تفسير المراغي - ج ٢٧

أحمد مصطفى المراغي

والنهى عن تزكية النفس إنما يكون إذا أريد بها الرياء أو الإعجاب بالعمل ، وإلا فلا بأس بها ولا تكون منهيا عنها ، ومن ثم قيل : المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر.

ونحو الآية قوله : «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً».

أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن مردويه وابن سعد عن زينب بنت أبى سلمة أنها سمّيت (برّة) فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : «لا تزكّوا أنفسكم ، الله أعلم بأهل البرّ منكم ، سمّوها زينب».

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤))

٦١

تفسير المفردات

تولى : أي أعرض عن اتباع الحق والثبات عليه ، وأكدى : أي قطع العطاء من قولهم : حفر فأكدى. أي بلغ إلى كدية أي صخرة تمنعه من إتمام العمل ، ينبأ : أي يخبر ، وصحف موسى هى التوراة ، وصحف إبراهيم ما نزل عليه من الشرائع ، ووفّى : أي أتم ما أمر به ، أن لا تزر وازرة وزر أخرى : أي لا تحمل نفس حمل نفس أخرى ، يرى : أي يراه حاضرو القيامة ويطلعون عليه تشريفا للمحسن ، وتوبيخا للمسىء ، يجزاه : أي يجزى سعيه يقال جزاه الله بعمله ، وجزاه على عمله ، وجزاه عمله ، المنتهى : أي المعاد يوم القيامة والجزاء حين الحشر ، تمنى : أي تدفع فى الرحم من قولهم : أمنى الرجل ومنى : أي صبّ المنىّ ، والنشأة الأخرى : هى إعادة الأرواح إلى الأجساد حين البعث ، أغنى وأقنى : أي أغنى من شاء وأفقر من شاء ، والشعرى : هى الشعرى العبور وهى ذلك النجم الوضاء الذي يقال له مرزم الجوزاء وقد عبدته طائفة من العرب ، وعاد الأولى : هم قوم هود وهم ولد عاد بن إرم بن عوف بن سام بن نوح ، وعاد الأخرى : من ولد عاد الأولى ، والمؤتفكة هى قرى قوم لوط ، سميت بذلك ، لأنّها ائتفكت بأهلها : أي انقلبت بهم ، ومنه الإفك لأنه قلب الحق ، أهوى : أي أسقط فى الأرض ، غشاها : أي غطّاها.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه علمه وقدرته ، وأن الجزاء واقع على الإساءة والإحسان ، وأن المحسن هو الذي يجتنب كبائر الإثم ، وهذا لا يعرف إلا بالوحى من الله تعالى. ذكر هنا أن من العجب العاجب بعد هذا أن يسمع سامع ، ويرجو عاقل أن غيره يقوم مقامه

٦٢

فى تحمل وزره ويعطيه جعلا ، لكنه ما أعطاه إلا قليلا حتى وقف عن العطاء ، ومن ثم وبخه على ذلك ، بأن علم هذا لا يكون إلا بوحي ، فهل علم منه صحة ما اعتقد؟ كلا فجميع الشرائع المعروفة لكم كشريعة موسى وإبراهيم على غير هذا ، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، فمن أين وصل له أن ذلك مجز له.

قال مجاهد وابن زيد : إن الآية نزلت فى الوليد بن المغيرة ، وكان قد سمع قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجلس إليه ووعظه فلان قلبه للإسلام فطمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه عاتبه رجل من المشركين وقال له : أتترك ملة آبائك؟ ارجع إلى دينك ، واثبت عليه ، وأنا أتحمل عنك كل شىء تخافه فى الآخرة لكن على أن تعطينى كذا وكذا من المال ، فوافقه الوليد على ذلك ، ورجع عما همّ به من الإسلام ، وضل ضلالا بعيدا ، وأعطى بعض المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح.

وقد ذكر سبحانه ما تضمنته صحف إبراهيم وموسى :

(١) ألا يؤاخذ امرؤ بذنب غيره.

(٢) ألا يثاب امرؤ إلا بعمله.

(٣) إن العامل يرى عمله فى ميزانه ، خيرا كان أو شرا.

(٤) إنه يجازى عليه الجزاء الأوفى فتضاعف له حسناته إلى سبعمائة ضعف ، ويجازى بمثل سيئاته.

