تفسير المراغي - ج ٢٤

أحمد مصطفى المراغي

ثم ذكر أنه ما كفاهم قتل البنين واستحياء البنات من بنى إسرائيل بل أرادوا أن يجتثوا هذه الشجرة من أصلها ، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله :

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) أي وقال فرعون لملئه : دعونى أقتل موسى وليدع ربه الذي أرسله إلينا ليمنعه منا ، وكان إذا همّ بقتله كفوه وقالوا له : ليس هذا بالذي يخاف منه وهو أضعف من ذلك شأنا ، وما هو إلا ساحر يصاوله ساحر مثله ، وإنك إن قتلته أدخلت الشبهة في نفوس القوم واعتقدوا أنك عجزت عن مقابلة الحجة بالحجة ، وما يزالون به هكذا يحاورونه ويداورونه حتى يكف عن قتله.

وربما يكون قد قال ذلك تمويها على قومه وإيهاما أن حاشيته هم الذين يكفونه عن قتله ، وما يكفه عن ذلك إلا ما في نفسه من هول الفزع الذي استحوذ عليه ، كما يرشد إلى ذلك قوله «وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» فإن ظاهره الاستهانة به بدعائه ربه سبحانه ؛ كما يقال : ادع ناصرك فإنى منتقم منك ، وباطنه أن فرائصه كانت ترتعد من دعائه ربه ، فلهذا تكلم بما تكلم به مظهرا أنه لا يبالى بدعائه ربه ، كما يقول القائل ذرونى أفعل كذا وما كان فليكن.

ثم ذكر السبب في قتله فقال :

(إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) أي إنى أخاف أن يفسد موسى عليكم أمر دينكم الذي أنتم عليه من عبادة غير الله ويدخلكم في دينه الذي هو عبادة الله وحده ، أو يوقع بين الناس الخلاف والفتنة ، إذ يجتمع إليه الهمل الشّرّد ويكثرون من الخصومات والمنازعات وإثارة القلاقل والاضطرابات ، فتتعطل المزارع والمتاجر وتعدم المكاسب.

والخلاصة ـ إنه يقول : إنى أخاف أن يفسد عليكم أمر دينكم بالتبديل ، أو يفسد عليكم أمر دنياكم بالتعطيل ، وهما أمران أحلاهما مرّ.

٦١

وقد جعل ظهور ما دعا إليه موسى وانتشاره في الأرض واهتداء الناس به فسادا ، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو ومن تابعه.

ولما هدد فرعون موسى بالقتل استعاذ بالله من كل متعظم عن الإيمان به لا يؤمن بالبعث والنشور ، فصانه من كل بليّة ، وإلى ذلك أشار بقوله :

(وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) أي إنى استجرت بالله ربى وربكم ، واستعنت به من شر كل مستكبر لا يذعن للحق ، ولا يؤمن بيوم يحاسب الله فيه الخلائق ، فيجازى المحسن بإحسانه ، والمسيء بما أساء ، وإنما خص الاستعاذة بمن جمع بين الاستكبار والتكذيب بالجزاء ، لأنهما عنوان قلة المبالاة بالعواقب ، وعنوان الجرأة على الله وعلى عباده ، فمن لم يؤمن بيوم الحساب لم يكن للثواب على الإحسان راجيا ، ولا من العقاب على الإساءة وقبيح ما يأتى من الأفعال خائفا.

وفي قوله (بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) حثّ لهم على موافقته في العياذ به سبحانه ، والتوجه إليه جل شأنه بالأرواح ، فالأرواح الطاهرة إذا تظاهرت كان ذلك أدنى إلى الإجابة ، وأقرب إلى تحقق الغرض ، ومن ثم شرعت صلاة الجماعة ، وإنما قال (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ) ولم يقل «منه» سلوكا لطريق التعريض ، وتحاشيا مما قد يعرض له من الأذى إذا هو سمع كلامه فهو واف بالغرض ومبين للعلة التي لأجلها أبى واستكبر.

