تفسير المراغي - ج ٢٧

أحمد مصطفى المراغي

وقوله : «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ» وقوله : «وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ».

والخلاصة ـ إنها تذوب كما يذوب دردئ الزيت والفضة حين السبك ، وتتلوّن كما تتلون الأصباغ التي يدّهن بها ، فتارة تكون حمراء وأخرى صفراء وثالثة زرقاء.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن الإخبار بنحو ما ذكر مما يزجر عن الشر ، فهو لطف أىّ لطف ، ونعمة أيّما نعمة.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) لأنهم يعرفون بسيماهم حينما يخرجون من القبور ويحشرون إلى الموقف.

ونحو الآية قوله تعالى : «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» ثم يسألون بعدئذ كما يدل على ذلك قوله : «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ».

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أي فبأى هذه النعم تكذبان ، فإن تخويف المجرم نعمة عليه ، حتى يرتدع عن ذنبه ، ويثوب إلى رشده ، ويتوب إلى ربه.

ثم ذكر السبب فى عدم سؤال الإنس والجان عن ذنوبهم فقال :

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) أي يعرف المجرمون حينئذ بعلامات يمتازون بها عن سواهم ، فلا حاجة حينئذ إلى السؤال والجواب ، لأن السيما ميزت كل مجرم بنوع جرمه.

ولقد اهتدى الإنسان بعقله إلى فوائد هذه العلامات فى الدنيا ، فأنشأت الحكومات إدارات خاصة لعلامات المشتبه فى سلوكهم ومعتادى الأجرام ، فتأخذ إبهاماتهم وتحفظها فى أضابير خصّيصى بهم ، ولكل امرئ خطوط فى إبهامه لا تشابه خطوط غيره فيه ولا يحصل فيها التباس ، فمتى أحدث أحدهم حدثا وجاء بجرم روجع ملفّه الخاص ،

١٢١

واستخرجت صورة إبهامه من ملفه ، وطبقت على الصورة الخارجية ولاقى فى المحاكم ما يستحقه من عقاب.

والخلاصة ـ إن لكل امرئ أحوالا تخصه فى جسمه وعقله وأخلاقه ، يعرف الناس منها الآن قليلا ، وبقية علمها عند الله يعلمها ملائكته يوم القيامة فيعرفون المجرمين بها.

ثم تسحبهم الملائكة تارة بأخذ النواصي ، وأخرى بأخذ الأقدام ، روى عن الضحاك «أن الملك يجمع بين ناصية أحدهم وقدميه فى سلسلة من وراء ظهره ، ثم يكسر ظهره ويلقيه فى النار ، وقيل : تأخذ الملائكة عليهم السلام بعضهم سحبا بالناصية ، وبعضهم سحبا بالقدم ، ولا نجزم بشىء من ذلك إلا بالنص القاطع.

وهذا الوضع معهم سبيل من سبل الإهانة والإذلال والنكال.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) يقال هنا مثل ما سلف حذو القذّة بالقذّة.

(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) أي ويقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ : هذه جهنم التي كنتم تكذبون بها فى الدنيا ، فهأنتم الآن قد شاهدتموها ورأيتموها رأى العين ، فذوقوا عذابها واشربوا من الحميم الذي يقطّع الأمعاء والأحشاء فأنتم بين الجحيم والحميم.

والخلاصة ـ إنهم إذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الآنى الذي صار كالمهل (دردىء الزيت : أي عكره).

ونحو الآية قوله : «إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ».

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) يقال هنا مثل ما قيل فيما سلف.