(٥) إن الخلائق كلهم راجعون يوم المعاد إلى ربهم ، ومجازون بأعمالهم.

(٦) إنه تعالى خلق الضحك والبكاء والفرح والحزن.

(٧) إنه سبحانه خلق الذكر والأنثى من نطفة تصب فى الأرحام.

(٨) إنه تعالى خلق الموت والحياة.

(٩) إنه هو الذي أعطى الغنى والفقر ، وكلاهما بيده وتحت قبضته.

٦٣

(١٠) إنه هو رب الشعرى ، وكانت خزاعة تعبدها

(١١) إنه أهلك عادا الأولى ، وقد كانوا أول الأمم هلاكا بعد قوم نوح.

(١٢) إنه أهلك ثمود فما أبقاهم ، بل أخذهم بذنوبهم.

(١٣) إنه أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود ، وقد كانوا أظلم من الفريقين.

(١٤) إنه أهلك المؤتفكة وهى قرى قوم لوط وقد انقلبت بأهلها ، وغطّاها بحجارة من سجيل.

الإيضاح

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى : وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى. أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى؟) أي أعلمت شأن هذا الكافر؟ وهل بلغك شأنه العجيب ، فقد أشرف على الإيمان واتباع هدى الرسول ، فوسوس له شيطان من شياطين الإنس بألا يقبل نصح الناصح ، ويرجع إلى دين آبائه ، ويتحمل ما عليه من وزر إذا هو أعطاه قليلا من المال ، فقبل ذلك منه ، لكنه ما أعطاه إلا قليلا حتى امتنع من إعطائه شيئا بعد ذلك ، أفعنده علم بأمور الغيب ، فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه ما يخاف من أوزاره يوم القيامة؟.

وقصارى ذلك ـ أخبرنى بأمر هذا الكافر وحاله العجيبة ، إذ قبل أن سواه يحمل أوزاره إذا أدّى له أجرا معلوما ، أأنزل عليه وحي فرأى أن ما صنعه حق؟

ثم أكد هذا الإنكار فذكر أن الشرائع التي يعرفونها على غير هذا فقال :

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) أي ألم يخبر بما نصت عليه التوراة ، وما ذكر فى شرائع إبراهيم الذي وفّى بما عاهد الله عليه ، وأتم ما أمر به ، وأدى رسالته على الوجه المرضى ، يدل على ذلك قوله : «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً».

٦٤

قال ابن عباس : وفّى بسهام الإسلام كلها وهى ثلاثون سهما لم يوفّها أحد غيره ، منها عشرة فى براءة «إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ» الآيات ، وعشرة فى الأحزاب «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ» الآيات ، وستة فى «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» الآيات ، وأربعة فى سأل سائل «وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ» الآيات.

وتخصيصه عليه السلام بهذا الوصف لاحتماله ما لم يحتمل غيره ، وفى قصة الذبح ما فيه الغناء فى ذلك.

وإنما ذكر ما جاء فى شريعتى هذين النبيين فحسب ، لأن المشركين كانوا يدّعون أنهم على شريعة أبيهم إبراهيم ، وأهل الكتاب كانوا يدعون أنهم متبعون ما فى التوراة وصحفها قريبة العهد منهم.

ثم فصل ما جاء فى هاتين الشريعتين فقال :

(١) (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس ذنوب نفس أخرى ، فكل نفس اكتسبت إثما بكفر أو معصية فعليها وزرها لا يحمله عنها أحد كما قال : «وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى» ،

(٢) (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) أي كما لا يحمل على الإنسان وزر غيره ، لا يحصل له من الأجر إلا ما كسب لنفسه ، ومن هذا استنبط مالك والشافعي ومن تبعهما أن القراءة لا يصح إهداء ثوابها إلى الموتى ، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ، وهكذا جميع العبادات البدنية كالصلاة والحج والتلاوة ، ومن ثم لم يندب إليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمته ولا حثهم عليها ولا أرشدهم إليها بنص ولا إيماء ، ولم ينقل عن أحد من الصحابة رضى الله عنهم ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه ، أما الصدقة فإنها تقبل ؛ وما رواه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة من قوله صلّى الله عليه وسلم «إذا مات ابن آدم

٦٥

انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعوله ، وصدقة جارية من بعده ، وعلم ينتفع به» فهى فى الحقيقة من سعيه وكدّه وعمله ، كما جاء فى الحديث : «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولد الرجل من كسبه» والصدقة الجارية كالوقف ونحوه على أعمال البرهى من آثار عمله ، وقد قال تعالى : «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ» الآية ، والعلم الذي نشره فى الناس فاقتدوا به واتبعوه ـ هو من سعيه ، فقد ثبت فى الصحيح «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجر من اتبعه من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا».

ومذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء أن ثواب القراءة يصل إلى الموتى إن لم تكن القراءة بأجر ، أما إذا كانت به كما يفعله الناس اليوم من إعطاء الأجر للحفاظ للقراءة على المقابر وغيرها ـ فلا يصل إلى الميت ثوابها ، إذ لا ثواب لها حتى يصل إليهم ، لحرمة أخذ الأجر على قراءة القرآن وإن لم يحرم على تعليمه.

(٣) (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) أي إن عمله سيعرض يوم القيامة على أهل المحشر ويطلعون عليه ، فيكون فى ذلك إشادة بفضل المحسنين ، وتوبيخ للمسيئين.

ونحو هذا قوله : «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ، وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».

(٤) (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) أي ثم يجزى بعمله أوفى الجزاء وأوفره ، فيضاعف الله له الحسنة ويبلغها سبعمائة ضعف ، ويجازى بالسيئة مثلها أو يعفو عنها كما قال : «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ».

(٥) (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) أي وأن مرجع الأمور يوم الميعاد إلى ربك ، فيحاسبهم على النقير والقطمير ، ويثيبهم أو يعاقبهم بالجنة أو النار.

وفى هذا تهديد بليغ للمسىء ، وحث شديد للمحسن ، وتسلية لقلبه صلّى الله عليه وسلم ، كأنه يقول له : لا تحزن أيها الرسول ، فإن المنتهى إلى الله.

٦٦

ونحو الآية قوله : «فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ. إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» إلى أن قال فى آخر السورة «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» وأمثال ذلك كثيرة فى القرآن.

(٦) (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) أي وأنه خلق فى عباده الضحك والبكاء وسببهما ، والمراد أنه خلق ما يسرّ وما يحزن من الأعمال الصالحة ، والأعمال الطالحة.

(٧) (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) أي وأنه خلق الموت والحياة كما جاء فى قوله : «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ» فهو يميت من يشاء موته ، ويحيى من يشاء حياته ، فينفخ الروح فى النطفة الميتة فيجعلها حية.

(٨) (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) أي وأنه خلق الذكر والأنثى من الإنسان وغيره من الحيوان من المنى الذي يدفق فى الأرحام.

(٩) (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أي وأن عليه الإحياء بعد الإماتة ، ليجازى كل من المحسن والمسيء على ما عمل.

(١٠) (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) أي وأنه تعالى يغنى من يشاء من عباده ، ويفقر من يشاء بحسب ما يرى من استعداد كل منهما ومقدرته على كسب المال بحسب السنن المعروفة فى هذه الحياة.

وفى هذا تنبيه إلى كمال القدرة ، فإن النطفة جسم متناسب الأجزاء فى الظاهر ، ويخلق الله تعالى منها أعضاء مختلفة ، وطباعا متباينة من ذكر وأنثى ، ومن ثم لم يدّع أحد خلق ذلك ، كما لم يدّع خلق السموات والأرض كما قال : «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ».

ونحو الآية قوله : «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً؟ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى؟ ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟».

(١١) (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) أي وأنه تعالى رب هذا الكوكب الوهاج الذي تطلع خلف الجوزاء فى شدة الحر.

٦٧

وإنما خصها بالذكر من بين الأجرام السماوية ، وفيها ما هو أكبر منها جرما وأكثر ضوءا ، لأنها عبدت من دون الله فى الجاهلية ، فقد عبدتها حمير وخزاعة ، وأول من سن عبادتها أبو كبشة وكان من أشراف العرب ، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبى كبشة تشبيها له به ، لمخالفته دينهم كما خالفهم أبو كبشة ، وكان من أجداد النبي صلّى الله عليه وسلّم من قبل أمه ، ومن ذلك قول أبى سفيان حين دخوله على هرقل : لقد أمر أمر ابن أبى كبشة.