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ

٦٢

ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩))

تفسير المفردات

الرجل المؤمن : هو ابن عم فرعون وولىّ عهده وصاحب شرطته وهو الذي نجامع موسى وهو المراد بقوله : «وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى» ، والبينات : هى الشواهد الدالة على صدقه ، والمسرف : المقيم على المعاصي المستكثر منها ، والكذاب : المفترى ، ظاهرين : أي غالبين عالين على بنى إسرائيل ، ما أريكم إلا ما أرى : أي ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب.

المعنى الجملي

بعد أن حكى عن موسى أنه مازاد حين سمع مقالة فرعون الداعية إلى قتله ، على أن استعاذ بالله من شره ـ أردف ذلك بيان أن الله قيّض له من يدافع عنه من آل فرعون أنفسهم ويذبّ عنه على أكمل الوجوه وأحسنها ، ويبالغ في تسكين تلك الفتنة ، ويجتهد فى إزالة ذلك الشر.

الإيضاح

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ ، أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟) أي وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه منهم خوفا على نفسه : أينبغى لكم أن تقتلوا رجلا ما زاد على أن قال : ربى الله وقد جاءكم بشواهد دالة على صدقه؟ ومثل هذه المقالة لا تستدعى قتلا ولا تستحق عقوبة فاستمع فرعون لكلامه ، وأصغى لمقاله وتوقف عن قتله ، قال ابن عباس : لم يكن في آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي قال : «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ».

٦٣

وخلاصة ذلك ـ أترتكبون هذه الفعلة الشنعاء ، وهى قتل النفس المحرمة من غير روية ولا تأمل ولا اطلاع على سبب يوجب قتله؟ وما لكم علة في ارتكابها إلا كلمة الحق ، وهى قوله : ربى الله.

أخرج البخاري وغيره من طريق عروة بن الزبير قال : قيل لعبد الله بن عمرو ابن العاص : أخبرنا بأشد شىء صنعه المشركون برسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلّى بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبى معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي صلّى الله عليه وسلم ثم قال : «أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟».

وأخرج البزار وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن علىّ بن أبى طالب أنه قال : «أيها الناس أخبرونى من أشجع الناس؟ قالوا أنت ، قال أما إنى ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه ، ولكن أخبرونى عن أشجع الناس؟ قالوا لا نعلم ، فمن؟ قال أبو بكر : رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخذته قريش فهذا يجؤه ، وهذا يتلتله ، وهم يقولون : أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا ، قال : فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ، ويجأ هذا ويتلتل هذا ، وهو يقول : ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله؟ ثم رفع بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته ، ثم قال : أنشدكم : أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم ، فقال : ألا تجيبون؟ فو الله لساعة من أبى بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون ، ذاك رجل يكتم إيمانه ، فأثنى الله عليه في كتابه ، وهذا رجل أعلن إيمانه وبذل ماله ودمه».

ثم ذكر من الحجج ما يؤيد به رأيه فقال :

(١) (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) أي إن كان كاذبا في قيله إن الله أرسله إليكم ليأمركم بعبادته وترك دينكم الذي أنتم عليه ،

٦٤

فإنما إثم كذبه عليه دونكم ، وإن يك صادقا في قيله ذلك أصابكم الذي أوعدكم به من العقوبة على مقامكم على الدين الذي أنتم عليه مقيمون ، فلا حاجة بكم إلى قتله فتسخطوا ربكم سخطين : سخطا على الكفر ، وسخطا على قتل رسوله.

وفي قوله : بعض الذي يعدكم ـ مبالغة في التحذير ، فإنه إذا حذرهم من بعض العذاب أفاد أنه مهلك مخوف فما بال كله؟ إلى ما فيه من الإنصاف وإظهار عدم التعصب.

(٢) (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) أي إنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله ، ولما عاضده بتلك المعجزات ، إلى أنه لو كان كذلك لخذله وأهلكه ، فلا حاجة لكم إلى قتله.

وفي هذا تعريض بفرعون بانه مسرف في القتل والفساد ، كذاب في ادعاء الربوبية ، لا يهديه الله إلى سبيل الرشاد ، ولا يلهمه طريق الخير والفلاح.