١٢٢

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١))

تفسير المفردات

الخوف فى الأصل : توقع المكروه عند ظهور أمارة مظنونة أو محققة ، وضده الأمن ؛ ويراد به هنا الكفّ عن المعاصي مع فعل الطاعات ، ومقام ربه : أي قيامه عليه واطلاعه على أعماله ، جنتان : أي جنة روحية لقلبه ، وجنة جسمانية على شاكلة ما عمل فى الدنيا ، وقيل إنهما منزلان ينتقل بينهما لتتوافر دواعى لذته ، وتظهر آثار كرامته ، ذواتا : مثنى ذات بمعنى صاحبة ، والأفنان : الأنواع واحدها فنّ : أي ذواتا أنواع من الأشجار والثمار ، زوجان : أي صنفان رطب ويابس ولا يقصر يابسه عن رطبه فى الفضل والطيب ، والفرش : واحدها فراش ، والبطائن : واحدها بطانة ، والإستبرق : الديباج أي الحرير الثخين ، والجنى : الثمر ، دان : أي قريب يناله القائم والقاعد والمضطجع ، قاصرات الطرف : أي نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن

١٢٣

لا ينظرن إلى غيرهم ، لم يطمثهن : أي لم يمسسهن ، وأصل الطمث : خروج الدم ، ويراد به قربان النساء ، كأنهن الياقوت : أي فى الصفاء ، والمرجان : أي صغار اللؤلؤ فى البياض.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر ما يراه المشركون بربهم ، والعاصون لأوامره ونواهيه من الأهوال ، من إرسال الشواظ من النار عليهم ، ومن أخذهم بالنواصي والأقدام ، إهانة لهم واحتقارا ومن التنقل بهم بين النار والحميم الآنى الذي يشوى الوجوه ـ ذكر هنا ما أعده من النعيم الروحي والجسماني لمن خشى ربه ، وراقبه فى السر والعلن ، فمن جنات متشابهة الثمار والفواكه تجرى من تحتها الأنهار ، جناها دان لمن طلبه وأحب نيله ، يجلس فيها على فرش بطائنها من الديباج ، ومن نساء حسان لم يقرب منهن أحد لا من الإنس ولا من الجن ، وهن كالياقوت صفاء واللؤلؤ بياضا ، وذلك كفاء ما قدموا من صالح العمل ، وما أسلفوا فى الأيام الخالية ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟.

الإيضاح

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أي ولمن خشى ربه وراقبه فى أعماله ، وأيقن بأنه مجازيه عليها يوم العرض والحساب ، يوم تجزى كل نفس بما كسبت ، فإذا هو همّ بمعصية ذكر الله وأنه عليم بسره ونجواه ، فتركها مخافة عقابه ، وشديد حسابه ، ففعل الخير وأحب الخير للناس ـ جنتان : جنة روحية تصل به إلى حظيرة القدس ، وجمال الملكوت ورضا الله عنه «وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ» وجنة جسمانية بمقدار ما عمل فى الدنيا من خير ، وقدم من صالح عمل ، فبأى نعم ربكما

١٢٤

أيها الثقلان تكذبان ، فإثابته المحسن منكم بما وصف ، وعقابه العاصي بما عاقب من النعم العظمى ، والمنن الكبرى.

(ذَواتا أَفْنانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ذواتا أنواع وألوان من الأشجار والثمار من قولهم «افتن فلان فى حديثه إذا أخذ فى فنون منه وضروب مختلفة ، والمتنوقون فى الدنيا يتنقلون من فاكهة إلى أخرى فيكون ذلك أدعى إلى زيادة اللذة ، وأكثر شهوة للطعام ، كما قال قائلهم :

ومن كل أفنان اللذاذة والصّبا

لهوت به والعيش أخضر ناضر

(فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فيهما عينان تسرحان وتسقيان تلك الأشجار والأغصان ، إحداهما يقال لها التسنيم ، والأخرى السلسبيل قاله الحسن البصري. وقال أبو بكر الوراق : تجريان لمن كانت عيناه فى الدنيا تجريان من مخافة الله عز وجل ، فتجريان فى كل مكان شاء صاحبهما وإن علا مكانه ، كما تصعد المياه فى الأشجار فى كل غصن منها وإن زاد علوها.

(فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فيهما من كل فاكهة صنفان : رطب ويابس ، لا ينقص أحدهما عن الآخر لذة وطيبا ، بخلاف ثمار الدنيا فإن الطازج فيها ألذ طعما وأشهى مأكلا.

وبعد أن ذكر طعامهم ذكر فراشهم فقال :

(مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) أي مضطجعين على فرش بطائنها من الديباج الغليظ ، وإذا كانت هذه حال البطائن فما ظنكم بالظهائر؟ ومن ثم روى عن ابن مسعود أنه قال : أخبرتم بالبطائن ، فكيف لو أخبرتم بالظهائر؟ وقيل لسعيد بن جبير : البطائن من إستبرق فما الظواهر؟ قال : هذا مما قال الله فيه «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» وبمثله قال ابن عباس.

١٢٥

وفى هذا دليل على شرف هذه الفرش ، وتمتع أهلها بالثواب العظيم ، والنعيم المقيم.

وإنما ذكر الاتكاء ، لأنه هيئة تدل على صحة الجسم ، وفراغ القلب ، إذ العليل لا يستطيع أن يستلقى أو يستند إلى شىء ، وهو مشغول القلب يتحرك تحرك المحضر للعقاب.

(وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي وثمرهما قريب منهم متى شاءوا ، ونحو الآية قوله : «قُطُوفُها دانِيَةٌ» وقوله : «وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً» فهى لا تمتنع ممن أرادها ، بل تنحط إليه من أغصانها.

ثم ذكر أوصاف النساء اللواتى يمتعون بهنّ فقال :

(فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فى تلك الجنات نساء غضيضات الطرف عن غير أزواجهن ، فلا يرين شيئا فيها أحسن منهم ، وهن أبكار لم يمسسهن أحد قبل أزواجهن لا من الجن ولا من الإنس.

(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي كأنهن الياقوت صفاء وصغار اللؤلؤ بياضا.

أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال فى الآية : فى صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ.

ثم بين السبب فى هذا الجزاء فقال :

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ما جزاء الإحسان فى العمل إلا الإحسان فى المثوبة.

ونحو الآية قوله : «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ».

وعن أنس بن مالك قال : «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم : هل جزاء

١٢٦

الإحسان إلّا الإحسان ، وقال : هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة» أخرجه ابن أبى حاتم وابن مردويه والبيهقي ، وروى عن ابن عباس «هل جزاء من قال : لا إله إلا الله فى الدنيا إلا الجنة فى الآخرة؟».

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨))

تفسير المفردات

ومن دونهما : أي من ورائهما وأقل منهما ، مدهامتان : أي خضراوان بسواد ؛ لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد من كثرة الري بالماء ونحوه ، نضاختان : أي فوارتان بالماء ، والنضخ : فوران الماء ، حور واحدتهن حوراء : أي بيضاء.

قال ابن الأثير : الحوراء هى الشديدة بياض العين والشديدة سوادها ، خيرات : أي

١٢٧

خيّرات بالتشديد فخفف كما جاء فى الحديث «هينون لينون» ، مقصورات فى الخيام : أي مخدّرات ، يقال امرأة قصيرة ومقصورة : أي مخدرة ملازمة بيتها لا تطوف فى الطرق. قال قيس بن الأسلت :

وتكسل عن جاراتها فيزرنها

وتعتلّ من إتيانهن فتعذر

والخيام : واحدها خيمة وهى أربعة أعواد تنصب وتسقف بشىء من نبات الأرض ، وما يتخذ من شعر أو وبر فهو خباء ، والرفرف واحده رفرفة : وهى الوسادة (المخدّة) أو ما تدلّى من الأسرّة من غالى الثياب ، والعبقرىّ : منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه بلد يسكنه الجن ويسندون إليه كل شىء عجيب ، والمراد العجيب النادر الموشى من البسط ، تبارك اسم ربك : أي تقدس وتنزه ربنا الذي أفاض على عباده نعمه.