ومن العرب من كانوا يعظمونها ، ويعتقدون أن لها تأثيرا فى العالم ويتكلمون على المغيبات حين طلوعها.

وهى شعريان إحداهما شامية ، وثانيتهما يمانية وهى المرادة هنا وهى التي كانت تعبد من دون الله.

(١٢) (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) وهى قوم هود عليه السلام ، وعاد الأخرى هى إرم بن سام بن نوح كما قال : «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ؟» وقد كانوا من أشد الأمم وأقواهم وأعتاهم على الله ورسوله ، فأهلكهم «بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً» أي متتابعة.

وقال المبرد : وعاد الأخرى هى ثمود ، وقيل عاد الأخرى من ولد عاد الأولى.

(١٣) (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) أي وأهلك ثمود فما أبقى عليهم ، بل أخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر.

ونحو الآية قوله : «فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ».

(١٤) (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) أي وأهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود ، وكانوا أظلم من هذين ، لأنهم بدءوا بالظلم ، و «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها» وأطغى منهما وأكثر تجاوزا للحد ، لأنهم سمعوا المواعظ

٦٨

وطال عليهم الأمد ولم يرتدعوا حتى دعا عليهم نبيهم بقوله : «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً».

وقد كان الرجل منهم يأخذ بيد ابنه ويمشى إلى نوح يحذره منه ويقول يا بنى إن أبى مشى بي إلى هذا وأنا مثلك يومئذ ، فإياك أن تصدّقه ، فيموت الكبير على الكفر ، وينشأ الصغير على وصية أبيه ، لا يتأثر من دعائه له.

(١٥) (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى ، فَغَشَّاها ما غَشَّى) أي وأهلك قوم لوط بانقلاب قريتهم عليهم وجعل عاليها سافلها ثم أمطر عليهم حجارة من سجيل منضود كما قال : «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» وهذا ما عناه سبحانه بقوله : فغشاها ما غشى.

وفى هذا الأسلوب تهويل للأمر الذي غشاها به ، وتعظيم له.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))

تفسير المفردات

الآلاء : النعم واحدها ألى (بالفتح والكسر) وتتمارى : تمترى وتشك ، والخطاب للانسان ، هذا نذير من النذر : أي إن محمدا بعض من أنذر ، أزفت : قربت ، والآزفة : الساعة ، وسميت بذلك لقرب قيامها ، أو لدنوها من الناس كما جاء فى قوله : «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» من دون الله : أي من غيره ، كاشفة : أي نفس تكشف وقت وقوعها

٦٩

وتبينه ، لأنها من أخفى المغيبات ، والحديث : القرآن ، سامدون : أي لاهون غافلون من سمد البعير فى سيره إذا رفع رأسه ، فاسجدوا : أي اشكروا على الهداية ، واعبدوا : أي اشتغلوا بالعبادة والطاعة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قبل ما جاء فى صحف موسى وإبراهيم ، من أن الإحياء والإماتة بيد الله ، وأنه هو الذي يصرّف أمور العالم خلقا وتدبيرا وملكا ، فيفقر قوما ويغنى آخرين ، وأن أمر المعاد تحت قبضته ، وأن الخلق إذ ذاك يرجعون إليه ، وأن بعض الأمم كذبت رسلها وأنكرت الخالق فأصابها ما أصابها ـ قفى على هذا بالتعجيب من أمر الإنسان ، وأنه كيف يتشكك فى هذا ويجادل فيه منكرا له ، وقد جاء النذير به ، فعليكم أن تصدّقوه وتؤمنوا به قبل أن يحل بكم عذاب يوم عظيم قد أزف ، ولا يقدر على كشفه أحد إلا هو ، فلا تعجبوا من القرآن منكرين ، ولا تضحكوا منه مستهزئين ، وابكوا حزنا على ما فرّطتم فى جنب الله ، وعلى غفلتكم عن مواعظه وحكمه التي فيها سعادتكم فى دنياكم وآخرتكم ، واسجدوا شكرا لبارئ النسم ، الذي أوجدها من العدم ، واعبدوه بكرة وعشيا شكرا على آلائه ، وتقلبكم فى نعمائه.

الإيضاح

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) أي فبأى نعم ربك عليك أيها الإنسان تمترى وتشك؟

ونحو الآية قوله : «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟» وقوله : «وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً» وقوله : «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ».

