تفسير المراغي - ج ٢٧

أحمد مصطفى المراغي

وأزواجهم ـ أردف ذلك ذكر الزوج الثالث ، وبين ما يلقاه من النكال والوبال وسوء الحال ، فهو يتظلى فى السموم ، ويشرب ماء كالمهل يشوى الوجوه ، ثم أعقبه بذكر السبب فى هذا ، بأنهم كانوا فى دنياهم مترفين غارقين فى ذنوبهم ، منكرين هذا اليوم يوم الجزاء ؛ ثم أمره أن يخبرهم بأن هذا اليوم واقع حتما وأن مأكلهم سيكون من شجر الزقوم يملئون منه بطونهم ، ثم يشربون ولا يرتوون كالإبل الهيم ، وهذا ما أعد لهم من كرم وحسن وفادة فى هذا اليوم.

الإيضاح

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ، ما أَصْحابُ الشِّمالِ) أي أصحاب الشمال فى حال لا يستطاع وصفها ، ولا يقدر قدرها من نكال ووبال وسوء منقلب.

ثم فسر هذا المبهم بقوله :

(فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) أي هم فى حرّ ينفذ فى المسامّ ، وماء متناه فى الحرارة ، وظل من دخان أسود ، ليس بطيّب الهبوب ، ولا حسن المنظر ، لأنه دخان من سعير جهنم يؤلم من يستظل به.

قال ابن جرير : العرب تتبع هذه اللفظة (الكريم) فى النفي فيقولون هذا الطعام ليس بطيب ولا كريم ، وهذا اللحم ليس بسمين ولا كريم ، وهذه الدار ليست بواسعة ولا كريمة اه.

وذكر السموم والحميم ولم يذكر النار ، إشارة بالأدنى إلى الأعلى ، فإن هواءهم إذا كان سموما ، وماءهم الذي يستغيثون به حميما ، مع أن الهواء والماء من أبرد الأشياء وأنفعها ، فما ظنك بنارهم ، فكأنه قال : إن أبرد الأشياء لديهم أحرها ، فما بالك بحالهم مع أحرّها؟.

ونحو الآية قوله تعالى : «انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ. لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ. إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ

١٤١

كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ».

والخلاصة ـ إن السموم تضربهم فيعطشون ، وتلتهم تارة أحشاءهم ، فيشربون الماء فيقطّع أمعاءهم ، ويريدون الاستظلال بظل ، فيكون ظل اليحموم.

ثم ذكر السبب فى تعذيبهم فقال :

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ. وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ. وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟) أي إنهم كانوا فى الدنيا منعمين بألوان من المآكل والمشارب ، والمساكن الطيبة ، والمقامات الكريمة ، مهمكين فى الشهوات ، فلا جرم عذّبوا بنقائضها ، إلى أنهم كانوا ينكرون هذا اليوم ويقولون : أنبعث نحن وآباؤنا الأولون ونعود كرّة أخرى ، وقد صرنا أجسادا بالية ، وعظاما نخرة؟.

والخلاصة ـ إنهم كانوا يمتّعون بوافر النّعم وجزيل المنن ، وهم مع ذلك أصروا على كفرانهم ، ولم يشكروا أنعم الله عليهم ، فاستحقوا عقاب ربهم ، وكانوا مكذبين بهذا اليوم ، مستبعدين وقوعه ، وركبوا رءوسهم فلم يلووا على شىء ، وهاموا فى أودية الضلالة ، وساروا فى سبيل الغواية ، لا رقيب ولا حسيب.

وقد جرت سنة القرآن أن يذكر أسباب العقاب ، ولا يذكر أسباب الثواب ، لأن الثواب فضل ، والعقاب عدل ، والفضل إن ذكر سببه أو لم يذكر لا يتوهم فى المتفضل به نقص ولا ظلم ، أما العدل فإن لم يعلم سببه فربما يظن أنه ضرب من الظلم.

وقد ذكروا لاستبعاد هذا البعث أسبابا :

(١) الحياة بعد الموت.

(٢) طول العهد بعد الموت حتى صارت اللحوم ترابا والعظام رفاتا.

(٣) بلغ الأمر منهم أن قالوا متعجبين : أو يبعث آباؤنا الأولون؟

فرد الله عليهم كل هذا وأمر رسوله أن يجيبهم.

