تفسير المراغي - ج ٢٤

أحمد مصطفى المراغي

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩))

تفسير المفردات

الإسراف : تجاوز الحد في كل ما يفعله المرء ، وكثرة استعماله في إنفاق المال وتبذيره ، والمراد هنا الإفراط في المعاصي ، لا تقنطوا : أي لا تيأسوا ، والإنابة : الرجوع. والإسلام لله : لإخلاص له ، أحسن ما أنزل إليكم من ربكم : هو القرآن ، بغتة : أي فجأة ، يا حسرتا : أي يا حسرتى وندمى ، فرّطت : أي قصرت ، فى جنب الله : أي في عبادته وطاعته ، لمن الساخرين : أي المستهزئين ، كرة : أي رجعة.

المعنى الجملي

بعد أن أوعد الكافرين فيما سلف ـ أردفه ذكر رحمته وفضله على عباده المؤمنين بغفران ذنوبهم إذا هم تابوا وأنابوا إليه وأخلصوا له العمل ، ليكون في ذلك مطمع لهؤلاء الضالين ومنبهة لهم من ضلالهم.

٢١

أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : إن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان ودعا مع الله إلها آخر ، وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له ، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله (قُلْ يا عِبادِيَ) الآية.

الإيضاح

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) أي قل أيها الرسول للمؤمنين الذين أسرفوا على أنفسهم وتجاوزوا حدود الله ، فارتكبوا محارمه وتركوا أوامره : لا تيأسوا من مغفرة الله ، فهو يغفر الذنوب جميعا لمن تاب إليه ولجأ إلى جنابه ، وإن كثرت وكانت كز بد البحر.

روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما : أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا فأكثروا ، فأتوا محمدا صلّى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل : «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ» ونزل : «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ».

والمراد من الآية الأولى قوله : «إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً» الآية : وروى أحمد عن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : ما أحب أن لى الدنيا وما فيها بهذه الآية : «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» إلى آخر الآية ، فقال رجل يا رسول الله فمن أشرك ، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قال : «ألا ومن أشرك ـ ثلاث مرات».

٢٢

وروى أحمد أيضا عن عمرو بن عنبسة رضى الله عنه قال : «جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم شيخ كبير يتوكأ على عصا له فقال : يا رسول الله إن لى غدرات وفجرات ، فهل يغفر لى؟ قال صلّى الله عليه وسلم : ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال بلى وأشهد أنك رسول الله ، فقال صلّى الله عليه وسلم : قد غفر لك غدراتك وفجراتك».

فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة والإخلاص فى العمل ، ولا يقنطنّ عبد من رحمة الله ، فإن باب الرحمة واسع كما قال : «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» وقال : «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً».

وروى الطبراني من طريق الشعبي عن سنيد بن شكل أنه قال : سمعت ابن مسعود يقول : إن أعظم آية في كتاب الله «اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» وإن أكثر آية فى القرآن فرجا في سورة الغرف «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ» وإن أشد آية في كتاب الله تفويضا «وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» فقال له مسروق : صدقت.

وبعد أن نهاهم عن القنوط أخبرهم بما يدفع ذلك ويرفعه ، فيحل الرجاء مكانه.

وجاء بما لا يبقى بعده شك ولا يخالج القلب عند سماعه ظن فقال :

(إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) أي إن الله يغفر كل ذنب ، كائنا ما كان إلا ما أخرجه النص القرآنى ، وهو الشرك بقوله : «إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ».

فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم ، الصادقين في رجائه ، الخالعين ثياب القنوط ، البعيدين عن سوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب ، ولا يبخل

٢٣

بمغفرته ورحمته على عباده ، المتوجهين إليه في طلب العفو ، الملتجئين إليه في مغفرة ذنوبهم.

ثم ذكر علة ذلك فقال :

(إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) بهم أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد التوبة منها.

فمن أبى هذا التفضل العظيم ، والعطاء الجسيم ، وظن أن تقنيط عباد الله وتأييسهم من رحمته ـ أولى بهم مما بشرهم الله به ـ فقد ركب أعظم الشطط ، وغلط أقبح الغلط ، فإن التبشير هو الذي جاءت به نصوص الكتاب ، وهو المسلك الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صح عنه من قوله : «يسّروا ولا تعسّروا ، وبشّروا ولا تنفّروا».

