تفسير المراغي - ج ٢٧

أحمد مصطفى المراغي

مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ» وفى الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لما سأله عن الإحسان «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

وقال عمر : «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : زوّدنى حكمة أعيش بها ، فقال : استح الله كما تستحى رجلا من صالحى عشيرتك لا يفارقك».

وكان الإمام أحمد كثيرا ما ينشد هذين البيتين :

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل

خلوت ولكن قل علىّ رقيب

ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة

ولا أنّ ما تخفى عليه يغيب

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي هو المالك لما فيهما ، والمدبر لأمورهما ، والنافذ حكمه فيهما ، وإليه مصير جميع خلقه ، فيقضى بينهم بحكمه كما قال «وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى» وقال : «وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يقلب الليل والنهار ويقدّرهما بحكمته كما يشاء ، فتارة يطوّل الليل ويقصر النهار والعكس بالعكس ، وتارة يتركهما معتدلين ، وحينا يجعل الفصل شتاء أو ربيعا أو قيظا أو خريفا ، وكل ذلك بتدبيره وفائدة خلقه.

(وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي وهو عليم بالسرائر وإن دقت وخفيت ، فهو يعلم نوايا خلقه كما يعلم ظواهر أعمالهم من خير أو شر.

وفى ذلك حث لنا على النظر والتأمل ثم الشكر على ما أولى وأنعم.

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ

١٦١

وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١))

تفسير المفردات

مستخلفين فيه : أي جعلكم سبحانه خلفاء عنه فى التصرف من غير أن تملكوه أخذ الميثاق : نصب الأدلة فى الأنفس والآفاق والتمكين من النظر فيها ، والآيات البينات : هى القرآن ، والفتح : هو فتح مكة ، والحسنى : أي المثوبة الحسنى ، وهى النصر والغنيمة فى الدنيا ، والجنة فى الآخرة ، يقرض الله : أي ينفق ماله فى سبيله رجاء ثوابه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنواعا من الأدلة تثبت وحدانيته وعلمه وقدرته ، فبين أن كل ما فى السموات والأرض فهو فى قبضته يصرّفه كما يشاء على ما تقتضيه حكمته ، ثم ذكر أنواعا من الظواهر فى الأنفس ترشد إلى هذا وأومأ إلى النظر والتأمل فيها ، أعقب هذا بذكر التكاليف الدينية ، فأمر بدوام الإيمان الكامل الذي له آثاره العملية من إخبات النفس لله ، وإخلاص العمل له ، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن ،

١٦٢

ثم طلب إنفاق المال فى سبيله ، وأبان أن المال عارية مستردّة فهو ملك له وأنتم خلفاؤه فى تثميره فى الوجوه التي فيها خير لكم ولأمتكم ولدينكم ، ولكم على ذلك الأجر الجزيل الذي يضاعفه إلى سبعمائة ضعف ، ثم حث على ذلك بأن جعل هذا صفوة دعوة الرسول وقد أخذ عليكم العهد به ، وآيات كتابه هادية لكم تخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، والله رءوف بكم إذ أنقذكم من هاوية الشرك وهداكم إلى طاعته ، ثم ذكر فضل السابقين الأولين الذين أسلموا قبل فتح مكة ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم فى إعلاء كلمة الله حين عز النصير وقلّ المعين ، فهؤلاء لا يستوون مع من فعل ذلك بعد الفتح وبعد أن دخل الناس فى دين الله أفواجا ، وهؤلاء وأولئك لهم المثوبة الحسنى والأحر الكريم عند ربهم ؛ ثم حث على الإنفاق مرة أخرى وسماه قرضا له ، وأنه سيردّ هذا القرض ويجازى به أجمل الأجر يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه.

الإيضاح

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي أقروا بوحدانية الله وصدقوا رسوله فيما جاءكم به عن ربكم ـ تنالوا الفوز برضوانه ، وتدخلوا فراديس جناته ، وتسعدوا بما لم يدر لكم بخلد ، ولم يخطر لكم ببال.

(وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي وأنفقوا مما هو معكم من المال على سبيل العارية ، فإنه قد كان فى أيدى من قبلكم ثم صار إليكم ، واستعملوه فى طاعته وإلا حاسبكم على ذلك حسابا عسيرا ، ولله درّ لبيد إذ يقول :

وما المال والأهلون إلا ودائع

ولا بد يوما أن تردّ الودائع

وفى هذا ترغيب أيّما ترغيب فى الإنفاق ، لأن من علم أن المال لم يبق لمن قبله وانتقل إليه ـ علم أنه لا يدوم له بل ينتقل إلى غيره ، وبذا يسهل عليه إنفاقه.

قال شعبة : سمعت عن قتادة يحدّث عن مطرّف بن عبد الله عن أبيه قال :

١٦٣

«انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ» يقول ابن آدم مالى مالى ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» رواه مسلم.

ثم حث على ما تقدم من الإيمان والإنفاق فى سبيل الله فقال :

(فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) أي فالذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله منكم ، وأنفقوا مما خوّلهم الله عمن قبلهم ـ فى سبيل الله ، لهم الثواب العظيم عند ربهم ، وهناك يرون من الكرامة والمثوبة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

ثم وبخهم على ترك الإيمان الذي أمروا به ، وأبان أنه ليس لهم فى ذلك من عذر فقال :

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ؟) أي وأىّ شىء يمنعكم من الإيمان ، والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك ، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به؟.

روى البخاري «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوما لأصحابه : أىّ المؤمنين أعجب إليكم إيمانا؟ قالوا الملائكة ، قال : وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم ، قالوا فالأنبياء ، قال : وما لهم لا يؤمنون والوحى ينزل عليهم ، قالوا فنحن : قال : وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها».

(وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي وقد أخذ الله عليكم الميثاق بما نصب لكم من الأدلة على وحدانيته فى الكون ، أرضه وسمائه ، برّه وبحره ، وفى الأنفس بما تشاهدون فيها من بديع صنعها ، وعظيم خلقها ، إن كنتم تؤمنون بالدليل العقلي والنقلى وصفوة القول : إن الأدلة تظاهرت على وجوب الإيمان بالله ورسوله ، فقد نصب

١٦٤

فى الكون ما يرشد إلى وجوده ، وأرسل الرسل يدعون إلى ذلك ، وأقاموا البراهين على صدق ما يقولون ، فما عذركم ، وإلام تستندون فى رد هذا؟.

الآن قد تبين الرشد من الغى ، وأفصح الصبح لذى عينين ، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فهل من مدّكر؟

ثم قطع عليهم الحجة وأزال معذرتهم فقال :

(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي هو الذي ينزل على رسوله دلائل واضحات ، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ومن الضلالة إلى الهدى ، ولرأفته بكم مكّن لكم من النظر فى الأنفس والآفاق ، لتهتدوا إلى معرفته على أتم وجه ، وأهون سبيل.

وبعد أن وبخهم على ترك الإيمان ، وبخهم على ترك الإنفاق ، وأبان أنه لا معذرة لهم فى ذلك فقال :

(وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وما لكم أيها الناس لا تنفقون مما رزقكم الله فى سبيله؟ وأموالكم صائرة إليه إن لم تنفقوها فى حياتكم ، لأن له ما فى السموات والأرض ميراثا.

والخلاصة ـ أنفقوا أموالكم فى سبيل الله قبل أن تموتوا ، ليكون ذلك ذخرا لكم عند ربكم ، فبعد الموت لا تقدرون على ذلك ، إذ تصير الأموال ميراثا لمن له السموات والأرض.

ثم بين تفاوت درجات المنفقين بحسب تفاوت أحوالهم فى الإنفاق فقال :

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) أي لا يستوى من آمن وهاجر وأنفق ماله فى سبيل الله قبل فتح مكة ، ومن أنفق من بعد الفتح ـ ذاك أنه قبل فتحها كان الناس فى جهد وضيق ولم يؤمن إذ ذاك إلا الصديقون ، أما بعد الفتح فقد انتشر الإسلام ودخل الناس فى دين الله أفواجا ، ومن ثم قال :

(أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا).