١٤٢

(قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي أجبهم أيها الرسول الكريم قائلا لهم : إن الأولين الذين تستبعدون بعثهم أشد الاستبعاد ، والآخرين الذين تظنون أن لن يبعثوا ـ ليجمعون فى صعيد واحد فى ذلك اليوم المعلوم ، ولا شك أن اجتماع عدد لا يحصى كثرة أعجب من البعث نفسه.

ونحو الآية قوله فى سورة الصافات : «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ».

ثم بين ما يلقاه أولئك المكذبون من الجزاء فى مآكلهم ومشاربهم فقال :

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ. فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ. فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ. فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) أي أيها الذين ضللتم فأصررتم على الذنب العظيم ، إذ لم توحّدوا الله ولم تفعلوا ما يوجب تعظيمه ، ثم كذبتم رسله ، فأنكرتم البعث والجزاء فى هذا اليوم ـ إنكم لآكلون من شجر الزقوم ، فمالئون منها بطونكم ، فشاربون بعد ذلك من ماء حارّ لغلبة العطش عليكم ، ولكنه شرب لا يشفى الغليل ، ومن ثم تشربون ولا ترتوون ، فكأنكم الإبل التي أصيبت بداء الهيام ، فلا يروى لها الماء غليلا.

وخلاصة ذلك ـ إنه لزيادة العذاب لا ترتوون من شرب هذا الماء المنتن الحار فلا تمسكوا عنه ، بل يكون شربكم كشرب الإبل التي تشرب ولا تروى.

ثم بين أنه ليس هذا كل العذاب بل هو أوله وقطعة منه فقال :

(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) أي هذا الزقوم المأكول ، والحميم المشروب ، أول الضيافة التي تقدم لهم كما يقدم للنازل مما حضر ، فما بالك بهم بعد ما يستقر بهم المقام فى النار؟.

ولا يخفى ما فى هذا من التهكم بهم ، والتوبيخ لهم كما قال :

وكنّا إذا الجبّار بالجيش ضافنا

جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

١٤٣

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤))

تفسير المفردات

تمنون : أي تقذفونه فى الأرحام من النطف ، تخلقونه أي تقدرونه وتصوّرونه بشرا سويا تام الخلق ، قدرنا : أي قسمنا ووقتنا موت كل أحد بوقت ، نبدل أمثالكم :

أي نميتكم دفعة واحدة ونخلق أشباهكم ، فيما لا تعلمون : أي من الخلق والأطوار التي لا تعهدونها ، فلو لا تذكرون : أي فهلا تتذكرون ذلك ، تحرثون : أي تبذرون حبه ، وتعملون فى أرضه ، تزرعونه : أي تنبتونه وتجعلونه نباتا يرفّ ، حطاما : أي هشيما متكسرا متفتتا لشدة يبسه بعد ما أنبتناه ، تفكهون : أي تتعجبون من سوء حاله ، مغرمون : أي معذبون مهلكون من الغرام وهو الهلاك قال :

إن يعذّب يكن غراما وإن يقسط جزيلا فإنه لا يبالى

١٤٤

محرومون : أي غير مجدودين ، فليس لنا جدّ وحظ ، المزن : السحاب واحدته مزنة ، أجاجا : أي ملحا زعاقا لا يصلح لشرب ولا فى زرع ، لو لا : بمعنى هلا ، وهى كلمة تفيد الحث على فعل ما بعدها ، تورون : أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد ، تذكرة : تذكيرا بالبعث ، ومتاعا : أي منفعة ، للمقوين : أي للمسافرين الذين يسكنون القواء : أي القفر والمفاوز ، فسبح : أي تعجب من أمرهم ، وقل : سبحان الله العظيم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الأزواج الثلاثة ، وبين مآل كل منها ، وفصل ما يلقاه السابقون وأصحاب الميمنة من نعيم مقيم ، وذكر ما يلقاه أصحاب المشأمة من عذاب لازب فى حميم وغساق ، وذكر أن ذلك إنما نالهم ، لأنهم أشركوا بربهم وعبدوا معه غيره وكذبوا رسله ، وأنكروا البعث والجزاء ـ أردف ذلك إقامة الأدلة على الألوهية من خلق ورزق لطعام وشراب ، وأقام الدليل على البعث والجزاء ، ثم أثبت الأصل الثالث وهو النبوة فيما بعد.