المعنى الجملي

هذا تتميم لوصف الجنات بما يشوق الراغبين فيها ، ليعملوا ما يوصلهم إليها ، ويرضى ربهم عنهم ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

الإيضاح

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. مُدْهامَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ومن وراء هاتين الجنتين وأقل منهما فضلا جنتان تنبتان النبات والرياحين الخضراء التي تضرب إلى السواد من شدة خضرتها ، لكثرة الري ، وأما الجنتان السابقتان ففيهما أشجار وفواكه ، وفرق ما بين الحالين ، فبأى هذه النعم تكذبان وهى نعم واضحة لا تجحد ولا تنكر.

قال الحسن : الأوليان للسابقين والأخريان للتابعين لهم.

وعن أبى أيوب الأنصاري قال : «سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قوله مدهامتان؟ قال : خضراوان» أخرجه الطبراني وابن مردويه.

١٢٨

(فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) النضح كالرش فهو دون الجري ، ومن ثم قال البراء بن عازب فيما أخرجه عنه ابن المنذر وابن أبى حاتم : «العينان اللتان تجريان خير من النضاختين».

أي فيهما عينان تفوران بالماء. وقال مجاهد : نضاختان بالخير والبركة.

(فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) خص النخل والرمان مع دخولهما فى الفاكهة ، تنبيها إلى ما لهما من ميزة عن غيرهما من الفواكه ، لأنهما يوجدان فى الخريف والشتاء ، ولأنهما فاكهة وإدام ، وقد جاء مثل هذا فى قوله تعالى : «حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى» وقوله : «وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ».

(فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فى تلك الجنات نساء خيّرات الأخلاق ، حسان الوجوه.

روى الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت : «قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم :

يا رسول الله أخبرنى عن قوله تعالى خيرات حسان؟ قال : خيّرات الأخلاق حسان الوجوه».

وقال الرازي : فى باطنهن الخير ، وفى ظاهرهن الحسن. وروى أن الحور يغنّين :

نحن الخيّرات الحسان ، خلقن لأزواج كرام.

(حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي وهؤلاء الخيّرات الحسان واسعات العيون مع صفاء البياض حول السواد ، محبوسات فى الحجال ، فلسن بطوّافات فى الطرقات ، والعرب يمدحون النساء الملازمات للبيوت للدلالة على شدة الصيانة.

(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم الكلام فى نظيره قبل.

(9 ـ مراغى ـ السابع والعشرون)

١٢٩

(مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي وهم يتكئون على ثياب ناعمة وفرش رقيقة النسج من الديباج ، ووسائد عظيمة ، وبسط لها أطراف فاخرة ، غاية فى كمال الصنعة وحسن المنظر.

(تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي تعالى ربك ذو الجلال والعظمة والتكريم على ما أنعم به وتفضل من نعم غوال ، ومنن عظام.

وهذا تعليم منه لعباده بأن كل هذا من رحمته ، فهو قد خلق السماء والأرض والجنة والنار ، وعذّب العاصين ، وأثاب المطيعين ، وآتاهم من فضله ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

سورة الواقعة

هى مكية إلا قوله : «أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» فمدنية ، وآيها ست وتسعون ، نزلت بعد طه.

ووجه مناسبتها ما قبلها :

(١) أن فى كل منهما وصف القيامة والجنة والنار.

(٢) أنه ذكر فى السورة السابقة عذاب المجرمين ونعيم المتقين ، وفاضل بين جنتى بعض المؤمنين وجنتى بعض آخر منهم ، وبين هنا انقسام المكلفين إذ ذاك إلى أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة وسابقين.

(٣) أنه ذكر فى سورة الرحمن انشقاق السماء ، وذكر هنا رجّ الأرض ، فكأنّ السورتين لتلازمهما واتحادهما موضوعا سورة واحدة مع عكس فى الترتيب ، فقد ذكر فى أول هذه ما فى آخر تلك ، وفى آخر هذه ما فى أول تلك.