١٦٥

قال قتادة : كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر ، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى ، كان القتال والنفقة من قبل فتح مكة أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك.

(وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي وكل من المنفقين قبل الفتح وبعده لهم ثواب على ما عملوا ، وإن كان بينهم تفاوت فى مقدار الجزاء كما قال فى آية أخرى : «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً ، وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى ، وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً».

أخرج أحمد عن أنس قال : «كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف كلام ، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها؟ فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال : دعوا لى أصحابى ، فو الذي نفسى بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم».

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبى سعيد الخدرىّ قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : «لا تسبّوا أصحابى ، فو الذي نفس محمد بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه».

ثم وعد وأوعد فقال :

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي والله عليم بظواهر أحوالكم وبواطنها ، فيجازيكم بذلك ، ولخبرته تعالى بكم فضّل أعمال من أنفق من قبل الفتح وقاتل على من أنفق بعده وقاتل ، وما ذاك إلا لعلمه بإخلاص الأول فى إنفاقه فى حال الجهد والضيق.

ولأبى بكر الصديق الحظ الأوفر من هذه الآية ، فإنه سيد من عمل بها ، إذا أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله ، ولم يكن لأحد عنده من نعمة يجزيه بها.

ثم ندب إلى الإنفاق فى سبيله ، ووبخ على تركه فقال :

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي من هذا

١٦٦

الذي ينفق أمواله فى سبيل الله محتسبا أجره عند ربه ، فيضاعف له ذلك القرض ، فيجعل له بالحسنة الواحدة سبعمائة ، وله بعد ذلك جزاء كريم بمثوبته بالجنة؟.

وعن ابن مسعود قال «لما نزلت هذه الآية : «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ؟» قال أبو الدّحداح الأنصاري يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض؟ قال نعم يا أبا الدحداح ، قال : أرنى يدك يا رسول الله ، قال : فناوله يده ، قال : إنى أقرضت ربى حائطى (بستانى) وكان له حائط فيه ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيه وعيالها ، قال أبو الدحداح فناداها يا أم الدحداح ، قالت لبيك ، قال اخرجى فقد أقرضته ربى عز وجل ، قالت له : ريح بيعك يا أبا الدحداح ونقلت منه متاعها وصبيانها فقال رسول الله : كم من عذق رداح فى الجنة لأبى الدحداح»

وهذا الأسلوب يستعمل فى الأمر العزيز النادر فيقال : من ذا الذي يفعل كذا ، إذا كان أمرا عظيما ، وعلى هذا جاء قوله : «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ».

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ

١٦٧

وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥))

تفسير المفردات

المراد بالنور هنا : ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة من علم وعمل ، بشراكم : أي ما تبشرون به ، انظرونا : أي انتظرونا ، وأصل الاقتباس طلب القبس : أي الجذوة من النار ، والسور : الحاجز ، من قبله : أي من جهته ، بلى : أي كنتم معنا ، فتنتم أنفسكم : أي أهلكتموها بالمعاصي والشهوات ، وتربصتم : أي انتظرتم بالمؤمنين مصايب الزمان ، وارتبتم : أي شككتم فى أمر البعث ، والأمانى : الأباطيل من طول الآمال والطمع فى انتكاس الإسلام واحدها أمنية ، والغرور (بالفتح) الشيطان ، والفدية والفداء : ما يبذل لحفظ النفس أو المال من الهلاك ، مأواكم : أي منزلكم الذي تأوون إليه ، مولاكم : أي أولى بكم ، والمصير : المآل والعاقبة.

