زبور ، يولون : أي يرجعون ، والدبر : أي الأدبار هار بين منهزمين ، والساعة : هى القيامة ، موعدهم : أي موعد عذابهم ، أدهى : أي أعظم داهية وهى الأمر الفظيع الذي لا يهتدى الخلاص منه ، يقال دهاه أمر كذا : أي أصابه ، وأمرّ : أي أشد مرارة فى الذوق ؛ والمراد الشدة والهول.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه قصص قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون ، وفصّل ما أصيبوا به من عذاب الله الذي لا مرد له ، بسبب كفرهم بآياته وتكذيبهم لرسله ـ أعقب هذا بتنبيه كفار قريش إلى أنهم إن لم يثوبوا إلى رشدهم ويرجعوا عن غيهم فستحل بهم سنتنا ، ويحيق بهم من البلاء مثل ما حل بأضرابهم من المكذبين من قبلهم ، ولا يجدون عنه محيصا ولا مهربا ، ثم خاطبهم خطاب إنكار

٩٦

وتوبيخ فقال لهم : علام تتكلون ، وما ذا تظنون؟ أأنتم خير ممن سبقكم عددا وكثرة مال وبطشا وقوة ، أم لديكم صكّ من ربكم بأنه لن يعذبكم مهما أشركتم واجترحتم من السيئات؟ أم أنكم تظنون أنكم جمع كثير لا يمكن أن ينال بسوء ، ولا تصل إلى أذاكم يد مهما أوتيت من القوة؟ كلا إن شيئا من هذا ليس بكائن ، وإنكم ستهزمون وتولون الأدبار فى الدنيا وسيحل بكم قضاء الله الذي لا مفر منه ، وما سترونه فى الآخرة أشد نكالا ، وأعظم وبالا ، فأفيقوا من غفلتكم ، وأنيبوا إلى ربكم ، عسى أن يرحمكم.

الإيضاح

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) أي أكفاركم يا معشر قريش خير من أولئكم الذين أحللت بهم نقمى من قوم نوح وعاد وثمود؟ فيأملوا أن ينجوا من عذابى ونقمتى ، على كفرهم بي وتكذيبهم رسولى.

وتلخيص المعنى ـ ما كفاركم خير ممن سبقهم ، فهم ليسوا بأكثر منهم قوة ، ولا أوفر عددا ، ولا ألين شكيمة فى الكفر والعصيان والضلال والطغيان ، وقد أصاب من هم خير منهم ما أصابهم ، فكيف يطمعون فى المهرب من مثل ذلك ، فليثوبوا إلى رشدهم ، وليرجعوا عن غيّهم قبل أن يندموا ولات ساعة مندم.

ثم انتقل من توبيخهم الأول إلى توبيخ أشد منه فقال :

(أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أي أم لكم صك بالبراءة من تبعات ما تجترحون من السيئات ، وأن ربكم لن يعاقبكم على ما تدسّون به أنفسكم من الشرور والآثام؟ فأنتم على هذا الصك تعتمدون ، وبهذا الوعد آمنون ، حقا إنكم لتطمعون فى غير مطمع ، وليس بين أيديكم ولا قلامة ظفر من هذا ـ فعلام تتكلون؟ وإلام تستندون؟

٩٧

(أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أي بل هم يقولون نحن واثقون بشوكتنا ، فنحن قوم أمرنا مجتمع ، لا نرام ولا نضام ، وإنا منصورون على من قصدنا بسوء ، أو أراد حربنا وتفريق جمعنا.

وجماع القول ـ إنه تعالى سدّ عليهم المسالك ، ونقض جميع المعاذير التي ربما تعللوا بها فى عدم تصديقهم بالرسول ، وفى كفرهم بآيات ربهم ، فقال لهم : لم لا تخافون أن يحل بكم مثل ما حل بمن قبلكم؟ أأنتم أقل كفرا وعنادا منهم ، فيكون ذلك سبب الأمن من حلول مثل عذابهم بكم؟ أم أعطاكم الله براءة من عذابه؟ أم أنتم أعز منهم جندا فأنتم تنتصرون على جند الله؟

ثم رد عليهم مقالهم وأبان لهم أنهم يعيشون فى بحر من الأوهام ، وأن قضاء الله سيحل بهم ، وسيهزمون ويولون الأدبار متى جاء قضاؤه فقال :