٧٠

والمراد بالنعم ما عدده من قبل ، وجعلت كلها نعما ، وبعضها نقم ، لما فى النقم من المواعظ والعبر للمعتبرين ، من الأنبياء والمؤمنين.

والخلاصة ـ إنها كلها دالة على وحدانية ربك وربوبيته ، ففى أيها تتشكك على وضوحها للناظرين ، ووجوه دلالتها للمعتبرين؟.

(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) أي إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم منذر من حاد عن طريق الهدى ، وسلك طريق الضلال والهوى ، بسىء العواقب ، فى العاجل والآجل ، وهو كمن قبله من الرسل الذين أرسلهم ربهم لهداية خلقه ، فكذبوهم فأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، وحل بهم البوار والنكال ، كفاء تكذيبهم وجحودهم آلاء ربهم ، ونعمه التي تترى عليهم.

ونحو الآية قوله : «إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» وقوله صلّى الله عليه وسلم «أنا النذير العريان» أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس شيئا ، وبادر إلى إنذار قومه وجاءهم مسرعا.

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي اقتربت الساعة ، ونصب الميزان ، وستجازى كل نفس بما عملت من خير أو شر ، فاحذروا أن تكونوا من الهالكين ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون.

ونحو الآية قوله : «إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ، لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ» وفى الحديث «مثلى ومثل الساعة كهاتين» وفرق بين إصبعيه الوسطى والتي تلى الإبهام.

(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) أي ليس هناك من يعرف وقت حلول الآزفة إلا هو ، فاستعدوا لهذا اليوم قبل أن تأخذكم الساعة بغتة وأنتم لا تشعرون ، فتندموا ولات ساعة مندم ، وجدّوا للعمل قبل حلول الأجل.

وقد أشار فى هذه الآيات إلى أصول الدين الثلاثة.

(١) وحدانية الله بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى؟).

٧١

(٢) إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم بقوله : (هذا نذير)

(٣) إثبات الحشر والبعث بقوله : (أزفت الآزفة).

ثم أنكر على المشركين تعجبهم من القرآن واستهزاءهم به وإعراضهم عنه فقال :

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أي أفينبغي لكم بعد ذلك أن تعجبوا من هذا القرآن وقد جاءكم بما فيه هدايتكم إلى سواء السبيل ، وإرشادكم إلى الطريق المستقيم ، وكيف تسخرون منه وتستهزئون به ، ولا تكونوا كالموقنين الذين وصفهم الله بقوله : «وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً» وكيف تلهون عن استماع عبره ، وتغفلون عن مواعظه ، وتتلقونها تلقى اللاهي الساهي المعرض عما يسمع ، غير المكترث بما يلقى إليه.

أخرج البيهقي فى شعب الإيمان عن أبى هريرة قال : لما نزلت «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ» الآية بكى أصحاب الصّفّة حتى جرت دموعهم على خدودهم ، فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حنينهم بكى معهم ، فبكينا ببكائه ، فقال عليه الصلاة والسلام : «لا يلج النار من بكى من خشية الله تعالى ، ولا يدخل الجنة مصرّ على معصية ، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم»

ثم بيّن ما يجب عند سماع القرآن من الإجلال والتعظيم فقال :

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) أي فاخضعوا وأخلصوا له العمل حنفاء غير مشركين به ، فهو الذي أنزله على عبده ورسوله هاديا وبشيرا لكم لعلكم ترحمون ، ودعوا ما أنتم فيه من عبادة الأوثان والأصنام التي لا تغنى عنكم شيئا ، فلا تدفع عنكم ضرّا ، ولا تجديكم نفعا كما قال آمرا رسوله أن يقول لهم : «قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ؟».

٧٢

ما تضمنته السورة الكريمة من الأسرار والأحكام

(١) إنزال الوحى على رسوله.

(٢) إن الذي علمه إياه هو جبريل شديد القوى.

(٣) قرب رسوله من ربه.

(٤) إن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى جبريل على صورته الملكية مرتين.

(٥) تقريع المشركين على عبادتهم للأصنام.

(٦) توبيخهم على جعل الملائكة إناثا وتسميتهم إياهم بنات الله.

(٧) مجازاة كل من المحسن والمسيء بعمله.