المعنى الجملي

بعد أن أمر بالإيمان والإنفاق فى سبيل الله ، وحث على كل منهما بوجود موجباته فحث على الإيمان بوجود الأسباب التي تساعد عليه وهى وجود الرسول بين أظهرهم ، وكتابه الذي يتلى بين أيديهم ، وحث على الإنفاق فأبان أن المال مال الله وهو عارية بين أيديهم ثم يردّ إليه ، وأنهم ينالون على إنفاقه الأجر العظيم فى جنات النعيم ، ثم ذكر أن المنفقين أول الإسلام لهم من الأجر أكثر ممن أنفقوا من بعد حين كثر النصير والمعين ـ ذكر هنا حال المؤمنين المنفقين يوم القيامة ، فبين أن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ليرشدهم إلى الجنة ، وأنهم يبشرون بجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، ثم أردفه ذكر حال المنافقين إذ ذاك ، وأنهم يطلبون من المؤمنين

١٦٨

شيئا من الضوء يستنيرون به ليهديهم سواء السبيل ، فيتهكم بهم المؤمنون ويخيّبون آمالهم ويقولون لهم : ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نورا بتحصيل العلوم والمعارف ، فلا نور إلا منها ثم أرشد إلى أنه يضرب بين الفريقين حاجز باطنه مما يلى المؤمنين فيه الرحمة ، ومما يلى المنافقين فيه العذاب ، لأنه فى النار ، ثم ذكر السبب فيما صاروا إليه ، وهو أنهم أهلكوا أنفسهم بالنفاق والمعاصي ، وانتظروا أن تدور على المؤمنين الدوائر ، فينطفئ نور الإيمان ، وشكّوا فى أمر البعث وغرهم الشيطان فأوقعهم فى مهاوى الردى ، ثم أعقبه ببيان أنه لا أمل فى النجاة لهم إذ ذاك ، فلا تجدى الفدية كما كانت تنفع فى الدنيا ، فلا مأوى لهم إلا النار وبئس القرار.

الإيضاح

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي لهم الأجر الكريم حين ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى بين أيديهم ما يكون السبب فى نجاتهم وهدايتهم إلى سبيل الجنة من العلوم التي كملوا بها أنفسهم فى الدنيا كالاعتقاد بالتوحيد وخلع الأنداد والأوثان ، والأعمال الصالحة التي زكوا بها أنفسهم ، وبها أخبتوا لربهم وأنابوا إليه مخلصين له الدين ، وبأيمانهم تكون كتبهم كما جاء فى آية أخرى : «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً».

(بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي وتقول لهم الملائكة : أبشروا بجنات تجرى من تحتها الأنهار جزاء وفاقا لما قدمتم من صالح الأعمال ، وجاهدتم به أنفسكم فى ترك الشرك والآثام ، وكنتم تذكرون الله بالليل والناس نيام ، فطوبى لكم وهنيئا بما عملتم.

ونحو الآية قوله : «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ».

١٦٩

(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الخلود فى الجنات التي سمعتم أوصافها هو النجح العظيم الذي كنتم تطلبونه بعد النجاة من عقاب الله.

وبعد أن ذكر حال المؤمنين فى موقف القيامة أتبعه ببيان حال المنافقين فقال :

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) أي فى هذا اليوم يقول المنافقون والمنافقات : أيها الذين نجوتم بإيمانكم بربكم وفزتم برضوانه حتى دخلتم فسيح جناته ، انتظروا نلحق بكم ونقتبس من نوركم حتى نخرج من ذلك الظلام الدامس ، والعذاب الأليم الذي نحن مقبلون عليه ، فيجابون بما يخيّب آمالهم ويلحق بهم الحسرة والندامة كما قال :

(قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) أي ارجعوا من حيث أتيتم ، واطلبوا لأنفسكم هناك نورا ، فإنه لا سبيل إلى الاقتباس من نورنا الذي كان بما قدمنا لأنفسنا وادّخرنا لها من عمل صالح ، فأيهات أيهات أن تنالوا نورا ، إذ لا ينفع المرء حينئذ إلا عمله ، ولله در القائل :

صاح هل ريت أو سمعت براع

ردّ فى الضّرع ما قرى فى الحلاب

ولا يخفى ما فى هذا من التهكم بهم ، والاستهزاء بطلبهم ، كما استهزءوا بالمؤمنين فى الدنيا حين قالوا آمنا ، وما هم بمؤمنين ، وذلك ما عناه سبحانه بقوله : «اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» أي حين يقال لهم : «ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً».