الإيضاح

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) أي نحن بدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، أفليس الذي قدر على البداءة بقادر على الإعادة بطريق الأولى؟ فهلا تصدقون بالبعث.

وفى هذا تقرير للمعاد ، ورد على المكذبين به ، المستبعدين له من أهل الزيغ والإلحاد ، الذين قالوا : «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟».

ثم أعاد الدليل فقال :

١٤٥

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ؟) أي أخبرونى عما قذفتم به فى الأرحام من النطف : ء أنتم تقدرونه بشرا سويا تام الخلق أم الله الخالق لذلك؟.

ولا شك أنهم لا يجدون إلا جوابا واحدا لا ثانى له.

والخلاصة ـ أخبرونى أيها المنكرون قدرة الله على إحيائكم بعد مماتكم ـ عن النطف التي تمنون فى أرحام نسائكم ، ء أنتم تخلقونها أم نحن الخالقون لها؟.

(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) أي نحن قسمنا الموت بينكم ، ووقتنا موت كل واحد بميقات معيّن لا يعدوه بحسب ما اقتضته مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة ، وما نحن بعاجزين عن أن نذهبكم ونأتى بأشباهكم من الخلق ، وننشئكم فيما لا تعلمون من الأطوار والأحوال التي لا تعهدونها.

والخلاصة ـ نحن قدرنا بينكم الموت لأن نبدل منكم أمثالكم بعد مهلككم ، ونجىء بآخرين من جنسكم ، فنجن نميت طائفة ونبدلها بطائفة أخرى قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل.

ثم ذكر دليلا آخر على البعث فقال :

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي لقد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ، فهلا تتذكرون وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة وهى البداية قادر على النشأة الأخرى وهى الإعادة بطريق الأولى كما قال : «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» وقال : «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً؟ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى؟ ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟».

وفى الحديث «عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور».

١٤٦

ثم أردف ذلك دليلا آخر فى الرزق فى المطعوم فقال :

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) أي أخبرونى عن الحرث الذي تحرثونه ، ء أنتم تنبتونه أم نحن الذين ننبته؟ أيء أنتم تصيرونه زرعا أم نحن الذين نصيّره كذلك؟.

وروى عن حجر المنذرى أنه كان إذا قرأ (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) وأمثالها يقول : بل أنت يا رب.

(لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إِنَّا لَمُغْرَمُونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا ، وأبقيناه لكم ، ولو شئنا لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده ، فأصبح لا ينتفع به فى مطعم ولا فى غذاء ، فصرتم تعجبون من سوء حاله إثر ما شاهدتم فيه من الخضرة والنضرة والبهجة والرّواء ، وتقولون : حقا إنا لمعذبون مهلكون لهلاك أرزاقنا ، لا بل هذا أمر قدر علينا لنحس طالعنا ، وسوء حظنا.

والخلاصة ـ لو نشاء لجعلناه هشيما متكسرا لشدة يبسه ، فأقمتم تعجبون مما نزل بكم ، ويعجّب بعضكم بعضا لذلك وتقولون إنا لمعذبون ، لا بل نحن محرمون غير مجدودين ، لنحس طالعنا ، وسوء حظنا.

ثم أعقبه بدليل آخر فى المشروب فقال :

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) أي أفرأيتم أيها الناس الماء العذب الذي تشربونه ، ء أنتم أنزلتموه من السحاب الذي فوقكم إلى قرار الأرض أم نحن منزلوه لكم؟.

(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) أي لو نشاء لجعلناه ملحا زعاقا لا تنتفعون به فى شرب ولا غرس ولا زرع ، فهلا تشكرون ربكم على إنزاله المطر عذبا زلالا؟ «لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ. يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».

١٤٧

أخرج ابن أبى حاتم عن أبى جعفر رضى الله عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا شرب الماء قال : الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته ، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا».

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) أي أفرأيتم النار التي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد ، ء أنتم أنشأتم شجرتها التي منها الزناد أم نحن المنشئون لها بقدرتنا؟.