(٨) أوصاف المحسنين.

(٩) إحاطة علمه تعالى بما فى السموات والأرض.

(١٠) النهى عن تزكية المرء نفسه.

(١١) الوصايا التي جاءت فى صحف إبراهيم وموسى.

(١٢) النعي على المشركين فى إنكارهم الوحدانية والرسالة والبعث والنشور.

(١٣) التعجب من استهزاء المشركين بالقرآن حين سماعه ، وغفلتهم عن مواعظه.

(١٤) أمر المؤمنين بالخضوع لله والإخلاص له فى العمل.

٧٣

سورة القمر

هى مكية إلا قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) فمدنية.

وآيها خمس وخمسون ، نزلت بعد الطارق.

ومناسبتها لما قبلها من وجوه :

(١) مشاكلة آخر السورة السابقة لأول هذه فقد قال هناك : أزفت الآزفة ، وقال هنا : اقتربت الساعة.

(٢) حسن التناسق بين النجم والقمر.

(٣) إن هذه قد فصلت ما جاء فى سابقتها ، ففيها إيضاح أحوال الأمم التي كذبت رسلها ، وتفصيل هلاكهم الذي أشار إليه فى السابقة بقوله : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى. وَثَمُودَ فَما أَبْقى. وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) فما أشبهها مع سابقتها بالأعراف بعد الأنعام ، والشعراء بعد الفرقان.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨))

٧٤

تفسير المفردات

اقتربت : أي دنت وقربت ، وانشق القمر : أي انفصل بعضه من بعض وصار فرقتين ، آية : أي دليلا على نبوتك ، مستمر : أي مطرد دائم ، أهواءهم : أي ما زينه لهم الشيطان من الوساوس والأوهام ، مستقر : أي منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة ، الأنباء أخبار القرون الماضية وما حاق بهم من العذاب جزاء تكذيبهم للرسل ، واحدها نبأ ، بالغة : أي واصلة غاية الإحكام والإبداع ، تغنى : أي تفيد وتنفع ، والنذر : واحدهم نذير بمعنى منذر ، فتولّ عنهم : أي لا تجادلهم ولا تحاجهم ، نكر : أي أمر تنكره النفوس إذ لا عهد لها بمثله ، خشعا : واحدهم خاشع : أي ذليل ، والأجداث : القبور ، مهطعين : أي مسرعين منقادين ، عسر : أي صعب شديد الهول.

المعنى الجملي

يخبر سبحانه باقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها وأن الأجرام العلوية يختل نظامها على نحو ما جاء فى قوله : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) روى أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس تغرب ولم يبق منها إلا سفّ يسير ، فقال : والذي نفسى بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه».

وروى أحمد عن سهل بن سعد قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : (بعثت أنا والساعة هكذا ، وأشار بإصبعيه السبّابة والوسطى).

ثم ذكر أن الكافرين كلما رأوا علامة من علامات نبوتك أعرضوا وكذبوا بها وقالوا إن هذا إلا سحر منك يتلو بعضه بعضا ؛ ثم أخبر أن أمرهم سينتهى بعد حين

٧٥

وسيستقر أمرك ، وسينصرك الله عليهم نصرا مؤزّرا ، ثم أعقب هذا بأن عبر الماضين وإهلاك الله لهم بعد تكذيبهم أنبياءهم كانت جدّ كافية لهم لو أن لهم عقولا يفكرون بها فيما هم قادمون عليه ، ولكن أنّى تغنى الآيات والنذر عن قوم قد أضلهم الله على علم وختم على قلوبهم وجعل على سمعهم وبصرهم غشاوة؟. ثم أمر رسوله بالإعراض عنهم وسيخرجون من قبورهم أذلاء ناكسى الرءوس مسرعين إلى إجابة الداعي ، يقول الكافرون منهم هذا يوم شديد حسابه ، عسر عقابه.

الإيضاح

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) أي دنت الساعة التي تقوم فيها القيامة ، وقرب انتهاء الدنيا وهذا كقوله : «أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» وقوله : «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ».

(وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أي وسينشق القمر وينفصل بعضه من بعض حين يختل نظام هذا العالم وتبدل الأرض غير الأرض ، ونحو هذا قوله : «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» وقوله : «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ» وكثير غيرهما من الآيات الدالة على الأحداث الكبرى التي تكون حين خراب هذا العالم وقرب قيام الساعة.