(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي سيتفرق شملهم ويغلبون حين يلتقى جيشهم وجيش المؤمنين ، وقد صدق الله وعده ، فانهزموا وولوا الأدبار يوم بدر ، وكان هذا دليلا من دلائل النبوة ، فإن الآية نزلت بمكة ولم يكن له صلّى الله عليه وسلّم يومئذ جيش ، بل كان أتباعه مشرّدين فى الآفاق ، يلاقون العذاب من المشركين فى كل صوب ، حتى لقد قال عمر رضى الله عنه : لما نزلت لم أعلم ما هى؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبس الدرع ويقول : سيهزم الجمع فعلمته ـ ثم استمر انهزامهم بعد.

روى البخاري عن ابن عباس : «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال وهو فى قبّة له يوم بدر : أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم فى الأرض أبدا ؛ فأخذ أبو بكر رضى الله عنه بيده وقال : حسبك يا رسول الله ، ألححت على ربك ، فخرج وهو يثب فى الدرع ويقول : «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ».

٩٨

ثم بين أن هذا عذاب الدنيا وسيلاقون يوم القيامة ما هو أشد منه نكالا فقال :

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) أي إن ما سيلاقونه من العذاب فى الدنيا من الهزيمة والقتل والأسر ـ هيّن إذا قيس على ما سيلاقونه من العذاب فى الآخرة ، فإن ذا أشد وآلم ، فهو عذاب خالد دائم ، وسيأتى بعد وصف ما فيه من فظاعة ونكر.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

تفسير المفردات

المراد بالمجرمين : المشركون كما جاء فى قوله : «يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ». فى ضلال : أي فى الدنيا عن الحق ، وسعر : أي نيران واحدها سعير ، يسحبون : أي يجرّون ، سقر : اسم لجهنم ، ومسها : حرها ، بقدر : أي مقدر مكتوب فى اللوح المحفوظ ، أمرنا : أي شأننا ، واحدة : أي كلمة واحدة وهى قوله (كن) كلمح البصر : أي فى اليسر والسرعة ، أشياعكم : أي أشباهكم فى الكفر من الأمم السالفة ، واحدهم شيعة ، وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع ، مدكر : أي متعظ ، فى الزبر : أي فى كتب الحفظة ،

٩٩

مستطر : أي مسطور مكتوب فى اللوح بتفاصيله ، نهر : أي أنهار ، فى مقعد صدق : أي فى مكان مرضى ، عند مليك مقتدر : أي عند ملك عظيم القدرة واسع السلطان.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر تكذيب الأمم الماضية لرسلها كما كذبت قريش نبيها ، وأعقبه بذكر ما أصابهم فى الدنيا من العذاب والهوان ـ أردف ذلك ذكر ما سينالهم من النكال والوبال فى الآخرة ، فبين أنهم سيساقون على وجوههم إلى جهنم سوقا ، إهانة وتحقيرا لهم ، ويقال لهم حينئذ توبيخا وتعنيفا : ذوقوا عذاب النار وشديد حرها. ثم أعقبه ببيان أن كل شىء فهو بقضاء الله وقدره ، وإذا أراد الله أمرا فإنما يقول له كن فيكون ، ثم نبههم إلى ما كان يجب عليهم أن يتنبهوا له من هلاك أمثالهم من الأمم التي كذبت رسلها من قبل ، وفعلت فعلها فأخذها أخذ عزيز مقتدر ؛ ثم ختم السورة بذكر ما يتمتع به المتقون فى جنات النعيم ، من إجلال وتعظيم ، ويرون ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

الإيضاح

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي إن المشركين بالله المكذبين لرسله ـ فى ضلال عن الصراط المستقيم ، وعماية عن الهدى فى الدنيا ، وعذاب أليم فى نار جهنم يوم القيامة.

ثم بين ما يلحقهم من الإهانة والإذلال حينئذ فقال :

(يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أي يعذبون ويهانون يوم يجرّون على وجوههم فى النار ، ويقال لهم إيلاما وتعنيفا : ذوقوا حر النار وآلامها جزاء وفاقا لتكذيبكم رسل ربكم فى كل ما جاءوا به من الإنذار بهذا اليوم ، والتحذير مما يقع فيه للكافرين من العذاب ، والتبشير بما للمتقين فيه من ثواب.

١٠٠