وكانت العرب توقد النار بطريق احتكاك المرخ بالعفار (نوعان من الشجر) فيأتون بعود من العفار وبقطعة عريضة من المرخ يحفرون فى وسطها حفرة ثم يضعون عود العفار فى هذه الفجوة ، ويأتى فتى من فتيان القبيلة ويحرك عود العفار فيها بالتوالي ، ويأتى بعده آخر ويصنع صنيع سابقه ، ولا يزالون يفعلون هكذا حتى تشتعل النار من كثرة الاحتكاك.

وهذه عملية شاقة عسرة ، ومن ثم كان البيت فى القبيلة إذا رأى النار موقدة استعار جذوة منها ، وإلى هذا أشار فى قوله سبحانه فى قصص موسى «إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ».

ثم بين منافع هذه النار فقال :

(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) أي نحن جعلنا النار تبصرة فى أمر البعث حيث علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها ، ويذكروا بها ما أوعدوا به ؛ لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر المضادّ لها فهو قادر على إعادة ما تفرقت مواده ، ومنفعة لمن ينزلون القواء والمفاوز من المسافرين ، فكم من قوم سافروا ثم أرملوا فأجّجوا نارا فاستدفئوا وانتفعوا بها ، وقد كان من لطف الله أن أودعها الأحجار ، وخالص الحديد ، فيتمكن المسافر من حملها فى متاعه وبين ثيابه ، وإذا احتاج إليها فى منزله أخرج زنده وأورى ، وأوقد نارا فطبخ بها واصطلى ، واشتوى واستأنس بها ، وانتفع بها فى وجوه المنافع المختلفة.

١٤٨

وفى الحديث «المسلمون شركاء فى ثلاثة : النار والكلإ والماء».

وقد يكون المعنى : وجعلناها تذكرة وأنموذجا من نار جهنم لما فى الصحيحين وغيرهما عن أبى هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال : «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم».

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الذي خلق هذه الأشياء بقدرته ، فخلق الماء العذب البارد ، ولو شاء لجعله ملحا كالبحار والمحيطات ، وخلق النار وجعل فيها منافع للناس فى معايشهم ، وجعلها تبصرة لهم فى معادهم.

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢))

تفسير المفردات

لا أقسم : هذا قسم تستعمله العرب فى كلامها ، ولا مزيدة للتأكيد مثلها فى قوله : «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ» ، ومواقع النجوم : مساقط كواكب السماء ومغاربها ، مكنون : أي مصون عن التغيير والتبديل ، المطهرون : أي المنزهون عن دنس الحظوظ النفسية ، مدهنون : أي متهاونون كمن يدهن فى الأمر : أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الأدلة على الألوهية والبعث والجزاء ـ أعقب هذا بذكر الأدلة على النبوة وصدق القرآن الكريم ، وأقسم على هذا بما يرونه فى مشاهداتهم من

١٤٩

مساقط النجوم ، إنه لكتاب كريم لا يمسه إلا المطهرون ، وأنه نزل من لدن حضرة القدس على يد جبريل عليه السلام ، فكيف تتهاونون فى اتباع أوامره ، والانتهاء عن نواهيه ، وتجعلون شكركم على هذا تكذيبكم بنعم الله وجزيل فضله عليكم؟.

الإيضاح

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) أي أقسم بمساقط النجوم ومغاربها ، وإنما خص القسم بهذه الحال ، لما فى غروبها من زوال أثرها ، والدلالة على وجود مؤثر دائم ، ومن ثم استدل إبراهيم عليه السلام بالأفول على وجود الإله جلت قدرته.

وقد أقسم سبحانه بكثير من مخلوقاته العظيمة ، دلالة على عظم مبدعها ، فأقسم بالشمس والقمر ، والليل والنهار ، ويوم القيامة ، والتين والزيتون ، كما أقسم بالأمكنة فأقسم بطور سينين ومكة المكرمة.

ويرى أبو مسلم الأصفهانى وشرذمة من المفسرين : أنّ لا ليست مزيدة والكلام على ظاهره المتبادر منه ، والمعنى : لا أقسم بهذه : إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم ما ، فضلا عن هذا القسم العظيم.

(وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) أي وإن هذا القسم عظيم لو تعلمون ذلك.