وبعد أن وعد سبحانه بالمغفرة أمر بشيئين :

(١) الإنابة إليه بقوله : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) أي أيها الناس أنيبوا إلى ربكم بالتوبة ، وارجعوا إليه بالطاعة ، واستجيبوا إلى ما دعاكم إليه من توحيده وإفراد الألوهية قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تجدوا نصيرا ولا معينا من عذابه النازل بكم.

(٢) اتباع الأحسن بقوله : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي واتبعوا ما أمركم به ربكم في تنزيله ، واجتنبوا ما نهاكم عنه فيه ، من قبل أن يأتيكم العذاب فجأة وأنتم لا تعلمون به حتى يغشاكم ، ولا يخفى ما في هذا من تهديد ووعيد.

ولما خوّفهم بالعذاب ذكر علة ذلك فقال :

(١) (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) أي بادروا إلى العمل واحذروا أن تقول بعض الأنفس : يا حسرتا على تقصيرى فى طاعة الله ، وسخريتى واستهزائى بدين الله وكتابه ، وبرسوله وبالمؤمنين.

٢٤

(٢) (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي أو تقول : لو أن الله أرشدنى إلى دينه وطاعته ، لكنت ممن اتقى الله فترك الشرك والمعاصي :

(٣) (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي أو تقول حين رؤية العذاب : ليت لى رجعة إلى الدنيا فأكون من المهتدين المحسنين لعقيدتهم وأعمالهم.

وخلاصة ذلك ـ إن هذا المقصر تحسر على التفريط في الطاعة ، وفقد الهداية ثم تمنى الرجعة إلى الدنيا لتدارك ما فات.

فأجابه سبحانه بقوله :

(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي إنه لا فائدة من ذلك ، فقد جاءتك آياتي في الدنيا على لسان رسولى الذي أرسلته إليك وفي كتابى الذي يتلوه عليك ، ويذكّرك بما فيه من وعد ووعيد ، وتبشير وإنذار فكذبت بها واستكبرت عن قبولها ، وكنت ممن يعمل عمل الكافرين ويستنّ بسنتهم ، ويتّبع مناهجهم.

ونحو الآية قوله : «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ».

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١))

تفسير المفردات

وجوههم مسودة : أي ما يظهر عليها من آثار الذل والحشرة ، والمثوى : المقام ، والمفازة : الظفر بالبغية على أتمّ وجه.

٢٥

المعنى الجملي

بعد أن أوعد المشركين فيما سلف بما سيكون لهم من الأهوال يوم القيامة ، ووعد.

المتقين بما يمنحهم من الفوز والنعيم في ذلك اليوم ـ أردف ذلك ذكر حال لكل منهما تبدو للعيان ، ويشاهدها كل إنسان ، يوم العرض والحساب.

الإيضاح

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) أي وترى أيها الرسول يوم القيامة وجوه الذين كذبوا على الله ، فزعموا أن له ولدا وأن له شريكا وعبدوا آلهة من دونه ـ مجلّلة بالسواد ، لما أحاط بها من الكآبة والحزن الذي علاها ، والغم الذي لحقها.

ثم علل هذا وأكده بقوله :

(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) أي أليست النار كافية لهم سجنا وموئلا ، ولهم فيها الخزي والهوان بسبب تكبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق.

وقد بين الرسول صلّى الله عليه وسلم معنى الكبر فقال : «هو سفه الحق وغمص (احتقار) الناس» وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلم «يحشر المتكبرون يوم القيامة كالذرّ ، يلحقهم الصّغار حتى يؤتى بهم إلى سجن جهنم».

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) أي وينجّى الله من عذاب جهنم الذين اتقوا الشرك والمعاصي وينيلهم ما يبتغون ، ويعطيهم فوق ما كانوا يؤملون.