(٣) (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا؟) أي يا قوم قد علوتم الناس وقهرتموهم ، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ، ولا تتعرضوا لبأس الله وعذابه بقتله ، فإنه لا قبل لكم به ، وإن جاءنا لم يمنعه عنا أحد.

وفي قوله : ينصرنا وجاءنا ، تطييب لقلوبهم ، وإيذان بأنه ناصح لهم ، ساع فى تحصيل ما يجديهم ، ودفع ما يرديهم ، سعيه في حق نفسه ، ليتأثروا بنصحه.

ولما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة والرعاية بمكان مكين ، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكا يكون فيه جلب النفع لهم ودفع الضر عنهم كما حكى سبحانه عنه بقوله :

(قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) أي قال فرعون مجيبا هذا المؤمن الناهي عن قتل موسى : لا أشير عليكم برأى سوى ما ذكرته من وجوب قتله حسما للفتنة ، وإنى لأرى أن هذا هو سبيل الرشاد والصلاح ، ولا أعدّ غير هذا صوابا.

٦٥

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥))

تفسير المفردات

الأحزاب : أي الأقوام الذين تحزبوا على أنبيائهم وكذبوهم ، والدأب : العادة ، يوم التناد : يوم القيامة ، سمى بذلك لأن الناس ينادى فيه بعضهم بعضا للاستغاثة.

قال أمية بن أبى الصّلت :

وبثّ الخلق فيها إذ دحاها

فهم سكانها حتى التّناد

عاصم : أي مانع ، مرتاب : أي شاك في دينه ، ويوسف : هو يوسف بن يعقوب عليه السلام ، وروى عن ابن عباس أنه يوسف بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب ، أقام فيهم نبيا عشرين سنة ، والسلطان : الحجة ، والمقت : أشد الغضب.

٦٦

المعنى الجملي

بعد أن سمع ذلك المؤمن رأى فرعون في موسى وتصميمه على قتله ، وإقامة البراهين على صحة رأيه ، وأنه لا سبيل إلى العدول عن ذلك ـ أعاد النصح مرة أخرى لقومه ، لعلهم يرعوون عن غيهم ويثوبون إلى رشدهم ، فذكّرهم بأس الله وسنته في المكذبين للرسل ، وضرب لهم الأمثال بما حل بالأحزاب من قبلهم كقوم نوح وعاد وثمود ، ثم ذكّرهم بأهوال يوم القيامة ، يوم لا عاصم من عذاب الله ، ثم أعقب ذلك بتذكيرهم بما فعل آباؤهم الأولون مع يوسف من قبل من تكذيبهم برسالته ورسالة من بعده ، فأحل الله بهم من البأس ما صاروا به مثلا في الآخرين ، وكأنّ لسان حاله يقول : هأنذا قد أسمعت ، ونصحت فما قصرت ، والأمر إليكم فيما تفعلون.

الإيضاح

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي وقال ناصحا قومه : يا قوم إنى أخاف عليكم إن كذبتم موسى وتعرضتم له بسوء أن يحل بكم مثل ما حل بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية وكذبوهم كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم ، فقد نزل بهم من بأس الله وعذابه ما لم يجدوا له واقيا ولا عاصما ، وهذه سنة الله في المكذبين جميعا ، فحذار حذار أيها القوم ، إنى لكم ناصح أمين ، وما أهلكهم إلا بسوء أفعالهم وعظيم ما اجترحوا من الآثام والمعاصي وما ظلمهم الله ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. وإلى هذا أشار بقوله :

(وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) أي وما أهلك الله هذه الأمم ظلما لهم بغير جرم اجترموه ، بل أهلكهم بإجرامهم وكفرهم ، وتكذيبهم رسله ، بعد أن جاءوهم بالبينات ، فأنفذ فيهم قدره ، وأحل بهم وعيده.