وفى هذا تفخيم للمقسم به ، لما فيه من الدلالة على عظيم القدرة ، وكمال الحكمة ، وفرط الرحمة ، ومن مقتضيات رحمته ، ألا يترك عباده سدى.

ثم ذكر سبحانه المقسم عليه فقال :

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) أي إن هذا القرآن جم المنافع ، كثير الفوائد ، فقد اشتمل على ما فيه صلاح البشر فى دنياهم وآخرتهم.

قال الأزهرى : الكريم اسم جامع لما يحمد ، والقرآن كريم يحمد ، لما فيه من الهدى والبينات ، والعلم والحكمة ، فالفقيه يستدل به ويأخذ منه ، والحكيم يستمد منه

١٥٠

ويحتج به ، والأديب يستفيد منه ويتقوى به ، فكل عالم يطلب أصل علمه منه اه.

(فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) أي فى لوح محفوظ مصون عن غير المقرّبين من الملائكة الكرام.

(لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أي لا يمس هذا اللوح إلا المنزهون عن دنس الأرجاس والحظوظ النفسية ؛ وقد يكون المراد : لا ينزل به إلا المطهرون وهم الملائكة الكرام ، أو لا يمس هذا القرآن إلا المطهرون من الحدث الأصغر والحدث الأكبر ، والمراد بذلك النهى : أي لا ينبغى أن يمس القرآن إلا من هو على طهارة.

أخرج ابن أبى شيبة فى المصنف وابن المنذر والحاكم عن عبد الرحمن بن زيد قال : كنا مع سلمان الفارسي فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا ثم خرج إلينا ، فقلنا لو توضأت فسألناك عن أشياء من القرآن ، فقال : سلونى فإنى لست أمسه ، إنما يمسه المطهرون ، ثم تلا (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ).

وقد ذهب جمهور العلماء إلى منع المحدث عن مس المصحف ، وبذلك قال على وابن مسعود وسعد بن أبى وقاص وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي.

وروى عن ابن عباس والشعبي فى جماعة منهم أبو حنيفة أنه يجوز للمحدث مسه ، يراجع شرح المنتقى للشوكانى.

وقال الحسين بن الفضل : المراد أنه لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق.

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي وهو منزل نجوما من لدن رب العالمين ، فليس بالسحر ولا الكهانة ولا الشعر ، وهو الحق الذي لا مرية فيه ، وليس وراءه شىء نافع.

وبعد أن بين مزاياه وأنه من لدن عليم خبير ذكر أنه لا ينبغى التهاون فى أوامره ونواهيه ، بل ينبغى التمسك به فقال :

١٥١

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) أي أفبهذا القرآن تتهاونون ، وتمالثون من يتكلم منه ، ولا تظهرون له المخالفة وعدم الرضا؟.

قال البقاعي : فهو على هذا إنكار على من سمع أحدا يتكلم فى القرآن بما لا يليق به ، ثم لا يجاهره بالعداوة. وابن العربي الطائي صاحب كتاب الفصوص ، وابن الفارض صاحب التائية أول من صوّبت إليهما هذه الآية ، فإنهما تكلما فى القرآن على وجه يبطل الدين أصلا ورأسا ويحلّه عروة عروة ، فهما من أضر الناس على هذا الدين ، ومن يتأول لهما أو ينافح عنهما أو يعتذر لهما أو يحسن الظن بهما مخالفا إجماع الأمة ـ فهو أعجب حالا منهما ، فإن مراده إبقاء كلامهما الذي لا أفسد للاسلام منه من غير أن يكون لإبقائه مصلحة ما بوجه من الوجوه اه بتصرف.

(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي وتجعلون الشكر على هذا أنكم تكذبون بمن منح هذا الرزق ، فتنسبونه إلى الأنواء وتقولون مطرنا بنوء كذا ، دون أن تقولوا أفاض الله علينا الرزق من لدنه ، ومنحنا الفضل برحمته.

والخلاصة ـ إنكم تضعون الكذب مكان الشكر ، وهذا على نحو ما جاء فى قوله تعالى : «وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً» أي لم يكونوا يصلون ، لكنهم كانوا يصفرون ويصفّقون مكان الصلاة.