وعن النبي صلّى الله عليه وسلم تفسير هذه الآية من حديث أبى هريرة قال : «يحشر الله مع كل امرئ عمله ، فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة وأطيب

٢٦

ريح ، فكلما كان رعب أو خوف قال له : لا ترع فما أنت بالمراد به ولا أنت المعنىّ به ، فإذا كثر ذلك عليه ، قال فما أحسنك؟ فمن أنت؟ فيقول أما تعرفنى؟ أنا عملك الصالح حملتنى على ثقلى ، فو الله لأحملنّك ولأدفعن عنك ، فهى التي قال الله : «وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ».

ثم بين هذه المفازة فقال :

(لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي لا يمسهم أذى جهنم ولا يحزنون على ما فاتهم من مآرب الدنيا ، إذ هم قد صاروا إلى ما هو خير منه ، نعيم مقيم ، فى جنات تجرى من تحتها الأنهار ، ورضوان من الله أكبر.

وخلاصة ذلك ـ إنهم آمنوا من كل فزع ، وبعدوا من كل شر ، وفازوا بكل خير.

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧))

٢٧

تفسير المفردات

وكيل : أي قيّم بالحفظ والحراسة فيتولى التصرف بحسب الحكمة والمصلحة ، مقاليد : أي مفاتيح لفظ فارسى معرّب ، واحده إقليد معرب ، إكليد جمع جمعا شاذا ، ليحبطن عملك : أي ليذهبن هباء ولا يكون له أثر ، وما قدروا الله حق قدره : أي ما عظموه حق التعظيم على الوجه الذي يليق به ، والقبضة : المرة من القبض وتطلق على المقدار المقبوض ، بيمينه : أي بقدرته.

المعنى الجملي

بعد أن بسط الوعد والوعيد يوم القيامة لأهل التوحيد وأهل الشرك ـ عاد إلى ذكر دلائل الألوهية والوحدانية ، ثم انتقل إلى النعي على الكافرين في أمرهم لرسوله بعبادة الأوثان والأصنام ، ثم بين أن الأنبياء جميعا أوحى إليهم ألا يعبدوا إلا الله وحده ، وألا يشركوا به سواه ، وأنهم إن فعلوا غير ذلك حبطت أعمالهم وكانوا من الخاسرين ، ثم كرر النعي عليهم مرة أخرى بأنهم لم يعرفوا الله حق معرفته إذ لو عرفوه لما جعلوا هذه المخلوقات الخسيسة مشاركة له في العبودية.

الإيضاح

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أي هو سبحانه الخالق للأشياء جميعا من خير وشر وإيمان وكفر بمباشرة المتصف بهما لأسبابهما ، وكلها تحت جبروته وقهره.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي وهو القائم على كل الأشياء يتولاها بحراسته وحفظه بحسب ما تقتضيه المصلحة ، فهى محتاجة إليه في بقائها كما هى محتاجة إليه فى وجودها.

ثم فصل ذلك بعض التفصيل فقال :

٢٨

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو حافظ الخزائن ومدبرها ومالك مفاتيحها فله التصرف في كل شىء مخزون فيها.

والخلاصة ـ هو القادر عليهما والحافظ لهما.

أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان قال : «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله : «لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فقال لى يا عثمان : لقد سألتنى عن مسألة لم يسألنى عنها أحد قبلك.

«مقاليد السموات والأرض : لا إله إلا الله والله أكبر ، وسبحان الله والحمد لله ، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن يحيى ويميت وهو حىّ لا يموت بيده الخير وهو على كل شىء قدير» وعلى هذا فالمراد أن هذه الكلمات يوحّد بها ويمجّد وهى مفاتيح خير السموات والأرض ، من تكلم بها أصابه خيرهما.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي والذين كفروا بالأدلة التي وضعت في الأكوان وجاءت في القرآن ، دالة على وحدانية الله وعظيم قدرته وبديع حكمته ـ أولئك هم المغبونون حظوظهم من خيرات السموات والأرض ، لأنهم حرموا من ذلك في الآخرة بخلودهم في النار.