٦٧

وبعد أن خوفهم العذاب الدنيوي خوفهم العذاب الأخروى فقال :

(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي إنى أخاف عليكم عذاب يوم القيامة حين ينادى بعضكم بعضا ، ليستغيث به من شدة الهول ، أو حين ينادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم ، وينادى «أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قالُوا نَعَمْ» وينادى «أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ».

يوم تولون مدبرين هربا من زفير النار وشهيقها ، فلا يجديكم ذلك شيئا ، ولا تجدون من يعصمكم من العذاب ، فتردّون إليه وينالكم منه ما قدّر لكم وكتب عليكم.

ثم نبه إلى شدة ضلالتهم وعظيم جهالتهم فقال :

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يخذله الله ولا يلهمه رشده فما له هاد يهديه إلى طريق النجاة ويوفقه إلى الخلاص.

وفي هذا إيماء إلى أنه يئس من قبولهم نصحه.

ثم وبخهم بأنهم ورثوا التكذيب بالرسل من آبائهم الأولين ، وأسلافهم الغابرين فقال :

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) أي ولقد جاء آباءكم يوسف من قبل موسى بالآيات الواضحات ، والمعجزات الباهرات ، فلم يزالوا في ريب من أمره ، وشك من صدقه ، فلم يؤمنوا به ، حتى إذا مات قالوا : لن يبعث الله رسولا من بعده يدعو إليه ويحذّر بأسه ، ويخوّف من عقابه ، فالتكذيب متوارث ، والعناد قديم ، والريب دأب آبائكم الغابرين ، وقد نسب تكذيب الآباء إليهم ، لما تقدم من أن الأمم متكافلة فيما بينها ، فينسب ما حدث من بعضها إلى جميعها ، إذا تواطئوا واتفقوا عليه كما جاء في قصص

٦٨

ثمود حين كذّب قدار فعقر الناقة فنسب التكذيب إلى ثمود جميعها كما قال : «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها. إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها. فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها. فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها. فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها. وَلا يَخافُ عُقْباها».

والخلاصة ـ إنهم كفروا بيوسف في حياته ، وكفروا بمن بعده من الرسل بعد موته ، وظنوا أن ذلك لا يجدد عليهم الحجة.

وقد قالوا هذه المقالة على سبيل التشهي والتمني من غير حجة ولا برهان ، ليكون لهم أساس في تكذيب من بعده ، وليس إقرارا منهم برسالته ، بل هو ضم إلى الشك فى رسالته التكذيب برسالة من بعده.

ثم بين أنه لا عجب في تكذيبهم فقد طمس الله بصائرهم ، وران على قلوبهم ، حين دسّوا أنفسهم بقبيح الخصال وعظيم الآثام.

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) أي مثل هذا الضلال الواضح ، يضل الله ويصد عن سبيل الحق ، وقصد السبيل من هو مسرف في معاصيه مستكثر منها ، شاك في وحدانيته ووعده ووعيده ، لغلبة الوهم عليه ، وانهما كه في التقليد.

ثم بين هؤلاء المسرفين المرتابين فقال :

(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) أي إن المسرفين المرتابين هم الدين يخاصمون في حجج الله التي أتتهم بها رسله ليدحضوها بالباطل من الحجج التي لا مستساغ لها من عقل ولا نقل ، فيتمسكون بتقليد الآباء والأجداد ، ويتمسكون بترّهات الأباطيل التي لا يتقبلها ذوو الحصافة والرأى.

ثم أكد ما سلف وقرره وتعجب من حالهم فقال :

(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي كبر ذلك الجدل بغضا لدى الله والمؤمنين ، فمقت الله إياهم يكون بما يستتبعه من سوء العذاب ، ومقت المؤمنين تظهر آثاره في هجرهم إياهم ، والاحتراس من التعامل معهم ، وعدم الركون إليهم في الدين والدنيا.

٦٩

ثم بين أن هذه سنة الله فيهم وفي أمثالهم فقال :

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) أي كما طبع الله على قلوب المسرفين الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم ، يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين الذين أبوا أن يوحدوا الله ويصدقوا رسله ، واستعظموا عن اتباع الحق ، فيصدر عنهم أمثال ما ذكر من الإسراف والارتياب والجدل بغير الحق.