قال القرطبي : وفى هذا بيان لأن ما يصيب العباد من خير فلا ينبغى أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسبابا ، بل ينبغى أن يروه من قبل الله تعالى ، ثم يقابلونه بالشكر إن كان نعمة ، وبالصبر إن كان مكروها ، تعبدا له وتذللا اه.

١٥٢

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦))

تفسير المفردات

لو لا : حرف يفيد الحث على حصول ما بعده على سبيل الاستحسان أو الوجوب ، والحلقوم : مجرى الطعام ، ونحن أقرب إليه منكم : أي علما وقدرة ، مدينين : أي محاسبين مجزيين ، أو مملوكين مقهورين من قولهم دان السلطان الرعية إذا استذلهم واستعبدهم ، والروح : الاستراحة ، ريحان : أي رزق ، من المكذبين الضالين : هم أصحاب الشمال ، فنزل : أي فجزاؤه نزل ، وتصلية جحيم : أي إدخال فى النار ، حق اليقين : أي حق الخبر اليقين الذي لا شك فيه :

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه جحود الكافرين بآياته وتكذيبهم رسوله وكتابه ، وقولهم فيه : إنه سحر أو افتراء ، واعتقادهم أن رزقهم من الأنواء ـ أردف ذلك توبيخهم على ما يعتقدون ، فإنه إذا كان لا بد للفعل من فاعل ، وقد جحدتم الله وكذبتم رسوله فالفاعل لهذا كله أنتم ، لأن الخالق إما الله وإما أنتم ، فإذا نفيتم الله فأنتم الخالقون ،

١٥٣

وإذا فلما ذا لا ترجعون الروح لميتكم وهو يعالج سكرات الموت ، فإن كنتم صادقين فارجعوها ، الحق أنكم لا تعقلون الدليل والبرهان ، بل لا تفهمون إلا المحسوسات ، فلمّا لم تروا الفاعل كذبتم به ، وهذا من شيمة الجهال ، إذ للعلم وسائل عديدة ، فليس عدم رؤية الشيء دليلا على عدم وجوده.

ثم بين حال المتوفى ، ومن أىّ الأزواج الثلاثة هو ، فإن كان من السابقين فله روح واطمئنان نفس ، علما منه بما سيلقاه من الجزاء ، ورزق طيب فى جنات النعيم فيرى فيها ما تلذ الأنفس ، وتقرّ به الأعين ، وإن كان من أصحاب اليمين فتسلم عليه الملائكة ، وتعطيه أمانا من ربه ، وإن كان من أصحاب الشمال فضيافته ماء حميم وعذاب فى النار أبدا.

ثم بين لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أن الخبر الذي أخبر به هو الحق اليقين ، وعليه أن ينزّه ربه العظيم عن كل ما لا يليق به.

الإيضاح

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) أي فهلا إذا بلغت النفوس عند خروجها من أجساد موتاكم حلا قيمهم وأنتم ومن حضركم من أهليكم تنظرون إليهم ، ورسلنا الذين يقبضون أرواحهم أقرب إليهم منكم ولكن لا تبصرون ـ وجواب لو لا هو ما سيأتى بعد وهو (ترجعونها).

وخلاصة المعنى ـ إذا لم يكن لكم خالق وأنتم الخالقون ، فهلا ترجعون النفوس إلى أجسادها حين خروجها من حلاقيمها؟

ثم كرر الحث والتحضيض مرة أخرى فقال :

(فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي فهلا ترجعون النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول ، ومقرها من الجسد ، إن كنتم غير مصدقين أنكم تبعثون وتحاسبون وتجزون.

١٥٤

وبعد أن ذكر حال المحتضرين فى الدنيا أردفها ذكر حالهم بعد الوفاة وقسمهم أزواجا ثلاثة فقال :

(١) (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) أي فإن كان المتوفّى من الذين قرّبهم ربهم من جواره فى جناته ، لفعله ما أمر به ، وتركه ما نهى عنه ، فراحة واطمئنان لنفسه ، ورزق واسع من عنده ، وتبشره الملائكة بجنات النعيم ، وقد جاء فى حديث البراء بن عازب : «إن ملائكة الرحمة تقول : أيتها الروح الطيبة فى الجسد الطيب ، كنت تعمرينه ، فاخرجى إلى روح وريحان ، ورب غير غضبان».