ثم ذكر ما يكون بعد هذه المقالة فقال :

(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) أي فضرب بين الفريقين حاجز جانبه الذي يلى مكان المؤمنين وهو الجنة فيه الرحمة ، وجانبه الذي يلى المنافقين وهو النار فيه العذاب.

ثم أرشد إلى ما يكون من المنافقين حينئذ فقال :

(يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي ينادى المنافقون المؤمنين :

١٧٠

أما كنا معكم فى الدار الدنيا نصلى معكم الجماعات ، ونقف معكم بعرفات ، ونحضر معكم الغزوات ، ونؤدى معكم سائر الواجبات؟ فيجيبهم المؤمنون قائلين لهم : بلى كنتم معنا ، ولكنكم أهلكتم أنفسكم باللذات والمعاصي ، وأخرتم التوبة ، وشككتم فى أمر البعث بعد الموت ، وغرتكم الأمانى ، فقلتم سيغفر لنا ، وما زلتم كذلك حتى حضركم الموت ، وغركم الشيطان فقال لكم : إن الله عفوّ كريم لا يعذبكم.

والخلاصة ـ إنكم كنتم معنا بأبدانكم لا بقلوبكم ، وكنتم فى حيرة من أمركم ، فلا تذكرون الله إلا قليلا.

ثم أيأسوهم من عاقبة أمرهم ، وأنهم هالكون لا محالة ولا سبيل إلى الخلاص من النار فقال :

(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي فاليوم لو جاء أحدكم بملء الأرض ذهبا ومثله معه ليفتدى به من عذاب الله ما قبل منه ، فمصيركم إلى النار ، وإليها متقلبكم ومثواكم ، وهى أولى بكم من كل منزل آخر ، لكفركم وارتيابكم ، وساءت مصيرا ومآلا.

والخلاصة ـ إنه لا مناص من النار ، فلا فداء ولا فكاك منها.

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧))

تفسير المفردات

ألم يأن : ألم يجىء وقت ذلك من قولهم أنى الأمر أنيا وأناء وإناء إذا جاء أناه أي وقته ، والخشوع : الخشية والخوف ، وذكر الله : مواعظه ، والحق : هو القرآن ، والذين أوتوا الكتاب : هم اليهود والنصارى ، والأمد : الزمان ، وطال عليهم الأمد :

١٧١

أي طال العهد بينهم وبين أنبيائهم ، فقست قلوبهم : أي صلبت وصارت كالحجارة أو أشد قسوة ، فاسقون : أي خارجون عن حدود دينهم ، رافضون لما جاء فيه من أوامر ونواه ، والأرض الميتة : هى التي لا تنبت شيئا ، والآيات : هى البينات والحجج ، تعقلون : أي تتدبرون.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فرق ما بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة ، وأن الأولين لهم نور يهديهم إلى طريق الجنة ، وأن الآخرين يطلبون منهم أن يأتوهم قبسا من نورهم يهديهم إلى سبيل النجاة ، فيردونهم خائبين ، ويقولون لهم : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ـ أردف هذا عتاب قوم من المؤمنين فترت هممهم عن القيام بما ندبوا له من الخشوع ، ورقة القلوب بسماع المواعظ وسماع القرآن ، ثم حذرهم أن يكونوا كأهل الكتاب الذين طال العهد بينهم وبين أنبيائهم فقست قلوبهم وأعرضوا عن أوامر الدين ونواهيه ، ثم أبان لهم بضرب المثل أن القلوب القاسية تحيا بالذكر وتلاوة القرآن كما تحيا الأرض الميتة بالغيث والمطر.

روى عن ابن مسعود أنه قال : «لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد أن كانوا فى جهد جهيد ، فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت الآية».

وعن ابن عباس أنه قال : «إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا)» الآية.