ونسب التكبر إلى القلب ، لأنه هو الذي يتكبر وسائر الأعضاء تبع له ، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلم «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهى القلب».

قال قتادة : آية الجبابرة القتل بغير حق.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧))

تفسير المفردات

هامان : وزير فرعون ، الصرح : القصر الشامخ المنيف ، الأسباب : واحدها سبب ، وهو ما يتوصل به إلى شىء من حبل وسلم وطريق ، والمراد هنا الأبواب.

قال زهير بن أبى سلمى :

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

ولو رام أسباب السماء بسلم

٧٠

والتباب : الخسران والهلاك ، ومنه قوله تعالى : «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ» وقوله سبحانه : «وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ».

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف تكبر فرعون وجبروته ـ أبان هنا أنه بلغ من عتوّه وتمرده وافترائه في تكذيب موسى أن أمر وزيره هامان أن يبنى له قصرا شامخا من الآجرّ ليصعد به إلى السماء ، ليطلع إلى إله موسى ، ومقصده من ذلك الاستهزاء به ونفى رسالته ، وأكد ذلك بالتصريح بقوله : «وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً» ثم أرشد إلى أن هذا وأمثاله صنيع المكذبين الضالين ، وأن عاقبة تكذيبهم الهلاك والخسران.

الإيضاح

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) أي وقال فرعون بعد سماعه عظة المؤمن وتحذيره له من بأس الله إذا كذب بموسى وقتله : يا هامان ابن لى قصرا منيفا عالى الذّرا رفيع العماد ، علّنى أبلغ أبواب السماء وطرقها ، حتى إذا وصلت إليها رأيت إله موسى ، ولا يريد بذلك إلا الاستهزاء والتهكم ، وتكذيب دعوى الرسالة من رب السموات والأرض.

والخلاصة ـ إن هذا نفى لرسالته من عند ربه.

ثم أكد هذا النفي الضمنى بالتصريح به بقوله :

(وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) أي وإنى لأظنه كاذبا فيما يقول ويدّعى من أن له في السماء ربّا أرسله إلينا ، وقد قال هذا تمويها وتلبيسا على قومه ، توصلا بذلك إلى بقائهم على الكفر ، وإلا فهو يعلم أن الإله ليس في جهة العلو فحسب ، وكأنه يقول : لو كان إله

٧١

موسى موجودا لكان له محل ، ومحله إما الأرض وإما السماء ، ولم نره في الأرض ، فإذا هو في السماء ، والسماء لا يتوصل إليها إلا بسلم ، فيجب أن نبنى الصرح لنصل إليه.

ثم بين السبب الذي دعاه إلى ما صنع فقال :

(وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) أي وهكذا زين الشيطان لفرعون هذا العمل السيّء ، فانهمك في غيّه ، واستمر في طغيانه ، ولم يرعو بحال ، وصدّ عن سبيل الرشاد بأمثال هذه التمويهات والشبهات ، وما كان ذلك إلا لسوء استعداده وتدسيته نفسه والسير بها قدما في شهواتها دون أن يكون لها وازع يصدها عن غيها ، ويثوب بها إلى رشدها.

والنفس كالطفل إن تهمله شب على

حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

ثم ذكر عاقبة مكره وتدليسه وأنه ذاهب سدى وأن الله ناصر أولياءه ، ومهلك أعداءه و «مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» وإلى هذا أشار بقوله :

(وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) أي وما احتياله الذي يحتال به ليطّلع على إله موسى إلا في خسار وذهاب مال ، لأنها نفقة تذهب باطلا سدى دون أن يصل إلى شىء مما أراده من القضاء على دعوة موسى ، فالنصر في العاقبة له «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي

٧٢

لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦))

تفسير المفردات

الرشاد : ضد الغى والضلال ، متاع : أي يستمتع به أياما قليلة ثم ينقطع ويزول ، دار القرار : أي دار البقاء والدوام ، إلى النجاة : أي إلى الإيمان بالله الذي ثمرته وعاقبته النجاة ، إلى النار : أي إلى اتخاذ الأنداد والأوثان الذي عاقبته النار ، ما ليس لى به علم : أي ما لا وجود له ولم يقم عليه دليل ولا برهان ، لا جرم : أي حقّا ، دعوة : أي استجابة دعوة لمن يدعو إليه ، مردّنا : أي مرجعنا ، وأن المسرفين ، أي الذين يغلب شرهم على خيرهم ، فستذكرون : أي فسيذكر بعضكم بعضا حين معاينة العذاب ، وقاه : حفظه ، يعرضون عليها : أي تعرض أرواحهم عليها.