١٣٠

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢))

تفسير المفردات

وقعت : حدثت ، والواقعة القيامة ، لوقعتها : أي لوقوعها ، كاذبة : أي كذب ، ورجت : زلزلت وحركت تحريكا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبال ، وبست : أي فتتت وصارت كالسويق الملتوت ، من قولهم بس فلان السويق : أي لتّه ، وهباء : أي غبارا ، منبثا : أي متفرقا ، أزواجا : أي أصنافا. قال الراغب : الزوج يكون لكل من القرينين الذكر والأنثى فى الحيوانات المتزاوجة ، ولكل قرينين منها ومن غيرها كالخف والنعل ، ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا اه والميمنة ناحية اليمين ، والمشأمة ناحية الشمال ؛ والعرب يتيمنون بالميامن ويتشاءمون بالشمائل ، والمراد أصحاب المرتبة السنية الرفيعة القدر ، والسابقون : هم الذين سبقوا إلى الخيرات فى الدنيا ، والمقربون : هم أرباب الحظوة والكرامة عند ربهم.

المعنى الجملي

حين تقع الواقعة ويجىء يوم القيامة لا تكذب نفس على الله فتنكره ، إذ تحقق بالمعاينة وشهده كل أحد ، أما فى الدنيا فما أكثر النفوس المكذبة به ، المنكرة له ،

١٣١

لأنهم لم يذوقوا العذاب كما عاينه المعذبون فى الآخرة.

ثم وصف هذه الواقعة بأنها تخفض أقواما وترفع آخرين ، وأن الأرض حينئذ تزلزل فيندك ما عليها من جبال وأبنية ، وأن الجبال تتفتت وتصير كالغبار المنتشر فى الجو ، وأن الناس إذ ذاك ينقسمون أفواجا ثلاثة : أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون.

الإيضاح

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أي إذا قامت القيامة لا يكون لوقعتها ارتداد ولا رجعة كالحملة الصادقة من ذى سطوة قاهر قاله الحسن وقتادة ؛ وقد يكون المعنى ـ ليس فى وقت وقوعها كذب ، لأنه حق لا شبهة فيه.

ثم هوّل شأنها وعظم أمرها فقال :

(خافِضَةٌ رافِعَةٌ) أي هى خافضة لأقوام ورافعة لآخرين قاله ابن عباس ، إذ الوقائع العظيمة شأنها الخفض والرفع كما يشاهد فى تبدل الدول من ذل الأعزة وعزّ الأذلة.

وفى هذا إيماء إلى ما يكون يومئذ من حط الأشقياء إلى الدركات ، ورفع السعداء إلى درجات الجنات ، ومن ثم قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : خفضت أعداء الله إلى النار ، ورفعت أولياءه إلى الحنة.

(إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي إذا وقعت الواقعة تزلزل الأرض زلزالا وتضطرب اضطرابا شديدا طولا وعرضا ، فتندكّ الحصون والجبال ، وتهدم البيوت والصياصي. قال الربيع بن أنس : ترجّ بما فيها كرجّ الغربال بما فيه.

ونحو الآية قوله تعالى : «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها» وقوله : «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ».

١٣٢

(وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي وتفتت الجبال تفتتا ، وصارت كثيبا مهيلا بعد أن كانت شامخة.

(فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) أي فصارت كالهباء المنبث الذي ذرته الريح وفرقته. وقال قتادة : صارت كيبيس الشجر الذي تذروه الرياح.

والخلاصة ـ إن الجبال تزول عن أماكنها حينئذ ، وتنسف نسفا ، وتكون كالعهن المنفوش.

(وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) أي وصرتم أصنافا ثلاثة ، وكل صنف يذكر أو يوجد مع صنف آخر يسمى زوجا كالعينين والرجلين ، فكل منهما يسمى زوجا ، وهما معا زوجان ، فهاهنا أزواج ثلاثة لا زوجان.

ثم فصل هذه الأزواج فقال :

(فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي فأصحاب الميمنة الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم ، أىّ شىء هم فى حالهم وصفتهم وسعادتهم؟ والمراد أنهم فى حال هى الغاية فى الحسن والكمال.

ولا يخفى ما فى هذا من تفخيم شأنهم ، وتعظيم أمرهم ، وأنهم بلغوا حدا لا يقدر قدره من السعادة.

(وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) أي وأصحاب المشأمة الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ، أي شىء هم فى حالهم؟ والمراد أنهم بلغوا الغاية فى سوء الحال.

وقال المبرد : أصحاب الميمنة أصحاب التقدم ، وأصحاب المشأمة أصحاب التأخر ، والعرب تقول اجعلنى فى يمينك ، ولا تجعلنى فى شمالك ، أي اجعلنى من المتقدمين ولا تجعلنى من المتأخرين اه.

أخرج أحمد عن معاذ بن جبل «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية ثم قبض بيديه قبضتين وقال هذه فى الجنة ولا أبالى وهذه فى النار ولا أبالى».

١٣٣

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) أي والسابقون الذين يتقدمون غيرهم إلى الطاعات ـ هم الذين اشتهرت أحوالهم ، وعرفت فخامة أمورهم ، وقد يكون المعنى والسابقون إلى طاعة الله تعالى هم السابقون إلى رحمته سبحانه ، فمن سبق فى هذه الدنيا إلى فعل الخير كان فى الآخرة من السابقين إلى دار الكرامة ، فالجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان.

وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : «أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» أخرجه أحمد.

(أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي أولئك المتصفون بذلك الوصف الجليل (السبق) هم الذين نالوا حظوة عند ربهم ، وهم فى جنات النعيم ، يتمتعون فيها بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦))

١٣٤

تفسير المفردات

الثلة : الجماعة قلّت أو كثرت ، وقيل الجماعة الكثيرة من الناس كما قال :

وجاءت إليهم ثلّة خندفيّة

بجيش كتيّار من السيل مزبد

موضونة من الوضن وهو : النسج ، والولدان : واحدهم ولد ، مخلدون : أي مبقون أبدا على هذه الصفة ، أكواب : أي آنية لا عرا لها ولا خراطيم ، أباريق : واحدها إبريق وهو إناء له خرطوم. قال عدىّ بن الرّقاع :

ودعوا بالصّبوح يوما فجاءت

به قينة فى يمينها إبريق

كأس من معين : أي خمر جارية من العيون كما قال ابن عباس وقتادة ، والمراد أنها لم تعصر كخمر الدنيا ، لا يصدّعون عنها ، أي لا يلحقهم صداع بسببها كما يحدث ذلك فى خمر الدنيا ، ولا ينزفون : أي ولا تذهب عقولهم بالسكر منها ، يقال نزف الشارب إذا ذهب عقله ، ويقال للسكران نزيف ومنزوف ، يتخيرون : أي يختارون ويرضون ، حور : واحدتهن حوراء : أي بيضاء ، عين : واحدتهن عيناء : أي واسعة العينين ، المكنون : المصون الذي لم تمسسه الأيدى وهو أصفى وأبعد من التغير قال :

قامت تراءى بين سجفى كلّة

كالشمس يوم طلوعها بالأسعد

أو درّة صدفيّة غوّاصها

بهج متى يرها يهلّ ويسجد

لغوا : أي هزاء لا خير فيه ، ولا تأثيما : أي ما يقال حين سماعه وقعتم فى الإثم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن الناس يوم القيامة أصناف ثلاثة : سابقون وأصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة ـ أعقب ذلك بذكر ما يتمتع به السابقون من النعيم فى فرشهم وطعامهم وشرابهم ونسائهم وأحاديثهم التي تدل على صفاء النفس ، وأدب الخلق ، وسمو العقل.