ويرى جمع من المفسرين أن هذا حدث قد حصل ، وأن القمر صار فرقتين على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل الهجرة بنحو خمس سنين ، فقد صح من رواية الشيخين وابن جرير عن أنس أن أهل مكة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء (جبل بمكة) بينهما ، وفى الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود : «انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرقتين ، فرقة على الجبل وفرقة دونه ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اشهدوا».

٧٦

وجاء عنه أيضا : «انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت قريش : هذا سحر بن أبى كبشة ، فقال رجل انتظروا ما يأتيكم به السفّار ، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس ، فجاء السفار فأخبروهم بذلك» رواه أبو داود والطيالسي ، وفى رواية البيهقي «فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا رأيناه ، فأنزل الله تعالى اقتربت الساعة وانشق القمر».

والذي يدل على أن هذا إخبار عن حدث مستقبل لا عن انشقاق ماض ـ أمور :

(١) إن الإخبار بالانشقاق أتى إثر الكلام على قرب مجىء الساعة ، والظاهر تجانس الخبرين وأنهما خبران عن مستقبل لا عن ماض.

(٢) إن انشقاق القمر من الأحداث الكونية الهامة التي لو حصلت لرآها من الناس من لا يحصى كثرة من العرب وغيرهم ، ولبلع حدا لا يمكن أحدا أن ينكره ، وصار من المحسوسات التي لا تدفع ، ولصار من المعجزات التي لا يسع مسلما ولا غيره إنكارها.

(٣) ما ادعى أحد من المسلمين إلا من شذ أن هذه معجزة بلغت حد التواتر ، ولو كان قد حصل ذلك ما كان رواته آحادا ، بل كانوا لا يعدّون كثرة.

(٤) إن حذيفة بن اليمان وهو ذلكم الصحابي الجليل خطب الناس يوم الجمعة فى المدائن حين فتح الله فارس فقال : ألا إن لله تبارك وتعالى يقول : اقتربت الساعة وانشق القمر ، ألا وإن الساعة قد اقتربت ، ألا وإن القمر قد انشق ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق ، ألا وإن الغاية النار ، والسابق من سبق إلى الجنة ، فهذا الكلام من حذيفة فى معرض قرب مجىء الساعة وتوقع أحداثها ، لا فى كلام عن أحداث قد حصلت تأييدا للرسول وإثباتا لنبوته ، لأن ذلك كان فى معرض العظة والاعتبار.

وبعد أن ذكر قرب مجىء الساعة وكان ذلك مما يستدعى انتباههم من غفلتهم ، والتفكير فى مصيرهم ، والنظر فيما جاءهم به الرسول من الأدلة المثبتة لنبوته ، والمؤيدة

٧٧

لصدقه ، لكنهم مع كل هذا ما التفتوا إلى الداعي لهم إلى الرشاد ، والهادي لهم إلى سواء السبيل ، بل أعرضوا وتولوا مستكبرين كما قال :

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أي وإن ير المشركون علامة تدلهم على حقيقة نبوتك ، وترشدهم إلى صدق ما جئت به من عند ربك ، يعرضوا عنها ويولوا مكذبين بها ، منكرين أن يكون ذلك حقا ، ويقولوا تكذيبا منهم بها : هذا سحر سحرنا به محمد ، وهو يفعل ذلك على مرّ الأيام.

وفى هذا إيماء إلى ترادف الآيات ، وتتابع المعجزات.

وقال الكسائي والفرّاء واختاره النحاس : إن المراد بالمستمر الذاهب الزائل عن قرب ، إذ هم قد عللوا أنفسهم ومنّوها بالأمانى الفارغة ، وكأنهم قالوا : إن حاله عليه السلام وما ظهر من معجزاته إن هى إلا سحابة صيف عن قريب تقشع ، ولكن أيهات أيهات ، فقد غرّتهم الأمانى : «وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ».

ثم أكد ما سبق بقوله :

(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي وكذبوا بالحق إذ جاءهم ، واتبعوا ما أمرتهم به أهواؤهم ، لجهلهم وسخف عقولهم.