المعنى الجملي

اعلم أن هذا المؤمن لما رأى تمادى قومه في تمردهم وطغيانهم أعاد إليهم النصح مرة أخرى ، فدعاهم أولا إلى قبول هذا الدين الذي هو سبيل الخير والرشاد ، ثم بين

٧٣

لهم حقارة الدنيا وعظم شأن الآخرة ، وأنها هى الدار التي لا زوال لها ، ثم ذكر أنه يدعوهم إلى الإيمان بالله الذي يوجب النجاة والدخول في الجنات ، وهم يدعونه إلى الكفر الذي يوجب الدخول في النار ، ثم أردف هذا بيان أن الأصنام لا تستجاب لها دعوة ، فلا فائدة في عبادتها ، ومردّ الناس جميعا إلى الله العليم بكل الأشياء ، وهو الذي يجازى كل نفس بما كسبت ، وأن المسرفين في المعاصي هم أصحاب النار ؛ ثم ختم نصحه بتحذيرهم من بأس الله وتفويض أمره إلى الله الذي يدفع عنه كل سوء يراد به ؛ ثم أخبر سبحانه بأنه استجاب دعاءه فوقاه السوء الذي دبروه له وحفظه مما أرادوه من اغتياله ، وأحاط بآل فرعون سوء العذاب فغرقوا في البحر ، ويوم القيامة يكون لهم أشد العذاب في النار.

الإيضاح

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) أي يا قوم إن اتبعتمونى فقبلتم منى ما أقول لكم سلكتم الطريق الذي به ترشدون باتباعكم دين الله الذي ابتعث به موسى.

ثم زهدهم في الدنيا التي قد آثروها على الآخرة ، فصدوا عن التصديق برسول الله فقال :

(يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) أي يا قوم ما هذا النعيم الذي عجّل لكم في هذه الحياة الدنيا إلا قليل المدى تستمعون به إلى أجل أنتم بالغوه ثم تموتون ، وإن الآخرة هى دار الاستقرار التي لا زوال لها ، ولا انتقال منها ، ولا ظعن عنها إلى غيرها ، وفيها إما نعيم مقيم ، وإما عذاب أليم.

ثم بين كيف تحصل المجازاة في الآخرة وأشار إلى أن جانب الرحمة فيها غالب على جانب العقاب فقال :

(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ

٧٤

فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) أي من عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي كائنة ما كانت ، فلا يعذب إلا بقدرها من غير مضاعفة للعقاب ، ومن عمل بطاعة الله وائتمر بأمره ، وانتهى عما نهى عنه ، ذكرا كان أو أنثى وهو مؤمن بربه مصدق بأنبيائه ورسله ، فأولئك يدخلون الجنة ويمتعون بنعيمها بلا تقدير ولا موازنة للعمل بل يجازون أضعافا مضاعفة بلا انقضاء ولا نفاد.

ثم كرّر ذلك المؤمن دعاءهم إلى الله وصرح بإيمانه ولم يسلك المسالك المتقدمة من إيهامه لهم أنه منهم وأنه إنما تصدى لتذكيرهم كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى كما يقول الرجل المحب لقومه تحذيرا لهم من الوقوع فيما يخاف عليهم من مواضع الهلكة فقال :

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ؟) أي أخبرونى كيف أنتم وما حالكم ، أدعوكم إلى النجاة من عذاب الله بإيمانكم بالله وإجابة رسوله وتصديق ما جاء به من عند ربه ، وتدعوننى إلى عمل أهل النار بما تريدون منى من الشرك؟.