ثم أمر رسوله أن يوبخ المشركين على أمره صلّى الله عليه وسلم بعبادة الأصنام والأوثان فقال :

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) أي قل لمشركى قومك الداعين لك إلى عبادة الأصنام والقائلين لك : هودين آبائك : أفتأمروني أيها الجاهلون بعد مشاهدتى الآيات الدالة على تفرده سبحانه وتعالى بالألوهية ـ أن أعبد غيره ، والعبادة لا تصلح لشىء سواه.

روى عن ابن عباس «أن قريشا دعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يعطوه ما لا فيكون أغنى رجل بمكة ، ويزوجوه ما أراد من النساء ويطئون عقبه (أي يغطون دعوته ويزيلونها) وقالوا هذا لك يا محمد وتكفّ عن شتم آلهتنا ولا تذكرها

٢٩

بسوء ، قال حتى أنظر ما يأتينى من ربى فنزل : «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» إلى آخر السورة ، ونزل (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي ـ إلى قوله ـ مِنَ الْخاسِرِينَ)».

وعنه أيضا : إن المشركين من جهلهم دعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم وهم يعبدون معه إلهه.

ثم بين أنه حذر وأنذر عباده من الشرك بلسان جميع الأنبياء فقال :

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي ولقد نزل عليك الوحى من ربك بأنه إذا حصل منك إشراك به بعبادة صنم أو وثن ليبطلنّ كل عمل لك من أعمال الخير كصلة رحم وبرّ ببائس فقير ولا تنالنّ به ثوابا ولا جزاء ولتكونن ممن خسروا حظوظهم في الدنيا والآخرة ، وأوحى إلى الرسل من قبلك بمثل هذا.

فاحذر أن تشرك بالله شيئا فتهلك ، وهذا كلام سيق على سبيل الفرض والتقدير ، لتهييج المخاطب المعصوم ، وللايذان بشناعة الإشراك وقبحه ، حتى لينهى عنه من لا يكاد يفعله فكيف بغيره؟ والحكم بحبوط عمل المشرك في الآخرة مقيّد بما إذا مات وهو كذلك بدليل قوله في الآية الأخرى : «وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ».

ثم رد عليهم ما أمروه به من عبادة الأصنام وأمره بعبادته وحده فقال :

(بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) أي لا تعبد ما أمرك به قومك ، بل الله فاعبده دون سواه من الأنداد والأوثان.

(وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لإنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد والدعاء إلى دينه ، وما اختصك به من الرسالة.

ثم أكد ما سلف بقوله :

٣٠

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه حق التعظيم ، إذ عبدوا غيره معه ، وهو العظيم الذي لا أعظم منه ، القادر على كل شىء ، المالك لكل شىء ، وكل شىء تحت قهره وقدرته.

روى البخاري عن ابن مسعود قال : «جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا محمد : إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على أصبع ، والأرضين على أصبع ، والشجر على أصبع ، والماء والثرى على أصبع ، وسائر الخلق على أصبع ، فيقول : أنا الملك ، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، تصديقا لقول الحبر ، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ)» الآية.

وأخرج الشيخان والنسائي وابن ماجه في جماعة آخرين عن ابن عمر «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر : «وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ» وهو يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر ، يمجّد الرب نفسه ، أنا الجبار ، أنا المتكبر ، أنا الملك ، أنا العزيز ، أنا الكريم ، فرجف برسول الله صلّى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا : ليخرّنّ به».

(وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) أي إن الأرض جميعا تحت ملكه يوم القيامة يتصرف فيها كيف يشاء ، ولا يتصرف فيها سواه ، والسموات مطويات طى السجل للكتب بقدرته التي لا يتعاصى معها شىء ، وفي هذا رمز إلى أن ما يشركونه معه في الأرض أو في السماء مقهور تحت سلطانه جل شأنه.

روى البخاري عن أبى هريرة قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول : «يقبض الله الأرض ، ويطوى السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض؟»

٣١

وقد علمت أن السلف يجرون المتشابه على ما هو عليه ، وأن الخلف يؤولونه ، والأول أسلم ، والثاني أحكم.

قال سفيان بن عيينة : كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه ، فتفسيره تلاوته والسكوت عليه ا ه.