١٣٥

الإيضاح

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي هم جماعة كثيرة من سالفى الأمم وقليل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويستأنس لهذا بقوله صلّى الله عليه وسلّم : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة».

(عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) أي على سرر منسوجة بالذهب مشبكة بالدر والياقوت ، قال الأعشى فى وصف الدرع :

ومن نسج داود موضونة

تسير مع الحىّ عيرا فعيرا

(مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) أي متكئين على السرر ينظر بعضهم إلى وجوه بعض ، فهم فى صفاء وعيش رغد وحسن معاشرة ، لا يوجد فى نفوسهم من الشحناء والبغضاء ما يوجب الافتراق.

ثم ذكر ما هم فيه من ترف ونعيم ، وأنهم مخدومون فى شرابهم وطعامهم ، مكفيون مئونة ما يريدون فقال :

(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي يطوف عليهم غلمان وخدم على صفة واحدة لا يكبرون ولا يتغيرون ، فهم دائما على الصفة التي تسر المخدوم إذا رأى الخادم.

(بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) أي يطوفون عليهم بأداة الشراب كاملة من أكواب وأباريق وخمر تجرى من العيون ولا تعصر عصرا فهى صافية نقية لا تنقطع أبدا ، وهم يطلبون منها ما يريدون ، ولا صداع فى شرابها ، ولا ذهاب منها للعقل كما فى خمور الدنيا.

روى عن ابن عباس أن فى خمر الدنيا أربع خصال : السكر والصداع والقيء والبول ، نزه الله خمر الجنة عنها».

وبعد أن وصف الشراب وصف الطعام فقال :

(وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي ويطوفون بألوان من الفاكهة

١٣٦

المختلفة المطاعم ، يختارون منها ما تميل إليه نفوسهم ، وبأنواع من لحوم الطير مما لذّ وطاب ، فيأخذون منها ما يشتهون ، وفيه يرغبون.

وبعد أن ذكر طعامهم وشرابهم أعقبه بذكر نسائهم فقال :

(وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي ويتمتعون بنساء بيض مشرقات الوجوه تبدو عليهم نضرة النعيم ، وكأنهن اللآلئ صفاء وبهجة.

ثم ذكر السبب فى متعتهم بكل هذا النعيم فقال :

(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي جازاهم ربهم على ما عملوا ، وأثابهم بما كسبوا فى الدنيا ، وزكّوا به أنفسهم من صالح الأعمال ، ونصبوا له بأداء فروض دينهم على أتم الوجوه وأكملها ، فهم كانوا قوّامين لليل ، صوّامين للنهار «كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» وبعد أن وصف النساء وصف حديثهم حينئذ فقال :

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) أي لا يسمعون اللغو الهراء من الحديث ، ولا هجر القول وما تتقزز منه النفوس الراقية ، ذات الأخلاق العالية ، ولكن يسمعون أطيب السلام ، وسامى الكلام ، مما يستساغ كما قال سبحانه : «تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ».

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا

١٣٧

أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠))

تفسير المفردات

السدر : شجر النبق ، مخضود : أي خضد شوكه أي قطع ، والطلح : شجر الموز ، منضود : أي نضد حمله من أسفله إلى أعلاه فليست له سوق بارزة ، ممدود : أي منبسط ممتد لا يتقلص ولا يتفاوت ، مسكوب : أي مصبوب يسكب لهم كما يشاءون بلا نصب ولا تعب ، فرش : واحدها فراش كسرج وسراج ، مرفوعة : أي عالية منضدة ، عربا : واحدتهنّ عروب كصبر وصبور ، أترابا : أي متساويات فى السن واحدتهن ترب.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر حال السابقين وبين مالهم من نعيم مقيم ، فى جنات النعيم ـ أردف ذلك ذكر حال أصحاب اليمين ، فبين أنهم فى جنات يتخللها السدر المخضود ، والموز المنضّد بعضه فوق بعض ، والفاكهة الكثيرة التي لا تنقطع أبدا ، ولا تمتنع عنهم متى شاءوا ، وفيها فرش وثيرة مرتفعة عالية ، ونساء حسان أبكار فى سن واحدة.