ثم فسر الدعوتين بقوله :

(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) أي تدعوننى إلى الكفر بالله والإشراك به في عبادته ما لم يقم دليل على ألوهيته ، وأنا أدعوكم إلى من استجمع صفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة والعلم والإرادة والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران.

ثم أكد ما سلف بقوله :

(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) أي حقا إن ما تدعوننى إليه من الأصنام لا يجيب دعوة من يدعوه ، فهو لا ينفع ولا يضر في الدنيا ولا في الآخرة.

ونحو الآية : «إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ» وقوله :

٧٥

«وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ».

(وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) أي وأن منقلبنا بعد الموت والبعث إلى الله ، وحينئذ يجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر.

(وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي وأن المشركين بالله المتعدّين حدوده هم أهل الجحيم خالدين فيها أبدا قاله قتادة وابن سيرين ، وقال ابن مسعود ومجاهد والشعبي : هم السفهاء السفاكون للدماء بغير حقها الذين ركبوا أهواءهم ودسّوا أنفسهم بصنوف المعاصي.

ثم ختم نصحه بكلمة فيها تحذير ووعيد لهم ، ليتفكروا في عاقبة أمرهم لعلهم يرعوون عن غيهم فقال :

(فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) أي فستعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه وتتذكرونه فتندمون حيث لا ينفع الندم ، وإنى قد بالغت في نصحكم وتذكيركم بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد.

ثم ابتدأ كلاما آخر يبين به اطمئنانه إلى ما يجرى به القدر ويخبئه له الغيب كما هو دأب المؤمنين الصادقين فقال :

(وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) أي وأتوكل على ربى وأفوض إليه أمرى وأستعين به ليعصمنى من كل سوء. قيل إنه قال ذلك لما أرادوا قتله والإيقاع به. وقال مقاتل : هرب هذا المؤمن إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه.

ثم ذكر ما هو كالعلة لذلك فقال :

(إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي إنه خبير بهم فيهدى من يستحق الهداية ، ويضل من يستحق الإضلال لسوء استعداده وتدسيته نفسه ، وله الحجة الدامغة ، والحكمة البالغة ، والقدرة النافذة.

٧٦

ثم أخبر سبحانه أنه قد كانت النصرة له والهلاك لعدوه فقال :

(فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا ، وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) أي فحفظه الله مما أرادوا به من المكر السيئ في الدنيا ، إذ نجاه مع موسى عليه السلام ، وفي الآخرة بإدخاله دار النعيم ، وأحاط بفرعون وقومه سوء العذاب في الدنيا بالغرق في اليمّ ، وفي الآخرة بدخول جهنم وبئس القرار.

وفي هذا إيماء إلى أنهم قصدوه بالسوء ، وقد روى عن ابن عباس أنه لما ظهر إيمانه قصد فرعون قتله فهرب ونجا.

ثم فصّل ما أجمله من سوء العذاب بقوله :

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) أي تعرض أرواحهم من حين موتهم إلى قيام الساعة على النار بالغداة والعشى وينفّس عنهم فيما بين ذلك ، ويدوم هذا إلى يوم القيامة ، وحينئذ يقال لخزنة جهنم : أدخلوا آل فرعون النار.

قال بعض العلماء. وفي هذه الآية دليل على عذاب القبر ، ويؤيده ما روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، ويقال هذا مقعدك حين يبعثك الله تعالى إليه يوم القيامة ، ثم قرأ : «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا».

وروى ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال : «ما أحسن محسن مسلم أو كافر إلا أثابه الله ، قلنا يا رسول الله ما إثابة الكافر ، قال المال والولد والصحة وأشباه ذلك ، قلنا وما إثابته في الآخرة؟ قال : عذابا دون العذاب وقرأ : «أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ».