وقال صاحب الكشاف : والغرض من هذا الكلام إذا أخذته بجملته ومجموعه تصوير عظمته ، والتوقيف على كنه جلاله لا غير ، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز ا ه.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) به من المعبودات التي يجعلونها شركاء له مع القدرة العظيمة ، والحكمة الباهرة.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠))

تفسير المفردات

الصور : القرن ينفخ فيه ، صعق : أي غشى عليه ، ينظرون : أي ينتظرون ماذا يفعل بهم؟ وأشرقت الشمس : أضاءت ، وشرقت : طلعت ، بنور ربها : أي عدله ، ووضع الكتاب : أي ووضعت صحائف الأعمال بأيدى العاملين ، بالحق : أي بالعدل ، ما عملت : أي جزاء ما عملت.

٣٢

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عظمته تعالى بأنه خالق كل شىء ، وهو الوكيل على كل شىء ، وبيده مقاليد السموات والأرض ـ أردف ذلك ذكر دلائل أخرى تدل على كمال قدرته وعظيم سلطانه ، فبذكر مقدمات يوم القيامة من نفخ الصور النفخة الأولى التي يموت بها أهل الأرض جميعا ، ثم النفخة الثانية التي يقوم بها الناس جميعا من قبورهم ، ثم الفصل بينهم للجزاء والحساب ، فتوفى كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر ، وهو سبحانه العليم بأفعالهم جميعا.

الإيضاح

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ، فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) بيّن سبحانه ما يكون بعد قبض الأرض وطىّ السماء والنفخ في الصور النفخة الأولى ، إذ هما نفختان يموت الخلق في الأولى منهما ويحيون فى الثانية بعد أن كانوا عظاما ورفاتا.

أخرج ابن ماجه والبزار وابن مردويه عن أبى سعيد الخدري مرفوعا «إن صاحبى الصور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر ، متى يؤمران»؟.

وروى أبو داود عن أبى سعيد الخدري قال : «ذكر رسول الله صاحب الصور وقال : عن يمينه جبريل وعن يساره ميكائيل».

وليس في القرآن ولا في صححيح الأخبار ما يدل على تعيين من استثناهم الله من الصعق والفزع ، ومن ثم قال قتادة لا ندرى من هم؟.

ونحو الآية قوله : «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» وقوله : «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً».

٣٣

وقوله : «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ».

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) أي وأضاءت أرض المحشر بما يقيمه فيها من الحق والعدل ، ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات.

(وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي ووضعت صحائف الأعمال بأيدى العاملين كما قال : «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً».

وقال في آية أخرى «ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها».

(وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ) ليكونوا شهداء على أممهم كما قال : «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً».

(وَالشُّهَداءِ) أي الحفظة من الملائكة الذين يقيدون أعمال العباد خيرها وشرها كما يدل على ذلك قوله : «وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ». فالسائق يسوق للحساب ، والشهيد يشهد عليها.

وبعد أن بيّن أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الحكومات وقطع الخصومات ـ بين أنه يوصل إلى كل أحد حقه كاملا غير منقوص ، ودل على ذلك بأربع عبارات :

(١) (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) أي وقضى بينهم بالعدل والصدق.

(٢) (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب ولا زيادة في عقاب ، ونحو الآية قوله : «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ». وقوله : «إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً».

(٣) (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي ، وأعطيت كل نفس جزاء ما عملت جزاء كاملا.

٣٤

(٤) (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) فى الدنيا دون حاجة إلى كاتب ولا حاسب ، فلا يفوته شىء من أعمالهم ، ومن ثمّ يكون حكمه بينهم بالقسطاس المستقيم.

والخلاصة ـ أنه إنما وضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهداء لتكميل الحجة وقطع المعذرة ، لا لحاجة إليها في علمه تعالى بما يعملون وما يقولون ، ثم جزائهم على ما قدموا من خير أو شر.

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢))

تفسير المفردات

السوق : الحث على السير بعنف وإزعاج علامة على الاهانة والاحتقار ، والزمر : الأفواج المتفرقة بعضها في إثر بعض ، والخزنة : واحدهم خازن نحو سدنة وسادن ، وينذرونكم : أي يخوّفونكم ، حقت : أي وجبت.