(٢) (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ. فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي وإن كان المتوفّى من أصحاب اليمين فتبشره الملائكة وتقول له : سلام لك من إخوانك أصحاب اليمين.

ونحو الآية قوله : «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ».

(٣) (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي وإن كان المتوفى من المكذبين بالحق ، الضالين عن الهدى ، فيقدم ضيافة له ماء حميم يصهر به ما فى بطنه والجلود ، ويدخل فى النار التي تغمره من جميع جهاته.

(إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي إن هذا الذي ذكر فى هذه السورة من أمر البعث الذي كذبوا به ، ومن قيام الأدلة عليه ، ومن حال المقربين وأصحاب اليمين ، وحال المكذبين الضالين ـ لهو حق الخبر اليقين الذي لا شك فيه ، لتظاهر الأدلة القاطعة عليه ، كأنه مشاهد رأى العين.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فبعد أن استبان لك الحق ، وظهر لك اليقين ، فنزه ربك عما لا يليق به ، مما ينسبه الكفار إليه ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

١٥٥

أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عقبة بن عامر الجهني قال : «لما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسبّح باسم ربّك العظيم» قال اجعلوها فى ركوعكم ولما نزلت «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» قال اجعلوها فى سجودكم».

والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

خلاصة موضوعات هذه السورة

(١) اضطراب الأرض وتفتت الجبال حين قيام الساعة.

(٢) إن الناس عند الحساب أزواج ثلاثة ، وذكر مآل كل زوج منها.

(٣) اجتماع الأولين والآخرين فى هذا اليوم.

(٤) إقامة الأدلة على وجود الخالق.

(٥) إقامة البرهانات على البعث والنشور والحساب.

(٦) إثبات أن هذه الأخبار حق لا شك فيها.

(٧) تبكيت المكذبين على إنكار الخالق.

١٥٦

سورة الحديد

هذه السورة مدنية ، وآيها تسع وعشرون ، نزلت بعد الزلزلة.

ووجه مناسبتها لما قبلها :

(١) إن هذه بدئت بالتسبيح ، وتلك ختمت به.

(٢) إن أول هذه واقع موقع العلة لآخر ما قبلها من الأمر بالتسبيح فكأنه قيل : سبح باسم ربك العظيم ، لأنه سبح له ما فى السموات والأرض.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦))

تفسير المفردات

جاء فى الكتاب الكريم سبّح ويسبّح وسبّح ، ويقال : سبّحته وسبّحت له كما يقال : نصحته ونصحت له ، وتسبيح العقلاء أن يقولوا ما يدل على تنزيهه من كل نقص ،

١٥٧

وإبعاده عما لا يليق به من صفات المحدثات ، كإثبات شريك له أو ندّ ، وكون الملائكة بنات له ، وكون عيسى ابنا له ، وتسبيح غيرهم دلالة وجوده على عظم خالقه ، وانقياده له فى كل آن.

وما مثل هذا إلا مثل إشارتك لصاحبك على وضع خاص يفهم منها تأنّ واصبر ، وإشارتك له على هيئة أخرى يفهم منها أنك لا تفعل هذا.

فهذه الدلالة فى الحالين أفهمت صاحبك إفهاما كإفهام الكلام ، بل أقوى وأبلغ أثرا ، وكم للانسان فى حركاته من معان يفهمها الآخرون بطريق لا لبس فيها.

وإذا كان هذا حال الإنسان المحدود العلم والإدراك ، فما بالك بما أطلعنا الله عليه من بدائع القدرة والعلم والحكمة ، وقد فهمنا منها ما لا نفهم بالقول ، فلو أنك وقفت فى الخلوات ، وراقبت المزارع والجنات ، والأشجار مترنحات ، وأنواع الكلأ متحركات ، والأوراق تغنّى بموزون الأصوات ، وقد أرخى الليل سدوله ، وأرسل من الخافقين جحافل جنوده ، تلمع من بينها الكواكب ، فتضىء من بينها السباسب لتجلت لك العبر ، وقرأت علوم المبتدإ والخبر ، ولعلمت أنها تحت قبضة ذى الملك والملكوت ، الحي الذي لا يموت ، الفرد الصمد ، المنزّه عن الصاحبة والولد ، سبّوح قدوس ، رب الملائكة والروح.