والخلاصة ـ إنهم كذبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وتركوا حججه وقالوا : هو كاهن يقول عن النجوم ويختار الأوقات للأفعال ، وساحر يسترهب الناس بسحره ، إلى أشباه هذا من مقالاتهم التي تدل على العناد وعدم قبول الحق.

ثم سلّى رسوله وهدد المشركين بقوله :

(وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي وكل شىء ينتهى إلى غاية تشاكله ، فأمرهم سينتهى إلى الخذلان فى الدنيا والعذاب الدائم فى الآخرة ، وأمرك سينتهى إلى النصر فى الدنيا والجنة فى الآخرة.

٧٨

وهذه قاعدة عامة تنضوى تحتها حركات الكواكب والأفلاك ونظم العمران وأعمال الأفراد والأمم.

وقصارى ذلك ـ إن أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم سيصل إلى غاية يتبين عندها أنه الحق ، وأن ما سواه هو الباطل ، فقد جرت سنة الله بأن الحق يثبت ، والباطل يزهق بحسب ما وضعه فى نظم الخليقة (البقاء للأصلح).

ثم ذكر أنهم فى ضلال بعيد ، فإن ما جاء فى القرآن من أخبار الماضين قد كان فيه مزدجر لهم لو كانوا يعقلون ، قال :

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي ولقد جاء هؤلاء المشركين الذين كذبوا بك واتبعوا أهواءهم ـ من الأخبار عن الماضين الذين كذبوا الرسل فأحل الله بهم من العقوبات ما قصه فى كتابه ـ ما يردعهم ويزجرهم عما هم فيه من القبائح ، إذ أبادهم فى الدنيا وسيعذبهم يوم الدين جزاء وفاقا لما دنسوا به أنفسهم من الشرك بربهم وعصيان رسله ، واجتراحهم للسيئات.

ثم بين الذي جاءهم به فقال :

(حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) أي هذه الأنباء غاية الحكمة فى الهداية والإرشاد إلى طريق الحق لمن اتبع عقله وعصى هواه.

(فَما تُغْنِ النُّذُرُ) أي إن النذر لم يبعثوا ليلجئوا الناس إلى قبول الحق ، وإنما أرسلوا مبلغين فحسب ؛ فليس عليك ولا على الأنبياء قبلك الإغناء والإلجاء إلى اتباع سبيل الهدى ، فإذا بلّغت فقد أتيت بما عليك من الحكمة البالغة التي أمرت بها فى نحو قوله «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» وتول عنهم بعدئذ.

ونحو الآية قوله «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً».

ثم أمر رسوله ألا يجادلهم ولا يناظرهم فإن ذلك لا يجدى نفعا فقال :

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي فأعرض عن هؤلاء المشركين المكذبين ولا تحاجهم ،

٧٩

فإنهم قد بلغوا حدا لا يقنعون معه بحجة ولا برهان ، فأحرى بك ألا تلتفت إلى نصحهم وإرشادهم ، فقد عييت بأمرهم ، وبرمت بعنادهم.

(يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) أي واذكر حين ينادى الداعي إلى شىء فظيع تنكره نفوسهم ، إذ لا عهد لها بمثله ، وهو موقف الحساب وما فيه من أهوال.

وقد جرت العادة أن من ينصح شخصا لا يؤثر فيه النصح أن يعرض عنه ويقول لسواه ما فيه نصح للمعرض عنه ، وهدايته وإرشاده لو أراد.

ثم ذكر حال الكافرين فى هذا اليوم فقال :

(خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) أي يخرجون من قبورهم ذليلة أبصارهم من هول ما يرون ، كأنهم فى انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعى ـ جراد قد انتشر فى الآفاق.

وجاء تشبيهم فى الآية الأخرى بالفراش فى قوله «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ».

وهم يكونون أولا كالفراش حين يموجون فزعين ، لا يهتدون أين يتوجهون ، لأن الفراش لا جهة لها تقصدها ، ثم يكونون كالجراد المنتشر إذا توجهوا للحشر ، فهما تشبيهان باعتبار وقتين ، وحكى ذلك عن مكى بن أبى طالب.

(مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي مسرعين إلى الداعي لا يخالفون ولا يتأخرون ، ويقولون هذا يوم شديد الهول سيىء المنقلب.

ونحو الآية قوله : «فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ». وفى هذا إيماء إلى أنه هين على المؤمن لا عسر فيه ولا مشقة.

٨٠