الإيضاح

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) أي أما آن للمؤمنين أن ترق قلوبهم عند سماع القرآن والمواعظ ، فتفهمه وتنقاد له ، وتطيع أوامره ، وتنتهى عن نواهيه؟.

١٧٢

وإذا كان المؤمنون قد أصابهم الوهن ولم يمض على الإسلام أكثر من ثلاث عشرة سنة كما قال ابن عباس ، فما بالهم اليوم وقد مضى عليهم أكثر من ثلاثة عشر قرنا ، فتعبير الآية عن حالهم الآن بالأولى ، فالوهن الآن أضعاف مضاعفة عما كان فى تلك الحقبة ، ومن ثم أفرط الفرنجة فى إذلالهم واستعبادهم ، وصاروا غرباء فى ديارهم ، والأمر والنهى فيها لسواهم :

ويقضى الأمر حين تغيب تيم

ولا يستأذنون وهم شهود

ثم حذرهم أن يكونوا كأهل الكتاب قبلهم فقال :

(وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي لا يتشبهوا بالذين حمّلوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى حين طال الأمد بينهم وبين أنبيائهم ، فقست قلوبهم ولم تقبل موعظة ولم يؤثر فيها وعد ولا وعيد ، وبدلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، واشتروا به ثمنا قليلا ، ونبذوه وراء ظهورهم ، وأقبلوا على الآراء المختلفة ، والأقوال المؤتفكة ، وقلدوا فى دين دون دليل ولا برهان ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، وكثير منهم خرج عن أوامر الدين فى الأعمال والأقوال كما قال : «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ».

أي فسدت قلوبهم فقست وصار سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه ، فتركوا الأعمال التي أمروا بها ، واجترحوا ما نهوا عنه.

والخلاصة ـ إن الله نهى المؤمنين أن يكونوا حين سماع القرآن غير متدبرين مواعظه كاليهود والنصارى الذين قست قلوبهم ، لما طال العهد بينهم وبين أنبيائهم.

ثم ضرب المثل لتأثير المواعظ وتلاوة القرآن فى القلوب فقال :

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي إن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها ، ويهدى النفوس الحيارى بعد ضلّتها ،

١٧٣

ويفرّج الكروب بعد شدتها ، ببراهين القرآن ودلائله ، وبالمواعظ والنصائح التي تلين الصخر الأصم ، ويحييها بعد موتها كما يحيى الأرض الهامدة المجدبة بالغيث الوابل الهتّان ، وقد ضرب لكم الأمثال كى تتدبروا وتكمل عقولكم ؛ فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال ، والمضل لمن أراد بعد الكمال ، وهو الفعال لما يشاء الحكم العدل فى جميع الفعال ، اللطيف الخبير المتعال.

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩))

تفسير المفردات

المصدقين : أي المتصدقين بأموالهم على البائسين وذوى الحاجة ، والقرض الحسن :

هو الدفع بنية خالصة ابتغاء مرضاة الله ، لا يريدون جزاء ممن أعطوه ، يضاعف لهم :

أي يضاعف الله لهم ثواب أعمالهم ، والصدّيق : من كثر منه الصدق وصار سجية له ، والشهداء من قتلوا فى سبيل الله ، واحدهم شهيد.

المعنى الجملي

بعد أن وازن بين المؤمنين والمنافقين فيما مضى ، وأبان ما يكون بينهما من فارق يوم القيامة ـ ذكر هنا التفاوت بين حال المؤمنين وحال الكافرين.

١٧٤

الإيضاح

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي إن المتصدقين والمتصدقات بأموالهم ابتغاء مرضاة الله ، لا يريدون جزاء ولا شكورا ـ يضاعف لهم ربهم ثواب إنفاقهم ، فيقابل الحسنة الواحدة بعشر أمثالها ، ويضاعف ذلك إلى سبعمائة ضعف ، ولهم ثواب جزيل ، ومرجع صالح.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) أي والذين أقروا بوحدانية الله وصدقوا رسله ، وآمنوا بما جاءوهم به من عند ربهم ، أولئك هم فى حكم الله بمنزلة الصديقين.

(وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) أي والذين استشهدوا فى سبيل الله لهم أجر جزيل ، ونور عظيم يسعى بين أيديهم ، وهم يتفاوتون فى ذلك بحسب ما كانوا فى الدار الدنيا من الأعمال والخلاصة ـ إن العاملين أقسام : فمنهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون كما قال تعالى : «وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ».

ولما ذكر السعداء ومآلهم أردف ذلك ذكر حال الأشقياء فقال :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي والذين كفروا بالله وكذبوا بحججه وبراهينه الدالة على وحدانيته وصدق رسله أولئك هم أصحاب النار خالدين فيها أبدا لا يفارقونها.

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ

١٧٥

يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١))

تفسير المفردات

اللعب : ما لا ثمرة له كلعب الصبيان ، واللهو : ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه ، وزينة : أي كالملابس الفاخرة ، وتفاخر : أي بالأنساب والعظام البالية ، وتكاثر فى الأموال والأولاد : أي مباهاة بكثرة العدد والعدد ، والغيث : المطر ، والكفار : الزراع ، يهيج : أي يبتدئ فى اليبس والجفاف بعد أن كان أخضر ناضرا ، حطاما : أي هشيما متكسرا من يبسه ، والغرور : الخديعة.

المعنى الجملي

بعد أن بشر المؤمنين بأن نورهم يوم القيامة يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ، وحثهم على بذل الجهد وترك الغفلة ، وذكر ثواب المتصدقين والمتصدقات ـ أردف ذلك وصف حال الدنيا وسرعة زوالها وتقضيها ، وضرب لذلك مثل الأرض ينزل عليها المطر فتنبت الزرع البهيج الناضر الذي يعجب الزراع لنمائه وجودة غلته ، وبينا هو على تلك الحال ، إذا به يصفرّ بعد النضرة والخضرة ويجف ثم يتكسر ويتفتت ، وما الحياة الدنيا إلا مزرعة للآخرة ، فمن أجاد زرعه حصد وربح ، ومن توان وكسل ندم ولات ساعة مندم.

١٧٦

قال سعيد بن جبير : الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة ، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة.

ثم حث على عمل ما يوصل إلى مغفرة الله ورضوانه ، ويمهد إلى الدخول فى جنات عرضها السموات والأرض ، أعدها لمن آمن به وبرسله فضلا منه ورحمة وهو المنعم عظيم الفضل.

الإيضاح

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) أي اعلموا أيها الناس أن متاع الدنيا ما هو إلا لعب ولهو تتفكهون به ، وزينة تتزينون بها ، وبها يفخر بعضكم على بعض ، وتتباهون فيها بكثرة الأموال والأولاد.

ثم ضرب مثلا يبين أنها زهرة فانية ، ونعمة زائلة فقال :

(كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) أي ما مثل هذه الحياة فى سرعة فنائها وانقضائها على عجل إلا مثل أرض أصابها مطر وابل ، فأنبتت من النبات ما أعجب الزراع وجعلهم فى غبطة وحبور ، وبهجة وسرور ، وبينا هو على تلك الحال إذا هو يصوح ويأخذ فى الجفاف واليبس ، ثم يكون هشيما تذروه الرياح.

ونحو الآية قوله : «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ».

ثم ذكر عاقبة المنهمكين فيها ، الطالبين لتحصيل لذاتها ، المتهالكين فى جمع حطامها والمعرضين عنها الطالبين لرضوان ربهم فقال :

١٧٧

(وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) أي وفى الآخرة إما عذاب شديد دائم لمن انهمك فى لذاتها ، وأعرض عن صالح الأعمال ، ودسّى نفسه بالشرك والآثام ، وإما مغفرة من الله ورضوان من لدنه لمن زكّى نفسه وأخبت لربه وأناب إليه :

قدّم لرجلك قبل الخطو موضعها

فمن علا زلقا عن غرّة زلجا

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي وما هذه الحياة الدنيا إلا متاع فان زائل خادع ، من ركن إليه ، واغترّ به وأعجبه ، حتى اعتقد أن لا دار سواها ، ولا معاد وراءها.