العزيز : أي الذي لا ينازعه فى ملكه شىء ، الحكيم : أي الذي يفعل أفعاله وفق الحكمة والصواب ، يحيى ويميت : أي يحيى النطف فيجعلها أشخاصا عقلاء فاهمين ناطقين ، ويميت الأحياء ، وهو على كل من الإحياء والإماتة قدير ، وهو الأول : أي السابق على سائر الموجودات ، والآخر : أي الباقي بعد فنائها ، والظاهر والباطن : أي وهو الذي ظهرت دلائل وجوده وتكاثرت ، وخفيت عنا ذاته فلم ترها العيون ، فهو ظاهر بآثاره وأفعاله ، وباطن بذاته ، ومشرق بجماله وكماله ، وهو ظاهر بغلبته على مخلوقاته وتسخيرها لإرادته وباطن بعلمه بما خفى منها ، فلا تخفى عليه خافية ، والمراد بستة الأيام ستة الأطوار ، كما تقدم ذلك فى سورة الأعراف ، والاستواء على العرش تقدم تفسيره

١٥٨

فى سورتى يونس وهود ، يلج فى الأرض : أي يدخل فيها من كنوز ومعادن وبذور ، وما يخرج منها : كالزرع والمعادن لمنفعة الناس ، وما ينزل من السماء : كالمطر والملائكة ونحوهما ، وما يعرج فيها : كالأبخرة المتصاعدة والأعمال والدعوات ، يولج الليل فى النهار ويولج النهار فى الليل تقدم تفسير هذا فيما تقدم ، ذات الصدور : أي مكنونات النفوس وخفيات السرائر.

الإيضاح

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إن ما دونه من خلقه ينزّه عن كلّ نقص ، تعظيما له وإقرارا بربوبيته ، وإذعانا لطاعته كما قال : «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً».

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو القادر الغالب الذي لا ينازعه شىء ، الحكيم فى تدبير أمور خلقه ، وتصريفها فيما شاء وأحب.

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له التصرف والسلطان فيهما ، وهو نافذ الأمر ، ماضى الحكم ، فلا شىء فيهن يمتنع منه.

(يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي يحيى ما يشاء من الخلق كيف شاء ، فيحدث من النطفة الميتة حيوانا ينفخ فيه الروح ، ويميت ما يشاء من الأحياء حين بلوغ أجله.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي وهو ذو قدرة لا يتعذر عليه شىء أراده من إحياء وإماتة ، وإعزاز وإذلال إلى نحو أولئك.

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) أي هو الأول قبل كل شىء بغير حدّ كما جاء فى الحديث القدسي : «كنت كنزا مخفيا ، فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبى عرفونى»

١٥٩

وهو الآخر بعد كل شىء بغير نهاية كما قال : «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ».

(وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) أي وهو العالي فوق كل شىء ، فلا شىء أعلى منه ، وهو الباطن بذاته ، فلا تحوم حوله الظنون ، فهو ظاهر بآثاره وأفعاله ، وباطن بعلمه بما بطن وخفى ، فلا شىء إليه أقرب من شىء كما قال : «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ».

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي وهو ذو علم تام بكل شىء ، فلا يخفى عليه شىء ولا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي هو الذي أنشأ السموات السبع والأرضين ، فدبرهن وما فيهن فى ستة أطوار مختلفات ، ثم استوى على عرشه فارتفع عليه.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) أي يعلم ما يدخل فى الأرض من خلقه ، فلا تخفى عليه خافية منه ، وما يخرج منها من نبات وزرع وثمار ومعادن كما قال : «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ».

(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من شىء كالمطر والملائكة.

(وَما يَعْرُجُ فِيها) أي وما يصعد إليها من الأرض كالأبخرة المتصاعدة ، والأعمال الصالحة كما قال : «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ».

(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) أي وهو مطلع على أعمالكم أينما كنتم ، ويعلم متقلبكم ومثواكم.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي وهو رقيب عليكم ، سميع لكلامكم ، يعلم سركم ونجواكم كما قال : «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ

١٦٠