وقد أثبت علماء الأرواح حديثا ، نعيم الروح وعذابها ، وشبهوا ذلك بما يراه النائم حين نومه ، فقد نرى نائمين في سرير واحد يقوم أحدهما مذعورا كئيبا وجلا مما شاهد

٧٧

فى نومه ، بينما نرى الثاني مستبشرا فرحا بما لاقى من المسرة والنعيم ، فيروى أنه كان فى حديقة غناء وشاهد كذا وكذا مما فيها من بهجة وبهاء ، وجمال ورواء.

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠))

تفسير المفردات

المحاجة : المجادلة والخصام بين اثنين فأكثر ، الضعفاء : الأتباع والمرءوسون ، والمستكبرون : السادة أولو الرأى فيهم ، والتبع : واحدهم تابع كخدم وخادم ، مغنون : أي دافعون ، نصيبا : أي قسطا وجزءا ، حكم : قضى ، الخزنة : واحدهم خازن وهم القوّام يتعذيب أهل النار ، ضلال : أي في ضياع وخسار.

الإيضاح

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أي واذكر أيها الرسول لقومك وقت حجاج أهل النار وتخاصمهم وهم في النار ، فيقول الأتباع للقادة السادة : إنا أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال ، فتكبرتم على الناس بنا.

٧٨

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ؟) أي فهل تقدرون أن تحتملوا عنا قسطا من العذاب فتخففوه عنا ، فقد كنا نسارع إلى محبتكم في الدنيا ، ومن قبلكم جاءنا العذاب ، ولو لا أنتم لكنا مؤمنين.

ومقصدهم من هذا المقال تخجيلهم وإيلام قلوبهم ، وإلا فهم يعلمون أنهم لا قدرة لهم على ذلك التخفيف.

فيرد عليهم أولئك الرؤساء بما حكاه الله عنهم بقوله :

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها) أي قال رؤساؤهم الذين أبوا الانقياد للأنبياء : إنا جميعا واقعون في العذاب ، فلو قدرنا على إزالته عن أنفسنا لدفعناه عنكم.

وخلاصة مقالهم : إنا وأنتم في العذاب سواء.

(إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) بفصل قضائه ، فلا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ، وكل منا كافر ، وكل منا يستحق العقاب ، ولا يغنى أحد عن أحد شيئا.

ولما يئس الأتباع من المتبوعين رجعوا إلى خزنة جهنم يطلبون منهم الدعاء كما حكى الله عنهم بقوله :

(وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) أي وقال أهل جهنم لخدمها وقوّامها مستغيثين بهم من عظيم ما هم فيه من البلاء رجاء أن يجدوا لديهم فرجا من ذلك الكرب الذي هم فيه : ادعوا ربكم أن يخفف عنا مقدار يوم من العذاب.

فرد عليهم الخزنة موبخين لهم على سوء ما كانوا يصنعون مما استحقوا عليه شديد العذاب.

(قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟) أي أو ما جاءتكم الرسل بالحجج على توحيد الله لتؤمنوا به وتبرءوا مما دونه من الآلهة؟.

٧٩

فأجابوهم :

(قالُوا بَلى) أي قالوا أتونا فكذبناهم ، ولم نؤمن بهم ولا بما جاءوا به من البينات الواضحة ، والبراهين الساطعة ، حينئذ تهكم بهم خزنة جهنم.

(قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي قالوا لهم : إذا كان الأمر كما ذكرتم فادعوا أنتم وحدكم ، فإنا لا ندعو لمن كفر بالله وكذب رسله ، وإن دعاءكم لا يفيدكم شيئا فما هو إلا في خسران وتبار ، وسواء دعوتم أو لم تدعوا فإنه لا يستجاب لكم ولا يخفف عنكم.

روى الترمذي وغيره عن أبى الدرداء قال : «يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون منه فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغنى من جوع ، فيأكلون لا يغنى عنهم شيئا ، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذى غصّة فيغصّون به ، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء ، فيستغيثون بالشراب فيرفع لهم الحميم بالكلاليب ، فإذا دنا من وجوههم شواها ، فإذا وقع في بطونهم قطّع أمعاءهم وما في بطونهم ، فيستغيثون بالملائكة يقولون : «ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ» فيجيبونهم : «أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ».

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ

٨٠