الإيضاح

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) أي وأصحاب اليمين هم الغاية فى فخامة شأنهم ، ورفعة قدرهم ، وعلوّ منزلتهم.

وقد جاء هذا الأسلوب فى كلام العرب لإفادة المبالغة فى مدح أو ذم فيقولون فلان ما فلان.

١٣٨

ثم فصل ما أبهم من حالهم بقوله :

(فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. وَماءٍ مَسْكُوبٍ. وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) أي هم يتمتعون بجنات فيها السدر الذي قطع شوكه لا كسدر البرية فى الدنيا ، وفيها الموز الذي ملىء ثمرا ، فلا تظهر له سيقان ، وفيها ظل ظليل يقيهم شديد الحر ووهج الشمس ، وفيها ماء مصبوب لا يحتاج أهلها إلى تعب ونصب للحصول عليه ، وفيها ضروب من الفاكهة التي لا تنقطع أبدا ، ولا تمتنع عنهم فى وقت ، فهم يجدونها متى شاءوا وأحبوا.

ثم ذكر ما يمتعون به من الفرش فقال :

(وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) أي وهم يجلسون على فرش وثيرة عالية وطيئة لا تتعب الجالس عليها.

وبعدئذ ذكر ما يمتعون به من النساء فقال :

(إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً. فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. عُرُباً أَتْراباً. لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) أي إنا أعددناهن نساء أبكارا متحببات إلى أزواجهن ، إذ هنّ يحسنّ التبعّل ، كلهن فى سن واحدة ، لا تمتاز واحدة عن أخرى ، وأعطيناهن لأصحاب اليمين.

وأعاد ذكر (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) للتأكيد والتحقيق.

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي أصحاب اليمين جماعة من مؤمنى الأمم السالفة ، وجماعة من مؤمنى أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وإنما لم يقل فى حق هؤلاء جزاء بما كانوا يعملون كما قال ذلك فى حق السابقين إشارة إلى أن عملهم لقصوره عن عمل السابقين لم يعتبر اعتباره.

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ

١٣٩

مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦))

تفسير المفردات

السموم : حر نار ينفذ فى المسامّ ، والحميم : الماء الشديد الحرارة ، واليحموم :

دخان أسود كما قال ابن عباس وابن زيد ، لا بارد ولا كريم : أي لا هو بارد كسائر الظلال ، ولا دافع أذى الحر لمن يأوى إليه ، مترفين : أي منعمين مقبلين على لذات أنفسهم لا يلوون على شىء مما جاء به الرسل ، يصرون : أي يقيمون ولا يقلعون ، والحنث العظيم : أي الذنب العظيم وهو الشرك بالله وجعل الأوثان والأنداد أربابا من دون الله ، والميقات : ما وقت به الشيء والمراد به يوم القيامة ، وسمى به لأنه وقتت به الدنيا ، وشجر الزقوم : شجر ينبت فى أصل الجحيم ، والهيم : واحدها أهيم وهو الجمل الذي يصيبه الهيام (بالضم) وهو داء يشبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب حتى تموت أو تسقم سقما شديدا ، والنزل : ما يقدم للضيف إذا نزل تكرمة له ، ويوم الدين : يوم الجزاء.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر زوجين من الأزواج الثلاثة ، وبين ما يلقاه كل منهم من عز مقيم ، وشرف عظيم ، فى جنات ونعيم ، فى جملة شئونهم ، فى مآكلهم ومشاربهم وفرشهم

١٤٠