المعنى الجملي

بعد أن شرح أحوال أهل القيامة على سبيل الإجمال بقوله : «وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ» ـ فصّل ذلك فذكر ما يحل بالأشقياء من الأهوال ، وما يلقونه من التأنيب والتوبيخ من خزنة جهنم على طريق السؤال والجواب التهكمى وهو أشد وقعا على الأبىّ العيوف الذي تأبى نفسه الهوان والاحتقار.

٣٥

الإيضاح

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) أي وسيق الكافرون بربهم ، المشركون به الأصنام والأوثان ، إلى جهنم سوقا عنيفا ، أفواجا متفرقة بعضها في إثر بعض بحسب ترتب طبقاتهم في الضلال والشر ـ بزجر وتهديد ووعيد ، كما يساق المجرمون في الدنيا إلى السجون جماعات مع الإهانة والتحقير على ضروب شتى.

ونحو الآية قوله : «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا» أي يدفعون إليها دفعا.

(حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) أي حتى إذا وصلوا إليها فتحت لهم أبوابها سريعا ليدخلوها ، كأبواب السجون لا تزال مغلقة حتى يأتى أرباب الجرائم الذين يسجنون فيها ، فتفتح ليدخلوها ، فإذا دخلوها أغلقت عليهم.

ثم ذكر سؤال الخزنة لهم على طريق التوبيخ ، والاهانة فقال :

(وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟) أي ألم يأتكم رسل من جنسكم تفهمون ما ينبئونكم به من طاعة ربكم والاعتراف بوحدانيته وترك الشرك به ، ويسهل عليكم مراجعتهم حين يقيمون عليكم الحجج والبراهين مبينين صدق ما دعوكم إليه ، وينذرونكم أهوال هذا اليوم؟.

فأجابوهم معترفين ولم يقدروا على الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا لوضوح السبل أمامهم ، ولا سبيل حينئذ إلى الإنكار والجحود.

(قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي قالوا بلى قد أتانا رسل من ربنا فأنذرونا وأقاموا الحجج والبراهين ، ولكنا كذبناهم وخالفناهم لما سبق لنا من الشّقوة والضلالة ، فعدلنا بسوء اختيارنا عن الحق إلى الباطل ، وفعلنا الشر دون الخير ، وعبدنا ما لا يضر ولا ينفع ، وتركنا عبادة الواحد القهار.

ونحو الآية قوله : «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ».

٣٦

وبعد أن اعترفوا هذا الاعتراف.

(قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي قالت لهم الملائكة الموكلون بعذابهم : ادخلوا جهنم ماكثين فيها أبدا لا خروج لكم منها ، ولا زوال لكم عنها.

(فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي فبئس المصير ، وبئس المقيل لكم بسبب تكبركم فى الدنيا ، وإبائكم عن اتباع الحق ، فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه ، فبئس الحال وبئس المآل.

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أحوال الأشقياء وما يلاقونه يوم القيامة من الأهوال ـ أردفها ذكر أحوال السعداء ، وما يلاقونه إذ ذاك من النعيم ، وما يقال لهم وما يقولون.

ثم أخبر بأن ملائكته محدقون حول العرش ، يسبحون بحمد ربهم ، ويعظمونه وينزهونه عن النقائص ، وأنه سيقضى بين الخلائق بالعدل ، وأن أولئك المتقين سيقولون : الحمد لله رب العالمين على ما تفضل به علينا وأنعم.

الإيضاح

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) أي وسيق المتقون إلى الجنة جماعة إثر جماعة على النجائب وفودا إلى الجنة ، المقربون فالأبرار ثم الذين يلونهم ثم الذين

٣٧

يلونهم ، كل طائفة منهم مع من يشاكلهم ، الأنبياء مع الأنبياء ، والصديقون مع أشكالهم ، والشهداء مع أضرابهم ، والعلماء مع أقرانهم.