ولما أبان أن الآخرة قريبة ، وفيها العذاب الأليم ، والنعيم المقيم ـ حث على المبادرة إلى فعل الخيرات فقال :

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي سابقوا أقرانكم فى مضمار الأعمال الصالحة ، وأدّوا ما كلفتم به من أوامر الشريعة ، واتركوا نواهيها ـ يدخلكم ربكم بما قدّمتم لأنفسكم ، جنة سعتها كسعة السموات والأرض.

ثم بين المستحقين لها فقال :

(أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي هيئت للذين اعترفوا بوحدانية الله وصدقوا رسله.

ثم بين أن هذا فضل منه ورحمة فقال :

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي هذا الذي أعده الله لهم هو من فضله ورحمته ومنته عليهم.

وفى الصحيح «أن فقراء المهاجرين قالوا : يا رسول الله ، ذهب أهل الدّثور (الأموال) بالأجور ، والدرجات العلى ، والنعيم المقيم ، قال وما ذاك؟ قالوا يصلون كما نصلى ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ، قال :

١٧٨

أفلا أدلكم على شىء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، قال : فرجعوا فقالوا سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ففعلوا مثله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء».

(وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي والله واسع العطاء ، عظيم الفضل ، فيعطى من يشاء ما شاء كرما منه وفضلا ، ويبسط له الرزق فى الدنيا ، ويهب لهم النعم ، ويعرّفهم مواضع الشكر ، ثم يجزيهم فى الآخرة ما أعده لهم مما وصفه قبل.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤))

تفسير المفردات

فى الأرض : أي كالجدب والفاقة ، واحتلال الأجانب الظالمين ، واستيلاء الحكام الفاسقين ، فى أنفسكم : أي كالمرض والفاقة ، فى كتاب : هو اللوح المحفوظ ، نبرأها : أي نخلقها ، وتأسوا : أي تحزنوا ، ما فاتكم : أي من نعيم الدنيا ، ما آتاكم : أي ما أعطاكم ، والمختال : المتكبر بسبب فضيلة تراءت له من نفسه ، والفخور : هو المباهي بالأشياء العارضة كالمال والجاه.

١٧٩

المعنى الجملي

بعد أن أبان أن متاع هذه الدنيا زائل فان ، وأن ما فيها من خير أو شر لا يدوم ـ أردف ذلك تهوين المصايب على المؤمنين ، فذلك يكون مصدر سعادة نفوسهم واطمئنانها ، وبدونه يكون شقاؤها وكآبتها ، وآية ذلك أن لا يحزنوا على فائت ، ولا يفرحوا بما يصل إليهم من لذاتها الفانية.

ثم بين أن المختالين الذين يبخلون بأموالهم على ذوى الحاجة والبائسين ، ويأمرون الناس بذلك ، ويعرضون عن الإنفاق لا يجننّ إلا على أنفسهم ، والله غنى عنهم ، وهو المحمود على نعمه التي لا تدخل تحت حد.

الإيضاح

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي ما أصابكم أيها الناس من مصايب فى آفاق الأرض كقحط وجدب وفساد زرع ، أو فى أنفسكم من أوصاب وأسقام ـ إلا فى أم الكتاب من قبل أن نبرأ هذه الخليقة.

(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي إن علمه بالأشياء قبل وجودها ، وكتابته لها طبق ما توجد فى حينها ـ يسير عليه ، لأنه يعلم ما كان وما سيكون وما لا يكون.

أخرج الحاكم وصححه عن أبى حسان : أن رجلين دخلا على عائشة رضى الله عنها فقالا إن أبا هريرة يحدّث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : إنما الطّيرة فى المرأة والدابة والدار ، فقالت : والذي أنزل القرآن على أبى القاسم صلى الله عليه وسلم ما هكذا كان يقول ، كان يقول «كان أهل الجاهلية يقولون : إنما الطيرة فى المرأة والدابة والدار

١٨٠