والمراد بالسوق هنا الإسراع بهم إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يكرّم من الوافدين على بعض الملوك ؛ وبالسوق المتقدم طردهم إلى العذاب والهوان كما يفعل بالأسير إذا سبق إلى الحبس أو القتل ، فشتان ما بين السوقين.

(حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) أي حتى إذا وصلوا إليها وقد فتحت لهم أبوابها ، كما تفتح الخدم باب المنزل للضيف قبل قدومه وتقف منتظرة حضوره فرحا بمقدمه ـ فرحوا بما أفاء الله به عليهم من النعيم ، وبما شاهدوا مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر روى عن عمر بن الخطاب أنه قال : «ما منكم من أحد يتوضأ فيسّبغ الوضوء ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» أخرجه مسلم وغيره.

وروى عن أبى هريرة أنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب درىّ فى السماء إضاءة».

واخرج الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : «فى الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمّى الريان لا يدخله إلا الصائمون» ثم أخبر سبحانه أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين فقال :

(وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي وقال لهم الخزنة : سلام عليكم من جميع المكاره والآلام ، فلا يعتريكم مكروه بعد ذلك.

(طِبْتُمْ) نفسا بما أتيح لكم من النعيم المقيم ، وقد يكون المعنى : طبتم في الدنيا فلم تدنسوا أنفسكم بالشرك والمعاصي ، وطاب سعيكم ، وطاب جزاؤكم.

٣٨

(فَادْخُلُوها خالِدِينَ) أي فادخلوها ما كثين فيها أبدا ، لا زوال ولا فناء ، ولا تحوّل عنها.

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) أي وقال المؤمنون إذا عاينوا ذلك النعيم المقيم ، والعطاء العظيم في الجنة : الحمد لله الذي صدقنا ما وعدنا به على السنة رسله الكرام ، كما دعوا بذلك في الدنيا وقالوا : «رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ» وقالوا : «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ».

(وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أي وجعلنا نتصرف في أرض الجنة تصرف الوارث فيما يرث ، فنتخذ منها مباءة ومسكنا حيث شئنا.

(فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي فنعم الأجر أجرنا على عملنا ، وثوابنا الذي أعطيتنا.

(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي وترى أيها الرائي الملائكة محيطين بجوانب العرش ، قائمين بجميع ما يطلب منهم ، فيسمع لحفوفهم صوت التسبيح والتقديس ، ويصلّون حول العرش ، شكرا لربهم وتنزيها له عن كل نقص.

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) أي وقضى بين العباد بالعدل ، فأدخل بعضهم الجنة وبعضهم النار ، أعاذنا الله منها.

(وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي وختمت خاتمة القضاء بينهم بالشكر للذي بدأ خلقهم وصوّرهم فأحسن صورهم ، ومن له ملك السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات التي لا يعلم عدّها إلا هو.

وقد بدأ سبحانه هذه الآية بالحمد وختمها بالحمد ، للتنبيه إلى تحميده في بداية كل أمر ونهايته.

٣٩

وقال قتادة : «افتتح الخلق بالحمد في قوله : «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى : «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».

اللهم صل على محمد عبدك ورسولك خاتم النبيين والمرسلين صلاة دائمة إلى يوم الدين.

مجمل مشتملات هذه السورة الكريمة

(١) وصف الكتاب الكريم.

(٢) الأمر بعبادة الله وحده والنعي على المشركين في عبادتهم للأوثان والأصنام.

(٣) إقامة الأدلة على وحدانية الله.

(٤) طبيعة المشرك في السراء والضراء.

(٥) ضرب الأمثال في القرآن وفائدة ذلك.

(٦) تمنى المشركين الفداء حين يرون العذاب.

(٧) الوعد بغفران ذنوب من أسرفوا على أنفسهم إذا تابوا.

(٨) ما يرى على وجوه أهل النار من الكآبة والحزن.

(٩) ذكر أحوال يوم القيامة.

(١٠) وصف ذهاب أهل النار إلى المحشر وما يشاهد وبه من الأهوال ـ (١١) وصف ذهاب أهل الجنة وما يشاهدونه فيها من النعيم المقيم.

(١٢) بعد فصل القضاء يقول أهل الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

٤٠